ج9 - ف23
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: ماري حلمي وفيكتور مصلح.
الجزء التاسع
23- (الصَّلب)
27 / 03 / 1945
أربعة رجال مفتولو العضلات، سماتهم تبدو لي يهوديّة، وهم يستحقّون الصلب أكثر مِن المحكومين، بالتأكيد هم مِن زمرة الجلاّدين ذاتها، يقفزون مِن أحد المسالك إلى موضع التعذيب. يلبسون جلابيب قصيرة بلا أكمام وفي أيديهم مسامير، مطارق وحِبال يُظهِرونها للمحكومين الثلاثة ساخرين منهم. الجمع يهيج بهذيان فظيع.
يُقدّم قائد المئة الجرّة إلى يسوع لكي يشرب الخليط المخدر مِن النبيذ الممزوج بالـمُرّ، ولكن يسوع يرفضه. على عكس اللصّين اللذين يتجرّعان كمّية منه. ثمّ توضع الجرّة الواسعة الفوهة بالقرب مِن إحدى الصخور الضخمة، عند أعلى القمّة تقريباً.
يُعطى الأمر للمحكومين بخلع ملابسهم. اللصّان يفعلان ذلك دون أدنى حياء. بل يلهوان بالقيام بحركات بذيئة وخاصة تجاه المجموعة الكهنوتيّة المرتدية ملابس كتّانيّة بيضاء، والّتي عادت بكلّ هدوء إلى الساحة الصغيرة الأدنى، مندسّين إلى ذلك المكان مستغلّين مزيّتهم. وينضمّ إليهم اثنان أو ثلاثة مِن الفرّيسيّين وشخصيّات نافذة أخرى جعلتهم الكراهية أصدقاء. وأرى شخصيّات معروفة مثل الفرّيسيّ جيوقانا وإسماعيل، الكاتب صادوق، وإيلي الّذي مِن كفرناحوم…
يُقَدّم الجلاّدون للمحكومين ثلاثة خرق كي يربطوها عند ثنية الفخذ، ويتناولها اللصّان بأقذع الشتائم. يسوع، الّذي يخلع ملابسه ببطء بسبب ألم الجراح، يرفضها. ربما هو يأمل بالاحتفاظ بسرواله القصير الّذي احتفظ به حتّى أثناء الجَلْد. ولكن لدى الطلب منه أن يخلعه، يمدّ يده مستجدياً الخرقة مِن الجلاّدين كي يستر عريه. حقّاً هو التلاشي إلى درجة طلب خرقة رثّة مِن مجرمين.
ولكنّ مريم رأت وخلعت القماشة الطويلة الناعمة البيضاء الّتي تُوَشّح بها رأسها تحت المعطف الداكن، وقد سكبت فيها دموعاً غزيرة. تخلعها دون أن تُسقِط الرداء، وتعطيها ليوحنّا كي يقدّمها للونجين مِن أجل ابنها. يأخذ قائد المئة الوشاح دون صعوبة. وحينما يرى لونجين أنّ يسوع يهمّ بالتعرّي الكامل، ليس في مواجهة الجمع، بل إلى الجهة الّتي ليس فيها أحد، مُظهِراً هكذا ظهره المخطط بالكدمات ونزوف الجراح المفتوحة أو القشور الداكنة، فيقدّم له وشاح الأُمّ. يتعرّف عليه يسوع. فيلفّه مرّات عديدة حول حوضه ويثبّته جيّداً كي لا يسقط... وعلى الكتان المبلّل حتّى الآن بالدموع فقط، تسقط قطرات الدم الأولى، لأنّه حينما انحنى كي يخلع نعليه ويضع ملابسه، تنفتح مِن جديد العديد مِن الجراح المغطّاة بالدم المتجلط، ويعود الدم للسيلان.
الآن يلتفت يسوع صوب الجمع، فيُرى هكذا أنّ الصدر أيضاً، الذراعين، الساقين قد جُلِدَت كلّها بالسياط. على مستوى الكبد بقعة زرقاء ضخمة، وتحت القوس الأيسر للأضلاع سبعة آثار بارزة تنتهي بسبعة تمزّقات نازفة داخل دائرة بنفسجيّة... ضربة سوط وحشيّة في هذه المنطقة الحسّاسة مِن الحجاب الحاجز. الركبتان مرضوضتان مِن السقطات المتكرّرة الّتي بدأت حالاً بعد القبض عليه وانتهت في الجلجلة، سوداوان متورّمتان ومفتوحتان عند الداغصة [الصابونة]، وخاصّة الركبة اليمنى، حيث جرح واسع نازف.
يستهزئ الجمع به مُشكّلين ما يشبه الجوقة: «آه! جميل! أجمل بني البشر! بنات أورشليم تعبدكَ...» ويُنشِدون كما بترنيم المزامير: «حبيبي أبيض وأشقر، عَلَم بين ربوة [مميّز بين آلاف وآلاف]. رأسه ذهب إبريز، وغدائره [شعره] كسعف النخل، حريريّة كريش الغراب، عيناه كحمامتين تغتسلان على أنهار، ليس بماء بل بالحليب، بحليب محجريهما. خدّاه كروضة أطياب، وشفتاه الحمراوين سوسن تقطران مرّاً ذكيّاً. يداه كما مصوغتان مِن ذهب تنتهيان بياقوت ورديّ. وجذعه عاج مُعَرَّق بالسفير. ساقاه عامودا رخام أبيض ممتازان موضوعان على قاعدتين مِن ذَهَب. عَظَمَته كتلك الّتي لِلُبنان، أكثر عَظَمَة مِن الأرز السامق. لسانه يقطر حلاوة وهو بجملته شهيّ.» ويضحكون ويصرخون كذلك: «الأبرص! الأبرص! هل زنيتَ إذن مع آلهة [أصنام] وثنيّة حتّى ضربكَ الله هكذا؟ هل تكلّمتَ على قدّيسي إسرائيل مثل مريم أخت موسى، إذا ما عوقبتَ هكذا؟ آه! آه! الكامل! أأنتَ ابن الله؟ ولكن لا! أنتَ مسخ الشيطان! على الأقلّ هو، مامون [الشيطان] قادر وقويّ. أنتَ... أنتَ مجرّد خرقة لا حول لها ومقزّزة.»
قُيِّد اللصّان على الصليبين واقتيدا إلى مكانيهما، واحد عن اليمين والآخر عن اليسار بالنسبة للصليب المعدّ ليسوع. يصيحان، يلعنان، ويشتمان، خاصّة حينما جُلِب الصليبان إلى الحفرتين وتمّ هزّهما، فحزّت الحبال رسغيهما [معصميهما]، شتائمهما ضدّ الله، ضدّ الشريعة، والرومان واليهود جهنّميّة هي.
جاء دور يسوع. يتمدّد على الخشبة بوداعة. أمّا اللصّان فكانا في منتهى التمرّد، وإذ لم يقدر عليهما الجلاّدون الأربعة، فقد طلبوا تدخّل بعض الجنود لإمساكهما، كي لا يدفعا بركلات مِن أقدامهما مراقبي المساجين الّذين كانوا يربطونهما مِن رسغيهما. أمّا بالنسبة ليسوع فلا حاجة للعون. يتمدّد واضعاً رأسه حيث يقولون له. يفتح ذراعيه كما يقولون له، يمدّد ساقيه كما يأمرونه. يهتم فقط بأن يضبط وضع وشاحه.
الآن جسده الطويل النحيل والأبيض يَبرز عن الخشبة الداكنة والأرض المصفرّة. يجلس اثنان مِن الجلاّدين على صدره كي يبقوه ثابتاً. وأفكّر في ضيق النَّفَس والآلام الّتي أَحَسَّ بها تحت هذا الثقل، ثالث يأخذ ذراعه اليمنى فيمسك بإحدى يديه بالجزء الأوّل مِن الساعد وبالأخرى أطراف الأصابع. الرابع، الّذي يحمل في يديه مسماراً طويلاً حادّاً عند الرأس، مربّع الساق، وينتهي بصفيحة دائريّة مسطّحة، واسعة مثل فلس تلك الأيام، ينظر إن كان الثقب الموجود في الخشبة مطابقاً للمفصل الإشعاعي في الرسغ. هو مناسب. يضع الجلاّد رأس المسمار على الرسغ، يرفع المطرقة ويضرب الضربة الأولى.
يسوع الّذي كانت عيناه مغلقتين، يُطلِق صرخة ويتشنّج على إثر هذا الألم الحادّ ويفتح عينيه اللتين تسبحان بالدموع. لا بدّ أنّه يختبر ألماً مبرِّحاً... المسمار يخترق الأوردة والأعصاب مهشّماً العضلات، محطّماً العظام…
تجيب مريم على صرخة ابنها المعذَّب بأنين فيه شيء مِن شكوى الحَمَل أثناء ذبحه، وتنحني، كالمحطّمة، واضعة رأسها بين يديها. ويسوع، كي لا يعذّبها، يكفّ عن الصراخ. ولكن الضربات موجودة، منتظمة، عنيفة، حديد على حديد... ويجب أن نضع بالاعتبار أن تحتها عضواً حيّاً يتلقّاها.
سُمِّرت اليد اليمنى. دور اليد اليسرى. الثقب لا ينطبق على عظام المعصم. حينئذ يأخذون حبلاً، يربطون المعصم الأيسر ويشدّونه حتّى ينخلع المفصل وتُنتَزَع الأوتار والعضلات، عدا عن تمزيق الجلد المحزوز مِن قَبل بحبال التقييد. اليد الأخرى لا بدّ أنّها تتألّم أيضاً، ذلك أنّها تتمطّى بالنتيجة ويتّسع الثقب حول مسمارها. الآن بالكاد يتمّ الوصول إلى بداية مشط اليد، بالقرب مِن الرسغ. فيذعنون، ويسمّرون حيث يقدرون، أي بين الإبهام والأصابع الأخرى، تماماً في مركز مشط اليد. هنا يدخل المسمار بشكل أسهل، ولكن بألم أشدّ، لأنّه يقطع أعصاباً هامّة، حتّى إنّ أصابعه لم تعد تتحرّك، بينما تتشنّج وترتعش أصابع يده اليمنى ممّا يشير إلى حيويّتها. إنّما يسوع لم يعد يصرخ، بل يُطلِق فقط شكوى خشنة خلف شفتيه المغلقتين بقوّة، ودموع الألم تسقط على الأرض بعد أن تكون قد سقطت على الخشبة.
الآن دور القدمين. على بعد مترين أو أكثر مِن نهاية الصليب زاوية صغيرة، تكفي بالكاد لقدم واحدة. تُحمَل إليها القدمان ليروا إن كان المقاس مناسباً. وبما أنّها إلى أسفل قليلاً والقدمان لا تصلان إليها إلاّ بصعوبة، يُسحب الشهيد المسكين مِن الكاحلين. ويَحكّ خشب الصليب الخشن الجراح، يزحزح الإكليل الّذي ينـزع شعراً مِن جديد ويوشك على السقوط. فيعيده أحد الجلاّدين، بلكمة، إلى موضعه…
الآن يقف الجالسان على صدر يسوع ليجلسا على الركبتين، ذلك أنّ يسوع يقوم بحركة لا إراديّة ليجذب ساقيه وقد رأى لمعان المسمار الطويل جدّاً تحت الشمس. له ضعف طول وعرض المسمارين المستخدمين في اليد. يستقرّان على الركبتين المسلوختين، ويضغطان على الساقين المسكينتين المغطّاتين بالكدمات، بينما يكمل الاثنان الآخران العمل، أصعب كثيراً هو تسمير قدم على الأخرى، في محاولة توفيق مفصليّ رسغيّ القدمين معاً.
ورغم الدأب على إبقاء القدمين ثابتتين عند الكاحل والأصابع العشرة، على الزاوية، تتزحزح القدم السفليّة بسبب اهتزاز المسمار، فيضطرّون إلى انتزاع المسمار تقريباً، لأنّه بعد ولوجه الأجزاء الرخوة، فإنّ المسمار، الّذي انثلم قليلاً نتيجة اختراقه القدم اليمنى، ينبغي أن يُوَجّه أكثر قليلاً إلى الوسط. ويضربون، يضربون، يضربون... لم يعد يُسمَع سوى ضربات المطارق المريعة على رأس المسمار، لأنّه لم يعد على كلّ الجلجلة سوى عيون وآذان متنبّهة، لاستقبال كلّ حركة وكلّ صوت للاستمتاع…
علاوة على صوت الحديد الغليظ، تُسمَع شكوى مخنوقة لحمامة: الأنين الخشن لمريم الّتي تنحني أكثر فأكثر مع كلّ ضربة، كما لو كانت المطرقة تجرحها هي، الأُمّ الشهيدة. وأُدرِك أنّها توشك على التحطّم بسبب ذلك العذاب. الصلب رهيب يساوي الجَلْد في ألمه، ولكنّه أفظع عند رؤيته، إذ يُرى المسمار وهو يختفي داخل اللحم الحيّ، ولكنّه في المقابل أقصر في الوقت. بينما الجَلْد يُنهِك بسبب طول أمده.
بالنسبة لي، احتضار البستان، الجَلْد والصلب لحظات هي الأكثر فظاعة. تكشف لي كلّ عذاب المسيح. الموت يعزّيني، إذ أقول لنفسي: «انتهى!» ولكنّها ليست النهاية، إنّها بداية لآلام جديدة.
الآن يُجَرّ الصليب إلى جوار الحفرة وهو يثب على الأرض غير المستوية، هازّاً المصلوب المسكين. يُرفع الصليب، الّذي أُفلِت مرّتين مِن هؤلاء الّذين يرفعونه، فمرّة يسقط فجأة، ومرّة أخرى على الذراع اليمنى للصليب، مسبّباً آلاماً مبرّحة ليسوع، لأن الارتجاج يحرّك الأعضاء المجروحة. ولكن حينما يُترك الصليب بعد ذلك ليسقط في حفرته، قبل تثبيته بالحجارة والتراب، يتأرجح في كلّ اتّجاه مسبّباً الاهتزازات للجسد المسكين المعلّق بثلاثة مسامير، لا بدّ أنّ الألم فظيع.
كلّ ثقل الجسد يتحرّك إلى الأمام وإلى أسفل، وتتّسع الثقوب، وخاصّة جرح اليد اليسرى، ويتّسع ثقب القدمين في حين يتدفّق الدم بغزارة أكبر. وإن كان دم القدمين يسيل على طول الأصابع إلى الأرض وعلى طول خشبة الصليب، فإنّ دم اليدين يسيل على الساعدين، لأنّ المعصمين أعلى من الإبطين، بسبب الوضعية، ويسيل كذلك على طول الجانبين نازلاً مِن الإبطين إلى الجذع. يتزحزح الإكليل حينما يتأرجح الصليب قبل أن يثبّت بسبب انكفاء الرأس إلى الوراء، فتُغرَز في الرقبة عقدة الأشواك الكبيرة الّتي في نهاية الإكليل الشائك، ثمّ يعود ليثبت على الجبهة ويَخدش، يَخدش بلا رحمة.
أخيراً يثبت الصليب جيّداً في مكانه ولم يعد هناك سوى عذاب التدلّي. ويُرفَع كذلك اللصّان اللذان بمجرّد أن وُضِعا عموديّاً، يصرخان كما لو كان يتمّ سلخهما حيّين مِن جرّاء عذاب الحبال الّتي تحزّ المعصمين وتحيل لون الأيدي إلى السواد، فتنتفخ الأوردة كالحبال. يصمت يسوع. أمّا الجمع فلم يعد يصمت، على العكس، يعاود صخبه الجهنميّ.
أصبح الآن لقمّة الجلجلة نصب تذكاريّ وحارس شرف. في حدّها الأعلى صليب يسوع، وعلى جانبيه الآخران. وحول القمّة نصف مجموعة المئة في حالة استعداد، داخل دائرة الرجال المسلّحين الفرسان العشرة وقد ترجّلوا الآن يقترعون بالنرد على ملابس المحكومين. لونجين يقف بين صليب يسوع والصليب الأيمن. وكأنّه حارس شرف للمَلِك الشهيد. على الدرب الأيسر وعلى الساحة الأكثر انخفاضاً، النصف الآخر لمجموعة المئة، في وضع راحة، بإمرة الضابط المرافق للونجين، منتظرين الإشارة إن كانت هناك حاجة إليهم. الجنود تتملّكهم لامبالاة تكاد تكون تامّة. فقط يرفع أحدهم وجهه أحياناً تجاه المصلوبين.
لونجين، على العكس، يراقب كلّ شيء بفضول واهتمام، يقارن ويُحَكّم عقله. يقارن المصلوبين وخاصّة المسيح بالمشاهدين. عينه النافذة لا تضيّع أيّ تفصيل، وكي يرى أفضل، يحمى بيده عينيه مِن الشمس الّتي تضايقه.
بالفعل هي شمس غريبة، لها لون أصفر محمرّ كَلَون الحريق. ثمّ يبدو أنّ الحريق قد انطفأ فجأة بسبب سحابة سوداء كالقار ظهرت مِن خلف سلسلة جبال اليهوديّة واجتازت بسرعة السماء لتختفي خلف جبال أخرى. وحينما عادت الشمس كانت مشتعلة لدرجة أنّ العين لا تستطيع تحمّلها إلاّ بصعوبة.
وفيما هو ينظر، يرى مريم تماماً أسفل المنحدر، رافعة وجهها الممزّق نحو ابنها. فيستدعي أحد الجنود الّذين يلعبون النرد ويقول له: «إن أرادت الأُمّ الصعود مع الابن المرافق لها فلتصعد. اصحبها وساعدها.»
وتصعد مريم مع يوحنّا، الّذي ظُنّ أنّه ’ابنها‘، السلّم الصغير المنحوت في تكوين الجبل الكلسيّ، على ما أظنّ، وتجتاز صفّ الجنود لتقف تحت الصليب، ولكن على مسافة حتّى يتمكّن يسوعها مِن رؤيتها وتتمكّن هي مِن رؤيته. وفي الحال ينهال عليها الجمع بالسباب المهين للغاية، وقد ألحقوها بالشتائم الموجّهة لابنها. أمّا هي، فبشفتيها المرتعشتين والبيضاويّين، تعمل فقط على مواساته، بابتسامة ممزّقة تُمسَح عليها الدموع الّتي لم تستطع أيّة قوّة إرادة أن تحبسها في عينيها.
الناس، بدءاً مِن الكَهَنَة، الكَتَبَة، الفرّيسيّين، الصدّوقيّين، الهيروديّين وآخرين مِن نفس الطبع، يتسلّون بسيرهم المتواصل على الدرب الصاعد فوراً إلى القمّة، مارّين إلى نهاية المرتفع، ونازلين مِن الدرب الآخر والعكس. وهم وبالمرور مِن أسفل القمّة إلى الساحة الصغيرة الثانية، لا يتورّعون عن توجيه الشتائم بحقّ المحتضر. كلّ الدناءة والوحشيّة وكلّ الكراهية والجنون الّتي يقدر عليها الإنسان باللسان تنطلق كالأمواج مِن تلك الأفواه الشيطانيّة. وأكثرهم هياجاً أعضاء الهيكل مع الفرّيسيّين الّذين يساعدونهم.
«وإذاً؟ أنتَ، يا مخلّص الجنس البشريّ، لماذا لا تخلّص نفسكَ؟ هل هجركَ مَلِككَ بعلزبول؟ وتَبَرّأ منكَ؟» يصيح ثلاثة مِن الكَهَنَة.
وشرذمة مِن يهود: «أنتَ الّذي كنتَ تقول منذ أقلّ مِن خمسة أيّام، بمساعدة الشيطان، للآب... ها! ها! ها! أن يمجدّكَ، كيف إذن لا تُذكّره بالالتزام بوعده؟»
وثلاثة مِن الفرّيسيّين: «مجدّف! خَلَّصَ الآخرين، بمساعدة الله كما كان يزعم! أمّا نفسه فلا يقدر أن يخلّصها! هل تريد أن نؤمن بكَ؟ إذاً اجترح المعجزة. لا تستطيع، أليس كذلك؟ الآن يداكَ مسمّرتان وأنتَ عريان.»
ويقول صدّوقيّون وهيروديّون للجنود: «أنتم الّذين أخذتم ملابسه، اتّقوا السحر! فعليه العلامة الجهنّمية!»
وجمع بصوت واحد: «انزل عن الصليب ونحن نؤمن بكَ. يا هادم الهيكل... مجنون!... انظر هناك، إلى هيكل إسرائيل المقدّس والممجّد. إنه لا يُمسّ، أيّها الـمُدَنِّس! وأنتَ تموت.»
وكَهَنَة آخرون: «مجدّف! أنتَ، ابن الله؟ انزل إذاً مِن هناك. اصعقنا إن كنتَ الله. نحن لا نخشاكَ ونبصق عليكَ.»
وآخرون يمرّون وهم يهزّون رؤوسهم: «لا يعرف سوى البكاء. خلّص نفسكَ، إن كنتَ حقّاً المختار!»
الجنود: «خلّص نفسكَ، إذاً. حَوّل إلى رماد حثالة الحثالة هذه! نعم حثالة الامبراطوريّة، هذا هو أنتم، يا أحقر اليهود. افعل هذا! وستضعكَ روما في الكابيتول وتعبدكَ كإله!»
الكَهَنَة وشركاؤهم: «أذرع النساء كانت أكثر متعة مِن ذراعيّ الصليب، أليس ذلك صحيحاً؟ ولكن انظر: إنّ… (ويقولون كلمة بذيئة) هناك على وشك أن يتلقّفنكَ. إنّ معكَ أورشليم بأكملها كي تكون كما خاطبة لكَ.» ويصفرون كسائقي الطنابر.
وآخرون يُلقون الحجارة: «أنتَ يا مَن تُكثر الخبز، حَوّلها إلى خبز.»
وآخرون إذ يقلّدون هوشعنا أحد الشعانين يُلقون أغصاناً ويصيحون: «ملعون الآتي باسم الشيطان! ملعون ملكوته! المجد لصهيون الّتي فصلته عن وسط الأحياء!»
يقف فرّيسيّ في مواجهة الصليب، يُظهِر قبضته جاعلاً فيها قرنين ويقول: أكنتَ تقول "أَكِلُك [أعهد بك] إلى إله سيناء"؟ الآن إله سيناء يُعدّكَ للنار الأبديّة. لماذا لا تنادي يونان لكي يردّ لكَ الصنيع الحسن؟»
وآخر: «لا تُفسِد الصليب بضربات رأسكَ. ينبغي أن يُستخدَم لاتباعكَ. جيش بأكمله سيموت على خشبتكَ. أُقسِم لكَ باسم يهوه. وسأبدأ بوضع لعازر عليه. وسنرى إن كنتَ تقيمه مِن الموت الآن.»
«نعم! نعم! لنذهب إلى لعازر. لنسمّره مِن الجهة الأخرى مِن الصليب.» ويُقلّدون مثل الببغاوات كلام يسوع البطيء: «لعازر، صديقي، هلمّ خارجاً! حلّوه ودعوه يمضي.»
«لا! كان يقول لمريم ولمرثا، نسائه: "أنا هو القيامة والحياة". ها! ها! ها! القيامة لا تعرف كيف تدفع الموت، والحياة تموت!»
«ها هي مريم مع مرثا. فلنسألهما عن مكان لعازر ونذهب لنجلبه.» ويتقدّمون نحو النساء ليسألوهنّ بغطرسة: «أين لعازر؟ في القصر؟»
ومريم المجدليّة، في الوقت الّذي تهرب النساء المرعوبات خلف الرعاة، تتقدّم، مستعيدة في ألمها جرأة زمن الخطيئة القديم وتقول: «اذهبوا. ستجدون في القصر جنود روما وخمسمائة مِن الرجال المسلّحين مِن أراضيّ سيُخصونكم مثل تيوس عجائز مُعَدّة لوجبات عبيد الرحى.»
«وَقِحة! أهكذا تكلّمين الكَهَنَة؟»
«يا مُدَنِّسي القدسيّات! أيّها المقزّزون! الملعونون! استديروا! فخلفكم، أنا أراها، ألسنة النار الجهنميّة.»
يستدير الجبناء، في رعب حقيقيّ، بقدر ما هو واثق تأكيد مريم، ولكن إن لم تكن ألسنة اللهب خلفهم، فرماح رومانيّة حادّة مسدّدة إلى الكلى. بالفعل، فقد أصدر لونجين أمراً، ونصف مجموعة المئة الّتي كانت في الاستراحة، تدخل في الحراسة، وهؤلاء يَخِزون أرداف أوائل مِن يصادفونهم برماحهم. فيهربون وهم يصيحون، ويبقى نصف مجموعة المئة لسدّ مدخليّ الدربين وتكوين حاجز في الساحة الصغيرة. يُطلِق اليهود اللعنات، ولكنّ روما هي الأقوى.
ترخي مريم المجدليّة وشاحها -وكانت قد رفعته لتتكلّم مع الّذين كانوا يهينونها- وتعود إلى مكانها. وتلحق بها الأخريات.
ولكنّ اللصّ الأيسر يستمرّ في الإهانات مِن أعلى صليبه. يبدو أنّه أراد أن يجمع كلّ شتائم الآخرين ويكرّرها جميعاً، قائلاً في النهاية: «خلّص نفسكَ وخلّصنا، إن كنتَ تريد أن نؤمن بكَ. المسيح، أنتَ؟ أنتَ مجنون! العالم هو للماكرين والله غير موجود. أنا موجود. هذا حقيقيّ، وكلّ شيء متاح لي. الله؟ كلام فارغ! وَضْع كي نبقى في سكون. فلتحيَ ذاتنا! هي وحدها الـمَلِكة والآلهة!»
اللصّ الآخر الّذي على اليمين ينظر إلى مريم، الّتي تكاد تكون عند قدميه، وينظر إليها أكثر ممّا ينظر إلى المسيح. منذ برهة وهو يبكي متمتماً: «الأُمّ.» يقول: «اصمت. ألا تخاف الله، حتّى الآن وأنتَ تحت هذا الحكم؟ لماذا تهين الصالح؟ وعذابه أشدّ مِن عذابنا. وهو لم يفعل شرّاً.»
ولكنّ الآخر يستمرّ في اللعنات.
يسوع يصمت. وهو يلهث بسبب الجهد الّذي يفرضه عليه وضعه، بسبب الحمّى، بسبب حالته القلبيّة والتنفّسيّة، نتيجة لقسوة الجَلْد الّذي تلقّاه بطريقة عنيفة، كذلك الضيق العميق الّذي جعله يعرق دماً، يحاول الحصول على تعزية، بتخفيف الثقل الّذي يثقل قدميه، فيتعلّق بيديه بقوّة ذراعيه. ربما يفعل ذلك ليتغلّب قليلاً على التشنّج الّذي يؤلم قدميه ويفضحه ارتعاش عضليّ. ولكنّ نفس الرعشة تصيب أوتار الذراعين الّتي أُجهِدت في هذا الوضع وأثلجت عند أطرافها، لأنّ وضعهما في الأعلى وصعوبة وصول الدم إلى المعصمين ثمّ سيلانه مِن ثقبيّ المسمارين جاعلة الأصابع بلا دورة دمويّة. وخاصّة أصابع اليد اليسرى الّتي تيبّست وبقيت بلا حراك، منثنية على راحة اليد. حتّى أصابع القدمين توحي بالعذاب. الإبهامان بشكل خاصّ، ربّما لأنّ عصبيهما كانا أقلّ إصابة، يرتفعان، ينخفضان، ويتباعدان.
ثمّ يكشف الجذع عن معاناته كلّها بحركته السريعة ولكن السطحيّة الّتي أتعبته دون تسكينه. الأضلاع المتّسعة جدّاً والمرتفعة بتكوينها، بسبب بنية جسده الكاملة، هي الآن متمدّدة أكثر ممّا ينبغي بسبب الوضع الّذي اتّخذه الجسد والوذمة الرئويّة الّتي تكوّنت في الداخل بالتأكيد. ومع ذلك لم يُجْدِ في التخفيف مِن جهد التنفّس أكثر مِن كون البطن كله يساعد بحركته الحجاب الحاجز الّذي يُشلّ باطّراد. يزداد الاحتقان والاختناق دقيقة إثر دقيقة، كما يدلّ اللون المزرقّ الّذي يخطّ الشفتين بلون أحمر تضرمه الحمّى، والاستطالات باللون الأحمر البنفسجيّ تطلي العنق على طول الأوردة الوداجيّة المنتفخة، وتتّسع حتّى الخدّين، باتّجاه الأذنين والصدغين، بينما الأنف ضامر فاقد الدم، والعينان غائرتان في دائرة شاحبة محرومة مِن الدم الّذي أساله الإكليل.
تحت قوس الأضلاع الأيسر نرى الضربة الممتدّة بدءاً مِن طرف القلب، غير منتظمة، ولكن عنيفة، ومِن وقت إلى آخر بفعل تشنّج باطنيّ، تصيب رعشة عميقة الحجاب الحاجز وتَظهر في انبساط كامل في الجلد بقدر ما يستطيع هذا الجسد المسكين المجروح والمحتضر مِن التمدّد.
الوجه له نفس المظهر الّذي نراه في صورة الكفن، الأنف مائل ومنتفخ مِن جهة، حتّى إنّ إبقاء العين اليمنى مغلقة تقريباً نتيجة التورّم الّذي أصاب تلك الجهة، يزيد التشابه. الفم على العكس، مفتوح، مع جرح فيه على الشفة العليا وقد تحوّل إلى قشرة.
لا بدّ أن العطش، بسبب فقدان الدم والحمّى والشمس، كان شديداً. لدرجة أنّه، بحركة آليّة، يشرب قطرات عرقه ودموعه، وأيضاً قطرات الدم النازلة مِن الجبهة إلى الشاربين، فيرطّب لسانه… إكليل الشوك يمنعه مِن الاستناد على عود الصليب كي يساعد في الارتكاز على الذراعين والتخفيف عن القدمين. الكليتان وكلّ الفقرات الظهريّة تتقوّس إلى الخارج، وتبقى منفصلة عن عود الصليب مِن الحوض إلى أعلى، بسبب قوّة القصور الذاتيّ الّتي تجعل جسداً معلّقاً كما كان جسده ينحني إلى الأمام.
لم يتوقّف اليهود المطرودون خارج الفسحة الصغيرة عن الإهانات، واللصّ غير التائب صدى لهم. الآخر، الّذي ينظر الآن إلى الأُمّ بشفقة تتعاظم باستمرار ويبكي، يجيبه بحدّة حينما يدرك أنّ الإهانات تتضمّنها هي أيضاً.
«اصمت! تذكّر أنّكَ وُلِدتَ مِن امرأة. وفكّر أنّ أُمّينا بكتا بسبب ولديهما. وبكتا بدموع خجل... لأنّنا مجرمان. ماتت أُمّانا... كم أودّ أن أطلب منها الغفران... ولكن هل سأستطيع ذلك؟ كانت قدّيسة.. وقتلتُها مِن الألم الّذي سبّبتُه لها... أنا خاطئ ... مَن يغفر لي؟ أيّتها الأُمّ، باسم ابنكِ الّذي يموت، صلّي مِن أجلي.»
ترفع الأُمّ للحظة وجهها المعذّب وتنظر إليه، هذا التعس الّذي تقوده ذكرى أُمّه وتَأمّله في الأُمّ إلى التوبة، وبدت كأنّها تلاطفه بنظراتها الّتي ليمامة.
يبكي ديماس بأكثر شدّة، الأمر الّذي يثير أكثر سخريات الجمع ورفيقه. يصيح الجمع: «أحسنتَ! اتّخذها لكَ أُمّاً. هكذا يكون لها ابنان مجرمان!» واللصّ بازدراء: «إنها تحبّكَ لأنّكَ صورة مصغّرة مِن محبوبها.»
يسوع يتكلّم لأوّل مرّة: «يا أبتاه، اغفر لهم لأنّهم لا يدرون ماذا يفعلون!»
هذه الصلاة تنتصر على كلّ خوف لدى ديماس. يتجرّأ على النظر إلى المسيح ويقول: «اذكرني يا ربّ متى جئتَ في ملكوتكَ. أنا أتألّم بعدل هنا. ولكن هبني الرحمة والسلام بعد الحياة. سمعتُكَ مرّة تتكلّم، وأنا مِن جنوني رفضتُ كلامكَ. الآن أنا نادم. أندم على خطاياي أمامكَ، يا ابن العليّ. أؤمن أنّكَ أتيتَ مِن الله. أؤمن بقدرتكَ. أؤمن برحمتكَ. أيّها المسيح، اغفر لي باسم أُمّكَ وباسم أبيكَ القدّوس.»
يلتفت يسوع وينظر إليه بشفقة عميقة وابتسامة ما زالت جميلة للغاية مِن فمه المسكين المعذّب. ويقول: «وأنا أقول لكَ: اليوم تكون معي في الفردوس.»
يهدأ اللصّ التائب، ولعدم تذكّره الصلوات الّتي تعلّمها في طفولته، يردّد كدعاء: «يا يسوع الناصريّ، مَلِك اليهود، ارحمني. يا يسوع الناصريّ مَلِك اليهود، رجائي فيكَ. يا يسوع الناصريّ مَلِك اليهود، أؤمن بألوهيّتكَ.»
أمّا الآخر فيصرّ على تجديفه.
صارت السماء تُظلِم أكثر باطّراد. الآن أصبح مِن الصعب أن تنفرج الغيوم لتُمرّر الشمس. بل تتكدّس طبقات أكثر قتامة، بياضاً، اخضراراً، تسيطر، تنسحب حسب نزوات ريح باردة تجتاز السماء على فترات، ثمّ تهبط إلى الأرض ثمّ تهدأ مِن جديد، والجوّ أكثر شؤماً حينما يصمت، فهو خانق ومميت، وحينما يصفر فهو قاطع وسريع.
في البداية، النور الّذي كان ساطعاً فوق القياس، على وشك أن يصبح مخضرّاً. والوجوه تتّخذ مظاهر غريبة. الجنود، تحت خوذاتهم وفي دروعهم اللامعة في البدء وقد أصبحت الآن مغلّفة بنور مخضرّ وتحت سماء مِن رماد، فيبدون بقسمات قاسية وكأنّها منحوتة. اليهود، الّذين أغلبهم سمر البشرة والشعر واللحية، يبدون غرقى بقدر ما كانت وجوههم هَلِعة. أمّا النساء فقد ظهرن كتماثيل مِن الثلج المزرورق بسبب شحوبهنّ الّذي هرب منه الدم وقد أبرزه النور.
يبدو يسوع وكأنّه أصبح ممتقعاً بشكل مروّع، وكما لو كان موشكاً على التحلّل، كما لو كان ميتاً بالفعل. يبدأ رأسه يهوي على صدره. تخور قواه بسرعة. يرتعش رغم الحمّى الّتي تحرقه. وفي ضعفه يهمس بالاسم الّذي نطقه وحده في البداية مِن أعماق قلبه: «ماما!»، «ماما!». يهمسه ببطء كما لو كان يزفر، كما لو كان يشعر بهذيان خفيف يمنعه مِن التمالك بالقدر الّذي تودّ إرادته ذلك. ومريم في كلّ مرة لا تستطيع أن تحجم عن مدّ ذراعيها له كما كي تعينه.
القساة يضحكون مِن تشنّج المحتضر هذا ومِن تلك الّتي تشاركه. ومِن جديد يصعد الكَهَنَة والكَتَبَة خلف الرعاة إلى الساحة الصغيرة المنخفضة. وبما أنّ الجنود يودّون دفعهم، يثورون قائلين: «ألا يقف هنا هؤلاء الجليليّون؟ نحن أيضاً نريد أن نقف هنا كي نتثبّت مِن تحقّق العدل بالكامل، ولا يمكننا أن نرى مِن بعيد في هذا النور الغريب.»
بالفعل، يتأثّر الكثيرون مِن النور الّذي يوشك أن يغلّف العالم، والبعض يخافون. كذلك الجنود يشيرون إلى السماء وإلى أحد الأشكال المخروطيّة كأنّه مِن صخر رماديّ مِن فرط ما هو قاتم، والّذي يرتفع مثل كوز الصنوبر مِن خلف إحدى القمم. يبدو وكأنّه إعصار بحريّ. يرتفع ويرتفع ويبدو أنّه يُنتِج سُحُباً تزداد سواداً باطّراد، كما لو كان بركاناً يتقيّأ دخاناً وحِمماً.
وفي هذا النور الغسقيّ والمرعب يعطي يسوع يوحنّا لمريم ومريم ليوحنّا. يميل برأسه، إذ قد وقفت الأُمّ في مكان أقرب تحت الصليب كي ترى أفضل، ويقول لها: «يا امرأة هو ذا ابنكِ. يا بنيّ هذه أُمّكَ.»
يزداد اضطراب وجه مريم بعد هذا القول الّذي هو وصيّة يسوعها، الّذي لا يملك شيئاً يعطيه لأُمّه سوى إنسان. هو الّذي، حُبّاً بالإنسان، حَرَمها مِن الله-الإنسان الّذي وُلِد منها. ولكنّها، وهي الأُمّ المسكينة، تجتهد في ألاّ تبكي إلاّ بصمت لأنّها لا تقدر، لا تقدر ألّا تبكي. تسيل دموعها رغم الجهود الّتي تبذلها كي تحبسها، ولو أنّها ثَبَّتَت ابتسامة ممزّقة على شفتيها مِن أجله، كي تواسيه هو…
لم تتوقّف الآلام عن التعاظم ولم يتوقّف النور عن الخفوت.
وفي هذا النور الآتي مِن عمق البحر يخرج مِن خلف اليهود نيقوديموس ويوسف، ويقولان: «ابتعدوا!»
«لا يمكن! ماذا تريدان؟» يقول الجنود.
«المرور. نحن صديقان للمسيح.»
يلتفت رؤساء الكَهَنَة: «مَن يجرؤ على الإعلان أنّه صديق المتمرّد؟» يقول الكَهَنَة ساخطين.
ويوسف، بجرأة: «أنا النبيل عضو مجلس المشورة العظيم: الشيخ يوسف الذي مِن الرّامة، ومعي نيقوديموس، رئيس اليهود.»
«مَن يتواطأ مع المتمرّد، هو متمرّد.»
«ومَن يتواطأ مع القتلة هو قاتل، يا إليعازر بن حنّان. أنا عشتُ كما بارّ والآن أنا كهل قريب مِن الموت. ولا أريد أن أصبح ظالماً بينما السماء تنـزل عليّ ومعها الديّان الأبديّ.»
«وأنتَ يا نيقوديموس! أنا مندهش!»
«وأنا أيضاً، ومِن شيء واحد: هو أنّ إسرائيل صارت فاسدة للغاية لدرجة أنّها لم تعد تعرف الله.»
«أنتَ تقزّزني.»
«ابتعد إذن ودعني أمرّ. لا أطلب سوى هذا.»
«كي تتدنّس أكثر بعد؟»
«إن لم أكن قد تدنّستُ بالبقاء بالقرب منكم، فلا شيء بعد يدنّسني. أيّها الجنديّ خذ لكَ هذا الكيس وتصريح المرور.» ويعطي قائد العشرة الأقرب كيساً ولوح شمع.
يأخذ قائد العشرة عِلماً ويقول للجنود: «دعوا الاثنين يمرّان.»
يقترب يوسف ونيقوديموس مِن الرعاة. لا أعرف حتّى إذا ما كان يسوع يراهما، في هذا الضباب الّذي يزداد كثافة باطّراد ونظره الّذي يضفي النـزاع عليه غشاوة. ولكنّهما ينظران إليه ويبكيان دون أيّ اعتبار بشريّ، رغم اللعنات الّتي انصبّت عليهما مِن الكَهَنَة.
تتعاظم الآلام باطّراد. ويختبر الجسد تحدّبات التكزّز الأولى يفاقمها كلّ صخب مِن الجمع. يمتدّ موت الأنسجة والأعصاب مِن الأطراف المعذّبة إلى الجذع، جاعلاً حركة التنفّس أصعب فأصعب، وتَقَلّص الحجاب الحاجز أضعف وضربات القلب أكثر اضطراباً. ويتحوّل وجه المسيح بالتناوب مِن حُمرة حادّة إلى شحوب مخضرّ لمن يموت مِن النـزيف. الفم يتحرّك بتعب أكبر، إذ إنّ أعصاب الرقبة والرأس مجهدة للغاية مِن استخدامها كرافعة لكلّ الجسد عشرات المرّات، بالاستناد على عارضة الصليب، فتنشر التشنّج العضليّ حتّى الفكّ. الحلق المتورّم مِن الشرايين السباتيّة المحتقنة، يُسبّب ألماً ويجعل الوذمة تمتدّ إلى اللسان الّذي يَظهر متضخّماً وحركاته بطيئة جدّاً. أمّا العمود الفقريّ، حتّى في الفترات الّتي لا تجعله التشنّجات التكزّزيّة ينحني إلى قوس كامل مِن مؤخّرة العنق إلى الوركين، حيث يرتكز كنقاط متطرّفة على جذع الصليب، يتقوّس أكثر فأكثر إلى الأمام، ذلك أنّ الأطراف لا تكفّ عن التثاقل مِن ثقل الجسد الميت.
يرى الناس هذه الأشياء قليلاً وبصعوبة لأنّ النور صار الآن بلون الرماد الداكن، وفقط الّذين هم تحت عود الصليب يمكنهم الرؤية جيّداً.
في لحظة معيّنة ينكفئ يسوع إلى الأمام وإلى الأسفل كما لو كان ميتاً، لم يعد يلهث، والرأس يتدلّى بلا حراك إلى الأمام. الجسد مِن الوركين إلى أعلى منفصل تماماً مشكّلاً زاوية مع ذراعيّ الصليب.
تُطلِق مريم صيحة: «لقد مات!» صيحة أليمة تسري في الجوّ المظلم. ويسوع يبدو حقّاً ميتاً.
تردّ عليها صيحة أخرى مِن امرأة، وأرى حركة وسط مجموعة النساء. ثمّ يبتعد عشرة أشخاص وهم يحملون شيئاً ما. ولكنّني لم أستطع أن أتبيّن مَن الّذي يبتعد هكذا. كان الضوء الضبابيّ ضعيفاً جدّاً. تحسب المرء غائصاً في غيم كثيف مِن الرماد البركانيّ.
«مستحيل.» يصيح كَهَنَة ويهود. «مُخاتَلة كي نبتعد. أيّها الجنديّ انكزه برمحكَ. فهذا دواء ناجع ليعيد له الصوت.» ولأنّ الجنود لم يفعلوا هذا، ينهال وابل مِن الحجارة وكتل الأتربة نحو الصليب، ضارباً الشهيد وساقطاً على الدروع الرومانيّة.
الدواء، كما يقول اليهود بسخرية، صنع المعجزة. بالتأكيد إحدى الحجارة ربما ضربت مباشرة جرح إحدى اليدين أو الرأس نفسه، إذ إنّهم كانوا قد ألقوها إلى أعلى. يُطلِق يسوع أنيناً يدعو للرثاء ويرجع إلى نفسه. يعود الصدر إلى التنفّس بكثير مِن الألم والرأس بالدوران مِن اليمين إلى اليسار بحثاً عن موضع يستريح فيه كي يكون الألم أقلّ، فلا يجد سوى ألم أشدّ.
ومرّة أخرى، بعناء شديد، مستنداً على قدميه المعذبتين، مستمدّاً القوّة مِن إرادته، منها فقط، يتصَلّب يسوع على الصليب، يستقيم كما لو كان رجلاً سليماً وبكلّ قوّته، يرفع وجهه وهو ينظر بعينين مفتوحتين إلى العالم الّذي يمتدّ تحت قدميه، المدينة البعيدة الّتي ترى بالكاد مثل بياض متماوج في الضباب، والسماء السوداء حيث اختفى كلّ ازرقاق وكلّ أثر للنور. وصوب هذه السماء المغلقة، الكثيفة، المنخفضة، المشابهة لسبّورة كبيرة سوداء داكنة، يُطلِق صيحة عظيمة، منتصرة بقوّة إرادته، باحتياج نفسه، بعائق فكّيه المتصلّبين، بلسانه المنتفخ، بحلقه المتورّم: «إيلوي، إيلوي، لما شبقتني!» (هكذا سمعته يقولها).
لا بدّ أنّه شعر بالموت، وبهجر مطلق مِن السماء، كي يجاهر بهجر الآب بصيحة عظيمة كهذه.
يضحك الناس ويسخرون منه. ويهينونه: «ليس لله شأن بكَ! فالشياطين يلعنهم الله!»
ويصيح آخرون: «فلنرَ إن كان إيليا، الّذي يناديه، يأتي ليخلّصه.»
وآخرون: «اعطوه قليلاً مِن الخلّ لكي يغرغر به حلقه. هذا مفيد للصوت! إيليا أم الله، لأنّنا لا نعلم ماذا يريد هذا المجنون، هما بعيدان... يتطلّب الأمر صوتاً كي يتمّ السماع!» ويضحكون كضباع أو كأبالسة.
ولكن لم يعطه أيّ مِن الجنود خلاًّ ولم يأتِ أحد مِن السماء لمواساته. إنّه احتضار الضحيّة العظيمة، المنفرد، الكامل، الأليم، بل هو فائق الطبيعة في شدّته.
ويعود مِن جديد وابل الآلام الموحشة تلك الّتي أضنته في جَثْسَيْماني. يعود مِن جديد وابل خطايا العالم كلّه لضرب الغريق البريء، لالتهامه في مرارتها. وبالأخصّ يعود مِن جديد الإحساس، الأكثر صَلباً مِن الصليب نفسه. الباعثة على اليأس أكثر مِن كلّ عذاب، المتمثّل في أنّ الله تركه وصلاته لا تصعد إليه…
وهذا هو العذاب النهائيّ. ذلك الّذي يسرّع الموت، إذ يجعل آخر قطرات الدم تعبر مِن المسامّ، لأنّه يسحق آخر أنسجة القلب، لأنّه يتمّ ما بدأته أوّل دراية بهذا الهجر: الموت. ذلك أنّها كانت السبب الأوّل لموت يسوعي، أيا الله، يا مَن ضربتَه بسببنا!
بعد هجركَ، وبفعل هجركَ، ماذا يصبح مخلوق؟ إمّا مجنوناً أو ميتاً. ولم يكن ممكناً ليسوع أن يصير مجنوناً، ففطنته كانت إلهيّة، وفطنته الإلهيّة تلك، كانت تنتصر على الصدمة النفسيّة الكاملة لمن كان الله قد ضربه. إذن، صار ميتاً: الميت، الميت الفائق القداسة، الموت مطلق البراءة. مات هو الّذي كان الحياة، قتله هجركَ وخطايانا.
تتكاثف الظلمة. تختفي أورشليم بالكامل. منحدرات الجلجلة نفسها تبدو كأنّها أُلغيَت. وحدها القمّة مرئيّة، كما لو أن الظلمات كانت ترفعها عالياً لتستقبل الضوء الوحيد والأخير الّذي كان باقياً، مقدّمة إيّاها كما تقدّمة مع نصبها الإلهيّ، على غطاء مِن العقيق السائل. كي تراه عيون الحبّ والكره.
ومِن هذا الضوء الّذي ليس بالضوء يأتي صوت يسوع النائح: «أنا عطشان!»
بالفعل كانت هناك ريح تُتلِف حتّى مَن كان في أتمّ صحّة، ريح متواصلة والآن عنيفة، محمّلة بالغبار، باردة، مرعبة. أفكّر بالألم الّذي يسبّبه عنف هبوبها على الرئتين والقلب، على حلق يسوع، على أعضائه المثلّجة، المسترخية، والمجروحة. إنّما حقّاً كلّ شيء حلّ يعذّب الشهيد.
يذهب أحد الجنود إلى وعاء وضع فيه مساعدو الجلاّد خلاًّ مع العلقم، لأنّ مرارته تساعد على زيادة إفراز اللعاب عند المعذّبين. يأخذ الإسفنجة المغموسة في السائل، يغرزها في نهاية قصبة رفيعة ومع ذلك هي صلبة مهيّأة على مقربة، ويقدّم الإسفنجة للمحتضر. يتطاول يسوع بلهفة نحو الإسفنجة الّتي تقترب. تحسبه طفلاً جائعاً يبحث عن صدر أُمّه.
مريم الّتي تنظر وقد راودتها الفكرة بالتأكيد، تئنّ مستندة على يوحنّا: «آه! وأنا لا أقدر منحه ولو قطرة مِن دموعي... آه! لماذا يا صدري لم تعد تدرّ حليباً؟ آه! يا الله لماذا، لماذا تتركنا هكذا؟ معجزة لابني! مَن يرفعني كي أروي له ظمأه مِن دمي، بما أنّه لم يعد لديّ حليب؟...»
يسوع الّذي مصّ بلهفة السائل اللاذع والمر، يدير رأسه المشمئزّ. وعلاوة على ذلك، لا بدّ أنّ هذا الشراب كان حارقاً لشفتيه المجروحتين والمشقّقتين. يبتعد، ينهار ويستسلم.
كلّ ثقل جسده يقع على القدمين وإلى الأمام. الأطراف المجروحة هي الّتي تعاني مِن الآلام الفظيعة بانفتاحها تحت ثقل جسد يستسلم. لم تعد هناك حركة تُسَكّن هذا الوجع. الحوض وما فوقه منفصل تماماً عن الخشب ويبقى هكذا.
يميل الرأس إلى الأمام بتثاقل لدرجة أنّ العنق يبدو مقعّراً في ثلاثة مواضع: مِن الحلق الغائر بالكامل، ومِن طرفي القصّ [عضلتيّ الرقبة]. التنفّس لاهث أكثر فأكثر ومتقطّع. لقد أصبح حشرجة إغمائيّة أكثر مِن كونه تنفّساً. مِن وقت إلى آخر فرط سعال أليم يجلب إلى الشفاه زبداً ورديّاً خفيفاً. تصبح المدّة الفاصلة بين زفير وزفير أطول. لم يعد البطن يتحرّك؟ فقط الصدر ما يزال يرتفع، ولكن بكثير مِن الصعوبة والمشقّة... ويتفاقم الشلل الرئويّ باطّراد.
وبضعف مطّرد، مستحيلاً إلى نوح طفوليّ، يناديها: «ماما!» والتعسة تتمتم: «نعم، يا كنـزي، أنا هنا.» وحينما يغشى بصره يقول: «أُمّي، أين أنتِ؟ لم أعد أراكِ. هل تهجرينني أنتِ أيضاً؟» ولم يعد حتّى كلاماً، بل تمتمة بالكاد مسموعة، حيث يستقبل القلب أكثر مِن الأذن كلّ تنهّدات المحتضر. فتقول: «لا، لا يا بنيّ! أنا لا أترككَ! اسمعني يا محبوبي... ماما هنا، هي هنا... وعذابها الوحيد أنّها لا تقدر المجيء إلى حيث أنتَ...»
مشهد تمزّق... ويوحنّا يبكي دون أن يتمالك نفسه. لا بدّ أنّ يسوع يسمع هذا البكاء، ولكنّه لا يقول شيئاً. أعتقد أنّ الموت الوشيك يجعله يتكلّم كما لو كان يهذي ولا يدري حتّى ما يقول، وللأسف، لا يدرك حتّى تعزية الأُمّ ولا محبّة المفضل.
لونجين -الّذي ترك وضع الراحة عن غير قصد، حيث كان واقفاً مكتوف اليدين على صدره وساقاه متصالبتان، يتّكئ على إحداها تارّة وعلى الثانية تارّة أخرى كي يريحهما بسبب طول الانتظار، هو الآن، على العكس، يقف متصلّباً في وضع استعداد، اليد اليسرى على سيفه، واليمنى ممدّدة بجوار جسده كما لو كان يسير على أعتاب العرش الإمبراطوريّ- لا يريد أن يتأثّر. ولكنّ وجهه يتبدّل بسبب الجهد الّذي يبذله كي يغلب انفعاله، وتلمع عيناه بدمعة احتجزها فقط انضباطه الصارم.
الجنود الآخرون، الّذين كانوا يلعبون النرد، توقّفوا، ووقفوا ليضعوا خوذاتهم الّتي كانت قد استُخدمت في تحريك النرد، ويلبثون في مجموعة بالقرب مِن السلّم الصغير المحفور في تكوين الجبل الكلسيّ، بصمت وانتباه. الآخرون في الخدمة ولا يمكنهم أن يبرحوا أماكنهم. يبدون كأنّهم تماثيل. ولكنّ أحدهم الأكثر قرباً، والّذي يسمع كلام مريم، يتمتم بشيء بين شفتيه ويهزّ رأسه.
صَمْت. ثمّ، بوضوح في الظلمة التامّة، العبارة: «لقد تمّ!» بعد ذلك اللهاث يتعاظم أكثر فأكثر، مع فترات صمت أطول بين الحشرجات.
يجري الوقت على هذا الإيقاع الـمُقلِق. تعود الحياة حينما يشقّ الصمت اللهاث المرّ للمحتضر... وتتوقّف الحياة حينما لا يُسمَع هذا الصوت الأليم.
معاناة في سماعه... ومعاناة في عدم سماعه... يقال: «كفى عذاباً!» ويقال: «آه! يا الله! لا يكن هذا نَفَسَه الأخير.»
تبكي كلّ المريمات، رؤوسهنّ على المنحدر. ويُسمَع جيّداً بكاؤهنّ لأنّ الجمع يصمت ثانية الآن كي يتلقّى حشرجات المنازع.
صَمْت آخر بعد. ثمّ تضرّع يُنطَق بعذوبة لانهائيّة، في صلاة حارّة: «أبتي، بين يديكَ أستودع روحي!»
صَمْت آخر. الحشرجة أيضاً تصير خفيفة. لم تعد سوى نَفَس يخرج مِن بين شفتيه وحلقه.
ثمّ ها هو التشنّج الأخير ليسوع. اختلاج مخيف، يبدو وكأنّه يريد أن ينتزع الجسد مِن الخشبة المثبّت عليها بثلاثة مسامير، يصعد ثلاث مرات مِن القدمين إلى الرأس، يسري عبر كلّ الأعصاب المسكينة المعذّبة؛ يرفع الجذع ثلاث مرّات بطريقة غير طبيعيّة، ثمّ يتركه بعد أن يمدّده وكأنّه اضطراب للأحشاء، فيهوي ويتقعّر كما لو كان قد فُرِّغ؛ ثمّ يرتفع، ينتفخ، يعصر بشدة الصدر فيتقعّر الجلد بين الضلوع الّتي تتوتّر وهي تظهر تحت البشرة وفاتحة جروح الجَلْد؛ فتجعل الرأس يرتدّ إلى الخلف بعنف مرة، اثنتين، ثلاث مرّات، فيضرب الخشب بقسوة؛ تنقبض كلّ عضلات الوجه بتشنّج واحد، فيظهر انحراف الفم تجاه اليمين، فيُفتَح ويُبسَط الجفنان حيث يُرى تحتهما دوران كرة العين وظهور البياض. يتوتّر الجسد كلّه؛ وفي آخر تقلّص مِن التقلّصات الثلاثة، يصبح قوساً ممدّداً، مرتعشاً، مريع المنظر، ثمّ صرخة قويّة، غير مُتَخَيَّلة من هذا الجسد المنهك، تنطلق، تُمزّق الجوّ «الصيحة العظيمة» الّتي تتحدّث الأناجيل عنها وهي المقطع الأوّل مِن كلمة «ماما»... ثمّ لا شيء…
يهوي الرأس مجدَّداً على الصدر، الجسم إلى الأمام، تتوقّف الرعشة ويتوقّف أيضاً التنفّس. لقد مات.
تجيب الأرض على صرخة المقتول بزمجرة مرعبة. وكأنّ ألف بوق للعمالقة تُخرِج صوتاً موحّداً، وعلى هذا التناغم المرعب، ها هي العلامات الموحشة، تَـمَزُّقٌ للبرق الّذي يشقّ السماء في كلّ اتّجاه، ساقطاً على المدينة، على المعبد، وعلى الجمع... أعتقد أنّ البعض قد صُعِق، لأنّ الجمع قد ضُرِب بشكل مباشر. البروق هي النور الوحيد وغير المنتظم الّذي يتيح الرؤية.
ثمّ فجأة، وأثناء استمرار وابل الصواعق، ترتجّ الأرض في زوبعة ريح إعصاريّة. يمتزج زلزال الأرض والإعصار لإنزال العقاب الرؤيويّ بالمجدّفين. تتموّج قمّة الجلجلة وترقص مثل طبق في يد مجنون، بهزّات وترنّحات شديدة تهزّ الصلبان الثلاثة حتّى لتبدو وكأنّها ستقلبها.
لونجين، يوحنّا والجنود يتشبّثون حيث يتمكّنون مِن ذلك، بقدر استطاعتهم، تحسّباً مِن السقوط. أمّا يوحنا فبينما يتشبّث بالصليب بيد، يسند مريم بالأخرى، الّتي بسبب الألم والهزات، تلتجئ إلى صدره. الجنود الآخرون، وخاصة أولئك الّذين عند حافّة المنحدر، يهرعون إلى الوسط، كيلا يُرموا إلى أسفل المنحدر. يصيح اللصّان رعباً، يصرخ الجمع بقوّة أكبر ويودّون الفرار، ولكن بلا جدوى. يسقط بعضهم فوق بعض، يهرس بعضهم بعضاً، يتدهورون في شقوق التربة، يُجرّحون، يتدحرجون على طول المنحدر، يصبحون مجانين.
يتكرّر ثلاث مرات زلزال الأرض وإعصار الهواء، ثمّ هو السكون المطلق لعالم ميت. فقط بروق تشقّ السماء بلا رعود، وتضيء مشهد اليهود الّذين يهربون في كلّ اتّجاه، أياديهم في شعورهم أو ممتدّة إلى الأمام، أو مرفوعة نحو السماء، الّتي احتقروها والآن هم خائفون منها. يخفّف الظلمة لمعان منير، يساعده الانبعاث الصامت والمغناطيسيّ للبروق، ممّا يتيح رؤية أنّ كثيرين ظلّوا على الأرض: أمواتاً أو في حالة إغماء، لا أعرف. منـزل يحترق داخل الأسوار واللهيب يتصاعد مستقيماً في الهواء الساكن، وقد أضفى مسحة حمراء زاهية على الأخضر الرماديّ الّذي للجوّ.
ترفع مريم رأسها مِن على صدر يوحنّا وتنظر إلى يسوعها. تناديه إذ إنّها لا تراه جيّداً في النور الضعيف وبعينيها المسكينتين المليئتين بالدموع. تناديه ثلاثاً: «يسوع! يسوع! يسوع!» هذه أوّل مرّة تناديه فيها باسمه منذ وصوله إلى الجلجلة. أخيراً، في وميض برق يُشكّل إكليلاً على قمّة الجلجلة تراه، بلا حراك، مائلاً بكلّيته إلى الأمام، رأسه منكّس للغاية إلى الأمام، جهة اليمين، لدرجة أنّه يلمس كتفه بالخدّ والأضلاع بالذقن، وتدرك. تمدّ يديها المرتعشتين في الظلمة وتهتف: «ابني! ابني! ابني!» ثمّ تُنصِت... فمها مفتوح وتبدو وكأنّها تريد أن تسمع حتّى به، كما قد وَسّعت العينين كي ترى، كي ترى... لا يمكنها تصديق أنّ يسوعها لم يعد موجوداً…
يوحنّا، الّذي نظر أيضاً واستمع وفهم أنّ كلّ شيء قد انتهى. يحتضن مريم ويحاول إبعادها قائلاً: «لم يعد يتألّم.»
ولكن قبل أن يُكمِل الرسول جملته، مريم، الّتي أدركت، تفلت منه، وتدور حول نفسها، تنحني نحو الأرض، تضع يديها على عينيها وتهتف: «لم يعد لي ابن!»
ثمّ تترنّح وتوشك على السقوط لولا أنّ يوحنّا كان قد تقبّلها على صدره، ثمّ يجلس على الأرض كي يسندها على صدره بشكل أفضل، ريثما حلّت المريمات محلّ الرسول لدى الأُمّ إذ بالفعل لم تعد تمنعهنّ دائرة الجنود العليا، إذ إنّهم، الآن وقد هرب اليهود، قد اجتمعوا في الساحة الصغيرة بالأسفل ليُعلّقوا على الحدث.
تجلس المجدليّة حيث كان يوحنّا، وتكاد تمدّد مريم على ركبتيها، وهي تسندها بين ذراعيها وصدرها، مُقَبّلة وجهها الّذي هرب منه الدم، منحنية على كتفها مشفقة عليها. أمّا مرثا وسُوسَنّة، فبإسفنجة ونسيج مبلل بالخل، تغسلان صدغيها ومنخريها، بينما أخذت سلفتها مريم تُقَبّل يديها وهي تناديها بصوت ممزّق، وما أن تفتح مريم عينيها، وتلتفت إليها بنظرة جعلها الألم بليدة، حتّى قالت لها: «ابنتي، ابنتي الغالية، اسمعيني... قولي لي إنّكِ ترينني... أنا مريمتكِ... لا تنظري إليّ هكذا...» وبعد أن فتحت أوّل شهقة حلق عينيّ مريم وسالت الدموع الأولى، تقول مريم الطيّبة الّتي لحلفى: «نعم، نعم، ابكي... هنا معي، كما مع أُمّ، مسكينتي، الابنة القدّيسة»، وحينما سَمِعَتها تقول: «آه! مريم! مريم! هل رأيتِ؟» تقول متمتمة: «نعم! نعم... ولكن... ولكن... ابنتي.... آه! يا ابنتي...» لا تجد شيئاً آخر تقوله وتبكي مريم العجوز، دموع حزينة تلقى صداها لدى الأخريات جميعاً، أي مرثا ومريم، وأُمّ يوحنّا وسوسنة.
لم تعد النساء الورعات الأخريات هنا. أظنّ أنّهنّ قد رحلن ومعهنّ الرعاة، لدى سماع صرخة المرأة تلك…
الجنود يتكلّمون فيما بينهم.
«هل رأيتَ اليهود؟ الآن تملّكهم الخوف.»
«كانوا يقرعون صدورهم.»
«كان الكَهَنَة أكثرهم رعباً!»
«وأيّ رعب! لقد شعرتُ بزلازل أخرى. ولكن أبداً لم تكن كهذا. انظر: لقد لبثت الأرض مليئة بالتشقّقات.»
«لقد انهدم مقطع كامل مِن الطريق الطويلة.»
«وبالأسفل هناك جثث.»
«دعها! لتنقص الثعابين.»
«آه! حريق آخر! في الريف...»
«ولكن هل مات حقّاً؟»
«ألا ترى؟ هل تشكّ بذلك؟»
يَظهر مِن خلف الصخرة يوسف ونيقوديموس. بالتأكيد كانا قد احتميا خلف ملاذ الجبل للنجاة مِن الصاعقة. يذهبان للقاء لونجين: «نريد الجثمان.»
«فقط الوالي يمنحه. اذهبا، وبسرعة، لأنّني سمعتُ أنّ اليهود يريدون الذهاب إلى دار الولاية للحصول على كسر الساقين. ولا أودّ أن يهينوه.»
«وكيف تعرف هذا؟»
«تقرير الـمُخبِر. اذهبا. أنا في انتظاركما.»
يسرع الاثنان عبر الطريق المنحدرة ويختفيان.
وهنا يدنو لونجين مِن يوحنّا ويقول له بروية شيئاً لم أفهمه، ثمّ يأخذ رمحاً مِن أحد الجنود. ينظر إلى النساء اللواتي انشغلن بمريم الّتي تستعيد ببطء قوّتها. كنّ يدرن ظهورهنّ جميعاً للصليب.
يقف لونجين في مواجهة المصلوب، يدرس جيّداً الطعنة، ثمّ يطعن، الرمح العريض يخترق بعمق مِن أسفل إلى أعلى، مِن اليمين إلى اليسار.
يوحنّا الّذي يتخبّط بين رغبته في النظر والرعب مِن المنظر، يدير رأسه لحظة.
«انتهى الأمر يا صديقي.» يقول لونجين ويضيف: «هكذا أفضل. كما لفارس، ودون تكسير عظام... بالحقيقة كان بارّاً!»
مِن الجرح يرشح كثير مِن الماء وبالكاد خيط مِن الدم بات يشكّل جلطات. يرشح، قلتُ. لم يخرج إلاّ راشحاً مِن الشقّ الواضح الّذي يبقى بلا حراك. لأنّه لو كان يتنفس، لانفتح وانغلق بسبب حركة البطن والصدر…
... وبينما على الجلجلة كلّ شيء يلبث على هذا المشهد التراجيدي، ألحق يوسف ونيقوديموس اللذين ينـزلان مِن طريق مختصرة كي يسرعا.
إنّهما تقريباً في الأسفل حينما يلتقيا بغَمَالائيل. غَمَالائيل مشعّث الشعر، بلا غطاء رأس، بلا رداء، ثوبه الرائع متّسخ بالتراب وممزّق بفعل الأشواك. غَمَالائيل يصعد جرياً وهو يلهث، يداه في شعره الأشعث الرماديّ، شعر رجل عجوز. يتحادثون دون وقوف.
«غَمَالائيل! أنتَ؟»
«أنتَ، يوسف؟ هل تركتَه؟»
«أنا، لا. ولكن لماذا أنتَ هنا؟ وهكذا؟...»
«أشياء رهيبة! كنتُ في الهيكل! العلامة! الهيكل متشقّق! الحجاب الأرجواني والياقوتي يتدلّى ممزّقاً! قدس الأقداس مكشوف! لعنة علينا!» لقد تكلّم وهو مستمرّ في الجري نحو القمّة، وقد جنّ بفعل الدليل.
ينظر إليه الاثنان وهو يبتعد... يتبادلان النظر... يقولان معاً: «"هذه الحجارة سترتجف عند كلماتي الأخيرة!" كان قد وعده بذلك!...»
يسرعان الخطى نحو المدينة.
عبر الحقول، بين الجبل والأسوار، وفيما وراء ذلك، في جو مازال معتماً، يهيم أناس كالبلهاء... صيحات، بكاء، عويل... منهم مَن يقول: «دمه أمطر ناراً!» وآخرون: «ظهر يهوه بين البروق ليلعن الهيكل!» وآخرون يتمتمون: «القبور! القبور!»
يمسك يوسف بواحد يرطم رأسه بالجدران ويناديه باسمه، يقوم بجرّه فيما يدخل المدينة: «سمعان، ماذا تقول؟»
«اتركني! أنتَ أيضاً أحد الأموات! كلّ الأموات! خرج الجميع! وهم يلعنونني.»
«لقد جنّ.» يقول نيقوديموس.
يتركانه ويمضيان بهمّة إلى دار الولاية.
المدينة فريسة الرعب. ناس يهيمون وهم يقرعون صدورهم؛ وآخرون يقفزون إلى الخلف أو يستديرون فزعين سامعين خلفهم صوتاً أو خطوة.
في واحد مِن العقود [القناطر] الكثيرة المظلمة، ظهور نيقوديموس وهو يرتدي الصوف الأبيض -لأنّه نزع رداءه الداكن على الجلجلة كي يسرع- يجعل أحد الفرّيسيّين الهاربين يطلق صرخة رعب. ثمّ يتبيّن أنّه نيقوديموس، فيتمسّك بعنقه بانفتاح غريب، ويصيح: «لا تلعنّي! لقد ظهرت لي أمّي وقالت لي: "ملعون أنتَ إلى الأبد!" ثمّ يرتمي على الأرض وهو يقول: «أنا خائف! أنا خائف!»
«ولكنّهم جميعاً مجانين!» يقول الاثنان.
يصلان إلى دار الولاية. وهناك فقط، وأثناء انتظارهما استقبال الوالي لهما، يتوصّل يوسف ونيقودموس إلى تبيّن سبب كلّ ذلك الرعب. قبور كثيرة كانت قد تفتّحت نتيجة الهزّة الأرضيّة، وكان قوم قد أقسموا أنّهم شاهدوا خروج الهياكل العظميّة الّتي، للحظة، كانت قد استعادت مظهراً بشريّاً ومضت وهي تتّهم أولئك الّذين كانوا المذنبين بقتل الله وتلعنهم.
أتركهما في فناء دار الولاية، حيث يدخل صديقيّ يسوع دون افتعال قصص عن التقزّز الغبيّ والخوف مِن التدنّس، وأعود إلى موضع الصلب، وقد لحقتُ بغَمَالائيل الّذي أضحى منهكاً، وهو يصعد الأمتار الأخيرة. يتقدّم وهو يقرع صدره، ولدى وصوله إلى أولى الساحتين الصغيرتين، يرتمي أرضاً، كشكل طويل أبيض على الأرض المصفرّة، ويئنّ: «العلامة! العلامة! قل إنّكَ تسامحني! أنين، مجرّد أنين واحد، تخبرني به أنّكَ تسمعني وتسامحني.»
أُدرك أنّه يظنّه ما يزال حيّاً. لم يثُب إلى رشده إلاّ حين يصدمه أحد الجنود برمحه ويقول له: «قف واصمت. لا فائدة! كان يجب أن تفكّر في ذلك قبلاً. لقد مات. وأنا الوثنيّ أقول لكَ: إنّ الّذي صلبتموه، كان حقّاً ابن الله!»
«ميت؟ أنتَ متّ؟ آه!...» يرفع غَمَالائيل وجهه المروَّع، يحاول أن يرى حتّى هناك على أعلى القمّة، في النور الغسقيّ. يرى القليل، ولكن بما يكفي كي يفهم أنّ يسوع مات. ويرى المجموعة التقيّة الّتي تعزّي مريم، ويوحنّا، واقفاً إلى يسار الصليب، يبكي، ولونجين يقف إلى اليمين، في وقفة مهيبة ومُجِلَّة.
يركع ويمدّ ذراعيه ويبكي: «كنتَ أنتَ هو! كنتَ أنتَ هو! لا يمكن أن نحظى أبداً بالمغفرة. لقد طلبنا أن يكون دمكَ علينا. وهو يصرخ إلى السماء، والسماء تلعننا... آه! إنّما قد كنتَ الرحمة!.... أنا أقول لكَ، أنا، رابّي اليهوديّة الفاني: "دمكَ علينا، رحمة بنا". انضحنا به! إذ هو وحده يمكنه أن يجعلنا ننال الغفران...» يبكي. ثمّ ببطء أكثر، يقرّ بعذابه الخفيّ: «لقد نلتُ العلامة المطلوبة... ولكنّ عصوراً وعصوراً مِن العمى الروحيّ تجثم على رؤياي الداخليّة، وفي مواجهة إرادتي الحاليّة يرتفع صوت فكري المتكبّر القديم... ارحمني! يا نور العالم، إلى الظلمات الّتي لم تدرككَ، أَنْزِل واحدة مِن أشعّتكَ! أنا الشيخ اليهوديّ المؤمن بما كان يعتقد أنّه الصواب وكان الخطأ. والآن أنا أرض بور محترقة، بلا أيّة شجرة قديمة مِن الإيمان العتيق، بلا أيّة بذرة أو نبتة مِن الإيمان الجديد. أنا صحراء قاحلة. اجترح أنتَ المعجزة وأَنبِت زهرة تحمل اسمكَ في قلب الشيخ الإسرائيليّ العنيد المسكين. أنتَ، الـمُحرِّر، اخترق تفكيري المسكين، أسير الصيغ. قالها إشَعياء: "...لقد دفع الثمن عن الخطأة، وضع عليه خطايا الكثيرين". آه! وخطيئتي أيضاً، يا يسوع الناصريّ...»
ينهض. ينظر إلى الصليب الّذي يتّضح أكثر فأكثر في النور الّذي يعود، ثمّ يمضي محنيّاً، هَرِماً، متلاشياً.
ويعود الصمت إلى موضع الصلب، لا يكاد يقطعه سوى دموع مريم.
اللصّان وقد أنهكهما الخوف، لا يعودان يتكلّمان.
يرجع نيقوديموس ويوسف مسرعين، وهما يقولان إنّ معهما إذن بيلاطس. ولكنّ لونجين، الّذي لا يثق بهذا كثيراً، يُرسِل أحد الجنود بحصان إلى الوالي كي يعرف ماذا يفعل باللصّين كذلك. يذهب الجنديّ ويرجع بسرعة مع أمر بتسليم يسوع وكسر أرجل الآخرين، حسب إرادة اليهود.
ينادي لونجين الجلاّدين الأربعة، الّذين قرفصوا بجبن تحت الصخرة وهم ما يزالون مرعوبين مِن الحدث، ويأمرهم بضرب سيقان اللصّين بهراوات حتّى النهاية. يتقبّل الأمر بلا احتجاج ديماس الّذي ضُرِب على قلبه بعد أن ضُربت ركبتاه بهراوة منـزوعة الحديد، فيتكسّر تقريباً على شفتيه اسم يسوع، في حشرجة. أمّا اللصّ الآخر، فبلعنات رهيبة. كانت حشرجتهما محزنة.
يودّ الجلاّدون الأربعة الاهتمام أيضاً بيسوع لفصله عن الصليب. إنّما يوسف ونيقوديموس لم يسمحا لهم. ينـزع يوسف كذلك رداءه ويطلب مِن يوحنّا الاقتداء به والإمساك بالسلالم، بينما هما يصعدان مع العتلات والكمّاشات.
تقف مريم وهي ترتعش، تسندها النساء، وتقترب مِن الصليب.
في هذه الأثناء يمضي الجنود إذ قد انتهى عملهم. ولونجين، قبل أن ينـزل إلى ما بعد الساحة السفليّة، يلتفت مِن على ظهر جواده لينظر إلى مريم والمصلوب. ثمّ تُسمَع جلجلة الحوافر على الصخور ورنين السلاح على الدروع، ويبتعد أكثر فأكثر.
يُنـزَع مسمار الكف الأيسر. يهوي الذراع على مدى الجسم الّذي يتدلّى الآن نصف مفصول.
يطلبان مِن يوحنّا أن يصعد أيضاً، تاركين السلالم للنساء. ويوحنّا، متسلّقاً السلّم حيث كان مِن قبل نيقوديموس، يمرّر ذراع يسوع حول رقبته ويبقيه هكذا، ملقىً على كتفه، معانقاً إيّاه بذراعه مِن الوسط ويمسكه بأطراف الأصابع حتّى لا يصدم الشقّ الرهيب لليد اليسرى، المفتوح تقريباً. وحينما يُنـزَع المسمار مِن قدميه، يعاني يوحنّا كثيراً في الإمساك بجسد معلّمه وإسناده بين الصليب وجسده.
تجلس مريم تحت عود الصليب، وظهرها له، مستعدّة لتقبّل يسوع على ركبتيها.
وكان الأصعب فصل مسمار الذراع الايمن. فرغم كلّ جهود يوحنّا، تدلّى الجسد بالكامل إلى الامام، ورأس المسمار مغروز بعمق في الجسد. ولأنهما لم يريدا أن يجرحاه أكثر بعد، فإنّ الرَّجلان الرحيمان يعانيان كثيراً، أخيراً يقبضان على المسمار بالكماشات ويُخرجانه بكلّ بطء.
يوحنا يمسك يسوع مِن إبطيه، ورأسه على كتفه، بينما يمسكه نيقوديموس ويوسف واحد مِن فخذيه والآخر مِن ركبيته، ويَنزلان باحتراس وهم يمسكانه هكذا على السلالم.
حين وصلوا الأرض، أرادوا أن يمددوه على الملاءة الّتي مدّوها على أرديتهم، ولكن مريم أرادته. فتحت رداءها وتركته ممدّداً مِن إحدى الجهات وباعدت بين ركبتيها كي تجعل مهداً ليسوعها.
وبينما يستدير التلاميذ ليعطوها الابن، يهوي الرأس المكلّل إلى الخلف وتتدلّى الذراعان إلى الأرض لتحكّا التربة بيديه المجروحتين لو لم تسرع شفقة السيّدات التقيّات في إمساكهما ليحلن دون ذلك.
الآن هو في حضن أُمّه... وكأنّه طفل كبير متعب ينام متكوّراً في حضن الأُمّ. مريم تمرّر ذراعها اليمنى خلف كتفيّ ابنها واليسرى فوق البطن كي تمسكه مِن الردفين. الرأس على كتف الأُمّ. وتناديه... تناديه بصوتها الممزّق. ثمّ تُبعِده عن كتفيها وتلاطفه بيدها اليسرى، تأخذ اليدين وتمدّهما وتُقبّلهما قبل أن تضعهما فوق بعضهما البعض، وتبكي على الجروح. ثمّ تلمس الوجنتين، وخاصّة حيث الزُّرقة والتورّم، تُقبّل العينين الغائرتين، والفم الملتوي قليلاً صوب اليمين والنصف مفتوح. تريد أن تعيد ترتيب شعره، كما فعلت بالذقن الملبّدة بالدم، إنّما وهي تقوم بهذا تلاقي الأشواك. إنّها تتأذّى وهي تنزع ذاك الإكليل، وتريد أن تقوم بذلك بنفسها باليد الوحيدة الحرة، وتُبعِد الجميع قائلة: «كلّا! كلّا! أنا! أنا!» وكأنّ لديها بين أصابعها رأس مولود لَيّن مِن كثرة احتراسها وهي تفعل ذلك. وحينما نجحت في نزع الإكليل الـمُعذِّب، تنحني كي تعتني بقبلاتها بكل خدش للشوك. وبيدها المرتعشة تُفرق الشعر المشعث، تُرتبه، تبكي وتتكلم بهدوء شديد. وتمسح بأصابعها الدموع الّتي تسقط على أعضاء الجسد المسكين البارد الـمُغطى بالدم، وتفكّر بتنظيفه بدموعها وبوشاحها الّذي ما يزال حول كليتيّ يسوع. فتجذب إليها طرفاً منه وتبدأ بتنظيفه ومسح أعضائه المقدّسة. لا تكفّ عن ملامسة وجهه، ثمّ يديه، ثمّ ركبتيه المكسوّتين بالرضوض، ثمّ تَصعد كي تمسح الجسد الّذي تنهال عليه دموعها الغزيرة.
وفيما هي تقوم بهذا تلتقي يدها بفتحة الجنب. اليد الصغيرة المغطاة بنسيج ناعم، تدخل كلّها تقريباً في ثقب الجرح الواسع. تميل مريم كي ترى، في شبه الضوء الّذي تَكَوّن، وترى. ترى الجنب المفتوح وقلب ابنها. حينئذ تصرخ. تبدو وكأنّ سيفاً يفتح قلبها هي أيضاً. تصرخ، ثم تنكبّ على ابنها وتبدو كأنّها ميتة هي أيضاً.
يساعدونها ويعزّونها، يريدون أن يرفعوا عنها الميت الإلهيّ. فتصرخ: «أين، أين أضعكَ ويكون مكاناً أميناً ولائقاً بكَ؟» ينحني يوسف بكلّيته في انحناءة جليلة، وهو يضع يده المفتوحة على صدره ويقول: «اطمئنّي يا امرأة! قبري جديد وجدير بعظيم. سأعطيه له. ونيقوديموس صديقي، قد أحضر الطّيب إلى القبر وسيقدّمه له شخصيّاً. ولكن رجاء، لأنّ المساء قد اقترب، دعينا نقوم بذلك... إنّها سهرة السبت. كوني طيّبة أيّتها المرأة القدّيسة!»
يتوسل إليها أيضاً يوحنّا والنسوة بنفس الطريقة، ومريم تتركهم يأخذون ابنها مِن على ركبتيها، وتقف، في ضيق، بينما هم يلفّونه بالملاءة، وهي تتوسّل إليهم: «آه! بلطف!»
نيقوديموس ويوحنّا مِن الكتفين، ويوسف مِن القدمين، يرفعون الجثمان المغلّف ليس فقط بالملاءة، بل الممدّد أيضاً على المعاطف الّتي استعملوها كنقّالة، ويمضون نزولاً عبر الطريق.
مريم تنزل باتّجاه القبر، تسندها سلفتها والمجدليّة، يتبعهن مرثا ومريم الّتي لزَبْدي وسُوسَنّة، بعد أن جمعن المسامير والكماشات، الإكليل، الاسفنجة والقصبة.
على موضع الصلب بقيت الصلبان الثلاثة. الصليب الأوسط خاوٍ وعلى الآخَرَين الغنيمة الحيّة تموت.
"والآن، يقول يسوع، انتبهي جيّداً. أوفّر عليكِ وصف القبر، المصاغ بشكل جيّد العام الماضي، في 19 شباط 1944. فهذه الرؤيا هي الّتي ستستخدمينها، والأب ميغليوريني سيضيف، في النهاية، تلك الّتي لنحيب مريم الّتي أعطيتُها في 4 تشرين الأوّل 1944. ومِن ثمّ تضعين مِن جديد ما سترين. هذه هي الأجزاء الجديدة للآلام، ويجب وضعها بحيث تُورَد بدقّة، لكي لا تخلق أيّ لَبس أو تترك ثغرات."