ج7 - ف158
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء السابع / القسم الأول
158- (في بيت صيدا وكفرناحوم. الانطلاق في رحلة رسوليّة جديدة)
01 / 08 / 1946
«وَجِّه القارب نحو بيت صيدا» يَأمر يسوع الذي هو بصحبة يوحنّا في قارب صغير، قشرة جوز بحقّ، وسط البحيرة التي تجلو ببطء في الوقت ذاته مع ضوء النهار.
يوحنّا يطيع دونما كلام. هناك هبوب ريح قويّ إلى حدّ ما يملأ الشراع الصغير، ويجعل القارب ينزلق بسرعة لدرجة أنّه يميل مِن جهة. يَتمّ اجتياز الضفّة الشرقيّة بسرعة، وانحناءة الجهة الشماليّة للبحيرة تغدو أقرب فأقرب.
«ارسُ قبل القرية. أريد الذهاب إلى بيت بورفيرا مِن دون أن يراني أحد. وأنتَ وافِني بعدئذ إلى المكان المعتاد وانتظرني في القارب.»
«نعم يا معلّم. وإذا ما رآني أحدهم؟»
«استَبْقهم جميعاً مِن دون أن تُفصِح عن مكاني. لن أتأخّر.»
يَجِد يوحنّاً مكاناً ملائماً للرسوّ عند الضفة، يَجِده في ما يَظهَر بأنّه سيل رملي حقيقيّ يأخذ منه الناس الرمل لاحتياجاتهم، بحيث أنّه شَكَّلَ خليجاً صغيراً بعرض عدّة أمتار، ممّا يُمكّن القارب مِن الوصول إلى الضفة، التي ترتفع حوالي النصف متر فوق مستوى الماء.
إلى هناك يذهب. القارب يحتّك بشكل خفيف بالأرضيّة الرمليّة، ولكنّه ينجح في الرسوّ، ويثبّته يوحنّا، متمسّكاً بجذع ناتئ مِن الرمل. يسوع يقفز إلى الضفّة. ويوحنّا يُسنِد مجذافاً إلى الضفّة ويضغط لدفع القارب إلى البحيرة مجدّداً. ينجح بذلك. يرفع وجهه، الذي تنيره ابتسامة طيّبة ويقول: «وداعاً يا معلّم.»
«وداعاً يا يوحنّا» ويبتعد يسوع وسط الأشجار، فيما يتلوّى يوحنّا بقاربه الصغير.
يسوع يدور صوب الداخل ويمرّ عبر البساتين خلف بيت صيدا. إنّه يمشي بسرعة كي يتحاشى دخول القرية عندما تنشط. إنّه يَصِل إلى بيت بطرس مِن دون أن يُصادِف أحداً. يَطرق على باب المطبخ. بعد برهة يَبرز رأس بورفيرا باحتراس مِن وراء حافة السطح. تَرى يسوع وتهتف «آه!» بذهول. وبيد واحدة تجمع شعرها الجميل -جمالها الوحيد- المنسدل تماماً على كتفيها، وتهرع إلى أسفل عبر الدرج الصغير، حافية كما هي، في تبرّج الصباح السريع.
«يا ربّ، أنتَ! وحدكَ؟»
«نعم يا بورفيرا. أين مارغزيام؟»
«إنّه نائم. إنّه ما يزال نائماً. بقي الصغير حزيناً بعض الشيء، أو بالأحرى واهناً... وأنا أداريه قليلاً. إنّه أيضاً العمر... النموّ... وحينما يكون نائماً لا يفكّر ولا يبكي...»
«هل يبكي غالباً؟»
«نعم يا معلّم. أعتقد أنّ السبب هو ضعفه الحاليّ. وأنا أحاول تشجيعه... وتعزيته... إنّما هو يقول: "أنا أبقى وحيداً. كلّ الذين أحبهم يرحلون. وعندما لا يعود يسوع معنا..." وهو يقول ذلك كما لو أنّكَ على وشك أن تفارقنا... بالتأكيد... لقد عانى كثيراً خلال حياته... لكنّ سمعان وأنا نحبّه... كثيراً، يا معلّم، صدّقني.»
«أعلم. لكنّ نفسه تتكهّن... بورفيرا، أريد أن أتحدّث معكِ بهذا الشأن تحديداً. لهذا أتيتُ، دون سمعان، في هذه الساعة. أين يمكننا الذهاب بحيث لا يسمعنا مارغزيام ولا يزعجنا أحد؟»
«يا ربّ... ليس هناك سوى غرفة النوم... أو الغرفة حيث شِباك الصيد... إنّ مارغزيام فوق، وأنا كذلك كنتُ هناك، فقد ذهبنا كي ننام هناك هرباً مِن الحرّ...»
«لنذهب إلى الغرفة حيث شِباك الصيد. إنّها أبعد ومارغزيام لن يسمعنا حتّى ولو استيقظ.»
«تعال يا ربّ»، وتقوده بورفيرا إلى الغرفة البسيطة، والمليئة بأشياء مِن كلّ الأنواع: شِباك، مجاذيف، مؤن، علف للخراف، نول…
تَهرَع بورفيرا لتنظيف شِبه طاولة موضوعة قرب الجدار، نافضة عنها الغبار بحُزمة نسالة كتّان ليجلس المعلّم.
«لا يهمّ يا امرأة. إنّني لستُ متعباً.»
ترفع بورفيرا عينيها الوادعتين صوب وجه يسوع الشاحب والمتعب، وتبدو كما لو أنّها تريد أن تقول: «بلى، أنتَ كذلك.» إنّما، كونها معتادة على الصمت، فهي لا تتكلّم.
«أَنصِتي يا بورفيرا. أنتِ امرأة ذكية وتلميذه صالحة. لقد أحببتُكِ كثيراً مذ عرفتُكِ، وبسعادة غامرة قبلتُكِ كتلميذة، وعهدتُ إليكِ بالصبيّ. أعرف أنّ فقط قلّة مِن النساء متعقّلات وفاضلات مثلكِ. وأعلم أنّكِ تُحسِنين الصمت: وهي فضيلة نادرة جدّاً عند النساء. مِن أجل كلّ تلك الأسباب، أتيتُ كي أحدّثكِ سرّاً وأئتمنكِ على شيء لا يعلمه أحد، ولا حتّى الرُّسُل، ولا حتّى سمعان. أقوله لكِ لأنّه عليَّ أن أقول لكِ كيف يتوجّب عليكِ أن تتصرّفي في المستقبل مع مارغزيام... ومع الجميع... إنّني واثق مِن أنّكِ سوف تلبّين طلب معلّمكِ وسوف تكونين حكيمة كما دائماً...»
بورفيرا، التي قد احمرّت حقّاً لدى سماعها مديح ربّها، لا تُعبّر عن موافقتها سوى بإيماءة مِن رأسها، متأثّرة بشدة، هي الخجولة جدّاً والمعتادة على فرض الآخرين إراداتهم وأوامرهم عليها، دون تَبيُّن فيما إذا كانت مُهيّأة للموافقة…
«بورفيرا، أنا لن أعود أبداً إلى هذه المنطقة. أبداً، حتّى يتمّ كلّ شيء... أنتِ تعرفين ما عليَّ أن أُتمّ، أليس كذلك؟...»
بعد تلك الكلمات تُفلِت بورفيرا شعرها التي كانت حتّى ذلك الوقت تمسكه عند مؤخّرة رقبتها بيدها اليسرى، وتُطلِق صوتاً هو بكاء أكثر منه صرخة، والذي تخنقه مغطيّة وجهها بكلتا يديها فيما تَسقُط على ركبتيها نائحةً: «أَعلَم يا ربّ، يا إلهي...» وتبكي بصمت لا يَظهَر إلّا مِن الدموع التي تتساقط على الأرض مِن بين أصابعها التي تضغط على وجهها.
«لا تبكي يا بورفيرا. مِن أجل ذلك أتيتُ. إنّني مستعدّ... وكذلك مستعدّون أولئك الذين، بخدمتهم للشرّ، سوف يخدمون الخير، في الحقيقة، حيث سيسهمون بإحلال ساعة الفداء. يمكن إتمامها منذ الآن كذلك لأنّني مستعدّ وكذلك هم... وكلّ ساعة إضافيّة تمرّ أو حَدَث يَطرأ لن يكون سوى... جعل جريمتهم... وتضحيتي، أكثر كمالاً. إنّما حتّى تلك الساعات، وما تزال كثيرة، والتي ستمرّ قبل تلك الساعة، فسوف تفيد... فما يزال هناك ما يُفعَل وما يُقال، بحيث يتم إنجاز كلّ ما ينبغي إنجازه لجعلي معروفاً. إنّما أنا لن أعود إلى هنا ثانيةً... إنّني أرى هذا المكان للمرّة الأخيرة... وإنّني أدخل هذا المنزل البارّ للمرّة الأخيرة... لا تبكي... لم أشأ أن أمضي مِن دون أن أودّعكِ وأمنحكِ بركة معلّمكِ. سوف أصطحب مارغزيام معي. سوف أصطحبه معي الآن فيما أمضي نحو التخوم الفينيقيّة، وأيضاً بعد ذلك عندما أتوجّه نزولاً إلى اليهوديّة لأجل عيد المظالّ. لن تكون هناك مشكلة في إعادة إرساله إلى هنا قبل حلول الشتاء. يا للصبي المسكين! سوف يسعد بصحبتي لبعض الوقت. وبعدها... يا بورفيرا، ليس مِن الصواب أن يكون مارغزيام حاضراً عندما تحين ساعتي. لذلك لن تدعيه يذهب لأجل الفصح...»
«والفريضة، يا ربّ...»
«أُحِلُّه مِن الفريضة. أنا المعلّم يا بورفيرا، وأنا الله، كما تعلمين. وباعتباري الله، فباستطاعتي أن أُحِلُّه، بشكل مُسبق، مِن تَجَاوُز هو ليس حتّى تجاوزاً، لأنّني آمر به انطلاقاً مِن برّ. وإنّ إطاعة أمري هو بحدّ ذاته حلّ مِن تجاوز الفريضة ، لأنّ إطاعة الله -والتي هي أيضاً تضحية بالنسبة لمارغزيام- هي أسمى مِن كلّ ما عداها. وأنا المعلّم. إنّ ذاك الذي لا يُحسِن قياس إمكانات وردود أفعال تلميذه، ولا يُحسِن تقدير النتائج التي يمكن لجهد يفوق طاقة التلميذ على الاحتمال أن يُحدِثه، هو ليس بمعلّم صالح. حتّى عند فرض الفضائل يجب التحلّي بالحكمة، وعدم الدفع إلى الحدّ الأقصى الذي ليس باستطاعة التأهيل الروحيّ والسُّبل العامّة للشخص المعنيّ أن تَبلغه. فالمطالبة بفضيلة عظيمة أو بتفوّق روحيّ فائق، مقارنةً بدرجة القوى الروحيّة، الأخلاقيّة وكذلك الجسديّة التي يَبلغها مخلوق، يمكن أن تُسبِّب تشتيتاً للقوى الموجودة فعليّاً، وكذلك تحطيماً للكينونة الإنسانيّة في درجاتها الثلاث: الروحيّة، الأخلاقيّة والجسديّة. إنّ مارغزيام، الصبيّ المسكين، قد سَبَق له أن عانى كثيراً، وعَرف جيّداً وحشيّة أشباهه البشر، حتّى اختبار الكراهية تجاههم. وهو لن يكون قادراً على احتمال ما ستكون عليه آلامي: بحر محبّة مؤلمة حيث سأغسل به خطايا العالم، وبحر مِن الكراهية الشيطانيّة الذي سيسعى لإغراق كلّ الذين أُحبّهم، ومَحْق كلّ عملي كمعلّم. الحقّ أقول لكِ بأنّه حتّى الأكثر قوّة سوف ينحنون تحت مدّ الشيطان، أقلّه لفترة قصيرة... لكنّني لا أريد لمارغزيام أن ينحني أو أن يشرب مِن ذلك الماء الـمُحزِن... إنّه بريء... وهو عزيز عليَّ... إنّ بي شفقة، شفقة كبيرة، تجاه أولئك الذي سبق أن عانوا أكثر ممّا تسمح به قدراتهم... لقد استَدعَيتُ إلى الآخرة نَفْس يوحنّا الذي مِن عين دور...»
«هل مات يوحنّا؟ آه! لقد خَطَّ له مارغزيام عدّة لفافات... حزن آخر للصبيّ...»
«سوف أُعلِمه بموت يوحنّا... كنتُ أقول بأنّني انتزعتُه مِن الحياة كي أحفظه كذلك مِن صدمة تلك الساعة. يوحنّا أيضاً قد عانى كثيراً مِن البشر. لِمَ إيقاظ المشاعر الخامدة؟ إنّ الله صالح. إنّه يختبر أولاده، لكنّه ليس مُجرِّباً متهوّراً... آه! لو كان البشر يُحسِنون القيام بمثل ذلك! فكم كان ليقلّ تحطيم القلوب، أو ببساطة، كم كانت لتقلّ الفورات الخَطِرة في القلوب!... إنّما بالعودة إلى مارغزيام، فينبغي ألّا يأتي في الفصح القادم. لا تقولي له شيئاً في الوقت الحاضر. وعندما يحين الوقت، ستقولين له هكذا: "المعلّم أمرني بعدم إرسالكَ إلى أورشليم. وهو قد وعدكَ بمكافأة فريدة إذا ما أَطعتَه." إنّ مارغزيام صالح وسوف يطيع... يا بورفيرا، هو هذا ما أريده منكِ. صمتكِ، وفاؤكِ، محبّتكِ.»
«كل ما تريده يا ربّي. إنّكَ تُكرّم خادمتكَ المسكينة كثيراً... أنا لا أستحقّ كلّ هذا القَدْر... اذهب بسلام، يا معلّمي وإلهي. سوف أفعل ما تريد...» لكنّ الحزن يغلبها وتنهار ووجهها إلى الأرض -لقد كانت راكعة قبلاً، مستندة إلى عقبيها، محدّقة بوجه يسوع- تهوي على الأرض، مغطاة تماماً بوشاح شعرها الأسود، نائحة بصوت عالٍ: «يا له مِن ألم يا معلّم! يا له مِن ألم! ما الذي سيحين! ما الذي سيحين بالنسبة للعالم! لنا نحن الذين نحبّكَ! ولخادمتكَ! أنتَ الوحيد الذي أَحبَّني بحقّ! الذي لم يزدرني قطّ! الذي لم يكن متعالياً معي! الذي عامَلَني مثل الآخرين، أنا الجاهلة للغاية، المسكينة والغبيّة! آه! مارغزيام وأنا، ذلك أنّ مارغزيام هو أوّل مَن أَخبَرَني، ثمّ سَكَن روعنا... فالكلّ كانوا يقولون بأنّ ذلك لا يمكن أن يكون صحيحاً... الكلّ: سمعان، نثنائيل، فيلبّس... وزوجاتهم... وهم يَعلَمون، إنّهم حكماء... وسمعان... هه! سمعاني، فإذا كنتَ قد اخترتَه، فمؤكّد لاستحقاقه لشيء ما!... وكلّهم! كلّهم كانوا يقولون بأنّه لا يمكن أن يحصل... إنّما الآن فأنتَ تقول ذلك، أنتَ تقول ذلك، ولا يمكن الشكّ بكلامكَ...» إنّها حقّاً حزينة وألمها مؤثِّر.
يسوع ينحني كي يضع يده على رأسها: «لا تبكي هكذا... مارغزيام سوف يَسمَع... أنا أَعلَم... لا أحد يصدّق ذلك، لا أحد يريد أن يصدّق... إنّ حكمتهم ذاتها ومحبّتهم ذاتها هما السبب في رفضهم التصديق... إنّما الأمر هو هكذا... يا بورفيرا، أنا راحل. وقبل أن أفارقكِ أبارككِ الآن وإلى الأبد. تذكّري دوماً بأنّني أحببتكِ، وبأنّني كنتُ مسروراً بمحبّتكِ لي. لن أقول: ثابري على ذلك. فأنا أعرف بأنّكِ ستفعلين ذلك، لأنّ ذكرى معلّمكِ سوف تكون عذوبتكِ على الدوام، فيها تجدين ملاذاً لكِ. عذوبتكِ وسلامكِ، حتّى في ساعة الموت. فكّري وقتها بأنّ معلّمكِ قد مات كي يفتح لكِ الفردوس، وأنّه ينتظركِ هناك... هيّا، انهضي! سأوقظ مارغزيام وأَستَبقيه معي. وأنتِ أزيلي آثار دموعكِ ثمّ انضمّي إلينا. إنّ يوحنّا بانتظاري كي يأخذني إلى كفرناحوم. إذا كان لديكِ ما ترسلينه إلى سمعان، فحضّريه. تذكّري بأنّه سوف يكون بحاجة لثيابه السميكة...»
إنّ بورفيرا، الإنسانة الخاضعة والمطيعة بحقّ، تُقبّل قدميّ يسوع، وقد كانت على وشك النهوض عندما موجة محبّة تجعلها تفقد رشدها، وفيما تحمرّ بشدّة، فإنّها تأخذ يديّ يسوع وتقبّلهما، مرّة، اثنتين، عشر مرّات. ثمّ تنهض وتدعه يذهب…
يسوع يَخرُج ويصعد إلى الشرفة، يدخل تحت نوع مِن السرادق المشكّل مِن أشرعة ممدودة على حِبال، حيث يوجد تحتها سريران صغيران. مارغزيام ما يزال نائماً ووجهه إلى أسفل ومستند إلى وسادة صغيرة. لا يظهر سوى أحد خدّي وجهه الأسمر وذراع طويلة ونحيلة تخرج مِن تحت الغطاء الذي يغطّيه.
يسوع يجلس على الأرض قرب السرير الصغير ويداعب بلطف الخصلات المشعّثة التي تتدلّى على الخدّ الشاحب للصبيّ النائم، الذي يتحرّك إنّما الذي لم يستيقظ بعد. يسوع يكرّر حركته وينحني لِيُقبِّل جبهة الوجه الذي أصبح الآن مكشوفاً. مارغزيام يفتح عينيه ويرى يسوع بجانبه، منحنياً نحوه. يصعب عليه تصديق ذلك، يظنّ بأنّه ربّما يحلم، لكنّ يسوع يناديه، وعندها ينهض الصبيّ ويرتمي بين ذراعيّ يسوع ويلوذ بهما…
«أنتَ هنا يا معلّم؟»
«لقد أتيتُ كي آخذكَ لأصطحبكَ معي لبضعة أشهر. هل أنتَ مسرور؟»
«آه! وسمعان؟»
«إنّه في كفرناحوم. أنا جئتُ مع يوحنّا...»
«هل عاد هو أيضاً؟ يُفتَرَض أن يكون سعيداً! سوف أُعطيه ما كتبتُه.»
«أنا لا أقصد يوحنّا الذي مِن عين دور، إنّما يوحنّا بن زَبْدي. ألستَ مسروراً؟»
«بلى. إنّني أحبّه كثيراً. وكذلك الآخر... أكثر تقريباً...»
«لِمَ يا مارغزيام؟ إنّ يوحنّا بن زَبْدي طيّب جداً.»
«نعم، لكنّ الآخر تعيس جدّاً، وأنا كنتُ تعيساً جدّاً أيضاً، وما زلتُ كذلك بعض الشيء... الذين يعانون يتفهّمون بعضهم ويتحابّون...»
«هل ستكون سعيداً إذا علمتَ بأنّه ما عاد يعاني مجدّداً، وأنّه بغاية السعادة؟»
«بالتأكيد أكون سعيداً. إنّما هو لا يمكن أن يكون سعيداً إلّا إذا كان معكَ. أو... أيكون قد مات يا ربّ؟»
«إنّه في السلام، ويجب السرور لذلك، دونما أنانية، لأنّه مات بارّاً، ولم يعد هناك مِن انفصال لروحه عن روحنا. لدينا صديق آخر يصلّي مِن أجلنا.»
دمعتان كبيرتان تنزلان على الوجه النحيل والشاحب لمارغزيام، ولكنّه يهمس: «هذا صحيح.»
يسوع لا يضيف شيئاً، ولا حتّى يبدي أيّ تعليق فيما يخصّ الحالة الجسديّة والمعنويّة لمارغزيام، الذي يبدو عليه الهزال بوضوح. بل على العكس، يقول: «هيّا بنا، لنذهب. لقد سبق وتكلّمتُ مع بورفيرا. لا بدّ وأنّها قد حَضَّرَت ثيابكَ. جهّز نفسكَ، لأنّ يوحنّا بانتظارنا. سوف نُفاجئ سمعان. أليس ذاك هو قاربه العائد إلى كفرناحوم؟ ربّما كان قد اصطاد على طريق العودة...»
«نعم إنّه هو. إلى أين سنذهب يا ربّ؟»
«إلى الشمال، ومِن ثمّ إلى اليهوديّة.»
«لفترة طويلة؟»
«لفترة طويلة.»
مارغزيام، الـمُغتَبِط لفكرة بقائه مع يسوع، ينهض بسرعة ويهرع للاغتسال في البحيرة؛ ويعود وشعره ما يزال مبلّلاً، صائحاً: «لقد رأيتُ يوحنّا. لقد لوَّحَ لي مُسلّماً عليَّ. إنّه عند المصبّ، وسط القصب...»
«لنذهب.»
ينزلان. بورفيرا بصدد إغلاق كيسين وتشرح: «لقد فكّرتُ أن أُرسِل الثياب السميكة لاحقاً، مع أخي الذي سيأتي إلى جَثْسَيْماني مِن أجل عيد المظالّ. ستتمكّنان أنتَ وأبوكَ مِن المشي بسرعة أكبر» وفيما تُنهي عَقد الأربِطة، فهي تشير إلى ما أعدَّته: حليب، خبز، فاكهة…
«سوف نأخذ كلّ شيء ونأكل في القارب. أريد الرحيل قبل أن تزدحم الضفّة. الوداع يا بورفيرا. ليبارككِ الله وليرافقكِ سلام الأبرار على الدوام. هيّا يا مارغزيام.»…
يقطعان المسافة القصيرة مِن الطريق بسرعة، وفيما مارغزيام يقصد يوحنّا، فإنّ يسوع يمضي إلى القارب، حيث سرعان ما ينضمّ إليه الآخَران اللذان يركضان عبر القصب، ويقفزان إلى القارب، مع إسناد المجذاف إلى الضفة لدفع القارب إلى المياه العميقة.
سرعان ما انتهت الرحلة القصيرة، ويتوقّفون عند شاطئ كفرناحوم بانتظار قارب بطرس، الذي هو على وشك الوصول. إنّ الوقت المبكّر ينقذهم مِن تهافت الناس عليهم، وبوسعهم تناول خبزهم وفاكهتهم بسلام، وقد تمدّدوا على الرمل في ظلّ القارب.
سمعان لا يعرف لِمَن يعود القارب الصغير، لذلك وفقط عندما يطأ الضفّة ويرى يسوع ينتصب مِن ورائه، يلاحظه.
«المعلّم! وأنتَ يا مارغزيام! منذ متى؟»
«منذ قليل. لقد مررتُ ببيت صيدا. أسرع. يجب أن نغادر في الحال...»
بطرس ينظر إليه ولا يقول شيئاً. ومع رفيقيه يفرّغ القارب مِن السمك الذي أخذه، ومِن أكياس الثياب، بما فيها تلك التي ليوحنّا، الذي سيتمكّن أخيراً مِن أن يَلبس. وسمعان يطلب شيئاً ما مِن رفيقه، الذي يشير إليه كما ليقول له: «انتظر...»
يَذهَبون إلى المنزل. يَدخُلون. الرُّسُل الذين كانوا قد مَكَثوا هناك يَهرَعون.
«أسرِعوا. سوف نغادر في الحال. خذوا كلّ شيء لأنّنا لن نعود إلى هنا» يَأمر يسوع.
الرُّسُل يتبادلون النظرات فيما بينهم، حركات إيمائيّة بين المجموعتين. لكنّهم يطيعون. في الحقيقة أظنّ بأنّهم يَهرَعون كي يتمكّنوا مِن التحدّث فيما بينهم في الغرف الأخرى…
يسوع يبقى في المطبخ مع مارغزيام، ويستأذن أصحاب المنزل بالمغادرة. لكنّه لا يقول لهم: «لن أعود مجدّداً» كما أنّه لا يقول ذلك أيضاً لأهل كفرناحوم الذين يرونه ويحيّونه. إنّه يحيّيهم ببساطة، كما يفعل دائماً عندما يغادر. إنّه فقط يتوقّف عند منزل يائير. لكنّ يائير لم يعد بعد…
عند العين يُقابِل المرأة العجوز صغيرة القدّ التي تقيم قرب منزل والدة حلفى الصغير ويقول لها: «ستأتي أرملة إلى هنا قريباً. سوف تبحث عنكِ. إنّها مُزمِعة أن تقيم هنا. كوني صديقة لها، وأَحِبّا كثيراً الصبيّ وإخوته... افعلا ذلك بقداسة، باسمي...»
يُعاوِد المسير قائلاً: «كنتُ أودُّ أن أُسلّم على جميع الأطفال...»
«بإمكانكَ فِعل ذلك يا معلّم. لماذا لا تأخذ قسطاً مِن الراحة؟ إنّكَ متعب جدّاً. وجهكَ شاحب وعيناكَ منهَكتان. إنّ هذا سوف يضرّكَ... إنّ الجوّ ما يزال حارّاً، وأنتَ بالتأكيد لم تنم، لا في طبريّا ولا عند خُوزي...»
«لا أستطيع يا سمعان. عليَّ أن أذهب إلى عدّة أماكن والوقت قصير...»
إنّهم قرب الضفة. يسوع ينادي الصّبْية الذين يعملون لدى بطرس ويحيّيهم طالباً منهم أخذ القارب الصغير إلى القرية التي تسبق إيبّو، وإعادته لشاول بن زكريا.
يَسلك الطريق الظليلة التي تحاذي النهر. ويتابع حتّى يَصِل إلى مفترق ويسلكه.
«إلى أين نحن ذاهبون يا ربّ؟» يَسأَل سمعان الذي كان يتكلّم قبلها مع رفاقه بصوت منخفض.
«إلى عند يوضاس وحنّة، ومِن ثمّ إلى كورازين. أريد أن أسلّم على أصدقائي الطيّبين...»
الرُّسُل يتبادلون مزيداً مِن النظرات فيما بينهم ويُتمتِمون بصوت منخفض. أخيراً يتقدّم يعقوب بن حلفى إلى الأمام وينضمّ إلى يسوع الذي يتقدّمهم كلّهم مع مارغزيام.
«يا أخي، ألن نعود إلى هذه المنطقة ثانيةً، فأنتَ تقول بأنّكَ ترغب في التسليم على أصدقائكَ؟ إنّنا راغبون بمعرفة ذلك.»
«بالتأكيد، سوف تعودون. إنّما بعد أشهر عدّة.»
«وماذا بشأنكَ؟»
يقوم يسوع بحركة غامضة... مارغزيام ينسحب برصانة وينضمّ إلى الآخرين، أي، إلى الجميع، باستثناء يعقوب بن حلفى، الموجود مع يسوع، والإسخريوطيّ الذي هو وحده، في الخلف، الكئيب إلى حدّ ما، وكأنّه غير مبالٍ.
«يا أخي، ما الذي جرى لكَ؟» يَسأَل يعقوب واضعاً يده على كتف يسوع.
«لماذا تسألني؟»
«لأنّ... لا أدري. كلّنا نتساءل. يبدو لنا أنّكَ تغيّرتَ... لقد عدتَ وحدكَ مع يوحنّا... سمعان قال أنّكَ كنتَ ضيف خُوزي... إنّكَ لا تستريح... إنّكَ لا تحيّي سوى قلّة مِن الناس... يبدو أنّكَ لا تريد العودة إلى هنا... ووجهكَ... ألم نعد نستحق أن نعرف؟ ولا حتّى أنا... كنتَ تحبّني... لقد قلتَ لي أموراً أعرفها وحدي...»
«إنّني لا أزال أحبّكَ. إنّما لا شيء لديَّ أقوله. لقد خسرتُ يوماً أكثر مِن المتوقّع. وأُعوّضه.»
«أكان مِن الضروريّ الذهاب إلى الشمال؟»
«نعم يا أخي.»
«إذن... آه! لقد تألّمتَ. أشعر بذلك...»
يسوع يضمّ ابن عمّه، مُطوّقاً بذراعه كتفيه: «يوحنّا الذي مِن عين دور قد مات. أَعَلِمتَ بذلك؟»
«سمعان قال لي ذلك عندما كنتُ أحزم ثيابي. وثمّ؟...»
«لقد افترقتُ عن أُمّي.»
«وماذا غير ذلك؟» يعقوب، الأقصر قامة مِن يسوع، يَنظُر إليه مِن أسفل، مُلِحّاً، مُتفحّصاً.
«وأنا سعيد لكوني معكَ، معكم، مع مارغزيام. إنّني عازم على أن أبقيه معي لعدّة أشهر. إنّه بحاجة إلى ذلك. إنّه حزين ويتألّم. أرأيتَه؟»
«نعم. إنّما ليس لذلك علاقة بالموضوع... إنّكَ لا تريد إخباري. لا يهمّ. إنّني أحبّكَ كثيراً حتّى ولو لم تعاملني كصديق.»
«يا يعقوب، إنّكَ أكثر مِن صديق بالنسبة لي. لكنّ قلبي بحاجة إلى راحة...»
«وبالتالي إلى عدم التحدّث عمّا يؤلمكَ. لقد فهمتُ. أيهوذا هو الذي يحزنكَ؟»
«مَن؟ أخوكَ؟»
«لا. الآخر.»
«لماذا تسألني هذا السؤال؟»
«لا أعرف. عندما كنتَ غائباً، مرسال، لا نعلم مَن يكون، بَحَثَ عن يهوذا عدّة مرّات. لقد كان يصدّه في كلّ مرّة، لكن...»
«بالنسبة لكم، كلّ تصرّف ليهوذا هو دوماً جريمة. لماذا تفتقرون للمحبّة؟...»
«لأنّه ساخط جدّاً، مضطرب. إنّه يتجنّب رفاقه. إنّه غير مبالٍ...»
«دعه وشأنه. إنّه معنا منذ أكثر مِن عامين، وقد كان دوماً هكذا... فَكِّر بالعجوزَين كم سيكونان سعيدَين. وهل تَعلَم لماذا أنا ذاهب إلى الشمال؟ أريد أن أوصيهما بنجّار كورازين الصغير...»
إنّهما يمضيان فيما يتحدّثان. وخلفهما مجموعة الرُّسُل الذين كانوا قد انتظروا يهوذا، كي لا يتركوه وراءهم لوحده، ولو أنّه يبدو منزعجاً بوضوح بحيث لا يتشجّع أحد على مرافقته.