ج5 - ف51

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الخامس/ القسم الثاني

 

51- (المعجزة في الأردن الفائض)

 

17 / 09 / 1944

 

أخيراً يمكنني الكتابة عمّا يَشغَل رؤياي العقليّة وسَمَعي العقليّ منذ مطلع فجر هذا الصباح. وهذا يَجعَلني أُعاني بسبب الجهد الذي أبذله كي أَسمَع الأشياء الخارجيّة وأمور البيت، بينما عليَّ رؤية وسماع أمور الله، ولا يمكنني تحمّل أيّ شيء غير ما يراه روحي.

 

أيّ صبر يلزمني كي... لا أفقد صبري عندما أنتظر اللحظة المناسبة لأقول ليسوع: "ها أنا ذا! يمكنكَ الآن أن تمضي قدماً"! ذلك أنّني قُلتُها مرّات عديدة وما زلتُ أُردّدها، عندما لا أستطيع متابعة أو بداية رواية ما أرى، حينئذ يتوقّف المشهد مِن البداية، أو مِن حيث تمّت المقاطعة، لتتوالى الأحداث بعدئذ مِن جديد، عندما أكون حرّة في متابعتها. أعتقد أنّ الله يريد ذلك لتحاشي إغفال أو الوقوع في الخطأ في التفاصيل، الأمر الذي يمكنه أن يحصل لي لو كان يَفصل ما أَكتُبُ عمّا رأيتُ بعض الوقت.

 

أؤكّد بكلّ أمانة أنّ ما أكتُبه، لأنّني أراه أو أسمعه، أكتُبه أثناء رؤيته أو سماعه.

 

هذا إذاً ما أراه منذ هذا الصباح، والذي ينبّهني داخليّاً يقول لي إنّها بداية رؤيا طويلة وجميلة:

 

يسوع، في طقس رديء، يَمضي في درب أرضه موحلة للغاية. الطريق عبارة عن جدول صغير مِن الوحل الذي يتناثر لدى كلّ خطوة، وحل مائل إلى الصُّفرة، لَزِج، مُزحلِق كالصابون المائع، يلتصق بالأحذية، يسحبها كالمحجم (كاسات الهواء)، وفي الوقت ذاته يَهرب مِن تحتها، جاعلاً السير مضنٍ بسبب التزحلقات المتواصلة.

 

يُفتَرَض أنّها أمطرت وأمطرت في الأيّام السابقة، ومازالت السماء تُنذِر بالمطر. إنّها منخفضة، وبلون الرصاص، تجري فيها سُحُب سميكة تدفعها الرياح الخماسينيّة أو الريح الإغريقيّة، سميكة لدرجة أنّ الهواء يبدو في الفم جِسماً يميل إلى الحلاوة، وكأنّه مغموس في العسل. لا علاج في نسمة الهواء تلك التي تحرّك العشب والأغصان، فبعد أن تمرّ يعود كلّ شيء إلى الجمود الثقيل للحرارة العاصفة. وبين الفينة والأخرى تنقشع غيمة، ونقاط ضخمة ساخنة، وكأنّها مِن مرشّ دافئ، تَسقُط لتجعل فقاعات تَظهَر على الوحل الذي ما يزال يتطاير على الأثواب والسيقان.

 

أسفل الجلابيب، رغم أنّ يسوع وأتباعه قد رفعوها بواسطة الحبل الذي يربطها بالحزام، ملطَّخ بالوحل، مبلّل في الأسفل، ويكاد يكون جافّاً في البُقَع الأعلى. الأثواب والمعاطف، حتّى المحمولة منها في أعلى مستوى ممكن مطويّة للمحافظة عليها نظيفة، وللاحتماء بشكل مضاعف مِن الزّخات القصيرة إنّما العنيفة، قد اتّسخت. الأقدام والسيقان حتّى منتصفها تبدو وكأنّها تكتسي جوارب صوفيّة سميكة تشرَّبَت وحلاً قد رَصَّعَها.

 

يتشكّى التلاميذ مِن الطقس قليلاً ومِن الطريق، وبِشَكل عابر كذلك مِن مشيئة المعلّم غير الصحّيّة... قليلاً، للمضيّ في طقس مماثل.

 

يتظاهر يسوع بعدم السماع، ولكنّه يَسمَع. يلتفت قليلاً لمرّتين أو ثلاث -يَسيرون تقريباً رتلاً أحاديّاً في الجانب الأيسر للطريق المرتفع قليلاً عن الجانب الأيمن ولذلك هو أقلّ وحلاً- يلتفت لِيَنظر إليهم، ولكنّه لا يتكلّم.

 

في المرّة الأخيرة، الأكبر سناً بين التلاميذ هو الذي يقول: «آه! يا لي مِن مسكين! هذه الرطوبة التي تجفّ عليَّ سوف تُسبِّب لي الآلام! أنا عجوز! لم أعد في سنّ الثلاثين!»

 

ومتّى يُتمتِم هو كذلك: «وأنا، إذن؟ أنا، لم أكن معتاداً على ذلك... عندما كانت تمطر في كفرناحوم، أنتَ تَعلَم ذلك جيّداً يا بطرس، لم أكن أخرج مِن بيتي. كنتُ أَضَع موظّفين على مائدة الجباية، وهم يقودون إليَّ الذين عليهم أن يَدفَعوا. كنتُ قد نظّمتُ خدمة حقيقيّة لهذا الغرض. نعم... ثمّ مَن كان ليتنقّل في الطقس السيّئ؟ إلّا مَن كان مكتئباً. أمّا المسير والسفر ففي الطقس الجيّد...»

 

«اصمتوا! إنّه يَسمَع!» يقول يوحنّا.

 

«لا، هو لا يَسمَع. إنّه يُفكِّر، وعندما يُفكِّر... فكأنّنا غير موجودين.» يقول توما.

 

«وعندما يتَّخِذ قراراً، حتّى الملاحظات الأكثر صوابيّة لا تجعله يغيّر رأيه. يريد أن يفعل الذي يريده. لا يَثِق إلّا بنفسه. وهذا ما سيؤدّي إلى هلاكه. لو كان يستمع إليَّ قليلاً... أنا، أَعلَم أشياء كثيرة!» يقول يهوذا بكفاية وِسع حيلته وادّعائه بأنّه "أكثر مِن الآخرين."

 

«ماذا تَعرف؟» يَسأَل بطرس الذي يتلوّن فجأة بالأحمر كالدّيك. «تَعلَم كلّ شيء! مَن هُم أصدقاؤكَ؟ قد تكون أحد عظماء إسرائيل؟ ولكن كفى! أنتَ كذلك رجل مسكين مثل الآخرين ومثلي. أجمل قليلاً... ولكن جمال الشباب وردة لا تدوم إلّا يوماً واحداً! أنا أيضاً، كنتُ جميلاً!»

 

وتنفجر ضحكة مِن يوحنّا تملأ الجوّ. ويَضحَك الآخرون أيضاً وهُم يَسخَرون قليلاً مِن تجاعيد بطرس، ومِن ساقيه المتباعدتين قليلاً ككلّ الملاّحين، وعينيه البقريّتين المحمرّتين بفعل رياح البحيرة.

 

«اضحكوا إذن، ولكنّ الأمر هو هكذا. ثمّ، لا تقاطعوني. قُل، أنتَ يا يهوذا. مَن هُم أصدقاؤكَ؟ ما الذي تعرفه؟ لتكون عارفاً بما تريد أن تُفهِمنا، ينبغي أن يكون لكَ أصدقاء مِن بين أعداء يسوع، وهذه خيانة. هه! يا بنيّ! انتبه إذا ما كنتَ تهتمّ بجمالكَ! ذلك لأنّه صحيح أنّني لم أعد جميلاً، إنّما صحيح أيضاً أنّني ما زلتُ قويّاً، ولا يُسيئني أن أكسر لكَ أسنانكَ أو أفقأ لكَ عينكَ.» يقول بطرس.

 

«يا له مِن أسلوب في الكلام! إنّه حقاً صادر عن صيّاد فظّ!» يقول يهوذا باحتقار، وكأنّه أمير تلقّى إهانة.

 

«تماماً، وأنا أفخر بذلك. صيّاد، إنّما صادق صريح مثل بحيرتي التي، إن كانت ستهبّ فيها عاصفة، لا تقول: "سوف يكون فيَّ سكون"، ولكنّها تُبدي بعض الاضطراب، وتضع كشاهد على قبّة السماء بعض الكُتَل مِن الغيوم. يكفي ألّا يكون المرء أبلهاً أو سكراناً حتّى يُدرِك معنى الإنذار ويتصرّف بناء على ذلك. أمّا أنتَ... فتُشبه هذا الوحل الذي يبدو صَلباً وهو، انظر» (وبضربة قدم قويّة، يجعل الوحل يتطاير حتّى ذقن الاسخريوطيّ الجميل).

 

«ولكن، يا بطرس! هذه الأساليب في التصرّف غير لائقة! يثمر فيكَ جيداً كلام المعلّم عن المحبّة!»

 

«وكذلك فيكَ بالنسبة للتواضع والنـزاهة. هيّا! ابصق ما تَعلَم. ما الذي تعرفه؟ هل صحيح أنّكَ تَعلَم، أم إنّكَ تتظاهر بذلك كي تجعل الآخرين يظنّون أنّ لكَ أصدقاء مِن ذَوي السُّلطان؟ يا لكَ مِن دودة مسكينة!»

 

«ما أَعلَمهُ، أَعلَمهُ، ولن أقوله لكَ، فأتسبّب بشجارات ترضيكَ، يا أيّها الجليليّ. أُكرِّر أنّه لو كان المعلّم أقلّ عناداً، لكان الأمر بخير عظيم. وكذلك أقلّ عنفاً. لقد تَعِب الناس مِن سماع الإهانات الموجّهة إليهم.»

 

«عنيف؟ ولكنّه لو كان كذلك، لانبغى له أن يجعلك تطير في النهر، في الحال. طيرانا جميلاً فوق تلك الأشجار. هكذا تستحمّ بالوحل الذي يلطّخ وجهكَ. لو كان ذلك يساهم في غسل قلبكَ الذي، إن لم أكن مخطئاً، ينبغي أن يكون مكتسياً قِشرة أكثر مِن ساقيّ الموحلتين.» بالفعل فإنّ بطرس، المشعر كثيراً وقصير القامة، ساقاه موحلتان. هو ومتّى ليسا سوى صلصال حتّى الركبتين.

 

«ولكن، في النهاية، كفاكما!» يقول متّى.

 

يوحنّا، الذي لاحَظَ أنّ يسوع قد تباطأ، يُقدِّر أنّه قد سَمِع، وإذ يُسرِع الخُطى، يتجاوز اثنين أو ثلاثة مِن رفاقه، يلحق به، يسير إلى جانبه ويناديه: «يا معلّم!» على مهل، كالعادة، وبنظرة الحبّ إيّاها، رافعاً رأسه لأنّه أقصر وهو في منتصف الدرب، بينما يسير الآخرون على الطرف الأعلى.

 

«آه! يا يوحنّا! لحقتَ بي؟» ويبتسم له يسوع.

 

يوحنّا، بينما هو يدرس، بحنوّ وكذلك بخوف، وجه المعلّم ليتحقّق مِن أنّه قد سَمِع، يُجيب: «نعم، يا معلّمي. هل تريدني؟»

 

«أنا أريدكَ على الدوام. أريدكم جميعاً، وبقلبكَ! إنّما لو مشيتَ حيث أنتَ واقف، لانتهى بكَ الأمر إلى البلل.»

 

«لا يهمّني يا معلّم! لا شيء يهمّني سوى البقاء إلى جانبكَ!»

 

«هل تريد أن تبقى إلى جانبي على الدوام؟ ألا تظنّ أنّني متهوّر وأنّه يمكن أن أُسبّب لكم المشاكل، أنتم أيضاً؟ ألا تشعر بالإهانة لأنّني لا أَتّبع نصائحكَ؟»

 

«آه! يا معلّم! إذن فقد سمعتَ؟» يوحنّا في ذهول.

 

«لقد سمعتُ كلّ شيء، منذ البداية. ولكن لا تحزن. أنتم لستم كاملين. كنتُ أَعلَم ذلك عندما اخترتُكم. ولا أتوقّع أن تصبحوا كذلك بسرعة. عليكم بادئ ذي بدء أن تنتقلوا مِن الحالة البدائيّة إلى الحالة المؤهّلة بواسطة طُعمَين...»

 

«أيّهما، يا معلّم؟»

 

«الأوّل الذي مِن الدم، والآخر مِن النار. بعد ذلك، ستُصبِحون أبطالاً مِن السماء وتهدون العالم، بادئين بأنفسكم.»

 

«مِن دم؟ مِن نار؟»

 

«نعم يا يوحنّا. الدم: دمي...»

 

«لا، يا يسوع!» يقاطعه يوحنّا وهو يئنّ.

 

«هدوءاً، يا صديقي. لا تُقاطِعني. اسمع، وأنتَ أوّل مَن يسمع هذه الحقائق. وأنتَ تستحقّ ذلك. الدم: دمي. وهذا أنتَ تعرفه. فلأجل ذلك أنا أتيتُ. أنا الفادي... فَكِّر بالأنبياء. فهم لم يُسقِطوا حرفاً واحداً، عندما وَصَفوا رسالتي. سوف أكون الرجل الذي وَصَفَه إشَعياء. وعندما يُراق دمي، فهو الذي يجعلكم تُخصبون. ولكنّني لن أتوقّف عند هذا الحد. أنتم ينقصكم الكثير وضُعفَاء، مُنغَلِقون وخوّافون، حتّى إنّني، وأنا في مجدي إلى جانب أبي، سوف أُرسِل لكم النار، القوّة التي تنبثق مِن كوني وُلِدتُ مِن الآب، والتي تربط الآب والابن بحلقة لا تنفصم عراها، جاعلة مِن الواحد ثلاثة: الفِكر، الدم، والحبّ. وعندما روح الله، بل روح روح الله، كمال الكمالات الإلهيّة، يهبط عليكم، فلن تعودوا ما أنتم عليه. بل تُصبِحون جُدُداً، ذوي سلطان، قدّيسين... أمّا بالنسبة إلى واحد منكم، فلن يعني الدم له شيئاً وكذلك النار، ذلك أنّه سيكون للدم سلطان إدانته، وسيذوق للأبد ناراً أخرى يحترق فيها وهو يتقيّأ دماً ويبلع دماً، لأنّه سيرى الدم أنّى استقر نظره البائد أو نظره الروحيّ منذ اللحظة التي يخون فيها دم إله.»

 

«آه! يا معلّم! مَن يكون؟»

 

«سوف تعرفه يوماً. الآن تجاهَله. ومِن قبيل المحبّة لا تُحاوِل حتّى أن تعرف. فمحاولة المعرفة تَفتَرِض الارتياب. ولا يجدر بكَ أن ترتاب بإخوتكَ، ذلك أنّ الارتياب افتقار إلى المحبّة هو.»

 

«يكفيني أن تؤكّد لي أنّني لن أكون الخائن أنا ولا يعقوب.»

 

«آه! لن تكون أنتَ! ولا يعقوب كذلكَ! أنتَ عزائي، يا يوحنّا الطيّب!» ويُمرّر يسوع ذراعاً حول كتفه ويشدّه إليه، ويَسيران هكذا متعانقين.

 

يَصمتان بُرهة. ويَصمت الآخرون كذلك الآن. ولا يُسمع سوى وقع الخطوات على الأرض.

 

ثمّ سُمِع صوت آخر. صوت هياج، بل هو شخير ثقيل لمصاب بزكام. هياج رتيب، تقطعه بين الفينة والفينة صَفْقات خفيفة.

 

«هل تسمع؟» يقول يسوع. «النهر قريب.»

 

«ولكنّنا لن نَصِل إلى المخاضة إلّا في الليل. والليل يوشك على الهبوط.»

 

«سوف ننام في أحد الأكواخ. وغداً نَعبُر. وَدَدتُ الوصول باكراً أكثر، لأنّ المستوى يرتفع مِن ساعة إلى ساعة. هل تسمع؟ قَصَب الشواطئ يتكسّر تحت ثِقل مياه الفيضان.»

 

«لقد استَبقوكَ كثيراً في قرى المدن العشر تلك! كنّا نقول ذلك للمرضى: "في مرّة أخرى". ولكن...»

 

«ولكنّ المريض يَبغي الشفاء، يا يوحنّا. والذي يملك الرحمة يشفي على الفور، يا يوحنّا. لا يهمّ. ومع ذلك سوف نَعبُر. أودُّ المرور بالشاطئ الآخر قبل العودة إلى أورشليم مِن أجل العنصرة.»

 

يَصمتون مِن جديد. يهبط الليل بِعَجَلَة الأيّام الماطرة. ويُصبِح المسير في الغسق، الذي يداهمه الظلام باطّراد، أكثر صعوبة. وكذلك الأشجار المزروعة على طول الطريق، تُفاقِم الظُّلمة بإيراقها.

 

«فلننتقل إلى الطرف الآخر مِن الطريق. نحن الآن على مقربة مِن المخاضة. سوف نبحث عن كوخ.»

 

يَعبُران، يتبعهما الآخرون. يجتازون حفرة مُوحِلة، هو وحل أكثر منه ماء يمضي هادراً ليصبّ في النهر. يتقدّمون بحذر، تقريباً، مِن شجرة إلى أُخرى، متوجّهين صوب النهر الذي يضحي صخبه أقرب وأشدّ.

 

شعاع أوّل مِن القمر يخترق الغيوم، يَعبُر بين سحابتين ليهبط فيجعل ماء الأردن الموحل يتلألأ، وقد بَلَغَ مِن الزيادة والرَّحابة مبلغاً في تلك النقطة. لم يَعُد النهر الجميل الساكن وبلون الأفق، الذي تكشف مياهه الساكنة عن رمال الشاطئ الناعمة عند الأطراف، حيث بدايات القصب الذي يُسمع حفيفه على الدوام. الآن قد اجتاح الماء كلّ شيء، ولم تعد تُرى بدايات القصب، المنحنية، المتكسّرة والمغمورة. جُلّ ما هنالك شريط مِن الأوراق يموج على سطح الماء، ويبدو وكأنّه يشوّر بحركة وداع أو نداء استغاثة. لقد وَصَلَ الماء إلى أسفل الشجرات الأولى. لا أعرف ما نوع تلك الأشجار. هي ضخمة وكثيرة الأوراق، مُشكِّلة سوراً كثيفاً، مُظلماً في عتمة الليل. بعض مِن أشجار الصفصاف تَغمس في الماء المائل إلى الصُّفرة أطراف شعرها الأشعث.

 

«هنا، لا يمكن العبور.» يقول بطرس.

 

«هنا، لا. ولكن انظر هناك، ما زالوا يَعبُرون.» يقول أندراوس.

 

بالفعل، دابّتان تَعبُران النهر بحذر. والماء يصل إلى بطن الحيوانين.

 

«إذا عَبَرَا، فالـمَراكِب تَعبُر كذلك.»

 

«في هذه الحال يجدر بنا العبور فوراً، وإن يكن ليلاً. لقد تبدّدت السُّحُب وظَهَر القمر. لا ندع الفرصة تفوتنا. فلنبحث عن مَركَب...» ويُطلِق بطرس، على ثلاث دفعات، صرخة طويلة ونائحة: «أوه... هيه!»

 

ما مِن مُجيب.

 

«فلنمض حتّى المخاضة. يُفتَرض أن يكون مَلكيّا مع أولاده هناك. بالنسبة إليه هو الموسم الجيّد. وسيحملنا إلى الطرف الآخر.»

 

يسيرون بأسرع ما يمكنهم، على الممرّ الضيّق المحاذي للنهر، وهو يكاد يلامسه.

 

«ولكن أليست هذه امرأة؟» يقول يسوع وهو يَنظُر إلى الشخصين اللذين عَبَرَا النهر للتو على حصانيهما وتوقّفا في الممر.

 

«امرأة؟» بطرس والآخرون لا يَرَون جيّداً ولا يميّزون ذلك الشكل العاتم، الذي ترجَّلَ مِن على الحصان وانتَظَر، إذا ما كان رجلاً أم امرأة.

 

«نعم، إنّها امرأة. إنّها... إنّها مريم. انظروا إليها وقد أَصبَحَت في شعاع ضوء القمر.»

 

«إنّه لحسن بالنسبة إليكَ أنّكَ ترى بوضوح. عيناكَ جيّدتان!»

 

«إنّها مريم. ماذا يمكن أن يكون الذي تريده؟» ويهتف يسوع: «مريم!»

 

«رابّوني! أهذا أنتَ؟ فليتمجّد الله أنّني قد وجدتكَ!» وتجري مريم كالغزال صوب يسوع. لستُ أدري كيف لا تتعثّر في الممر الوَعِر. تَرَكَت المعطف الأوّل الثقيل جدّاً يسقط، وهي تتقدّم الآن بوشاحها ومعطف أخفّ ملتفّ حول جسمها فوق ثوبها الداكن.

 

وعندما تَصِل إلى يسوع، ترتمي عند قدميه غير عابئة بالوحل. إنّها تَلهَث، ولكنّها سعيدة. تُكرِّر: «المجد لله الذي جَعَلَني أَجِدُكَ!»

 

«لماذا يا مريم؟ ما الذي جرى؟ ألم تكوني في بيت عنيا؟»

 

«لقد كنتُ في بيت عنيا مع أُمّكَ والنساء، كما قُلتَ أنتَ... ولكنّني أتيتُ لملاقاتكَ... لم يكن لعازر ليستطيع، لأنّه يتألّم كثيراً... لذلك أتيتُ مع الخادم...»

 

«أنتَ، تُسافِرين وحدكِ مع أحد الصّبية، وفي مثل هذا الطقس!»

 

«آه! رابّوني! لا أخالكَ تودُّ القول لي إنّكَ تظنّني خائفة. لم أخف لدى فِعل الكثير مِن الشرّ... ولستُ أخاف الآن وأنا أفعل الخير.»

 

«وإذن، لماذا أتيتِ؟»

 

«كي أقول لكَ ألّا تَعبُر... ففي الجهة الأخرى، ينتظرونكَ لِيُلحِقوا بكَ الأذى... لقد عَلِمتُ ذلك... عَلِمتُهُ مِن أحد الهيروديّين الذي كان يوماً... كان يوماً يحبّني... ولستُ أدري إذا ما قال ذلك مِن قبيل الحبّ، أيضاً، أو مِن قبيل الغلّ... ما أعرفه هو أنّه، في اليوم السابق لما قبل الأمس، رآني عَبْرَ الحاجز المشبّك وقال لي: "مريم الغبيّة، هل أنتِ في انتظار معلّمكِ؟ حسناً تفعلين، ذلك أنّها ستكون المرّة الأخيرة. لدى مروره في اليهوديّة سوف يُنال منه. انظري إليه جيّداً، ثمّ تواري، لأنّه مِن غير الحيطة والحذر أن تكوني قريبة منه، الآن..." لذا... يمكنكَ تصوّر بأيّ قلب... تلقّيتُ الخبر... تَعلَم... لقد عرفتُ الكثيرين... ورغم اعتباري كمجنونة أو... كمُستَحوَذ عليها، فما زالوا يتحدّثون إليَّ... وعَلِمتُ أنّ هذا صحيح. حينئذ أخذتُ جوادين وأتيتُ، دون أن أقول شيئاً لأُمّكَ... كي لا أُحزِنها. ابتعد... ابتعد في الحال، يا معلّم. لو يَعلَمون أنّكَ هنا، في الطرف الآخر مِن الأردن، فسوف يُقبِلون. وهيرودس كذلك يطلبكَ... أنتَ قريب جدّاً مِن مكرونة، الآن. ابتعد، ابتعد مِن قبيل الرحمة، مِن قبيل الرحمة، يا معلّم!...»

 

«لا تبكي، يا مريم...»

 

«أنا خائفة، يا معلّم!»

 

«لا! خائفة، وأنتِ الشُّجاعة بما فيه الكفاية لِتَعبُري النهر في تمام الليل!...»

 

«ولكنّ هذا نهر، وأولئك الرجال هُم أعداؤكَ ويُبغضِونكَ... وما خوفي إلّا مِن هذا البُغض الذي يكنّونه لكَ... ذلك أنّني أحبّكَ، يا معلّم.»

 

يُتمتِم يهوذا بشيء ما بشكل مُبهَم، ويُجيب يسوع: «نعم، يا يهوذا، بالضبط كما تقول. إنّما بالضبط في القسم الأوّل مِن الجملة. أُعطيها الحقّ، نعم، إنّما ليس لأنّها امرأة، كما تُلمِّح، بل لأنّها الأكثر تقدّماً في طريق الحبّ. مريم، عودي إلى البيت طالما تستطيعين إلى ذلك سبيلاً. وأنا سأعود أدراجي، وأَعبُر... حيث أَجِدني قادراً على ذلك، وسأمضي إلى الجليل. تعالي، مع أُمّي والأُخريات، إلى قانا، إلى بيت سُوسَنّة. هناك، أقول لكنّ ما يجب فِعله. اذهبي بسلام، يا مباركة. الله معكِ.»

 

ويضع يسوع يده على رأسها، مباركاً إيّاها. وتُمسِك مريم بيدي يسوع وتُقبِّلهما، ثمّ تَنهَض وتعود أدراجها. يَنظُر إليها يسوع تمضي، ويَنظُر إليها وهي تلمّ معطفها الضخم وترتديه، ثمّ وصولها إلى الجواد لتمتطيه لِتَعود إلى المخاضة وتجتازها.

 

«والآن فلنمضِ.» يقول. «كنتُ أودُّ أن أدعكم ترتاحون، ولكنّني لا أستطيع. إنّني أهتمّ بحمايتكم، مهما يكن ما يُفكِّر به يهوذا. وثِقوا أنّ وقوعكم في أيدي أعدائي، لهو أسوأ، بالنسبة إلى صحتكم، مِن الماء والوحل...»

 

يَخفض الجميع رؤوسهم، مُدرِكين اللوم الخفيّ الموجَّه إليهم ردّاً على نقاشاتهم السابقة.

 

يسيرون ويسيرون طوال الليل، بين الفرجات والزخّات القصيرة. فجر مُمتَقِع يفاجئهم قرب قرية صغيرة تمتدّ إلى جانب النهر بأكواخها البائسة الموحلة. النهر أقلّ اتّساعاً منه عند المخاضة. والـمَراكِب مسحوبة إلى الأماكن الجافّة إلى ما وراء السكن لحمايتها مِن الفيضان.

 

يُطلِق بطرس صيحته: «أوه!... هيه!»

 

يَخرُج مِن كوخ بائس رجل قويّ، لكنّه مسنّ. «ماذا تريد؟»

 

«مَراكِب للعبور.»

 

«مستحيل! النهر ملآن كثيراً... التيّار...»

 

«هيه، يا صديقي! لِمَن تقول هذا؟ أنا صيّاد مِن الجليل.»

 

«البحر شيء... إنّما هنا، فهو النهر... لا أريد أن أَفقد الـمَركَب. ثمّ... لا أملك سوى واحد، وأنتَ والذين معكَ، كثير عددكم.»

 

«كاذب! أتودّ أن تقول لي إنّكَ لا تملك سوى مَركَب واحد؟»

 

«فلتجفّ عيناي إذا كنتُ أكذب، أنا...»

 

«خُذ حَذَرَك لئلّا تجفّ فعلاً. فهو رابّي الجليل الذي يَمنَح البَصَر للعميان والذي... يمكنه أن يرضيكَ بأن تجفّ عيناكَ...»

 

«الرحمة! الرابّي! سامحني، رابّوني!»

 

«نعم، ولكن لا تَعُد تَكذب مُطلقاً. الله يحبّ الذين يكونون صريحين صادقين. لماذا القول إنّكَ لا تملك سوى مَركَب واحد، في الوقت الذي يمكن للبلدة كلّها أن تُكذِّبكَ؟ فَمُخجِل جدّاً لرجل أن يكذب ويُكشَف كذبه! هل تعطيني مَراكِبكَ؟»

 

«كلّها، يا معلّم.»

 

«كم يلزمنا، يا بطرس؟»

 

«في الحالة العاديّة، اثنان يكفيان. إنّما مع الفيضان، فالمهمّة أصعب، ويلزمنا ثلاثة.»

 

«خُذها أيّها الصياد. ولكن كيف العمل لِأستَرُدَّها؟»

 

«تعال في إحداها. أليس لكَ أولاد؟»

 

«لي وَلَد واحد وصهران وأحفاد.»

 

«اثنان في كلّ مَركَب يَكفِيان مِن أجل العودة.»

 

«هيّا بنا.»

 

يُنادي الرجل الآخرين، وبمعونة بطرس وأندراوس ويعقوب ويوحنّا، يَضَعون الـمَراكِب في الماء. التيّار قويّ ويعمل على جرفها مباشرة. الحبال التي تربطها إلى الأشجار القريبة مشدودة كوتر القوس وتصرّ. يَنظُر بطرس. يَنظُر إلى الـمَراكِب ويَنظُر إلى النهر، يَنظُر ويهزّ رأسه ويُمرّر يده في شعره الأشيب، ثمّ يَرمُق يسوع بنظرة فضوليّة.

 

«هل تخاف يا بطرس؟»

 

«هيه!... بالكاد، بالكاد...»

 

«لا تَخَف. كُن مؤمناً. وأنتَ أيضاً أيّها الرجل. ينبغي على مَن يَحمِل الله ومُرسَليه ألّا يخاف. فلنبحر. أنا في الـمَركَب الأوّل.»

 

صاحب الـمَراكِب يُعطي إشارة الـمُسلِّم بأمر الله. يبدو أنّه يفكّر أنّ ساعته وساعة أهله قد دنت. ويبدو أنّه يُفكِّر أقلّه أنّه سيفقد الـمَراكِب، أو أنّ التيار سيجرفها.

 

يسوع في الـمَركَب، يقف في مقدّمه. ويصعد الآخرون إلى الـمَركَب الذي فيه يسوع والـمَركَبين الآخرين. ويبقى على الأرض فقط عجوز، قد يكون الـمُستَخدَم الذي يَحرس الحِبال.

 

«هل الجميع في الـمَراكِب؟»

 

«الجميع في الـمَراكِب»

 

«هل المجاديف جاهزة؟»

 

«جاهزة.»

 

«حلّ الحبال، أنتَ، مِن الشاطئ.»

 

يحلّ العجوز الحِبال مِن الوَتَد الذي كانت مربوطة إليه قرب الجذع. وبينما الحبال تُحَلّ، تنحرف الـمَراكِب صوب الجنوب، باتّجاه التيّار. ولكنّ وجه يسوع يُشير إلى حدوث معجزة.

 

لا أَعلَم ما الذي يقوله للنهر. الذي أعرِفه هو أنّ التيّار يكاد يتوقّف. لا تظهر عليه إلّا الحركة البطيئة التي للأردن عندما لا يكون هناك فيضان. الـمَراكِب تقطع التيّار دون جهد، بل حتّى بسرعة أدهَشَت صاحب الـمَراكِب.

 

ها هُم في الطرف الآخر. يَهبطون مِن الـمَراكِب بسهولة، والتيّار لا يجرف الـمَراكِب عندما تتوقّف المجاديف عن الحركة.

 

«يا معلّم، أرى أنّكَ بحقّ ذو سلطان.» يقول صاحب الـمَراكِب. «بارِك خادمكَ واذكرني أنا الخاطئ.»

 

«لماذا ذو سلطان؟»

 

«هيه! هل يبدو لكَ ذلك قليلاً؟! لقد أوقفتَ حركة تيّار الأردن أثناء الفيضان!...»

 

«يشوع صَنَعَ هذه المعجزة وأَعظَم، وذلك بأن اختفت مياه النهر ليمرّ تابوت العهد...»

 

«وأنتَ، أيّها الرجل، قد جعلتَ تابوت عهد الله الحقيقيّ يمرّ.» يقول يهوذا بجدارته.

 

«يا الله تعالى! نعم، أعتقد ذلك! أنتَ مَسيّا الحقيقيّ! ابن الله تعالى. آه! سوف أقول ذلك في المدن والقرى الواقعة على الشاطئ. سوف أقول، ماذا فعلتَ، ما رأيتُكَ تفعل! عُد يا معلّم! بلدتي الفقيرة فيها مرضى بأعداد كبيرة. تعال واشفهم!»

 

«سوف آتي. وأنتَ، في هذه الأثناء، بَشِّر باسمي بالإيمان والقداسة، لكي يحسنوا في عينيّ الله. وداعاً، أيّها الرجل. اذهب بسلام ولا تخشَ شيئاً في طريق العودة.»

 

«أنا لا أخاف. لو كنتُ أخاف لكنتُ سألتُكَ الرأفة بحياتي. ولكنّني أؤمن بكَ وبصلاحكَ، وأنا ماض دون أن أسالكَ شيئاً. وداعاً!»

 

يعود إلى الـمَركَب، وينطلق بمركبه أوّلاً في النهر ويمضي، هادئاً، مسرعاً. ويبلغ الضفّة.

 

يسوع، الذي بقي واقفاً إلى أن رآه يهبط إلى الأرض، يقوم بإشارة بركة. ثمّ يبدأ المسير.

 

يعود النهر إلى حركته السريعة... وهكذا ينتهي كلّ شيء.