ج7 - ف207
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء السابع / القسم الثاني
207- (شِفاء المولود أعمى)
10 / 10 / 1946
يَخرج يسوع مع رُسُله ويوسف سيفوريس متوجّهين إلى المعبد. النهار، الصحو والصافي، يبتهج كوعد الربيع بعد أيّام الرياح والغيوم، أيّام الشتاء الحقيقيّة. وبالتالي فإن أناساً كثيرين على الطرقات، منهم مَن يذهب إلى المعبد، ومنهم مَن هم عائدون منه أو مِن أماكن أخرى، البعض مع عائلاتهم بغية الخروج مِن المدينة للاستمتاع بالشمس في الريف. ومِن باب هيرودس، المرئيّ مِن بيت يوسف سيفوريس، يُشاهَد الناس يغادرون الأسوار مِن أجل تسلية مُبهِجة، في الهواء الطلق. انغماس في الخضرة، في المدى، في الحرّيّة، خارج الطرقات الضيّقة وسط المنازل العالية. أظنّ أنّ الحزام الريفيّ الذي كان يحيط بأورشليم كان بحسب إرادة السكان الآنيّين، الذين كانوا يريدون التوفيق بين قيود المسافة للسبت ورغبتهم بالهواء والشمس، كي يستمتعوا بها على الطرقات، وليس فقط مِن على شرفات المنازل.
ولكنّ يسوع لا يذهب إلى باب هيرودس. على العكس مِن ذلك، يدير له ظهره ليتوجّه إلى داخل المدينة. ولكنّه لم يَخطُ سوى بضعة خطوات على الطريق الواسعة، حيث يفضي الدرب الصغير الّذي فيه منزل يوسف سيفوريس، حتّى يلفت يهوذا الإسخريوطيّ انتباهه بخصوص شاب يتقدّم باتّجاههم، متلمّساً الأسوار بعصا، رافعاً وجهه المفتقر للعينين صوب السماء، بمشية العميان الخاصّة. ثيابه فقيرة إنّما نظيفة، المفروض أنّه شخص معروف مِن قِبل أناس كثيرين في أورشليم، ذلك أنّ كثيرين يشيرون إليه بالإصبع، والبعض يقولون له: «يا رجل، لقد أخطأتَ اليوم الطريق. لقد تجاوزتَ كلّ الدروب المؤدّية إلى موريا، أنتَ الآن في بيزيتا.»
«أنا لا أطلب صَدَقَة مادّية اليوم.» يجيب الأعمى مبتسماً ويتابع السير بنفس الابتسامة باتّجاه شمال المدينة.
«يا معلّم، تمعّن به. إنّ جفونه متلاحمة، أو بالحريّ أقول بأنّ لا جفون لديه. فالجبهة متّصلة بالخدّين دون أيّ تجويف، ويبدو أنّ لا مقلتين تحت الجبهة. لقد وُلِدَ هكذا، البائس، وسوف يموت هكذا دون أن يرى ولو لمرّة واحدة نور الشمس، ولا وجه إنسان. والآن قل لي يا معلّم: كي يُعاقَب المرء بهذا الشكل فهو بالتأكيد قد أخطأ. ولكنّه وُلِدَ أعمى، وهذا مؤكّد، فكيف يمكن أن يكون قد أخطأ قبل أن يُولَد؟ قد يكون أبواه هما مَن ارتكبا الخطيئة وعاقبهما الله بجعله يُولَد هكذا؟»
كذلك الرُّسُل الآخرون، مع إسحاق ومارغزيام، يتزاحمون حول يسوع للاستماع إلى إجابته. وبحثّهم للخطى، وكأنّهم مجذوبون بقامة يسوع الفارعة، المهيمنة على الجمع، يهرع اثنان مِن الأورشليميين الميسورين، الذين كانوا إلى الخلف قليلاً مِن الأعمى، وبينهم كان يوسف الذي مِن الرّامة، الذي لم يتقدّم، ولكنّه، إذ يسند ظهره إلى باب يرقى إليه بدرجتين، يجيل نظره بكلّ الوجوه ليلاحظها.
يجيب يسوع بكلام مسموع بشكل جليّ في الصمت الذي يحلّ: «لا هو أخطأ ولا أبواه أكثر مِن الخطأ المرتكب عادة مِن كلّ إنسان، بل قد يكون أقلّ منه، ففي الغالب يكبح الفقر الخطيئة. ولكنّه وُلِدَ هكذا كي، لمرّة أخرى، تتجلّى فيه قدرة وأعمال الله. أنا النور القادم إلى العالم لكي يرى الّذين مِن العالم، الناسين الله أو الفاقدين صورته الروحيّة، ويتذكّروا، ومِن أجل الباحثين عن الله، أو المنتمين إليه، كي يثبتوا في الإيمان وفي المحبّة. لقد أرسلني الآب لأتمّم معرفة الله في إسرائيل وفي العالم، في النهار الذي ما يزال ممنوحاً لإسرائيل. فإذاً ينبغي لي أن أتمّم أعمال الّذي أرسلني، لأشهد بأنّني أستطيع القيام بما يستطيعه هو، لأنّني واحد وإيّاه، ولكي يعرف العالم ويرى أنّ الابن لا يختلف عن الآب، ويؤمن بي لما أكون. بعد ذلك سيأتي الليل حيث لا يعود العمل ممكناً، الظلام، ومَن لا ينقش فيه علامتي والإيمان بي، فلا يعود بإمكانه فِعل ذلك في الظلمات والبلبلة، الألم، الحزن والخراب الّذين سيغطّون هذه الأمكنة ويشوّشون الأرواح بهيجان الأحزان. إنّما، طالما أنا في العالم، فأنا نور وشهادة، كلمة، طريق وحياة، حكمة، سلطان ورحمة. إذهب إذن، أدرك الأعمى وهاته إلى هنا.»
«إذهب أنتَ يا أندراوس، أريد البقاء هنا ورؤية ما يفعله المعلّم.» يجيب يهوذا مشيراً إلى يسوع الّذي انحنى على الدرب الترابي، بصق على كومة مِن التراب وهو يجبلها بإصبعه ليجعل مِن التراب واللعاب طيناً. بينما أندراوس، الخَدوم دائماً، يمضي لجلب الأعمى الذي يهمّ بالانعطاف إلى الدرب الصغير حيث بيت يوسف سيفوريس، يمدّ يسوع الطين على سبّابتيه ويلبث هكذا مادّاً اليدين كالكاهن في القدّاس. في هذه الأثناء يترك يهوذا مكانه ليقول لمتّى وبطرس: «تعاليا هنا، أنتما يا مَن لا تتمتّعان بقامة طويلة، وستريان بشكل أفضل.» ويبقى خلف الجميع، يكاد يكون مختفياً بفضل ابنيّ حلفى وبرتلماوس كبيري الحجم.
يعود أندراوس ممسكاً بيده الأعمى، الذي يتعب مِن القول: «لا أريد مالاً. دعني أذهب. أنا أعرف أين هو الّذي يدعى يسوع، وأنا ماضٍ لأطلب...»
«هو يسوع الّذي أمامكَ.» يقول أندراوس وهو يقف أمام المعلّم.
يسوع، على خلاف عادته، لا يطلب شيئاً مِن الرجل. يمدّ في الحال على الأجفان المغلقة القليل مِن الطين الّذي على سبّابتيه ويأمره: «الآن إذهب بأسرع ما يمكنكَ إلى بُركة سلوام، دون التوقّف للتحدّث إلى أيّ كان.»
الأعمى، بوجهه الملطّخ بالطين، يبقى للحظة مرتبكاً ويفتح شفتيه ليتكلّم، ثمّ يغلقهما ويطيع. خطواته الأولى بطيئة، كما لو كان شارد الذهن أو خائب الظنّ، ثمّ يحثّ الخطى، ممرّراً عصاه على الجدار، مع تزايد السرعة، بالقدر الّذي يمكن لأعمى أن يفعل، وقد يكون أكثر، كما لو كان يشعر أنّ هناك مَن يقوده…
الرجلان الأورشليميان يبتسمان ابتسامة تهكّميّة، هازّين رأسيهما، ويذهبان. يوسف الذي مِن الرّامة، وهذا ما يدهشني، يتبعهما حتّى دون تحيّة المعلّم، ويعود أدراجه، أي صوب الهيكل، حيث إنّه كان قد أتى مِن هذا الاتّجاه. وهكذا فإنّ الأعمى، والاثنان، ويوسف الذي مِن الرّامة، يذهبون باتّجاه جنوب المدينة، بينما يسوع ينعطف صوب الغرب، ويغيب عن ناظريّ، ذلك أنّ إرادة الربّ تجعلني أتبع الأعمى والّذين يتبعونه.
بعد اجتياز ببيزيتا، يَلِجون وادياً هو بين جبلي موريا وصهيون -يبدو لي أنّي سمعتُ يوماً مَن يدعوه تيروبيون- يعبرونه بالكامل حتّى عوفل، يحاذونها، يخرجون إلى الطريق الّتي تقود إلى نبع سلوام، مع محافظتهم دائماً على الترتيب التالي: في المقدّمة الأعمى، الّذي يفترض فيه أن يكون معروفاً في هذه المنطقة الشعبيّة، ثمّ الاثنان، وفي الآخر، بعيداً بعض الشيء، يوسف الذي مِن الرّامة.
يقف يوسف بالقرب مِن بيت صغير متواضع، شبه متخفّ بسياج مِن الشمشاد، الذي هو بمثابة الإفريز المحيط بحديقة البيت الفقير الصغيرة. ولكنّ الاثنين يذهبان قرب النبع ويراقبان الأعمى، الّذي يقترب بحذر مِن البركة الكبيرة، ومتحسّساً الجدار الرطب، يغمس يداً، يسحبها طافحة ليغسل بها عينيه لمرّة، مرّتين، ثلاث مرّات. بعد المرّة الثالثة، يضغط بيده الأخرى على وجهه، تاركاً العصا تسقط، ويصرخ صرخة كما مِن الألم. ثمّ يرفع يديه ببطء لتتحوّل صرخة الألم السابقة إلى صرخة فرح: «آه! أيّها العليّ! إنّني أرى!» ويرتمي أرضاً وقد غلبه التأثّر، يضع يديه على عينيه ليحميهما، يضغط بهما على صدغيه، متلهّفاً ليرى، ولكنّ النور يزعجه ويردّد: «إنّي أرى! إنّي أرى! فهذه إذاً هي الأرض! النور! العشب الّذي لم أكن أعرفه سوى مِن طراوته...» ينهض وهو لا يزال منحنياً، كَمَن يحمل ثقلاً، ثقل فرحه، يذهب إلى الجدول الّذي يفرّغ المياه الكثيرة وينظر إليه يجري، لامعاً وضاحكاً ويتمتم: «وهذا هو الماء... هاك! هكذا كنتُ أحسّ به بين أصابعي (ويغمس يده) بارداً وجارياً، ولكنّني لم أكن لأعرفه... آه! جميل! جميل! كما كلّ شيء جميل!» يرفع بصره فيرى شجرة... يدنو منها، يلمسها، يمدّ يده ليجذب إليه غصيناً، ينظر إليه ويضحك، يضحك، يحمي عينيه بيده، وينظر إلى السماء، الشمس، تسقط دمعتين مِن جفونه البِكر الّتي فتحها ليتأمّل العالم... ويخفض بصره على العشب، حيث تتأرجح زهرة على ساقها، ويرى وجهه الّذي يعكسه ماء الجدول، وينظر إلى نفسه ويقول: «هكذا أنا!» ويراقب بدهشة يمامة أتت تشرب بعيداً عنه قليلاً، وعنزة صغيرة تنتزع الورقات الأخيرة مِن شجيرة ورد برّيّة، ثمّ إمرأة آتية إلى النبع ورضيعها على صدرها. وهذه المرأة تذكّره بأُمّه، بأُمّه مجهولة الوجه، ورافعاً ذراعيه إلى السماء، يهتف: «مبارك أنتَ أيّها العليّ، على النور، على الأُمّ وعلى يسوع!» ويمضي وهو يجري، تاركاً عصاه على الأرض وقد أضحت عديمة الفائدة…
لم ينتظر الاثنان لرؤية كلّ هذا. فما أن لاحظا أنّ الرجل كان يرى، فقد مضيا وهما يجريان صوب المدينة.
يوسف، على العكس، يمكث إلى النهاية، وعندما يمرّ الأعمى الّذي لم يعد كذلك مِن أمامه ليدخل في متاهة أزقّة عوفل الآهلة بالسكّان، يغادر مكانه بدوره ويعود أدراجه، صوب المدينة، مستغرقاً في أفكاره…
منطقة عوفل، الصاخبة على الدوام، هي الآن في قمّة الغليان. مَن يجري إلى اليمين، مَن يجري إلى اليسار، مَن يسأل ومَن يجيب.
«قد يكون اختلط الأمر عليكم مع آخر...»
«لا، أقول لكَ. لقد كَلّمتُه وقلتُ له: "هل حقّاً أنتَ، سيدونيا الملقّب برتولماوس؟" وهو قال لي: "أنا هو". كنتُ أودّ سؤاله كيف كان قد حدث ذلك، ولكنّه مضى وهو يجري.»
«أين هو الآن؟»
«بالتأكيد هو في بيت أُمّه.»
«مَن؟ مَن رآه؟» يَسأَل أناس جدد يهرعون.
«أنا. أنا.» يجيب كثيرون.
«ولكن كيف جرى ذلك؟»
«... رأيتُه وقد كان يجري دون عصاه، بعينين في وجهه، وقلتُ: "أنظر! هو حقّاً برتولماوس إذا..."»
«أقول لكَ إنّني في غاية الاضطراب. لدى دخوله، هتف: "أُمّاه، أنا أراكِ!"»
«فرح عظيم للأهل. الآن أصبح بمقدوره مساعدة أبيه وكسب معيشته...»
«المرأة المسكينة! لقد أصيبت بوعكة بسبب الفرح. آه! شيء ما! شيء ما! كنتُ قد ذهبت لأطلب بعض الملح و...»
«فلنجرِ إلى بيته، لمعرفة...»
يوسف الذي مِن الرّامة يجد نفسه مأخوذاً وسط هذه الضوضاء، ولستُ أدري إذا ما كان مِن قَبيل الفضول أو بروح الاقتداء، يتبع التيار وينتهي به المطاف إلى زقاق مقطوع، الذي لو استمرّ لكان يفضي إلى قدرون، حيث يتزاحم الجمع، طاغياً بكلامه على صخب ماء السيل، وقد طفح بسبب أمطار الخريف. ويَبلغه يوسف عندما، مِن زقاق آخر يفضي إلى هذا، يصل الاثنان مع ثلاثة آخرين: كاتب وكاهن وثالث لم يتسنَّ لي معرفة هويّته مِن خلال ثيابه. يفسحون لنفسهم ممرّاً، بالفرض، ويحاولون الدخول إلى المنزل المزدحم. يتألّف المنزل مِن مطبخ واسع أسود كما مِن قطران، وزاوية مفصولة بحاجز ريفيّ حيث بعده هناك سرير فقير وباب يفضي إلى غرفة أخرى فيها سرير أكبر. باب مفتوح في الجدار المقابل، تُرى مِن خلاله حديقة صغيرة مساحتها لا تتعدّى بضعة أمتار مربّعة. وهذا كلّ شيء.
الأعمى الّذي شفي يتحدّث مستنداً إلى طاولة، مجيباً الّذين يسألونه، وجميعهم فقراء مثله، شعب لا أهمّيّة له مِن أورشليم، مِن هذه المنطقة، الّتي قد تكون الأكثر فقراً مِن كلّ المناطق. أُمّه التي تقف إلى جانبه، تنظر إليه وتبكي ماسحة عينيها بوشاحها. الأب، رجل منهك مِن العمل، يفرك لحيته بيده المرتعشة.
الدخول إلى المنزل مستحيل، حتّى على اليهود ذوي السلطان والأحبار، وعلى الخمسة سماع كلام الرجل المبرأ مِن الخارج.
«كيف فُتِحتا؟ ذلك الرجل، الّذي يُدعى يسوع، طلا عينيّ بتراب مبلّل، وقال لي: "اذهب واغتسل في نبع سلوام". وذهبت إلى هناك، واغتسلت وفُتِحَت عيناي ورأيتُ.»
«ولكن ماذا فعلتَ لتجد الرابّي؟ كنتَ على الدوام تقول بأنّكَ تعيس، لأنّكَ لم تكن لتلتقي به أبداً، حتّى حينما كان يمرّ دوماً مِن هنا ليذهب إلى يونا في جَثْسَيْماني. واليوم، الآن حيث لا أحد يعلم أين هو...»
«إيه! أمس مساء، واحد مِن تلاميذه أتى وأعطاني قطعتيّ نقود وهو يقول: "لماذا لا تسعى لأن ترى؟" وقلتُ له: "حاولتُ، ولكنّني لم أجد أبداً يسوع ذاك الّذي يجترح المعجزات. إنّني أبحث عنه منذ أن شفى أناليا، الّتي هي مِن منطقتي، ولكن ما أن أذهب إلى مكان، حتّى يكون في آخر..." وقال لي: "أنا واحد مِن رُسُله، وما أقوله أنا له، يفعله. تعال غداً إلى بيزيتا وابحث عن منزل يوسف الجليليّ، الّذي يبيع السمك المجفّف، يوسف سيفوريس، قرب باب هيرودس وقوس الساحة، مِن جهة الشرق، وسوف ترى إن عاجلاً أو آجلاً أنّه يمرّ مِن هناك أو يدخل إلى المنزل، وأنا سأدلّ المعلّم عليكَ". قلتُ: "إنّما غداً هو السبت". كنتُ أريد القول إنّه ما كان ليفعل شيئاً خلال السبت. قال لي: "إذا أردتَ أن تُشفى، فهذا هو اليوم، ذلك أنّنا سوف نغادر المدينة ولا تعرف إذا ما كنتَ ستلتقيه بعد". وأنا قلتُ أيضاً: "أعرف أنّه مُضطَهَد. سمعتُ ذلك عند أبواب سور الهيكل حيث أذهب لأستعطي. ولذلك أقول بأنّهم إذا ما كانوا يضطهدونه لهذه الدرجة الآن، فهو سيرغب في الإقلال مِن اضطهاده ولن يشفيني يوم السبت". وهو: "إفعل ما أقوله لكَ وسوف ترى الشمس يوم السبت". وذهبتُ إلى هناك. ومَن لم يكن ليذهب؟ في الوقت الّذي رسوله يقول ذلك! ولقد قال لي كذلك: "أنا مَن يستمع إليه بالأكثر، وقد أتيتُ متعمّداً لأنّني أشفق عليكَ، وأريد أن يتألّق سلطانه بعد أن احتقروه. فأنتَ الأعمى منذ الـمَولِد، ستجعله يتألّق. أعرف ما أقول. تعال وسوف ترى". وذهبتُ إلى هناك، ولم أكن بعد قد وصلتُ إلى بيت يوسف عندما أخذني رجل مِن يدي، وبحسب الصوت لم يكن ذلك الّذي كلّمني بالأمس، وقال لي: "تعال معي يا أخي" ولم أكن أريد الذهاب، فقد كنتُ أظنّه يريد إعطائي زاداً ومالاً، ومِن الممكن ثياباً، كنتُ أقول له بأن يتركني أذهب لأنّني كنتُ أعلم أين أجد ذاك المدعو يسوع. وقال لي الرجل: "ها هو يسوع، إنّه أمامكَ". ولكنّني لم أرَ شيئاً كوني أعمى. شعرت فقط بإصبعين يغطّيهما الطين كانا يلمسانني مِن الجانبين، وكان صوت يقول: "اذهب بسرعة إلى سلوام واغتسل ولا تتحدّث إلى أحد"، وفعلتُ ذلك. ولكنّني كنتُ مُحبَطاً إذ إنّني كنتُ أتمنّى أن أرى في الحال، وظننتُ إلى حدّ ما أنّه كان مجرّد مزاح مِن شباب بلا قلب، وكنتُ على وشك رفض الذهاب، ولكنّني سمعتُ ما يشبه الصوت يقول لي: "ليكن لكَ رجاء وأَطِع"، حينئذ ذهبت إلى النبع واغتسلتُ وأبصرتُ.» ويتوقّف الشاب منتشياً ليعيد التفكير بفرح بإبصاره الأوّل…
«أَخرِجوا الرجل. نريد سؤاله» يصيح الخمسة.
الرجل يشقّ له طريقاً ويخرج إلى العتبة.
«أين هو الذي شفاكَ؟»
«لا أعرف.» يقول الشاب الّذي همس له صديق: «إنّهم كَتَبَة وكَهَنَة.»
«كيف لا تعرف؟ منذ لحظة كنتَ تقول إنّكَ كنتَ تعرف. لا تكذب على أحبار الشريعة والكاهن! الويل لِمَن يحاول أن يخدع قضاة الشعب!»
«أنا لا أخدع أحداً. ذاك التلميذ قال لي: "هو في هذا المنزل". وكان كلامه صحيحاً، ذلك أنّني كنتُ قريباً منه عندما أُخِذتُ واقتادوني إليه. إنّما أين هو الآن، فلستُ أدري. لقد قال لي التلميذ بأنّهم يمضون. قد يكون الآن اجتاز الأبواب.»
«ولكن إلى أين كان ذاهباً؟»
«كيف لي أن أعرف؟ قد يكون إلى الجليل... بفعل الأسلوب الّذي عومل به هنا!...»
«أحمق وقليل التهذيب! انتبه إلى أسلوبكَ في الكلام يا حثالة الشعب! سألتُكَ: في أيّة طريق كان ماضياً.»
«ولكن كيف تريدوني أن أعرف وقد كنتُ أعمى؟ هل يمكن لأعمى أن يقول أين يذهب آخر؟»
«حسناً. إتبعنا.»
«أين تريدون أن تقتادوني؟»
«عند رؤساء الفرّيسيّين.»
«لماذا؟ ما دخلهم بي؟ أربّما هم الّذين شفوني، فينبغي لي أن أشكرهم؟ عندما كنتُ أعمى وأستعطي، لم تَلمس يداي دراهمهم، ولم تَسمع أذناي منهم يوماً كلمة رحمة، ولم يعرف قلبي يوماً المحبّة تجاههم. ماذا ينبغي لي أن أقول لهم؟ ليس هناك سوى واحد عليّ أن أقول له "شكراً" بعد أبي وأُمّي، اللذين أحبّاني لسنين طويلة وأنا تعيس. ويسوع هذا الّذي شفاني بمحبّته لي مِن كلّ قلبه، مثل محبّة أهلي لي. فأنا لن أذهب للقاء الفرّيسيّين. إنّني أبقى مع أبي وأُمّي لأستمتع برؤية وجهيهما، وهما برؤية عينيّ اللتين وُلِدتا الآن، بعد فصول ربيع كثيرة منذ وُلِدتُ، إنّما دون رؤية النور.»
«بدون كثير كلام. تعال واتبعنا.»
«لا! لن آتي! هل مسحتم يوماً دمعة لأُمّي المطعونة بتعاستي، أو قطرة عَرَق لأبي المنهك بالعمل؟ الآن وقد أصبح بإمكاني فِعل ذلك بما أنا عليه، وينبغي لي تركهما لأتبعكم؟»
«نحن نأمركَ بذلك. لستَ أنتَ مَن يأمر، بل الهيكل ورؤساء الشعب. إذا كان كبرياء الشفاء يغلق عليكَ الفهم لتتذكّر أنّنا نحن مَن يأمر، فنحن نذكّركَ. تقدّم! سِر!»
«ولكن لماذا عليّ أن آتي؟ ماذا تريدون منّي؟»
«كي تشهد على الأمر. إنّه السبت. عمل منجز في السبت. يجب أن يُسجَّل بسبب الخطيئة، خطيئتُكَ وخطيئة ذلك الشيطان.»
«أنتم مَن تكونون الشيطان! وعليّ أن آتي لأشهد ضدّ الّذي فعل معي خيراً؟ أنتم سكارى! سوف آتي إلى الهيكل لأبارك الربّ ليس إلاّ. سنوات كثيرة وأنا في عتمة العمى، إنّما جفوني المقفلة لم تُنتِج الظلمة إلاّ لعينيّ. ففكري بقي في النور رغم ذلك، بنعمة الله، وهو يقول لي ألاّ أخطئ تجاه القدّيس الوحيد في إسرائيل.»
«كفى أيّها الرجل! ألا تعلم بأنّ هناك عقوبات للّذين يعارضون القضاة؟»
«أنا لا أعرف شيئاً. أنا هنا وأبقى هنا. ولا مصلحة لكم بالإساءة إليّ. أترون أنّ عوفل بأكملها إلى جانبي؟»
«نعم! نعم! اتركوه! يا أبناء آوى! إنّ الله يحميه. لا تلمسوه! الله مع الفقراء! الله معنا، أيّها الـمُجوِّعون والمنافقون!» الناس يصرخون ويهدّدون في واحدة مِن تلك التظاهرات الآنيّة للشعب، الّتي هي انفجارات لعامّة الناس في وجه الّذين يظلمونهم، أو محبّة للّذين يحمونهم. ويصيحون: «الويل لكم لو ضربتم مخلّصنا! صديق الفقراء! مَسيّا مثلّث التقديس. الويل لكم! لم نخف مِن سورات غضب هيرودس، ولا تلك الّتي للرؤساء، عندما أردنا ذلك. ولا نخشى سورات غضبكم، أيّها الضباع العجوزة ذوو فكوك بلا أسنان! أبناء آوى بأظفار مقطوعة! أصحاب سلطان بلا جدوى! روما لا تريد جَلَبَة ولا تظلم الرابّي، ذلك أنّه هو السلام، ولكنّها تعرفكم. اخرجوا مِن هنا! اخرجوا مِن مناطق الّذين تظلمونهم بضرائب مُبالَغ فيها أكثر مِن دخلهم، للحصول على مال يشبع شهواتكم ويحقّق صفقات مخجلة. يا أحفاد ياسون! سمعان! يا مُعذِّبي المدعوّين لعازر الحقيقيّين، المدعويّن عونيا القدّيسَين. تحتقرون الأنبياء! اخرجوا مِن هنا! اخرجوا مِن هنا!» الصخب يستشيط بازدياد على الدوام.
يوسف الذي مِن الرّامة، المحشور عند جدار صغير، وقد كان حتّى ذلك الحين مُشاهِداً متنبّهاً ولكنّه غير فعّال، وبمرونة لا يمكن الظنّ بها لدى رجل مسنّ، وفوق ذلك هو مرتبك في ثيابه ومعاطفه، يقفز واقفاً على الجدار الصغير ويهتف: «صمتاً أيّها الناس. واسمعوا يوسف العجوز!»
رأس، اثنان، عشرة رؤوس تلتفت باتّجاه الصرخة. ويرون يوسف، ويهتفون باسمه. المفروض أنّه معروف، ولا بدّ أنّه يتمتّع بحضوة شعبيّة، ذلك أنّ هتافات الفرح حلّت محل هتافات السخط: «هنا يوسف العجوز! فليحيَ! السلام والحياة الطويلة للبارّ! السلام والبركة للمحسن إلى البؤساء! صمتاً، كي يتكلّم يوسف! صمتاً!»
يسود الصمت بصعوبة، ولبضع دقائق يُسمَع صوت قدرون ممّا وراء الزقاق. وتلتفت الرؤوس كلّها باتّجاه يوسف، ناسية السبب الّذي كان يجعلها تلتفت صوب الجهة المعاكسة: الخمسة التعساء الذّين لا تبصّر لهم وقد تسبّبوا بالصخب.
«يا سكّان أورشليم، يا رجال عوفل، لماذا تدعون أنفسكم تُعمون بشكوك وغضب؟ لماذا الإخلال بالاحترام وبالعادات، وأنتم الأوفياء على الدوام لشرائع الآباء؟ تخشون ماذا؟ قد يكون الهيكل مِن الزواحف الّتي لا تعيد ما تأخذ؟ أقد يكون قضاتكم بأجمعهم عمياناً، أكثر مِن صديقكم، عميان قلب وصمّاً في موادّ العدل؟ أليس مِن العُرف أن تتمّ الشهادة لمعجزة، فتُكتب وتُحفظ لدى مَن يفترض فيه ذلك مِن أجل أخبار إسرائيل التاريخيّة؟ فاسمحوا إذاً، حتّى مِن أجل إكرام الرابّي الّذي تحبّون، أن يصعد مَن جرت عليه المعجزة ليشهد على الفعل الذي أجراه عليه. هل ما زلتم تتردّدون؟ حسناً، أنا أضمن لكم أنّ أمراً سيّئاً لن يحصل لبرتولماوس، وأنتم تعلمون أنّني لا أكذب. وكابن عزيز على قلبي، سأصحبه إلى هناك، وأعيده إليكم إلى هنا بعد ذلك. ثقوا بي، ولا تجعلوا مِن السبت يوم خطيئة بثورتكم ضد رؤسائكم.»
«إنّه على حقّ! لا ينبغي لنا، يمكننا الوثوق به. إنّه بارّ. في مداولات السنهدرين الصالحة، له صوته على الدوام.» يغيّر الناس تفكيرهم وينتهون بالهتاف: «لكَ أنتَ، نعم، نعهد به إليكَ!» ويتوجّهون للشاب: «إذهب! لا تخف. مع يوسف الذي مِن الرّامة أنتَ بأمان كما مع أبيكَ وأكثر.» يفتحون طريقاً بين صفوفهم كي يستطيع الشاب اللحاق بيوسف، الّذي نزل مِن على منبره المرتجل، وعندما يمرّ يقولون له: «آتون نحن كذلك، لا تخف!»
يوسف، في ثيابه الصوفيّة الفاخرة الثمينة، يضع يداً على كتف الشاب، ويسير. الجلباب الرماديّ والـمُستَهلَك للشاب، معطفه القصير، يحتكّان بثوب السنهدرينيّ العجوز الفضفاض الأحمر الداكن والمعطف الثمين والداكن أكثر. ومِن الخلف، الخمسة، وتالياً جمهور عوفل الّذي لا حصر له…
ها هم في المعبد، بعد اجتيازهم الشوارع الرئيسيّة، لافتين نظر كثير مِن الناس، الذين يشيرون بالإصبع إلى الأعمى السابق قائلين: «ولكن هو الأعمى الّذي كان يستجدي! والآن له عينان! ولكن قد يكون أحد آخر يشبهه! لا، بالتأكيد هو، ويقودونه إلى الهيكل. هيّا بنا لنتحقّق مِن الأمر.» ويتعاظم الموكب باطّراد، إلى أن تبتلعهم أسوار الهيكل جميعاً.
يوسف يقود الشاب إلى قاعة، هي ليست السنهدرين، حيث يتواجد العديد مِن الكَتَبَة والفرّيسيّين. يدخل يوسف، ومعه برتولماوس والخمسة. ويتمّ إرجاع قوم عوفل إلى الباحة.
«ها هو الرجل. لقد جلبتُه إليكم بنفسي، كَوني، ودون أن أظهر، قد حضرتُ لقاءه بالرابّي وشفاءه، وبإمكاني القول أنّه كان قطعاً بالمصادفة مِن جهة الرابّي. الرجل، ستسمعونه يروي ذلك أنتم كذلك، قد اقتيد، أو بالحريّ دُعي للذهاب إلى حيث الرابّي، مِن قِبَل يهوذا الإسخريوطيّ الّذي تعرفونه. وأنا سمعتُ، وكذلك هذان الاثنان سمعا مثلي إذ إنّهما كانا حاضرين، كيف أنّ يهوذا الإسخريوطيّ هو الّذي حمل يسوع الناصريّ على اجتراح المعجزة. الآن أشهد هنا أنّه لو كان مِن وجوب لمعاقبة أحد، فليس الرابّي ولا الأعمى، إنّما رجل إسخريوط الّذي، الله يراني إذا ما كنتُ أكذب وأنا أروي ما يفكّر به عقلي، هو أصل الفعل كونه المحرّض على ذلك بتدبير مسبق. لقد تكلّمتُ.»
«تصريحكَ لا يلغي خطأ الرابّي. فإذا ما ارتكب تلميذه خطيئة، فليس على المعلّم أن يرتكب الخطيئة. وهو ارتكب خطيئة بالشفاء يوم السبت. لقد أتمّ عملاً يدويّاً.»
«البصاق على الأرض ليس عملاً يدويّاً، ولمس عينيّ آخر ليس قياماً بعمل يدويّ. أنا أيضاً ألمس الرجل ولا أظنّني أرتكب خطيئة.»
«لقد اجترح معجزة يوم السبت: في هذا تكمن الخطيئة.»
«إكرام السبت بمعجزة هي نعمة مِن الله وصلاحه. إنّه يومه. وألا يمكن لكليّ القدرة الاحتفال به بمعجزة تجعل قدرته تتلألأ؟»
«نحن لسنا هنا للاستماع إليكَ. أنتَ لستَ مُداناً. نحن نريد استجواب الرجل. أَجِب أنتَ. كيف حصلتَ على النّظر؟»
«لقد قلتُ ذلك، وهؤلاء سمعوني. قال لي أمس تلميذ يسوع ذاك: "تعال وسأجعلكَ تُشفى". وأتيتُ، وأحسستُ أنّ طيناً وُضِع عليّ هنا، وصوتاً كان يقول لي أن أذهب إلى سلوام وأغتسل. فعلتُ ذلك وها أنا أرى.»
«ولكن هل تعلم مَن الّذي شفاكَ؟»
«بالطبع أعلم! إنّه يسوع. لقد قلتُ لكم ذلك.»
«ولكن هل تعلم بالضبط مَن يكون يسوع؟»
«أنا لا أعلم شيئاً. أنا رجل فقير وجاهل، ولوقت قريب كنتُ أعمى. هذا أعرفه، وأعلم أنّه هو مَن أبرأني، وإن يكن قد استطاع فِعل ذلك فالله حتماً معه هو.»
«لا تجدّف! لا يمكن لله أن يكون مع مَن لا يراعي السبت.» يهتف البعض.
ولكنّ يوسف والفرّيسيّين اليعازر ويوحنّا ويواكيم يعلّقون: «ومع ذلك فلا يمكن لخاطئ أن يأتي بمثل هذه المعجزات.»
«أأنتم كذلك قد أغواكم هذا الممسوس؟»
«لا. نحن مستقيمون، ونقول أنّه إذا كان لا يمكن لله أن يكون مع مَن يعمل يوم السبت، فَمِن غير الممكن كذلك أنّ رجلاً يستطيع جعل أعمى يرى دون عون مِن الله.» يقول أليعازر بهدوء، والآخرون يؤيّدون رأيه.
«والشيطان أين تضعونه؟» يصيح السيّئون بصفاقة.
«لا يمكنني الاعتقاد، ولا أنتم كذلك، أنّ بإمكان الشيطان القيام بأعمال قادرة على جعل الربّ يتمجّد.» يقول يوحنّا الفرّيسيّ.
«ومَن ذا الذي يمجّده؟»
«الشاب، أهله، عوفل بأكملها، وأنا مِن ضمنهم، ومعي كلّ الأبرار والّذين لديهم مخافة مقدّسة لله.» يجيب يوسف.
السيّئون، وقد أحبطوا، إذ لا يعرفون على ماذا يعترضون، يتوجّهون لسيدونيا المدعو برتولماوس: «وأنتَ ماذا تقول عن الّذي فتح لكَ عينيكَ؟»
«بالنسبة لي هو نبيّ، وأعظم مِن إيليا مع ابن أرملة صرفت. إذ إنّ إيليا أعاد النَّفْس للولد، ولكنّ يسوع هذا منحني ما لم أفقده أبداً، حيث لم يكن لي مطلقاً: النَّظر. وإذا، بلمح البصر، صنع لي عينين بلا شيء، سوى القليل مِن الطين، بينما أُمّي، خلال تسعة أشهر، بجسدها ودمها لم تنجح في أن تصنعهما لي، ينبغي أن يكون عظيماً مثل الله الّذي خلق الإنسان مِن طين.»
«إذهب! إذهب! مجدّف! كاذب! مُشتَرَى!» ويطردون الرجل وكأنّه مدان.
«الرجل يكذب. لا يمكن أن يكون هذا صحيحاً. الجميع يقولون بأن الأعمى منذ مولده لا يمكن أن يبرأ. قد يكون شبيهاً لبرتولماوس، وقد هيّأه الناصريّ... أو أنّ... برتولماوس لم يكن أعمى أبداً.»
أمام هذا التصريح الصادم، يجيب يوسف الذي مِن الرّامة: «أن يسبّب الحقد العمى، فذلك معروف منذ زمن قايين، أمّا أن يجعل الإنسان مغفّلاً، فذلك غير معروف بعد. هل يبدو لكم أنّ أحداً يصل إلى عزّ الشباب متظاهراً بأنّه أعمى كي... ينتظر حدثاً مذهلاً مفترضاً وبعيداً جدّاً؟ أم أنّ أبويّ برتولماوس لا يعرفان ابنهما أو هما يستجيبان لهكذا أكذوبة؟»
«المال يستطيع كلّ شيء، وهم فقراء.»
«الناصريّ أكثر فقراً منهم.»
«أنتَ تكذب! يصل إلى يديه مبالغ رجل باذخ.»
«ولكنّها لا تبقى لحظة. هذه المبالغ تعود للفقراء. تخدم في فِعل الخير، وليس مِن أجل الكذب.»
«كم أنتَ تدافع عنه! وأنتَ واحد مِن الشيوخ!»
«يوسف على حقّ. يجب أن تُقال الحقيقة مهما يكن المنصب الّذي يشغله الشخص.» يقول أليعازر.
«أسرعوا ونادوا الأعمى وقودوه مجدّداً إلى هنا، وليذهب آخرون للبحث عن الأهل وجلبهم إلى هنا.» يقول حِلقِيّا فاتحاً الباب على مصراعيه، ومُصدِراً أوامره للبعض الّذين ينتظرون في الخارج. وفمه مغطّى بالزبد بقدر ما يخنقه الغضب.
يهرع البعض مِن جهة، آخرون مِن الجهة الأخرى. أوّل العائدين هو سيدونيا المدعو برتولماوس، مذهولاً ومنزعجاً. يضعونه في ركن ناظرين إليه كسرب مِن كلاب الصيد تترصّد فريسة… ثمّ بعد فترة لا بأس بها، ها هما أهله يصلان محاطين بالجمع.
«أنتما، هيّا إلى الداخل والباقون خارجاً!»
يدخل الاثنان فزعَين، ويريان ابنهما في العمق، في وضع جيّد، إنّما في وضع توقيف. تئنّ الأُمّ: ولدي! وقد كان مِن المفروض أن يكون يوم احتفال بالنسبة لنا!»
«أَنصِتا إلينا. هل هذا الرجل هو ابنكما؟» يَسأَل أحد الفرّيسيّين بصرامة.
«نعم، إنّه ابننا! ومَن تريدونه أن يكون إن لم يكن هو؟»
«هل أنتما متأكّدين تماماً؟»
الأب والأُمّ، وقد أذهلهما السؤال، ينظران الواحد إلى الآخر قبل الرد.
«أجيبا!»
«أيّها الفرّيسيّ النبيل، هل يمكنكَ التفكير أنّ بإمكان أب وأُمّ أن يخطئا بشأن ابنهما؟» يقول الأب بتواضع.
«ولكن... هل يمكنكما القَسَم أنّ... نعم. أنّ مقابل مبلغ مِن المال لم يُطلَب منكما القول بأنّه ابنكما، بينما هو شبيه له؟»
«طُلِب القول؟ ممّن؟ القَسَم؟ ولكن ألف مرّة، وعلى هيكل واسم الله، لو أردتَ!» ويؤكّدان ذلك بقدر مِن التأكيد بحيث إنّ الأكثر تعنّتاً يتراجع.
ولكنّ الفرّيسيّين لا يتراجعون! يَسأَلون: «ولكن ألم يُولَد ابنكما أعمى؟»
«بلى، كان هكذا. بجفنين مغلقين وتحتهما فراغ، لا شيء...»
«وكيف إذاً يبصر الآن؟ له عينان يُفتَح الجفنين فوقهما. ومع ذلك لا تودّان القول بأنه يمكن لعينين أن تُولَدا هكذا، مثل زهور في الربيع، وأنّ جفناً يُفتَح بالمطلق، كما يفعل كأس زهرة!...» يقول فرّيسيّ آخر بابتسامة ساخرة.
«نحن نعلم أنّ هذا ابننا بحقّ منذ حوالي ثلاثين عاماً، وأنّه وُلِد أعمى، إنّما كيف هو يرى الآن فلا نعلم، ولا نعلم مَن فتح له عينيه. ما خلا ذلك، فاسألوه. هو ليس غبيّاً وليس طفلاً. إنّه كامل السنّ. استجوبوه وسيجيبكم.»
«أنتما تكذبان.» يصيح أحد الاثنين اللذين كانا يتبعان الأعمى على الدوام. «فهو، في بيتكما، قد روى كيف شُفي ومَن الّذي شفاه. فلماذا تقولان إنّكما لا تعلمان؟»
«لقد كنّا مندهشين للغاية بالمفاجأة بحيث لم نسمع.» يقول الاثنان معتذرَين.
يتوجّه الفرّيسيّون إلى أدونيا المسمّى برتولماوس: «تقدّم إلى هنا أنتَ، وأعطِ مجداً لله إن أمكنكَ! هل تعلم أنّ الّذي لمس عينيكَ هو خاطئ؟ ألا تعلم ذلك؟ إذاً فاعلم! نحن نقولها لكَ، فنحن مَن نعلم.»
«ربّما! قد يكون كما تقولون. بالنسبة إليّ، إذا كان خاطئاً، فلا أعلم. جُلّ ما أعلمه هو أنّني سابقاً كنتُ أعمى والآن أرى، وبوضوح.»
«ولكن، ما الّذي فعله لكَ؟ كيف فتح لكَ عينيكَ؟»
«لقد قلتُ ذلك لكم وسمعتموني. والآن تريدون سماعه مجدّداً؟ لماذا؟ أيمكن أنّكم تريدون أن تصبحوا تلاميذ له؟»
«أحمق! كُن أنتَ تلميذاً لذاك الرجل. نحن تلاميذ موسى، ونعرف كلّ شيء عن موسى، وأنّ الله كلّمه. إنّما هذا الرجل فلا نعلم عنه شيئاً، ولا مِن أين أتى، ومَن يكون، ولا أيّة آية مِن السماء تشير إلى أنّه نبيّ.»
«هنا بالتحديد يكمن ما هو مِن خوارق الأمور! وهو أنّكم لا تعلمون مِن أين هو، ولا أيّة آية تشير إلى أنّه بارّ. ولكنّه فتح لي عينيّ ولم يستطع أيّ مِن إسرائيل أن يفعلها، ولا حتّى محبّة أُمّ وتضحيات أبي. ومع ذلك أمر واحد نعلمه جميعنا، أنتم وأنا، هو أنّ الله لا يستجيب للخاطئ، بل لِمَن يخاف الله ويعمل مشيئته. لم يُسمَع قطّ أنّ أحداً في العالم تمكّن مِن فتح عينيّ مولود أعمى، بينما هذا فعله يسوع. وإن لم يكن مِن الله، لم يكن بإمكانه فِعلها.»
«أنتَ وُلِدتَ بكليّتكَ في الخطيئة، وروحكَ مشوّه أكثر ممّا كان جسدكَ، وتريد أن تعطينا الدرس؟ اذهب، أيّها السقط البائس، واجعل مِن نفسكَ شيطاناً مع مغويكَ. خارجاً! الجميع خارجاً، عَوام بلهاء وخاطئين!» ويرمونهم خارجاً: الابن والأب والأُمّ كما لو أنّهم برص ثلاثة.
يمضي الثلاثة بسرعة، يتبعهم الأصدقاء، ولكن ما إن وصلوا خارج السور، يلتفت سيدونيا ويقول: «وابقوا! وقولوا ما شئتم. ما هو حقيقيّ هو أنّني أرى وأسبّح الله. والشيطان، أنتم مَن ستكونونه، وليس الصالح الّذي أبرأني.»
«أُصمت يا بنيّ! أُصمت! لكيلا يصيبنا مكروه مِن جرّاء هذا!...» تئنّ الأُمّ.
«آه! يا أُمّي! إنّ جَوّ تلك القاعة قد سمّم لكِ نفسكِ، أنتِ الّتي كنتِ تعلّمينني في ألمي أن أُسبّح الله، والآن في الفرح لا تعرفين أن تشكريه، وتخافين الناس؟ إذا ما أحبّني الله وأحبّكِ لدرجة أنّه منحنا المعجزة، ألن يعرف أن يحمينا مِن حفنة مِن الناس؟»
«ابنكِ على حقّ يا امرأة. فلنذهب إلى معبدنا لنسبّح الربّ، طالما طردونا مِن الهيكل. ولنمضِ بسرعة قبل نهاية السبت...»
وبخطى سريعة، يضيعون في دروب الوادي.