ج5 - ف60

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الخامس/ القسم الثاني

 

60- (الخميس السابق للفصح. /IV/: في بيت يُوَنّا)

 

26 / 01 / 1946

 

«السلام لهذا البيت ولكلّ الحاضرين.» هكذا يحيّي يسوع وهو يَلِج الردهة الواسعة والفخمة جدّاً، المضاءة كلّها، رغم أنّه ما زال النّهار. إنّما المصابيح ليست بلا فائدة، لأنّه وإن كان صحيح أنّه ما يزال النّهار، وأنّه كذلك صحيح أنّ الشمس ما تزال ساطعة في الخارج، في الشوارع وعلى واجهات المنازل المكلّسة، إنّما هنا، في الممرّ الواسع والطويل جدّاً الذي هو البهو، الذي يجتاز البيت كلّه، مِن البوّابة الضخمة حتّى الحديقة حيث يُرى في العمق الاخضرار الذي تنيره الشمس فيبدو المشهد وكأنّه بعيد، فالمفروض أن يكون هناك عادة شبه ظلّ، والذي هو ظلّ بالنسبة إلى القادمين مِن الخارج، وقد بهرت الشمس عيونهم.

 

لذلك فقد حرص خُوزي على أنّ تكون المصابيح النحاسيّة، المثبّتة بأعداد كبيرة على مسافات متساوية على الجِّدارَين، كلّها مضاءة، وكذلك عمود الإنارة المركزيّ. إنّ حوض مِن المرمر الورديّ، المرصّع في شفافيّة المرمر اللحميّ، وبيشب وحراشف أخرى ثمينة ومتعدّدة الألوان، وبفعل الإنارة المضاءة في الداخل، تتألّق كالأنجم التي تبثّ أقواس قزح على الجدران المدهونة باللون الأزرق القاتم، على الوجوه، وعلى البلاط الرخاميّ. يبدو وكأنّ أنجماً صغيرة تتوضّع على الجدران، على الوجوه وعلى الأرض، أنجماً متعدّدة الألوان، صغيرة ومتحرّكة، ذلك أنّ عمود الإنارة يتأرجح بشكل خفيف بسبب مجرى الهواء الذي يَعبر البهو ويُبدِّل أماكن اليشب والحراشف الثمينة باستمرار.

 

«السلام لهذا البيت.» يكرّر يسوع وهو يدخل، بينما لا يتوقّف عن مباركة الخُدّام المنحنين حتّى الأرض، الضيوف مُنذَهِلون مِن تجمّعهم هنا، قرب الرابّي، في قصر أميريّ…

 

الضيوف! فِكْر يسوع يرتسم الآن بوضوح. وليمة الحبّ التي أرادها في بيت التلميذة الصالحة هي وضع صفحة مِن الإنجيل موضع العمل. هناك متسوّلون، مُقعدون، عميان، أيتام، كبار السنّ، أرامل صبايا مع صغارهنّ المتعلّقين بثيابهنّ أو الذين يرضعون الحليب القليل التدفّق مِن الأُمّ سيّئة التغذية. غِنى يُوَنّا تدبَّر أمر تبديل الثياب الممزّقة بثياب بسيطة، ولكنّها نظيفة وجديدة. شَعْر الرؤوس ممشَّط اهتماماً منها بالنظافة، ثياب المساكين نظيفة، وقد قام الخُدّام بمهمّة اصطفافهم ومساعدتهم في أخذ أماكنهم، وقد أضفوا عليهم مظهراً أقلّ بؤساً، بالتأكيد، مِن مظهرهم الذي كانوا عليه عندما أَرسَلَت يُوَنّا تجلبهم مِن الطرقات والمفارق والدروب المؤدّية إلى أورشليم، حيث كان بؤسهم المخجل متخفّياً أو ظاهراً بُغية الحصول على الصَّدَقَة. ولكن إلى جانب ذلك، تبقى الحرمانات بادية على الوجوه، عجز الأعضاء، البؤس، والعزلة في النظرات…

 

يَعْبر يسوع ويُبارك. كلّ بائس ينال بركته، وإذا ما ارتَفَعَت اليد اليمنى للبركة، تنخفض اليسرى لِتُلاطف رؤوس العجائز المضطربة والشائبة، أو رؤوس الأطفال البريئة. وهكذا يقطع البهو، ذهاباً وإياباً، ليبارك الجميع، حتّى الذين يَدخُلون بينما هو يُبارِك، وأيضاً الذين في الأسمال، المختبئين بخشية وخجل في إحدى الزوايا إلى أن يأخذهم الخُدّام بكلّ لطف إلى مكان ما ليكونوا مثل الذين سبقوهم، مغتسلين ومرتدين ثياباً نظيفة.

 

تمرّ أرملة شابّة مع أبنائها... يا له مِن بؤس! الأصغر منهم عار تماماً، وقد التَصَقَ بوشاح أُمّه الممزّق... إخوته الأكبر منه يرتدون بالضبط ما يلزم للحفاظ على الحشمة. فقط البِكر، وهو وَلَد هزيل، يلبس ما يمكن تسميته ثوباً، ولكنّه بالمقابل حافي القدمين.

 

يراها يسوع وينادي المرأة ليقول لها: «مِن أين أنتِ آتية؟»

 

«مِن سهل شارون، يا سيّدي. لاوي بَلَغَ السنّ... فكان عليَّ مرافقته إلى الهيكل... أنا... لأنّه لم يَعُد لديه أب.» وتبكي الأُمّ بصمت، بكاء صامتاً لِمَن بكى كثيراً.

 

«منذ متى مات زوجكِ؟»

 

«في شهر سيبات (يناير-فبراير) أتمَّ السنة. وقد كنتُ حبلى شهرين...» وقد كَبَحَت بكاءها كي لا تزعج أحداً، وهي تنحني فوق صغيرها.

 

«إذن فالصغير بَلَغَ الثمانية أشهر؟»

 

«نعم يا سيّدي.»

 

«ماذا كان يعمل زوجكِ؟»

 

وتُتمتِم المرأة بشكل لم يفهم معه يسوع. ينحني ليسمع قائلاً: «كرّري دون خوف.»

 

«كان حدّاداً في بيطرة... كان مريضاً جدّاً... ذلك أنّه كان مصاباً بقروح وقد التَهَبَت.» وأَنهَت بقولها بصوت خافت: «كان جنديّاً مِن روما.»

 

«أمّا أنتِ فَمِن إسرائيل؟»

 

«نعم، سيّدي. لا تطردني بسبب النَّجاسة، كما فعل إخوتي عندما ذهبت أستدرّ عطفهم بعد موت كورنيليوس...»

 

«لا يكن لكِ خوف كهذا! ما العمل الذي تمارسينه الآن؟»

 

الخادمة عندما يحتاجونني، لَمامة سنابل، غسّالة شراشف، مُسحِقة قنّب... كلّ شيء... لأؤمّن لهم لقمة عيش. لاوي سيعمل الآن فلاّحاً... إذا رغبوا به إذ إنّه... في الأصل هو هجين.»

 

«ثِقي بالربّ.»

 

«لو لم أكن أَثِق لقتلتُ نفسي وقتلتُهم يا سيّدي.»

 

«اذهبي يا امرأة وسوف نلتقي ثانية.» ويَصرفها.

 

في تلك الأثناء، هَرَعَت يُوَنّا وجَثَت على ركبتيها في انتظار أن يراها المعلّم. وهو، بالفعل، التَفَتَ إليها ورآها.

 

«السلام لكِ، يا يُوَنّا! لقد أَطَعتِني بالتّمام والكمال.»

 

«إطاعتكَ، فَرَحي. ولكنّني لم أكن وحدي أعمل لتأمين الساحة لكَ كما كنتَ تريدها. لقد ساعدني خُوزي بشتّى السبل، وكذلك مرثا ومريم. وأليز معهما. البعض بإرسال الخُدّام لأخذ ما يجب أخذه ومساعدة خُدّامي في جمع الضيوف، والبعض الآخر بمساعدة خُدّام وخادمات الحمّامات في حَمّام "المحبوبين" كما تسمّيهم. والآن، بإذنكَ، سوف أعطي الجميع القليل مِن الغذاء كي لا يجوعوا كثيراً في انتظار الوجبة.»

 

«افعلي ذلك، نعم. أين هنّ النساء التلميذات؟»

 

«إنهنّ على الشرفة العليا حيث أُجهِّز الطاولات. هل فكرتي صحيحة؟»

 

«نعم يا يُوَنّا. ففي الأعلى سيكون الجميع على راحتهم، هُم ونحن على السّواء.»

 

«نعم. هذا ما فَكَّرتُ به. على كلّ حال، لم يكن بإمكاني إجراء هذه التحضيرات في أيّة قاعة أخرى لهذا الكمّ مِن الناس...ولم أكن لأبغي التفريق كي لا أُسبِّب الغيرة والمعاناة. فلدى البؤساء حساسية مفرطة، ويُعانون بسهولة كبيرة، أقول حتّى!... هُم ليسوا سوى جرح، ومجرّد نَظرة تجعلهم يتألّمون.»

 

«نعم، يا يُوَنّا. نفسكِ مرهفة الحساسية للرحمة، وتُدرِكين. فليكافئكِ الله لرحمتكِ. هل هنا الكثير مِن النساء التلميذات؟»

 

«آه! كلّ اللواتي كُنَّ في أورشليم!... ولكن... يا سيّد... قد أكون ارتكبتُ خطأ... أودُّ أن أقول لكَ أمراً بالسرّ.»

 

«خذيني إلى مكان نكون فيه على انفراد.»

 

ويذهبان وحدهما إلى غرفة حيث، بسبب اللُّعَب المتراكمة في كلّ مكان، أُدرِك أنّها غرفة ألعاب مريم وماتياس.

 

«حسناً يا يُوَنّا؟»

 

«آه! يا سيّدي، بالتأكيد كنتُ متهوّرة... ولكنّ الفكرة أتتني فجأة، وباندفاع كثير! وقد لامَني خُوزي عليها. إنّما الآن... فقد أتى إلى الهيكل عبد لبلوتينا ومعه لائحة. كانت تَسأَل إن كان ممكناً أن تراكَ هي ورفيقاتها. أَجَبتُ: "نعم، بعد الظّهر، في بيتي". وسوف يأتين... هل أخطأتُ التصرّف؟ آه! ليس بسببكَ! بل بالنَّظَر إلى الآخرين، الذين هُم جميعاً مِن إسرائيل... وليسوا حُبّاً مثلكَ. إذا أخطأتُ فسوف أحاول إصلاح الخطأ... ولكنّني أرغَب بشدّة أنّ العالم، كلّ العالم، يحبّكَ، وإنّني... إنّني لم أُفكِّر أنّكَ أنتَ الكامل الوحيد في العالم، وأنّ قليلين جدّاً هُم الذين يحاولون التشبّه بكَ.»

 

«أحسنتِ فِعلاً. اليوم سأعظ لكم جميعاً بالأفعال. ووجود الوثنيّين وسط الذين يؤمنون بيسوع المخلّص سيكون واحداً مِن الأمور التي يجب أن يمارسها مستقبلاً الذين يؤمنون بي. الأولاد، أين هُم؟»

 

«مُنتَشِرون يا ربي» تقول يُوَنّا متأكّدة وهي تبتسم، وتُنهي بقولها: «الحفلة تثير حماسهم، ويَركضون هنا وهناك مثل عصافير بسعادة.»

 

يتركها يسوع، يعود إلى البهو، يشير إلى الرجال الذين كانوا معه ويتوجّه إلى الحديقة ليَصعَد إلى الشُّرفة الواسعة.

 

نشاط فَرِح يملأ البيت مِن القبو وحتّى السطح. رواح ومجيء دون توقّف، مع أغذية وأثاث، مع رُزَم مِن الثياب ومقاعد، مُرافَقة الضيوف مع الإجابة على كلّ الأسئلة بفرح ومودّة على الدوام.

 

يوناثان، مهيباً في مهمّته كقيّم، يُدير، يُراقِب، ويَنصَح دون كلل.

 

إستير العجوز، الفَرِحة لرؤية حيويّة وسعادة يُوَنّا، تضحك وسط حلقة مِن الأطفال الفقراء الذين تُوزِّع عليهم الفطائر وهي تقصّ عليهم القصص البديعة. يتوقّف يسوع برهة ليسمع الخاتمة الرائعة لإحداها، حيث قيل: «في فجر أيّار (مايو)، الذي لم يكن قد ثار قطّ ضدّ الربّ مِن أجل الآلام التي حلَّت في بيته، مَنَحَه الله نعماً كثيرة جَلَبَت في فجر أيّار (مايو) الحماية والخيرات حتّى إلى إخوته. كانت الملائكة تملأ الـمِعجَن الصغير، تُنهي العمل على النول لمساعدة الفتاة الصغيرة قائلين: "إنّها أختنا لأنّها تحبّ الربّ وقريبها. يجب أن نساعدها".»

 

«بارككِ الله يا إستير! حتّى أنا توقّفتُ كذلك لأستمع إلى أمثالكِ! هل تريدينني؟» يقول يسوع مبتسماً.

 

«آه! ربّي! أنا مَن عليها أن تستمع إليكَ، إنّما بالنسبة إلى الصغار، فإنّني أتصرّف، أنا البلهاء العجوز المسكينة!»

 

«نفسكِ المستقيمة تفيد البالغين كذلك. استمرّي، استمرّي يا إستير...» ويبتسم لها وهو يبتعد.

 

في الحديقة الرَّحبَة، يتوزّع الضيوف الآن ويتناولون وجبة خفيفة، وهم يتلفّتون حولهم وينظرون الواحد إلى الآخر بدهشة. يتحدّثون مُعبّرين عن هذه السعادة غير المتوقّعة. ولكنّهم، لدى رؤيتهم يسوع يمرّ، يَنهَضون، حينما يستطيعون ذلك، وينحنون إجلالاً.

 

«كُلوا، كُلوا، بكلّ حريّة وباركوا الربّ.» يقول يسوع أثناء عبوره متّجهاً إلى غرف البستانيّين حيث السلّم الخارجيّ المؤدّي إلى الشُّرفة الواسعة.

 

«آه! رابّوني!» تهتف مريم المجدليّة التي تخرج مِن إحدى الغرف وهي تجري، حاملة بين ذراعيها أقمطة وقمصاناً صغيرة للأطفال. وصوتها المخمليّ كالأرغن الذهبيّ يملأ الدرب، الـمُظلَّل بضفائر الورود.

 

«مريم، الله معكِ. أين تمضين بهذه العَجَلَة؟»

 

«آه! لديَّ عشرة أطفال لِأُلبِسهم! لقد حَمَّمتُهم والآن أُلبِسهم. بعد ذلك، سوف آتي بهم إليكَ بنضارة الزهور. عليَّ الإسراع، يا معلّم، إذ... هل تسمعهم؟ تحسبهم عشرة حملان تثغو...» وتمضي وهي تجري وتضحك مُشرِقة طَلِقَة المحيّا بثوبها البسيط والسيّديّ مِن الكتّان الأبيض، المربوط عند الخصر بحزام فضّيّ، وقد جَمَعَت شعرها في عقدة في الخلف، رابطة إيّاه بشريطة بيضاء معقودة على الجبهة.

 

«كم تختلف عمّا كانت عليه في جبل التطويبات!» يُعلِن سمعان الغيور.

 

على أوّل درجة مِن السلّم، يلتقون بابنة يائيروس وأناليا تهبطان بسرعة حتّى لتبدوان وكأنّهما تطيران.

 

«يا معلّم!» «يا ربّ!» تهتفان.

 

«ليكن الله معكما. إلى أين أنتما ذاهبتان؟»

 

«لجلب الشرشف. هي خادمة يُوَنّا التي أَرسَلَتنا. هل ستتحدّث يا معلّم؟»

 

«بالتأكيد!»

 

«آه! إذن اركضي يا ميريام! فلنسرع!» تقول أناليا.

 

«لكما الوقت الكافي لإنجاز عملكما. أنتظر أناساً آخرين. ولكن منذ متى، يا ابنتي، صار اسمكِ ميريام؟» يقول وهو يَنظُر إلى ابنة يائيروس.

 

«منذ اليوم. منذ الآن. هي أُمّكَ التي أطلَقَت عليَّ هذا الاسم. لأنّ... أليس كذلك يا أناليا؟ فاليوم هو يوم عظيم لأربع عذارى...»

 

«آه! نعم. هل سنقول ذلك للربّ أو نترك الأمر لمريم؟»

 

«لمريم، لمريم. امضِ، امضِ يا ربّ. الأُمّ سوف تحدّثكَ.» وتمضيان وهما تجريان، في ريعان زهر الشباب، بشريّتان في شكلهما الجميل، ملائكيّتان في نظرتهما المشعّة…

 

في الطبقة الثالثة يلتقون بإليز التي مِن بيت صور التي تهبط بوقار مع امرأة فليبّس.

 

«آه! يا ربّ! تَأخذ مِن البعض لتعطي إلى البعض الآخر!... ولكن لتكن مباركاً مِن أجل هذا وذاك!» تهتف هذه الأخيرة.

 

«عمّا تتحدّثين، يا امرأة؟»

 

«ستعرف ذلك.. يا لها مِن معاناة ويا له مِن مجد، يا ربّ! تَبترني، وتُكلّلني.»

 

فليبّس، القريب مِن يسوع، يقول: «ما الذي تقولينه؟ عن أيّ شيء تتحدّثين؟ أنتِ زوجتي وما يحصل لكِ يمسّني...»

 

«آه! ستعرف ذلك يا فليبّس. امضِ، امضِ مع المعلّم.»

 

في تلك الأثناء، يَسأَل يسوع إليز إذا ما شُفِيَت تماماً. المرأة التي أضفى عليها ألم ذلك الوقت أُبّهة مَلِكَة متألّمة، تقول: «نعم، يا ربّي. ولكن ما مِن ألم في المعاناة والسلام يَسكن القلب. والآن السلام يَسكن قلبي.»

 

«وسيكون لكِ قريباً أكثر.»

 

«ماذا، يا ربّ؟»

 

«اذهبي وعودي، وسوف تَعرِفين.»

 

«ها هو يسوع! ها هو يسوع!» يهتف الولدان وقد استَنَد وجهاهما على الدرابزين الذي يزيّنه الأرابيسك، وهو يحدّ الشُّرفة مِن الجهتين المطلّتين على الحديقة التي تتدلّى منها أغصان الورود والياسمين الـمُزهِر، ذلك أنّ الشُّرفة هي حديقة معلّقة واسعة ينتشر عليها في هذه الساعة المشمسة وِشاح متعدّد الألوان. جميع الـمُنهَمِكات في التحضيرات على الشُّرفة يلتفتن على أثر هتاف مريم وماتياس، ويتركن ما في أيديهنّ ليمضين إلى لقاء يسوع الذي تَعلَّقَ الولدان بركبتيه.

 

يُحيّي يسوع النساء الكثيرات اللواتي تهافتن. ووسط التلميذات الفاعلات، أو نساء وبنات وأخوات الرُّسُل والتلاميذ، اختَلَطَت أُخريات غير معروفات تماماً، أقلّ حميميّة، مثل امرأة سمعان ابن عمّه، أُمّهات أصحاب الحمير الناصريّين، أُمّ هابيل الذي مِن بيت لحم الجليل، حنّة التي ليوضاس (التي بيتها قرب بحيرة ميرون)، مريم التي لسمعان أُمّ يهوذا الاسخريوطيّ، نُعْمي التي مِن أفسس، سارة ومارسيل مِن بيت عنيا (سارة هي المرأة التي شفاها يسوع على جبل التطويبات وأرسلها إلى لعازر مع إسماعيل العجوز. ويبدو أنّها الآن خادمة لمريم ولعازر)، ثمّ أُمّ جايا، أُمّ فليبّس الذي مِن أربيلا، دوركا، الأُمّ الشابّة مِن قيصريّة فليبّس، وحماتها، أُمّ أناليا، مريم التي مِن بصرى، المجذومة التي أُجرِيَت عليها المعجزة، والتي أتت مع زوجها إلى أورشليم، وأُخريات، أخريات أعرفهنّ بالشكل ويتعذّر عليَّ ذِكر أسمائهنّ بالتحديد.

 

يَلِج يسوع الشُّرفة المستطيلة الواسعة التي تطلّ مِن جهة على السيست (Sixtus)، ويتوجّه إلى الغرفة التي ينفذ منها السلّم الداخليّ ليجلس قربها، الغرفة هذه تُشبِه مكعّباً بارتفاع قليل، وواقعة في الزاوية الشماليّة للشرفة. تَظهَر أورشليم كاملة، ومعها الجّوار المباشر. مشهد مدهش. كلّ التلميذات، بل حتّى كلّ النساء، يتركن العمل على الموائد ليتزاحمن حوله. الخُدّام يتابعون عملهم.

 

مريم إلى جانب ابنها. في النور الذهبيّ الذي يتسلّل عبر الستار الكبير الممدود فوق معظم مساحة الشُّرفة، والذي يستحيل نوراً زمرّدياً لطيفاً، بحيث كي يصل إلى الوجوه، لا بدّ أن يرشح عبر كتلة متشابكة مِن الياسمين والورود الموضوعة لتشكّل عريشة، إنّ مريم تبدو أكثر شباباً وأكثر رشاقة؛ كما أخت لأصغر التلميذات، بالكاد أكبر سنّاً، وجميلة، جميلة كأروع الزهور المتفتّحة في الحديقة الـمُعلّقة، في الفسقيّات المتوضّعة في المحيط، والتي تحتوي على ورود وياسمين وزنابق ونباتات أخرى ساحرة.

 

«أيّتها الأُمّ، لقد تَحدَّثَت زوجتي بطريقة معيّنة!... ما الذي جرى حتّى تقول عن نفسها إنّها مبتورة ومُكلّلة في الوقت ذاته؟» يَسأَل فليبّس الذي يتحرّق لمعرفة ذلك.

 

تبتسم مريم بهدوء، بينما هي تنظر إليه، وخروجاً عن المألوف، فهي تمسك له اليد قائلة: «هل ستكون أهلاً، أنتَ، لأن تَهِب يسوعي الشيء الأثمن لديكَ؟ بالحقيقة سيكون مِن المفروض ذلك... لأنّه هو يمنحكَ السماء والطريق المؤدّي إليها لتسلكها.»

 

«ولكن بالتأكيد أيّتها الأُمّ أنّي أَعلَم ذلك...خاصّة إذا كنتُ أعلم أنّ ما أعطيه يمكنه أن يجعله سعيداً.»

 

«سوف يجعله كذلك. يا فليبّس: ابنتكَ الثانية قد تكرّست كذلك للربّ، لقد قالت ذلك للتوّ، لأُمّها ولي، في حضور تلميذات كثيرات...»

 

«أنتِ!؟ أنتِ!؟» يَسأَل فليبّس مندهشاً، مشيراً بالسبابة إلى صبيّة لطيفة تلتصق بمريم كما لتحميها. لقد شَعَرَ الرَّسول بالسوء لابتلاع هذه الضربة الثانية التي حَرَمَته نهائياً مِن أمل الذرّيّة. يمسح العرق المفاجِىء الذي سبّبه له الخبر... يتلفت لينظر إلى المحيطين به. يصارع... يتألّم.

 

تئنّ الفتاة: «أبتاه... عفوكَ... وبركتكَ...» وتجثو عند قدميه.

 

وبشكل عفويّ يُداعِب شعرها الكستنائيّ ويحلّ تشنّج حنجرته. أخيراً يتكلّم: «العفو للأولاد الذين يخطئون... وأنتِ، لا تخطئين بتكريس ذاتكِ للمعلّم... و... و... أبوكِ المسكين لا يمكنه إلاّ أن يقول لكِ: "بَارَكَكِ الله"... آه! أيّتها الفتاة! يا ابنتي!... كم هي لذيذة ومُريعة إرادة الله!» وينحني، يُنهضها، يعانقها ويطبع قبلة على جبهتها وعلى شعرها وهو يبكي... ثمّ، وهو ممسك بها بين ذراعيه، يمضي إلى يسوع ويقول له: «أنا، أنجبتُها، أَمّا أنتَ، فإلهها... حقّكَ أعظم مِن الذي لي... شكراً... شكراً يا ربّ للـ... للفرح الذي...» ويعجز عن المتابعة. يسقط على ركبتيه أمام قدميّ يسوع، وينحني ليقبّل قدميه وهو يئنّ: «ليس بَعد، لا أطفال بَعد... حِلمي!... بسمة شيخوختي... سامحني على دموعي، يا ربّي... أنا رجل مسكين...»

 

«انهض، يا صديقي، وكن سعيداً لمنحكَ البَكائِر للحدائق الملائكيّة. تعالَ. تعالَ هنا بين أُمّي وبيني. ولِنَعلَم منها كيف جرت الأمور، لأنّني، أؤكّد لكَ، لا دخل لي بالأمر.»

 

تَشرح مريم: «أنا كذلك أَعلَم القليل. كنا نتحدّث فيما بيننا، نحن النساء، وكما يحدث في الغالب كنّ يسأَلنني عن نذري للبتوليّة. وأيضاً كُنَّ يَسألنني كيف تكون عذارى المستقبل، ما ستكون وظائفهن، وأيّة أمجاد كنتُ أتوقّعها لهنّ، وكنتُ أجيب على قدر معرفتي... وللمستقبل، كنتُ أتوقّع حياة صلاة، حياة مؤاساة عن الآلام التي يُسبّبها العالم ليسوع، كنتُ أقول: "سوف يكنَّ العذارى اللواتي يساندن الرُّسُل، يغسلن العالم الملوّث بإعادة إلباسه وتعطيره بطهارتهنّ. سوف يكنّ الملائكة اللواتي يرتّلن التسابيح لتغطية التجاديف. ويسوع سيكون سعيداً، وسوف يَهِب النِّعَم للعالم، وسيهب رحمته بفضل رخلاته المنتشرات بين الذئاب..." وكنتُ أقول أشياء أخرى أيضاً. وكان أن قالت لي ابنة يائيروس: "اعطيني اسماً، أيّتها الأُمّ، لمستقبلي كعذراء، ذلك أنّه لا يمكنني السماح لرجل بالاستمتاع بهذا الجسد الذي أعاد إليه يسوع الحياة. فله وحده جسدي حتّى يُصبِح في القبر وتصبح نفسي في السماء"، وقالت أناليا: "أنا أيضاً فكَّرتُ أن أفعل كذلك. واليوم أنا أَخَفّ مِن السنونو، لأنّني قطعتُ كلّ ارتباط". حينئذ كان أن قالت ابنتكَ، يا فليبّس: "أنا كذلك سأكون مثلكما. عذراء للأبد!" وجاءت أُمّها لتجعلها تُفكِّر أنّه لا يمكن اتّخاذ قرار كهذا بهذه الطريقة. ولكنّها لم تُبدِّل رأيها. وللواتي كنّ يسألنها إذا ما كانت تفكّر في هذا منذ زمن، كانت تقول: "لا"، وللّواتي كنّ يسألنها كيف خَطَرَ لها ذلك، كانت تقول: "لا أعرف. كأنّ سهماً مِن نور اختَرَقَ قلبي، وأدركتُ أيّ حبّ أُحِبّ يسوع".»

 

وتَسأَل زوجة فليبّس زوجها: «هل سمعتَ؟»

 

«نعم، يا امرأة، الجسد يئنّ... وعليه أن يرتّل لأنّ ذلك هو مجدنا. فهو، أي جسدنا الثقيل، قد أنجَبَ ملاكَين. لا تبكي، يا امرأة. فأنتِ قُلتِها سابقاً: لقد توَّجَكِ... والـمَلِكة لا تبكي عندما تتلقّى التّاج...»

 

ولكن فليبّس ما يزال يبكي وكثيرون يبكون، والرجال أكثر مِن النساء، الآن وقد اجتمعوا كلّهم في الأعلى. مريم التي لسمعان تذوب بكاء في إحدى الزوايا... مريم المجدليّة تبكي في أخرى، وهي تجذب بشكل عفويّ نسيج ثوبها، مُنتَزِعة باللاشعور خيوطاً مِن الحاشية التي تزيّنه. أنستاسيا تبكي مُحاوِلَة بيدها إخفاء وجهها المليء بالدموع.

 

«لماذا تبكون؟» يَسأَل يسوع.

 

لا أحد يُجيب. فينادي الربّ أنستاسيا ويَسأَلها مِن جديد، فتجيب: «لأنّني، يا ربّي، مِن أجل مَسَرَّة مُقرِفة اختبرتُها لليلة واحدة فقط، أَضَعتُ فرصة أن أكون إحدى عذراواتكَ.»

 

«كلّ حالة هي صالحة، عندما نجعلها في خدمة الربّ. في كنيسة المستقبل، يجب أن يكون هناك عذراوات ونساء متزوّجات، كلهنّ ضروريّات لانتصار ملكوت الله في العالم وفي عمل الإخوة الكَهَنَة. إليز التي مِن بيت صور، تعالي إلى هنا. واسي هذه المرأة التي ليست سوى طفلة...»

 

وبيده يضع أنستاسيا بين ذراعيّ إليز. يراقبهما بينما تُلاطِف إليز تلك التي تستسلم بين ذراعيها الأُموميّتين، ثمّ يَسأَل: «إليز، هل تعرفين قصّتها؟»

 

«نعم، يا ربّ. ولقد آلمتني، الحَمَامة المسكينة دون عشّ.»

 

«إليز، هل تحبّين هذه الأخت؟»

 

«أحبّها؟ كثيراً، ولكن ليس كأخت. يمكنها أن تكون ابنتي. والآن وأنا أضمّها بين ذراعيّ، يبدو لي أنّني أُصبِح أُمّ الزمن الماضي السعيدة. إلى مَن ستعهد بهذه الغزالة اللطيفة؟»

 

«إليكِ، يا إليز.»

 

«إليَّ أنا؟» وتفكّ المرأة دائرة ذراعيها لتنظر إلى الربّ، غير مصدّقة...»

 

«إليكِ أنتِ، ألا تريدينها؟»

 

«آه! ربّي! ربّي! ربّي!»... إليز، على ركبتيها، تزحف صوب يسوع، ولا تدري، لا تَعلَم كيف، ماذا تقول، ماذا تفعل لتعبِّر عن فرحها.

 

«انهضي وكوني لها الأُمّ بقداسة، ولتكن الابنة لكِ بقداسة، وتقدّما كلتاكما في طريق الربّ. مريم أخت لعازر، لماذا تبكين وأنتِ التي كنتِ مَرِحة للغاية منذ لحظة؟ أين الزهرات العشر التي كنتِ مُزمِعة أن تقوديهنّ لي؟...»

 

«إنهنّ نائمات، شَبِعات، ونظيفات، يا معلّم... وأنا، أبكي، لأنّني لن أكون أبداً في طهارة العذراوات، وسوف تبكي نفسي على الدوام، غير راضية مطلقاً لأنّ... لأنّني خطئتُ...»

 

«مغفرتي ودموعكِ تجعلكِ أكثر طهارة منهنّ. تعالي هنا، ولا تعودي تبكين. دعي البكاء للذين عليهم أن يخجلوا مِن أمر ما. هيّا بنا، اذهبي وخذي زهراتكِ. اذهبن أنتنّ أيضاً، زوجات وعذارى. امضين وقلن لضيوف الله أن يصعدوا. فيجب صرفهم قبل إغلاق الأبواب، ذلك أنّ كثيرين منهم يقيمون في الريف.»

 

يمضين طائعات. لم يبقَ على الشرفة سوى يسوع في مكانه، يلاطف مريم وماتياس؛ إليز وأنستاسيا، أَبعَد قليلاً، تمسك الواحدة يد الأخرى وتنظر في عينيها بابتسامة تُنير دمعة الفرح؛ مريم التي لسمعان التي تنحني عليها مريم الكلّيّة القداسة بحنان؛ ويُوَنّا التي على عتبة الباب تنظر بِـحَيرة، إلى الداخل قليلاً، وقليلاً إلى الخارج صوب يسوع. الرُّسُل والتلاميذ نزلوا مع النساء لمساعدة الخُدّام في نقل الـمُقعَدين، والعميان، والمحدودبين، والعَجَزَة على السلالم.

 

يَرفَع يسوع مِن جديد رأسه الذي كان منحنياً على الطفلين، ويَرى مريم المنحنية على أُمّ يهوذا. يَنهَض ويمضي إليهما. يضع يده على رأس مريم التي لسمعان الأشيب: «لماذا تبكين يا امرأة؟»

 

«آه! ربّي! ربّي! لقد أنجبتُ شيطاناً! ليس في إسرائيل امرأة تساويني في الألم!»

 

«مريم، هناك أُمّ أخرى، ولنفس السبب، قالت لي وتقول هذا الكلام. يا للأُمّهات المسكينات!...»

 

«آه! ربّي، إذن هناك آخر، مثل يهوذا ابني، خائن ومجرم بحقّكَ؟ آه! غير ممكن! هو، الذي يمتلككَ، قد استسلم لممارسات خبيثة. هو الذي يتنفّس نَفَسَكَ، نَجِس وسارق، وقد يُصبِح قاتلاً. هو... آه! فِكره كَذِب! حياته حرارة (حُمّى). اجعله يموت، يا ربّ! رأفة به! اجعله يموت!»

 

«يا مريم، قلبكِ يُظهِره لكِ أسوأ ممّا هو عليه. الخوف يجعلكِ تفقدين صوابكِ. ولكن اهدأي وتعقّلي. ما دليلكِ على سوء سلوكه؟»

 

«في ما يخصّك أنتَ، لا شيء. إنّما هو إنهيار ثلجيّ يهبط. لقد فاجأتُهُ ولم يستطع إخفاء الدلائل التي... ها هو... الرحمة، اصمت! إنّه ينظر إليَّ، يرتاب. هذا هو ألمي. ما مِن أُمّ في إسرائيل أكثر تعاسة منّي!...»

 

تُتمتِم مريم: «إنّني... لأنّني أضيف آلام كلّ الأُمّهات البائسات إلى ألمي... لأنّ ألمي سببه الحقد، ليس مِن واحد فقط، إنّما حقد عالم بأكمله.»

 

يسوع، الذي تناديه يُوَنّا، يمضي للقائها. في تلك الأثناء، يمضي يهوذا إلى أُمّه التي ما تزال مريم تؤاسيها، وينتهرها: «أمكنكِ قول كلّ الهذيانات؟ أن تشي بي؟ هل أنتِ مسرورة الآن؟»

 

«يهوذا! هل هكذا تتكلّم مع أُمّكَ؟» تَسأَل مريم بصرامة. هذه أوّل مرّة أراها هكذا…

 

«نعم، لأنّني تعبتُ مِن نَكَدِها.»

 

«آه! يا وَلَدي، هذا ليس نَكَداً! هذا حُبّ. تقول إنّي مريضة، ولكنّكَ أنتَ الذي كذلك! تقول إنّي أنا التي أشي بكَ وأستمع إلى أعدائكَ. ولكنّكَ أنتَ الجاني على نفسكَ، ولكنّكَ تتبع وتُعاشِر أشخاصاً مضرّين وهم سوف يقودونك. هذا لأنّكَ ضعيف، يا بنيّ، وهُم قد لاحَظوا ذلك... صَدِّق أُمّكَ في ذلك. أَنصِت إلى حنانيا العجوز الحكيم. يهوذا! يهوذا! ارحم نفسكَ وارحمني! يهوذا!!! إلى أين أنتَ ماضٍ، يا يهوذا؟!»

 

يهوذا، الذي يجتاز الشرفة في شِبه ركض، يلتفت ويهتف: «إلى حيث أكون مفيداً ومحترَماً.» ويهبط السلّم بسرعة بينما أُمّه البائسة تنحني على الجدار الواقي وتناديه: «لا تذهب هناك! لا تذهب هناك! يريدون تدميركَ! بنيّ! بنيّ! يا بنيّ!...»

 

وَصَلَ يهوذا إلى أسفل، والأشجار تحجبه عن ناظريّ والدته. يعود للظهور بعد بُرهة في مساحة خالية قبل وُلوجه الردهة.

 

«لقد مضى!... الكبرياء يلتهمه!» تئنّ أُمّه.

 

«فلنُصلِّ مِن أجله، يا مريم. فلنُصلِّ معاً...» تقول السيدة العذراء ممسكة بيد أُمّ قاتل الله المستقبليّ الحزينة.

 

في هذه الأثناء، يبدأ الضيوف بالصعود... ويسوع يتحدّث إلى يُوَنّا.

 

«حسناً، فليأتين إذن. إنّه لحسن أنّهنّ أخذن ثياباً عبرانيّة، لئلاّ يصطدمن بظنون البعض. أنتظرهنّ هنا. اذهبي وادعيهنّ.» ومُسنِداً ظهره إلى إطار الباب، يُراقِب تدفّق المدعوّات اللواتي يقودهنّ الرُّسُل والتلاميذ، رجال ونساء، بحنان وبحسب ترتيب محدّد مسبقاً. في الوسط هناك طاولة الأولاد المنخفضة، ثمّ مِن جهة ومِن أُخرى وُضِعَت الطاولات الأخرى بشكل متوازٍ.

 

ولكن بينما العميان والعُرج والـمُحدودبون والـمُقعَدون والعَجَزة والأرامل والمتسوّلون يأخذون أماكنهم مع قصصهم المؤلمة المرتسمة على وجوههم، يأتي حَمَلَة السِّلال التي تحوّلت إلى مهود، لطيفة وكأنّها سِلال زهور، وحتّى صناديق صغيرة حيث ينام أطفال صغار، ممدَّدين على وِسادات، يأخذونهم إلى أُمّهاتم الـمُتسوّلات. ومريم المجدليّة، وقد عاد إليها صفاؤها، تجري إلى يسوع قائلة: «لقد وَصَلَت الزهور. تعال باركها، يا ربّي.»

 

ولكن في الوقت ذاته، تصل يُوَنّا مِن السلّم الداخليّ وهي تقول: «يا معلّم، هاك التلميذات الوثنيّات.» سبع نساء يرتدين ثياباً بسيطة وداكنة، تشبه تلك التي لليهوديّات. جميعهنّ يغطّين وجوههنّ بوشاح، والمعطف يغطّيهنّ حتّى القدمين.

 

اثنتان منهنّ كبيرتان ومَهيبتان، الأخريات متوسّطات القامة. ولكن، بعد إجلال المعلّم، ينزعن معاطفهنّ، فيسهل التعرّف على بلوتينا، ليديا، فاليريا، فلافيا الـمُحَرَّرة، تلك التي كانت تسجّل كلام يسوع في حديقة لعازر، ثمّ هناك ثلاث غير معروفات. واحدة منهنّ، لها نظرة الآمر، ومع ذلك تجثو قائلة للربّ: «ومعي تسجد روما عند قدميكَ.» ثمّ واحدة مَهيبة قويّة في حوالي الخمسين سنة، وأخيراً امرأة شابة ممشوقة طَلِقَة المحيّا كزهرة الحقول.

 

مريم المجدليّة تتعرّف على الرومانيّات رغم ثيابهنّ العبرانيّة، وتتمتم: «كلوديا!!!» وتبقى بعينين مُحَملِقَتَين.

 

«هي أنا. كفاني الإصغاء إلى كلام الآخرين! الحقيقة والحكمة، يجب إدراكها مِن النبع مباشرة.»

 

«هل تظنّين أنّهم سيتعرّفون علينا؟» تَسأَل فاليريا مريم المجدليّة.

 

«إذا لم تخنّ أنفسكنّ بذكر أسمائكنّ، لا أظنّ. فيما عدا ذلك، سوف أضعكنّ في مكان آمن.»

 

«لا، يا مريم. على الطاولات، لخدمة المتسوّلين. لا يمكن لأحد التفكير بأنّهنّ مِن الأشراف ويخدمن الفقراء، الأصغر في العالم العبرانيّ.» يقول يسوع.

 

«فكرة جيّدة، يا معلّم، ذلك أنّ الكبرياء فطريّ فينا.»

 

«والتواضع هي السِّمة الأكثر وضوحاً في مذهبي. ومَن يشأ أن يتبعني عليه أن يحبّ الحقّ والطُّهر والتواضع، أن يتحلّى بمحبّة الجميع، والبطولة ليتحدّى رأي البشر وضغوط الطغاة. هيّا بنا.»

 

«عفوكَ أيّها الرابّي. هذه الفتاة عبدة، ابنة عبيد. لقد افتديتُها لأنّها مِن أصل إسرائيليّ، وبلوتينا تحتفظ بها معها. ولكنّني أقدّمها لكَ، ظنّاً منّي أنّني أفعل حسناً. اسمها إيغلا. إنّها لكَ.»

 

«مريم، استقبليها. سنفكر فيما بعد... شكراً يا امرأة.»

 

يسوع على الشُّرفة ليبارك الأولاد. النساء يُثِرن فضولاً عظيماً. إنّما كونهنّ في مثل ذلك الزيّ على الطريقة العبرانيّة، بثياب تكاد تكون فقيرة، فإنّهنّ لا يُثِرن الظنون. يذهب يسوع إلى وسط الشُّرفة، إلى جانب طاولة الأولاد، ويصلّي، ويقدّم الطعام للربّ باسم الجميع، ويُبارِك، ويُوعِز ببدء الأكل.

 

الرُّسل والتلاميذ، الرجال منهم والنساء والسيّدات، كلّهم خُدّام للفقراء. يسوع هو الـمَثَل بثنيه أكمام ثوبه الأحمر العريضة واهتمامه بالأولاد، يساعده يوحنّا وميريام ابنة يائيروس.

 

أفواه الجميع تعمل بهمّة، ولكنّ العيون كلّها تلتفت صوب الربّ. يأتي المساء، ويَرفَعون السِّتار بينما يجلب الخُدّام المصابيح التي لا حاجة ملحّة إليها بعد.

 

يتحرّك يسوع بين الطاولات. لا يترك منها واحدة دون تشجيع ودون عَون. يمرّ مراراً قرب الـمَلَكيّتان كلوديا وبلوتينا اللتين توزِّعان بتواضع الخبز وتَحمِلان الخمر إلى شفاه العميان والمشلولين ومقطوعي الذراع؛ يبتسم لعذراواته اللواتي يهتممن بالنساء؛ وللأُمّهات التلميذات المفعمات حناناً وإشفاقاً على البؤساء؛ يبتسم لمريم المجدليّة التي لم تألُ جهداً في خدمة طاولة جلس إليها الكثير مِن المساكين الـمُسنّين، الأكثر بؤساً، وفيها الكثير مِن الذين يسعلون، وأناس يرجفون، وأفواه دون أسنان تُضَغضِغ وأفواه يسيل لعابها؛ ويساعد متّى الذي يهزّ طفلاً ابتلع قطعة مِن الفطيرة التي كان يمصّها ويعضّها بأسنانه الجديدة؛ ويمدح خُوزي الذي، إذ وصل في بداية الوجبة، يقطّع اللحوم ويقدّمها مثل خادم خبير.

 

تنتهي الوليمة. وعلى الوجوه المحمرّة، وفي العيون الأكثر فرحاً، يُرى بوضوح رضى الناس المساكين.

 

ينحني يسوع على رجل تهزّه الرجفة، ويقول له: «بماذا تفكّر، أيّها الأب، وأنتَ تبتسم؟»

 

«أفكّر أنّه في الحقيقة ليس حلماً. فمنذ لحظة كنتُ أظنّني أنام وأحلم. أمّا الآن فأشعر أنّها حقيقة. ولكن مَن الذي يجعلكَ صالحاً هكذا، أنتَ الذي تجعل تلاميذكَ بهذا الصَّلاح؟ فَليَحيَ يسوع!» يهتف في النهاية.

 

وأصوات كلّ أولئك المساكين، حيث يوجد المئات، تهتف: «فَليَحيَ يسوع!»

 

يعود يسوع مِن جديد إلى الوسط ويفتح ذراعيه ليشير بالصمت والبقاء في الأماكن. يبدأ الكلام وهو جالس وطفل صغير يجلس على ركبتيه.

 

«فَليَحيَ، نعم، فَليَحيَ يسوع، ليس لأنّني أنا هو يسوع، إنّما لأنّ يسوع يعني حبّ الله المتجسّد، والنازل وسط البشر ليكون معروفاً وليجعل الحبّ معروفاً ويكون سِمَة العصر الجديد. فَليَحيَ يسوع، لأنّ يسوع يعني "الـمُخلِّص". وأنا مَن يُخلِّصكم. أُخلِّصكم جميعكم، الأغنياء منكم والفقراء، الأطفال والشيوخ، إسرائيليّين كنتم أَم وثنيّين، جميعكم، شريطة أن تريدوا أن تعطوني الإرادة بأن تكونوا مُـخَلَّصين. يسوع للجميع هو. هو ليس لهذا أو ذاك. يسوع مِلك للجميع. هو يخصّ كلّ الناس ومِن أجل كلّ الناس. مِن أجل الجميع أنا الحبّ الرؤوف والخلاص الأكيد. ما الذي ينبغي فِعله ليخصّ المرء يسوع، وينال بالتالي الخلاص؟ أموراً قليلة، ولكنّها أمور عظيمة. ليست عظيمة لأنّها صعبة كالتي يفعلها الـمُلوك، ولكنّها عظيمة لأنّها تقتضي أن يتجدّد الإنسان ليقوم بها، ولكي يصبح مُمتلَكاً مِن يسوع. وبالتالي حُبّاً، وتواضعاً وتجرّداً ورحمة. هاكم. يا مَن أنتم تلاميذ، ماذا فعلتم اليوم مِن العَظائم؟ ستقولون: "لا شيء، لقد خَدَمنا وجبة طعام". لا، فلقد خدمتم الحبّ. لقد تواضعتُم. لقد عاملتم مجهولين مِن كلّ أصل كإخوة، دون السؤال عمَّن يكونون، إذا كانوا أصحّاء أم إذا كانوا صالحين. وقد قمتم بذلك باسم الربّ. قد تكونون تأملون منّي كلاماً عظيماً لتعليمكم، لقد جعلتُكم تقومون بأفعال عظيمة. لقد بدأنا اليوم بالصلاة، جئنا لمساعدة المجذومين والمتسوّلين، عبدناه تعالى في بيته، شرعنا بالوليمة الأخويّة والعناية بالحُجَّاج والمساكين، لقد خَدَمنا لأنّ الخدمة بفرح تعني التشبّه فيَّ أنا خادم خُدّام الله، الخادم حتّى التلاشي في الموت لتأمين الخلاص لكم...»

 

صَرخَة وصَخَب أقدام تُقاطِع يسوع. مجموعة إسرائيليّين هائِجين يصعدون السلّم جرياً. الرومانيّات الأكثر شهرة، أي كلوديا وفاليريا وليديا، يقبعن في الظلّ ويرخين الوِشاح.

 

الـمُشاغِبون يقتحمون الشُّرفة ويبدون وكأنّهم يبحثون عن لستُ أدري ماذا. خُوزي، مستاء، يقف في مواجهتهم ويَسألهم: «ماذا تريدون؟»

 

«لا شيء يخصّكَ. نبحث عن يسوع الناصريّ وليس أنتَ.»

 

«ها أنا ذا. ألا ترونَني؟» يَسأَل يسوع وقد وَضَعَ الطفل أرضاً ووَقَفَ مَهيباً.

 

«ماذا تفعل هنا؟»

 

«أنتم تَرَون ذلك. أفعل ما أُعلِّم وأُعلِّم ما يجب فِعله: حُبّ الأكثر فقراً. ماذا قيل لكم؟»

 

«لقد سمعنا صَرَخات تحريض على الفِتَن، وبما أنّه حيث تكون تَحدُث الاضطرابات، أتينا لنرى.»

 

«حيث أكون يكون السلام. كان الهتاف: "ليَحيَ يسوع".»

 

«بالضبط. فلقد تمّ التفكير في الهيكل كما في قصر هيرودس، أنّ هنا كانت تتمّ المؤامرة ضدّ...»

 

«مَن؟ ضدّ مَن؟ مَن الـمَلِك في إسرائيل؟ لا الهيكل ولا هيرودس. روما هي السائدة ومجنون هو مَن يُفكِّر أن يجعل مِن نفسه مَلِكاً حيث تسيطر هي.»

 

«أنتَ، تقول إنّكَ مَلِك.»

 

«أنا مَلِك، إنّما ليس لهذه المملكة. إنّها تافهة جدّاً بالنسبة إليَّ! وكذلك الامبراطوريّة تافهة جدّاً. أنا مَلِك ملكوت السماوات المقدّس، ملكوت الحبّ والروح. اذهبوا بسلام، أو ابقوا إذا شئتم وتعلّموا كيفيّة التوصّل إلى ملكوتي. رعاياي، ها هُم: الفقراء والبؤساء والـمُضطَهَدون، وثمّ الصالحون والمتواضعون والـمُحِبّون. ابقوا وانضمّوا إليهم.»

 

«في هذه الأثناء أنتَ دائماً مدعوّ إلى الولائم في البيوت الفخمة، وسط النساء الجميلات و...»

 

«كفى! لا تلميحات ضدّ الرابّي ولا إهانات له في بيتي. اخرجوا!» يُعنِّفهم خُوزي.

 

ولكن، مِن السلّم الداخليّ تَقفُز إلى الشُّرفة فتاة موشَّحة ذات قوام جميل. تجري، رشيقة مثل فراشة، صوب يسوع، حيث تَرمي وشاحها ومعطفها لترتمي هي عند قدميه وتحاول تقبيلهما.

 

«سالومة!» يَهتف خُوزي والآخرون.

 

ينسحب يسوع بسرعة ليتحاشى الاحتكاك بها، بشكل يقع معه كرسيّه، فيستغل ذلك ليجعل منه حاجزاً بينه وبين سالومة. عيناه مُخيفَتان لشدّة وميضهما، إنّهما رهيبتان.

 

سالومة، رشيقة ووقحة، مُمالِقة كلّها، تقول: «نعم، أنا. الهتاف وَصَلَ إلى القصر. فأرسَلَ هيرودس سفيرة ليقول لكَ إنّه يبغي رؤيتكَ. إنّما أنا قد سبقتُ سفيرته. تعال معي، يا سيّد. أحبّكَ كثيراً وبي الكثير مِن الشوق كي أحظى بكَ! أنا أيضاً جسد مِن إسرائيل.»

 

«اذهبي إلى بيتكِ.»

 

«القصر ينتظركَ ليكرّمكَ.»

 

«قصري، ها هو. لا أعرف غيره قصراً، ولا تكريماً غير هذا.» ويشير بيده إلى المساكين الجالسين إلى الطاولات.

 

«أَجلب لكَ هدايا. هي ذي الحليّ التي لي.»

 

«لا أريدها.»

 

«لماذا ترفضها؟»

 

«لأنّها نَجِسَة ومُعطاة بِنيّة قَذِرة. هيّا اذهبي!»

 

تَنهَض سالومة مذهولة. تختلس النَّظَر إلى الرهيب، الفائق الطُّهر الذي يَصعَقها بذراعه الممدودة ونظره الناريّ. تَنظُر إلى الجميع خِلسَة، وترى على الوجوه سخرية أو تقزّزاً. الفرّيسيّون تجمّدوا وهُم يُراقِبون المشهد ذا السلطان. والرومانيّات يتجرّأن على التقدّم للرؤية بشكل أفضل.

 

تُحاوِل سالومة المحاولة الأخيرة: «إنّكَ تُعاشِر حتّى البرص...» تقول بتواضع وإلحاح.

 

«هؤلاء مرضى. أمّا أنتِ، فَوَقِحة. اذهبي!»

 

«اذهبي» هذه الأخيرة كانت بقوّة لدرجة جَعَلَت سالومة تُلملِم وِشاحها ومعطفها، ومنحنية، زاحفة، تتوجّه صوب السلّم.

 

«انتبه، يا ربّ!... إنّها تتمتّع بسلطان... ويمكنها أن تُلحِق بكَ الأذى.» يُتمتِم خُوزي هامساً.

 

ولكنّ يسوع يُجيب بصوت قويّ جداً، كي يسمع الجميع، وعلى رأسهم تلك التي يطردها: «لا يهمّ. أُفضِّل أن أُقتَل على أن أُنشِئ علاقة مع الرذيلة. إنَّ عَرَق امرأة شهوانيّة وذَهَب بغيّ هما سموم الجحيم. إنشاء علاقة جبانة مع ذوي السُّلطان خطيئة. أنا الحقّ، والطُّهر والفِداء. لا أتغيّر. اذهب، رافِقها...»

 

«سوف أُعاقِب الخُدّام الذين تركوها تمرّ.»

 

«لن تُعاقِب أحداً. واحدة فقط تستحقّه. هي، وقد نالَته. ولِتَعلَم، واعلموا أنّي عالِم بما في فِكرها وأَشعُر لذلك بالاشمئزاز. فلتعد الحيّة إلى وكرها. فالحَمَل يرجع إلى حدائقه.»

 

يَجلس. يتعرّق. يصمت. ثمّ يقول: «يُوَنّا، أعطِ كلّ واحد صَدَقَة كي تكون حياتهم أقلّ تعاسة لبضعة أيّام... ماذا عليَّ أن أفعل غير ذلك، يا أبناء الألم؟ ماذا تريدونني أن أمنحكم؟ أَقرَأ ما في القلوب. للمرضى الذين يعرفون أن يؤمنوا، السلام والصحّة!»

 

صَمْت للحظة، ثمّ صيحة... إنّهم كثيرون، كثيرون جدّاً الذين نَهَضوا مُعافين. اليهود الذين جاؤوا لِيُفاجِئوا يسوع، يَمضون مَذهولين ومُهمَلين في النشوة العامّة، بسبب المعجزات وطُهر يسوع.

 

يبتسم يسوع وهو يُعانِق الأطفال، ثمّ يَصرف الضيوف مُبقياً الأرامل ويتحدّث إلى يُوَنّا بخصوصهنّ. تأخذ يُوَنّا عِلماً بذلك وتدعوهنّ في الغد. ثمّ يذهبن هنّ أيضاً. ويمضي الشيوخ أخيراً…

 

يبقى الرُّسُل والتلاميذ والرومانيّات. يقول يسوع: «هكذا ينبغي أن يكون الاتّحاد في المستقبل. ليس الكلام، بل هي الأفعال التي تتحدّث إلى الأرواح والنفوس بجلائها. وليكن السلام معكم.»

 

يتوجّه صوب السلّم الداخليّ ويتوارى، تتبعه يُوَنّا ثمّ الآخرون.

 

في أسفل السلّم، يُقابِل يهوذا: «يا معلّم لا تذهب إلى جَثْسَيْماني! فهناك أعداء يبحثون عنكَ. وأنتِ، أيّتها الأُمّ، ماذا تقولين الآن؟ أنتِ التي تلومينني! لو لم أكن قد ذهبتُ هناك، لما كنتُ عَلِمتُ بالفخّ الذي يُنصَب للمعلّم. إلى بيت آخر! فلنمضِ إلى بيت آخر!»

 

«إلى بيتنا إذن. ففي بيت لعازر لا يَدخُل إلاّ أصدقاء الله.» تقول مريم المجدليّة.

 

«نعم. فليأتِ الذين كانوا بالأمس في جَثْسَيْماني مع الأخوات إلى قصر لعازر. وغداً سوف نتدبّر الأمر.»