ج3 - ف70

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الثالث / القسم الثاني

 

70- (أثناء الذهاب إلى منزل إليز في بيت صور)

 

04 / 07 / 1945

 

«إذا عُدنا لحظة إلى طريق الخليل، يكون إيجادنا إيّاهم شبه أكيد. أرجوكم، اذهبوا اثنين اثنين في إثرهم على دروب الجبل. مِن هنا إلى بُرَك سليمان، ثُمَّ مِن هناك إلى بيت صور. سنتبعكم. فتلك هي منطقة رَعيهم.» يقول السيّد للاثني عشر. وأَتنَبَّه إلى أنّه يتحدّث عن الرُّعاة.

 

يتهيّأ الرُّسُل للمُضيّ، كلّ مع رفيقه المفضَّل، فقط شِبه الثُّنائي غير الـمُنفَصِل يوحنّا وأندراوس لا يَجتَمِعان، إذ يَذهَب كلّ منهما إلى الاسخريوطيّ قائلاً: «آتي معكَ.» ويجيب يهوذا: «نعم، تعال يا أندراوس. هكذا أَفضَل يا يوحنّا. فكلّ منّا، أنتَ وأنا، يَعرِف الرُّعاة. فيُفَضَّل إذاً أن تَذهَب مع آخَر.»

 

«معي إذاً أيّها الصبيّ.» يقول بطرس تاركاً يعقوب بن زَبْدي الذي يمضي مع توما دونما احتجاج، بينما يمضي الغيور مع يوضاس تدّاوس، ويعقوب بن حلفى مع متّى، والاثنان اللذان لا يَفتَرِقان فليبّس وبرتلماوس معاً. أمّا الطفل فيبقى مع يسوع ومريم.

 

الطريق مُنعِشة وجميلة عَبْر الجبال المغطّاة بالخضرة والغابات والمروج. يَلتَقون بالقُطعان التي تَقصد المراعي في نور الفجر الأشقر.

 

لدى كلّ رنين يتوقّف يسوع عن الكلام ويَنظُر، ثمّ يَسأَل الرُّعاة إذا ما كان إيليا، الرَّاعي الذي مِن بيت لحم، في الجِّوار. أُدرِك أنّ إيليا قد أصبَحَ يُلَقَّب "بالبيت لحميّ". ورغم أنّ رُعاة آخَرين هُم مِن بيت لحم، إلّا أنّ هذا اللّقب يخصّه بحقّ، أو إنّه يُعبِّر كذلك عن احتقار، لا أحد يَعلَم. ويُجيبون وهُم يُوقِفون القطيع ويَكفّون عن العزف على ناياتهم الريفيّة. فجميع الشباب تقريباً لديهم تلك النَّايات البدائيّة المصنوعة مِن القصب، ممّا يَجعَل مارغزيام يَشعُر بالنَّشوة، حتّى إنّ أحد الرُّعاة الـمُسِنّين الطيِّبين أعطاه ناي حفيده وهو يقول: «سوف يَصنَع هو لنفسه أخرى.» ويمضي مارغزيام سعيداً بآلته ذات الحَمَّالة، حتى ولو أنَّه لا يجيد استخدامها في الوقت الحاليّ.

 

«كم أودُّ الالتقاء بهم!» تقول مريم.

 

«سوف نَجِدهم، بكلّ تأكيد. ففي هذا الموسم هُم دائماً صوب الخليل.»

 

يُولي الصبيّ اهتماماً بأولئكَ الرُّعاة الذين شاهَدوا يسوع طِفلاً. ويَطرَح ألف سؤال على مريم التي تُجيب بصبر وطيبة.

 

«ولكن لماذا عاقَبوهم؟ وهُم لَم يَفعَلوا سوى الخير!» يَسأَل الصبيّ بعد رواية ما تَحَمَّلوه مِن شقاء.

 

«لأنّ الإنسان عادة يرتكب الأخطاء باتّهامه الأبرياء بِشَرٍّ فَعَله بالحقيقة آخر غيرهم، ولكن بما أنّهم ظَلّوا صالحين وعَرفوا أن يَصفَحوا، فإنّ يسوع يحبّهم كثيراً. فيجب معرفة الصَّفح على الدوام.»

 

«ولكن أولئك الأطفال الذين قُتِلوا كلّهم، فما الذي فَعَلوه لِيَصفحوا عن هيرودس؟»

 

«إنّهم شهداء صغار يا مارغزيام، والشهداء قدّيسون. فهُم لا يَصفَحون فقط عن سَيّافهم، ولكنّهم يحبّونه لأنّه فَتَحَ لهم السماء.»

 

«ولكن هل هُم في السماء؟»

 

«لا، ليس بعد. إنّهم الآن في اليمبس حيث هُم عِلَّة فَرَح الأحبار والأبرار.»

 

«لماذا؟»

 

«لأنّهم قالوا، لدى وصولهم بنفسهم الـمُضَرَّجة بالدم: "ها نحن ذا. إنَّنا رُسُل المسيح الـمُخَلِّص. افرحوا يا مَن تَنتَظِرون، فإنّه الآن على الأرض". والجميع يحبّونهم لأنّهم يَحملون تلك البُشرى الحَسَنة.»

 

«لقد قال لي أبي إنّ البُشرى الحَسَنة هي كذلك كلمة يسوع. إذن، عندما سيذهب أبي إلى اليمبس، بعد أن يُعلِنها على الأرض، وأَذهَب أنا كذلك، فسيحبّوننا نحن أيضاً؟»

 

«أنتَ لن تذهب إلى اليمبس يا صغيري.»

 

«لماذا؟»

 

«لأنّ يسوع يكون قد عاد إلى السماوات وفَتَحَها. وسيذهب الصالحون كلّهم، لدى موتهم، إلى السماوات مباشرة.»

 

«أَعِد أنّني سأكون صالحاً. وسمعان بن يونا؟ هو أيضاً، أليس كذلك؟ فأنا لا أريد أن أُصبِح يتيماً مرّة أخرى.»

 

«هو أيضاً. كُن على يقين. إنّما في السماء لا أيتام. لدينا الله، والله هو كلّ شيء. ونحن لسنا كذلك حتّى هنا على الأرض، ذلك أنّ الآب مَعَنا على الدوام.»

 

«ولكن في تلك الصلاة الجميلة التي تقولينها أنتِ في النهار وأُمّي في الليل، والتي عَلَّمتُمانيّها، يقول يسوع: "أبانا الذي في السماوات". ونحن لسنا بعد في السماء. فكيف إذاً نكون معه؟»

 

«لأنّ الله في كلّ مكان يا وَلَدي. يَسهَر على الطفل الذي يُولَد، وعلى العجوز الذي يموت. والطفل الذي يُولَد الآن في آخِر مَوضِع على الأرض، عليه نَظَر الله وحُبّه، وسيكون له ذلك حتّى مماته.»

 

«حتّى ولو كان شرّيراً مثل دوراس؟»

 

«نعم.»

 

«ولكنّ الله الذي هو صَلاح، هل يمكنه أن يحبّ دوراس ذاك، الشرّير للغاية، والذي يُسبِّب الشقاء والبكاء لجدّي؟»

 

«إنّه يَنظُر إليه باستنكار وأَلَم، ولكنّه لو نَدِم، فإنّه يقول له ما قاله الأب في الـمَثَل لابنه التَّائِب. فعليكَ بالصلاة مِن أجل أن يَتوب و...»

 

«آه! لا يا أُمّي! بل سأصلّي كي يموت!!!» يقول الصبيّ بحدّة. وعلى الرغم مِن أنّها بَدَرَت منه ملائكيّة قليلاً، فإنّ حِدَّتَه وصرامَتَه كانتا لدرجة أَرغَمَت الآخرين على الضحك.

 

ولكن، بعد ذلك، استعادَت مريم رصانتها كمعلّمة: «لا يا حبيبي، ينبغي لكَ ألّا تفعل ذلك مِن أجل خاطئ، فلا يَستَمِع الله إليكَ، بل حتّى يَنظُر إليك بِصَرامة. عليكَ أن تتمنّى الخير لقريبنا، حتّى ولو كان شرّيراً جدّاً، أن تتمنّى له أقصى الخير. فالحياة خير هي، لأنّها تَمنَح الإنسان إمكانيّة اكتساب الاستحقاق في نَظَر الله.»

 

«ولكن إذا كان المرء شرّيراً فلا يَجني إلّا الخَطايا.»

 

«نُصلّي نحن لكي يُصبِح صَالحاً.»

 

يُفكِّر الصبيّ... ولكنّ هذا التعليم السَّامي لا يُناسِبه أبداً. ويَستَنتِج: «لن يُصبِح دوراس صالحاً حتّى ولو صَلَّيتُ. إنّه شرّير للغاية. وحتّى ولو صَلّى معي كلّ أطفال بيت لحم الشهداء، فإنّه يبقى كذلك. لا تَعلَمين أنّه... ألا تَعلَمين أنّه... ضَرَبَ جدّي ذات يوم بقضيب حديديّ لأنّه وَجَدَه جالساً في ساعة عمل؟ لَم يَكُن يستطيع النهوض، لأنّه كان يشعر بألم، وهو... ضَرَبَه حتّى أَصبَحَ شِبه مَيّت، ثمّ رَكَلَه على وجهه... وقد كنتُ أرى ذلك، لأنّني كنتُ مُختَبِئاً خَلف سِياج... وكنتُ قد ذَهَبتُ إلى هناك لأنّ أحداً لَم يَكُن قد أَخَذَ لي خبزاً منذ يومين، وكُدتُ أقضي جوعاً... فاضطُرِرتُ إلى الفرار لئلّا يَسمَعني، إذ كنتُ أبكي لرؤيتي جدّي في تلك الحال، والدم على لحيته، مُمَدَّداً على الأرض كالميت... ومَضَيتُ باكياً أستجدي رغيفاً... ولكنّ ذلك الرغيف أَحتَفِظ به هنا على الدوام... فإنّ له طعم دم ودموع جدّي ودمي ودموعي، وكذلك دم ودموع كلّ الـمُعَذَّبين، والذين لا يستطيعون أن يحبّوا مَن يعذّبهم. أمّا دوراس، فأنا أودُّ لو أضربه ليَعرِف معنى الضربات، أودُّ لو أتركه دون خبز، ليَعرف ما هو الجوع، أودُّ لو أجعَلهُ يَعمَل تحت الشمس وفي الوحل، تحت تهديد الـمُراقِبين ودون طعام، ليَعرف ما يُسبِّبه مِن أَلَم للفقراء... لا أستطيع أن أحبّه لأنّه... يَقتُل جدّي القدّيس، وأنا، لو لم أكن قد وجدتُكُم، فَلِمَن كنتُ تابعاً الآن؟» ويتلوّى الصبيّ مِن الألم، ويَصرُخ ويبكي مُرتَجِفاً ومُضطَرِباً ضارباً الهواء بقبضتيه الصغيرتين، غير قادر على ضَرب الذي يَلعَنهُ.

 

النساء مَذهولات، مُتأثِّرات للغاية، ويُحاوِلن تهدئته. ولكنّه حقّاً في نَوبة ألم ولا يَسمَع أيّ شيء: «لا أستطيع، لا أستطيع أن أحبّه وأن أَغفر له. أكرهه مِن أجل الجميع، أكرهه، أكرهه، أكرهه!...»

 

إنّه يُؤلِم ويُخيف. إنّها ردّة فعل الإنسان الذي تألّم كثيراً. ويقول يسوع: «إنّها أعظم جرائم دوراس: دَفْع بريء إلى الكراهية...»

 

إنّما بعد ذلك يَحمِل الصبيّ بين ذراعيه ويُحدِّثه: «اسمع يا مارغزيام. هل تريد أن تذهب يوماً لتنضمّ إلى أُمّكَ وأبيكَ مع إخوتكَ ومع جدّكَ؟»

 

«نعم.»

 

«إذاً عليكَ ألّا تبغض أحداً. فَمَن يبغض لا يدخل السماء. ألا تستطيع الآن أن تُصلّي مِن أجل دوراس؟ حسناً لا تُصلِّ، إنّما لا تَبغُض. هل تَعلَم ما ينبغي لكَ فِعله؟ عليكَ ألّا تعود أبداً إلى الوراء لتفكّر في الماضي...»

 

«ولكنّ جدي الذي يتألّم ليس مِن الماضي...»

 

«صحيح يا مارغزيام، ولكن حاول أن تُصلّي هكذا: "يا أبانا الذي في السماوات، فَكِّر أنتَ بما أَرغَب..." وسوف ترى أنّ الله يسمعكَ بأفضل الأساليب. ولو أنّكَ قَتَلتَ دوراس فما الذي تكون قد فَعَلتَه؟ تَفقُد حبّ الله والسماء والاتّحاد بأبيكَ وأمّكَ ولا تُزيل آلام العجوز الذي تحبّ. فأنتَ صغير جدّاً لتستطيع فعل ذلك. ولكنّ الله يستطيع. فتحدّث إليه. قُل له: "تَعلَم كَم أحبّ جدّي وكم أحبّ كلّ التعساء. ففكِّر بهم أنتَ أيّها القادر على كلّ شيء". كيف؟  ألا تريد إعلان البُشرى الحَسَنة؟ ولكنّها تتحدّث عن الحبّ والتسامح! فكيف يمكنكَ القول للآخَر: "لا تَبغُض واغفِر"، إذا لَم تَكُن تَعرِف أنتَ أن تحبّ وتَغفر؟ دعه يَفعَل، ودع الله يتصرّف، وسترى كيف يُسوّي كلّ الأمور. هل ستفعل ذلك؟»

 

«نعم، لأنّني أحبّكَ.»

 

يُقبِّل يسوع الصبيّ ويُنـزِله أرضاً. لقد سُوّي الأمر، ويَصِلون إلى نهاية الطريق. البُرَك الثلاث الكبيرة محفورة في صخر الجبل، عَمَل هائِل حقّاً، إنّها تتألّق بِسُطوحها الصافية للغاية، وبالماء الذي يَسقُط مِن البِركة الأولى إلى الثانية، وهي أكبر، ومنها إلى بِركة ثالثة، وهي بحقّ بحيرة صغيرة، يَصِل الماء منها بقنوات إلى مدن بعيدة. وبسبب رطوبة الأرض في تلك المنطقة، مِن النَّبع إلى البُرَك، ومنها إلى السهل، فإنّ خصوبة الجبل رائعة. زهوره هي الأكثر تنوّعاً بين الزهور البرّيّة، وهي تضحك على المنحدرات الخضراء مع النباتات العطرة والنادرة. يبدو وكأنّ الإنسان قد زَرَعَ هنا زهور حديقة ونباتات عَطِرَة يفوح أريجها في الجوّ، تحت الشمس التي تُدفِّئها، فعطورها مِن قرفة وكافور وخزامى وقرنفل وروائح أخرى نافذة وقويّة وزكيّة في أروع امتزاج لأفضل رياحين الأرض. أحسَبها سمفونيّة عطور لأنّها حقّاً قصيدة النباتات والزهور، بألوانها المتنوّعة وروائحها الزكيّة.

 

الرُّسُل جميعهم يَجلسون في ظلّ شجرة تكسوها الزهور البيضاء الكبيرة، أَجهَل اسمها، بتويجات كبيرة مِن الميناء الأبيض، متدلّية، تهتزّ لأقلّ نسمة هواء، فتَنشُر موجات مِن العِطر في كلّ اهتزاز. لستُ أعرف اسم تلك الشجرة. زَهرها يُذكِّرني بشجيرة يوجد منها في كالابريا (إقليم في جنوب إيطاليا) وتدعى هناك "Bottaro" إنّما ليست هي بالتأكيد، لأنّ هذه شجرة سَامِقة وجذعها قويّ، وليست شجيرة كَتِلكَ.

 

يناديهم يسوع، ويَهرَعون إليه: «لقد وَجَدنا، تقريباً مباشرة، يوسف الذي كان عائداً مِن السوق. سيكونون هذا المساء في بيت صور. ولقد تَجَمَّعنا بأن هَتَفنا إلى بعضنا بصوت عال، ومَكَثنا هنا في الظلّ.» يَشرح بطرس.

 

«يا له مِن مكان جميل! تحسبه بستاناً! كنّا نتناقش فيما بيننا إذا كان مِن صُنع الطبيعة أم لا. فللبعض رأي في ذلك وللآخرين رأي مخالف.» يقول توما.

 

«أرض اليهوديّة فيها مِن تلك الروائع.» يقول الاسخريوطيّ الذي يتفاخر لا محالة بكل شيء حتّى الزهور والنباتات.

 

«نعم، ولكن... أظنُّ، على سبيل المثال، أنّ حديقة يُوَنّا في طبريا، إذا كانت مُهمَلَة وأَصبَحَت برّيّة، وحتّى الجليل، وسط الأنقاض، ففيها روعة هذه الورود البديعة.» يقول يعقوب بن زَبْدي.

 

«لستَ مخطئاً. ففي تلك المنطقة كانت حدائق سليمان، المشهورة كقصوره في عالم تلك الحقبة. فَمِن المحتَمَل أنّه حَلُمَ هناك بنشيد الأناشيد مُسقِطاً على المدينة المقدَّسة كلّ الجمالات التي استَنبَتها هناك.» يقول يسوع.

 

«إذن، أنا مَن كان على حقّ!» يقول تدّاوس.

 

«كنتَ مُصيباً» يقول أخوه يعقوب. «هل تَعلَم يا معلّم؟ كان قد أَورَد المزامير بمزجه فكرة الحدائق بفكرة البُرَك، وأنهى بقوله: "ومع ذلك لاحَظَ أنّ كلّ شيء باطل، ولا شيء يدوم تحت الشمس سوى كلمة يسوعي".»

 

«أشكركَ، إنّما فَلنَشكُر كذلك سليمان. فإن أتت الزهور الأوليّة منه أم لم تأتِ، فالمؤكَّد أنّ له الفضل بوجود البُرَك، وهي التي تروي النباتات والبشر. فليكن مباركاً مِن أجل ذلك. لنذهب إذن إلى شجرة الورد الكبيرة تلك، التي شَكَّلَت بين شجرة وأخرى رُواقاً مُزهِراً. سوف نتوقّف هناك. نكاد نكون في منتصف الطريق.»…

 

...ويُعاوِدون المسير في حوالي الساعة التاسعة مِن النهار، حينما بَدَأَت تمتدّ ظلال الأشجار في تلك المنطقة المعتنى بزراعتها جيّداً. يَحسَب المرء نفسه وكأنّه يجتاز حديقة نباتات شاسعة، فيها كلّ أنواع النباتات مُمثَّلَة بأصلها، بِثَمرها أو جمالها. يتجوّل الفلّاحون في كلّ مكان، ولكنّهم لا ينتَبِهون إلى جماعة الرُّسُل الذين يَمُرّون. فهي ليست الجماعة الوحيدة، على كلّ حال. فهناك جماعات أخرى مِن اليهود، وهُم عائِدون مِن الأعياد الفصحيّة.

 

الطريق جيّدة، رغم أنّها محفورة في الجبال، والمناظر دائمة التنوّع تقطع رتابة السير. جداول وسيول تَرسم فواصل الفضّة السائلة وتَكتب الكلمات التي تُغنّيها فيما بعد. في منعطفاتها الألف التي تعود فتتقاطَع، والتي تَنتَشِر في الغابات، أو تختفي في الكهوف، والتي تعود لِتَخرُج منها أجمل، تبدو وكأنّها تَمرَح مع الأشجار والصخور كأطفال فرحين. حتّى مارغزيام، وقد استعاد صفاءه الآن بالتمام، فإنّه يَلعَب ويُجرِّب آلته الموسيقيّة لِيُحاكي العصافير. ولكنّها في الحقيقة ليست أناشيد، بل أصوات نشاز، تبدو لي مُنَفِّرة للأصعب مزاجاً بين الجمع، أي برتلماوس بسبب سنّه، ويهوذا الاسخريوطيّ لأسباب أخرى. إنّما لا أحد يُبدي رأيه بوضوح، ويُتابِع الصبيّ وهو يَقفِز هنا وهناك. لمرّتين فقط، يُشير إلى بلدات قابِعة في الغابات ويقول: «أهذه بلدتي؟» ويَشحب لونه. ولكنّ سمعان الذي يبقيه إلى جانبه يُجيب: «بلدتكَ بعيدة جدّاً عن هنا. هيّا، تعال واقطف هذه الزهور الجميلة واحمِلها إلى مريم.» فَيلهيه هكذا عن ذكرياته.

 

يبدأ الغَسَق عندما تَظهَر بيت صور على رابِيَتها، ومباشرة على الطريق الفرعيّة التي سَلَكوها أثناء الذهاب، تَظهَر قُطعان الرُّعاة ومعها الرُّعاة الذين يَهرَعون. ولكنّ إيليا، عندما يرى مريم هناك، يرفَع ذراعيه مُندَهِشاً، ويظلّ هكذا لا يجرؤ على تصديق عينيه.

 

«السلام لكَ يا إيليا. أنا بذاتي. لقد وعدناكَ بذلك، لم يكن ممكناً أن نرى بعضنا في أورشليم... إنّما لا نفكّرنّ بذلك، فلقد التقينا الآن.» تقول مريم بِتؤدة.

 

«آه! أيّتها الأُمّ، أيّتها الأُمّ!...» لا يعرف إيليا ما يقول. ثمّ يَجِد في النهاية ما يقوله: «هو ذا، فِصحي أُقيمُه الآن. لا فرق، بل حتّى أفضل.»

 

«ولكن بلى، يا إيليا. لقد وُفِّقنا في السوق. يمكننا ذَبح حَمَل. آه! كونوا ضيوف مائدتنا الفقيرة...» يقول لاوي وكذلك يوسف.

 

«إنّنا تَعِبون هذا المساء، فلندعها للغد. اسمعوا. هل تَعرِفون امرأة اسمها إليز زوجة إبراهيم صموئيل؟»

 

«نعم، إنّها في بيتها الذي في بيت صور، ولكنّ إبراهيم قد مات، وَوَلَداه كذلك ماتا في العام الماضي. توعُّك أَلَمَّ بالأوّل، ولم نفهم أبداً سبب وفاته. أمّا الثاني فقد تدهورت حالته ببطء، ولم يكن شيء ليُوقِف المرض. كنّا نقدّم له حليب العنـزات الجديدات، لأنّ الأطباء كانوا يقولون إنّ ذلك جيّد للمريض. كان يَشرَب منه كميّات تأتيه مِن كلّ الرُّعاة، حيث كانت أُمّه المسكينة تُرسَل في طلبه مِن أيّ راع لديه عنـزة في قطيعه دَرَّ حليبها للمرّة الأولى. إلّا أنّ ذلك لم يَفده في شيء. عندما عُدنا إلى السَّهل لم يكن يتقبّل الطعام. وحينما رَجعنا في آذار (مارس) كان قد مضى على وفاته شهران.»

 

«مسكينة صديقتي! كانت تحبّني كثيراً في الهيكل... كان لنا أجداد مُشتَرَكون... كانت طيّبة وصالحة... غادَرَت الهيكل لتتزوّج مِن إبراهيم الموعود بها منذ طفولتها، قبلي بسنتين، وأتذكّر مجيئها إلى الهيكل لتقدّمة وليدها الأوّل إلى الربّ. ولقد أَرسَلَت في طلبي، لا أنا فقط، إنّما رَغِبَت في رؤيتي وحدي فترة أطول... والآن هي وحيدة... آه! عليَّ الإسراع في الذهاب إليها لأواسيها! أنتم، ابقوا. أَذهَب مع إيلي وأَدخُل وحدي. فالألم يتطلّب أن نحترمه...»

 

«حتّى ولا أنا يا أُمّي؟»

 

«أنتَ دائماً. أمّا الآخرون... حتّى ولا أنتَ يا صغيري. فذلك يسبِّب لها ألماً. تعال. تعال يا يسوع!»

 

«انتَظِرونا في ساحة البلدة. ابحَثوا عن مأوى مِن أجل اللّيلة. وداعاً.» يَأمر يسوع الجميع.

 

يَمضي يسوع وأُمّه فقط مع إيليا إلى بيت كبير مُغلَق وصامت. يَقرَع الرَّاعي الباب بعصاه. تَطلّ خادمة مِن النافذة وهي تَسأَل مَن الطَّارِق. تتقدّم مريم قائلة: «مريم بنت يواكيم وابنها مِن الناصرة. قولي ذلك لمعلّمتكِ.»

 

«لا جدوى مِن ذلك. إنّها لا تريد رؤية أحد. إنّها تترك نفسها تموت وهي تبكي.»

 

«حاوِلي.»

 

«لا. فأنا أعرف كيف تطردني إذا ما حاوَلتُ تسليتها. لا تريد أحداً، ولا رؤية أحد ولا التحدّث إلى أحد. إنّها لا تتحدّث إلّا عن ذكرى وَلَديها.»

 

«اذهبي يا امرأة، آمُركِ بذلك. قولي لها: ‹إنّها مريم الصغيرة التي مِن الناصرة. تلك التي كانت ابنتكِ في الهيكل...› وسوف تَرَينَ أنّها تريدني.»

 

تذهب المرأة وهي تهزّ رأسها. تَشرَح مريم لابنها ولإيليا: «كانت إليز أكبر منّي كثيراً، وكانت تنتظر في الهيكل عودة عروسها الذي مضى إلى مصر بشأن قضيّة إرث، ومَكَثَ هناك حتّى سنّ غير اعتيادية. إنّها تَكبُرُني بحوالي العشر سنوات. وكان لدى المعلّمات عادة إعطاء الأصغَر مِن التلاميذ للأكبر سناً للقياد... وكانت هي معلّمتي الـمُرافِقة. كانت طيّبة وصالحة و... هي ذي المرأة.»

 

بالفِعل تَهرَع الخادمة مَذهولة وتفتح البوّابة الرئيسيّة على مصراعيها: «ادخلي، ادخلي!» تقول ثمّ تُتابِع بصوت خافت: «بوركتِ، أنتِ يا مَن أخرَجتِها مِن تلك الحُجرة.»

 

تَفسَح المجال، وتَدخُل مريم مع ابنها.

 

«ولكنّ هذا الرجل، بحقّ... الرحمة! إنّه في مِثل سن لاوي...»

 

«دعيه يَدخُل. إنّه ابني، وهو يواسيها بأفضل منّي.»

 

تَرفَع المرأة كَتِفَيها وتَسبقهما عَبْر دهليز طويل إلى بيت جميل ولكنّه حزين جدّاً. كلّ ما فيه نظيف، ولكنّ كلّ شيء يبدو ميتاً…

 

امرأة كبيرة، ولكنّها حانية، في ثيابها الداكنة، تتقدّم في الممرّ في شبه ظُلمة.

 

«إليز! حبيبتي إليز! هذه أنا مريم!» تقول مريم وهي تَهرَع للقائها وتُعانِقها.

 

«مريم؟ أنتِ... كنتُ أظنكِ مُتِّ أنتِ كذلك. لقد رُوِيَ لي... متى؟ لَم أَعُد أَعلَم... فَلَديَّ فراغ هنا في الرأس... قيل لي إنّكِ مُتِّ مع أُمّهات كثيرات، بعد مجيء المجوس. ولكن مَن قال لي إنّكِ أُمّ الـمُخلِّص؟»

 

«قد يكونون الرُّعاة...»

 

«آه! الرُّعاة!» وتنفجر بالبكاء. «لا تَذكُري لي هذا الاسم. إنه يُذَكِّرني بأعظم أمل لحياة لاوي... ومع ذلك... نعم... أحد الرُّعاة حَدَّثَني عن الـمُخلِّص، وقَتَلتُ أنا ابني بجعلي إيّاه يذهب إلى المكان الذي قيل إنّ مَسيّا موجود فيه، قرب الأردن. إنّما لم يكن أحد هناك... وعاد ابني ليموت... التَّعَب والبرد... لقد قَتَلتُهُ... ولكنّني لم أكن أبغي قَتلَه. كنتُ أقول لنفسي إنّه هو، مَسيّا، كان يشفي الأمراض... وقد فَعَلتُ هذا لسبب... الآن يتّهمني ابني أنّني قَتَلتُهُ...»

 

«لا يا إليز. إنّه ضَرب مِن الخيال. اسمعي. أظنُّ أنّ ابنكِ، على العكس، قد أَمسَكَني بيدي قائلاً لي: "اذهبي إلى أُمّي الحبيبة. خذي لها الـمُخلِّص. فأنا هنا أفضل مِمّا كنتُ عليه على الأرض. إنَّها لا تُنصِت إلّا إلى حزنها، ولا تستطيع سماع الكلام الذي أهمِسه لها وسط قبلاتي، مسكينة أُمّي التي هي كَمَن بِها مَسّ مِن الشيطان الذي يَدفَعها إلى اليأس، لأنّه يريدنا مُفتَرِقَين، بينما لو هي استَسلَمَت وآمَنَت بأنّ الله يَفعَل كلّ شيء لأجل الخير، فسنكون متّحدين إلى الأبد، مع أبي وأخي. بإمكان يسوع أن يَفعَلها". وها أنا ذا قد أتيتُ... معه... ألا تريدين رؤيته؟...» تَكلَّمَت مريم وهي ما تزال تُعانِق البائِسة وتُقبِّلها على شعرها الرماديّ بنعومة وعذوبة ليست لدى أحد سواها.

 

«آه! لو كان ذلك صحيحاً! ولكن لماذا، لماذا إذن لم يأتِ دانيال إليكِ ليقول لكِ أن تأتي قبل الآن؟... ولكن مَن قال لي ذات مرّة أنّكِ مُتِّ؟ لستُ أذكر... لستُ أذكر... فإنّني، حتّى بسبب ذلك، قد أكون انتظرتُ طويلاً لآتي إلى مَسيّا. إنّما قيل لي إنّه مات، هو وأنتِ والجميع في بيت لحم...»

 

«لا تُفكِّري في مَن قال لكِ. هَلُمّي وانظري هنا، إنّه ابني، تعالي إليه. افعلي ما يَسرّ أبناءكِ ومريم. هل تَعلَمين أنّنا نتألّم لرؤيتكِ هكذا؟» وتأخذها إلى يسوع الذي جَلَسَ في ركن مُظلِم، وهو الآن فقط يتقدّم على ضوء مصباح وَضَعَته الخادمة على صندوق مرتفع.

 

تَرفَع الأُمّ المسكينة رأسها... وأرى حينئذ أنّها هي إليز التي كانت كذلك على الجلجلة مع النساء الوَرِعات. يَمدّ لها يسوع يديه في حركة دعوة، ما هي إلّا حبّ. تُقاوِم المسكينة قليلاً، ثمّ تعطيه يديها، وفي النهاية تترك نفسها ترتمي على صدر يسوع، وهي تتمتم: «قل لي، قل لي إنّني لستُ مُذنِبة في موت لاوي! قُل لي إنّني لم افقدهما إلى الأبد! قل لي إنّني سأكون معهما قريباً!...»

 

«نعم، نعم، اسمعي. إنّهما في مُنتَهى الغِبطة الآن وأنتِ بين ذراعيَّ. ولن أتأخَّر في اللّحاق بهما، وماذا ينبغي لي أن أقول لهما حينئذ؟ إنّكِ لا تُفوِّضين أمركِ للربّ؟ أهو هذا ما ينبغي لي قوله؟ نساء إسرائيل، نساء داود الشُّجَاعات كثيراً، الحكيمات كثيراً، هل ينبغي لكِ أن تُكذّبيهنّ؟ لا. إنّكِ تتألّمين، ولكن لأنّكِ تألّمتِ وحدكِ. ألمكِ وأنتِ، أنتِ وألمكِ. إذن لا يمكنكِ تَحَمُّل وَطأَته. ألم تعودي تَحفَظين في روحكِ كلمات الرَّجاء بخصوص أولئك الذين أَخَذَهم الموت مِنّا؟ "سوف أُخرِجكُم مِن قبوركم وآخذكُم إلى أرض إسرائيل. وسَتَعرفون أنّي الربّ عندما أفتح قبوركم وأُخرِجكم منها. عندما أَسكُب روحي فيكم فتكون لكم الحياة". إنّ أرض إسرائيل هي مِن أجل الأبرار الرَّاقِدين بالرب، إنّه ملكوت الله. سأفتَحهُ وسَأَمنَحهُ للّذين يَنتَظِرون.»

 

«حتّى لابني دانيال؟ حتّى لابني لاوي؟... لقد كان يَمقت الموت كثيراً! لَم يكن يستطيع تَصوُّر ابتعاده عن أُمّه. لأجل ذلك كنتُ أبغي الموت والذَّهاب إلى جانبه في القبر...»

 

«ولكنّهم ليسوا هناك بِما هو حَيّ فيهم. فَلَم يكن هناك سوى الأشياء الميتة التي لا يمكنها سماعكِ. أمّا هُم فإنّهم في موضع الانتظار...»

 

«ولكن هل حقيقة الأمر كذلك؟ آه! لا تأنف منّي. فلقد ذابت ذاكِرَتي في ألمي! ورأسي مَليء بِصَخَب الدموع وحَشرَجَة وَلَديّ. يا لها مِن حَشرَجَة! يا لها مِن حَشرَجَة!... ذاك ما أذابَ مُخّي، فليس لديَّ سِوى تلك الحَشرَجَة، هنا في الداخل...»

 

«أمّا أنا فسأضع لكِ فيه كلام الحياة. سأغرس الحياة، فإنّني أنا الحياة حيث يكون تَحَطُّم الموت. تذكّري يهوذا المكابيّ العظيم الذي أراد تقدمة ضحيّة مِن أجل الأموات، بفضل الفِكرة الصائبة أن قَدَرَهم القيامة، وأنّه يجب تسريع حلول ساعة السلام مِن أجلهم بواسطة أَضاحي مُلائِمة. لو لم يكن يهوذا المكابيّ متأكّداً مِن القيامة فهل كان صَلّى وجَعَلَ الجميع يُصَلّون مِن أجل الأموات؟ فإنّه، على العكس، كما كُتِب، لقد فَكَّر بأن ثواباً عظيماً كان محفوظاً للّذين يموتون بِتُقى، كما مات وَلَدَاكِ بالتأكيد... أَتَرَين أنّكِ تقولين نعم؟ فلا تيأسي بَعدُ إذن. ولكن صلّي بقداسة مِن أجل الأموات لتُمحى لهم خطاياهم قبل مجيئي إليهم. حينئذ، ودون انتظار لحظة، سيأتون معي إلى السماء. إذ إنّني أنا الطريق والحقّ والحياة، فأقود وأقول الحقّ وأمنح الحياة لِمَن يؤمن بحقيقتي ويتبعني. قولي لي هل كان وَلَدَاكِ يؤمِنان بمجيء مَسيّا؟»

 

«بكلّ تأكيد يا سيّد. فإنّهما كانا قد أَخَذَا عنّي هذا الإيمان.»

 

«ولاوي، هل كان يؤمن بإمكانيّة شفائه بفعل إرادتي؟»

 

« نعم يا رب. كُنا نتأمّل فيكَ، ولكن... هذا لَم يفده... وقد مات مُثبَّط العزيمة بعد التأمّل بكَ كثيراً...» وتُعاوِد المرأة البكاء بأكثر سكينة، إنّما بأكثر حزناً في ذاك السكون ممّا كان عليه في الهياج السابق.

 

«لا تقولي إنّ ذلك لم يأتِ بفائدة. إنّ مَن يؤمن بي وإن مات فسيحيا إلى الأبد... يَهبط اللّيل يا امرأة. وأنا سألحق بِرُسُلي. أغادركِ يا أُمّي...»

 

«آه! ابقَ أنتَ أيضاً... أخاف، لو ابتعدتَ، أن يُعاودني ذلك العذاب الـمُبَرِّح... فإنّ العاصفة بالكاد، بالكاد بَدَأَت تَسكن على صوت كلامكَ...»

 

«لا تخافي! فمريم معكِ. سأعود غداً. فلديَّ ما أَقولُه للرُّعاة، فهل باستطاعتي القول لهم أن يأتوا إلى قرب بيتكِ؟...»

 

«آه! نعم. لقد كانوا يأتون كذلك العام الماضي مِن أجل ابني... فتوجد حديقة خلف البيت، ثمّ باحة ريفيّة. يمكنهم المجيء إليها كما كانوا يَفعَلون آنذاك لِيَجمَعوا قطعانهم...»

 

«حسناً. سأعود. كوني صالحة. تذكّري أنّ مريم كانت مُوكَلَة إليكِ في الهيكل. وأنا كذلك أأتمنكِ عليها هذه الليلة.»

 

«نعم. كُن مطمئنّاً، سأعتني بها، وهنا سأكون مُضطَرَّة للتفكير بعشائها وراحتها... كَم مِن الزمن مضى وأنا لا أُفكّر بتلك الأمور! مريم، هل تَوَدِّين النوم في غرفتي كما كان يفعل لاوي أثناء مرضه؟ أنا أنام في سرير ابني وأنتِ في سريري. ويبدو لي أنّني سَأَسمَع أنفاسه الخفيفة... لقد كان يُمسِك بيدي على الدوام...»

 

«نعم، إليز. وقبل ذلك سنتحدّث في أمور كثيرة.»

 

«لا. فأنتِ مُتعَبَة وعليكِ أن تنامي.»

 

«وأنتِ كذلك...»

 

«آه! أنا! لستُ أنام منذ أشهر... إنّني أبكي... أبكي... ولا أعرف القيام بأيّ أمر آخر...»

 

«هذا المساء، على العكس، سوف نُصلّي، ثمّ نَخلُد إلى النوم، وستنامين... سوف ننام واليد في اليد، نحن كذلك. يمكنكَ الذهاب يا ابني، وَصَلِّ مِن أجلنا...»

 

«أُبارِككما. وليكن السلام لكما ولهذا البيت!»

 

ويَمضي يسوع مع الخادمة التي عَقَدَت الدهشة لسانها، ولا تَفعَل شيئاً سوى تَرديد: «يا لها مِن معجزة يا ربّ! يا لها مِن معجزة! بعد أشهر كثيرة تَكَلَّمَتْ، فَكَّرَتْ... آه! يا لهذا الحَدَث!... حَسِبناها تموت مجنونة... وقد كنتُ أتألّم حزينة لأنّها طيّبة.»

 

«نعم، إنّها طيّبة، وسيأتيها الله بالعون لأجل ذلك. وداعاً يا امرأة. السلام لكِ كذلك.»

 

يَخرُج يسوع إلى الشارع شِبه الـمُظلِم. وينتهي كلّ شيء.