ج3 - ف35
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الثالث / القسم الأول
35- (شِفاء الأبرص في أسفل الجبل)
30 / 05 / 1945
(في مثل هذا اليوم، منذ أربعين عاماً 30 / 05 / 1905 كنتُ قد تقبَّلتُ سرّ التثبيت على يد الكردينال أندريا فرّاري)
وسط الزهور التي لا تحصى والتي تُعطِّر الأرض وتُبهِج النَّظَر، ينتَصِب شبح أبرص مُريع، وقد غَطَّت جسمه القروح التي تَنبَعِث منها رائحة نَتِنَة، وقد تأكَّله البرص.
يَصرخ الناس مذعورين، ويَرتَدّون مِن جديد إلى أوّل منحدرات الجبل، وقد تناول بعضهم الحجارة ليرموها على الـمُتهوِّر. ولكن يسوع يلتَفِت، فاتحاً ذراعيه، وهو يهتف: «هدوءاً! ابقوا في أماكنكم ولا تخافوا. ضعوا الحجارة مِن أيديكم. أشفقوا على هذا الأخ المسكين. فهو كذلك ابن لله.»
يطيع الناس، وقد هَيمَن عليهم سلطان المعلّم. ويتقدّم عبر الأعشاب الطويلة إلى مسافة خطوات مِن الأبرص الذي يتقدّم بدوره بعدما أَدرَكَ أنّ يسوع كان يحميه. ويدنو مِن يسوع، ويجثو، والعشب الـمُزهِر يَغمُره مثل مياه عذبة ومعطّرة، والزهور التي تتموّج، تبدو وكأنّها تَنشر حجاباً على المآسي التي تُخفيها. وحده الصوت المثير للرثاء الذي ينبعث منها يُذكِّر بأنّ هناك كائناً مسكيناً. ويقول الصوت: «سيّدي، إن شئتَ فأنتَ قادر أن تُطهِّرني. فارحمني.»
يُجيبه يسوع: «ارفع وجهكَ وانظُر إليَّ. على الإنسان معرفة النَّظَر إلى السماء عندما يؤمن بها. وأنتَ تؤمن، بما أنّكَ تَلتَمِس.»
يتحرّك العشب وينفتح مِن جديد. ويبدو وجه الأبرص مثل رأس غريق يطفو على سطح البحر، دون شعر ودون لحية. جمجمة ما يزال عليها بعض مِن بَشَرَة. حينئذ تجرّأ يسوع ووضع رؤوس أصابعه على تلك الجبهة الجليّة، وهي سليمة دون قروح، حيث لا يوجد سوى جلد شمعيّ، مُحرشَف بين تآكُلَين مُتقيِّحَين، أحدهما خَرَّب فروة الرأس، والآخر فَتَحَ حفرة حيث كانت العين اليمنى. لستُ أعرف القول إذا ما كان في هذا التجويف الكبير، الممتدّ مِن الصَّدغ إلى الأنف، مُعرِّياً عَظم الوَجنَة وغضاريف الأنف، وهي ممتلئة قَذارة، قد بَقِيَت مُقلَة أم لا.
يقول يسوع، ويده الجميلة مُستَنِدَة بِطَرَفها هناك: «شِئتُ فابرأ.»
وكأنّ الرجل لم يتأكّله البرص، ولم تكن القروح تغطّيه، إنّما فقط دَرَنات سُكِب عليها سائل مُطهِّر، وها هو البرص يختفي. في البدء اندَمَلَت القروح، ليعود الجلد صافياً، وتعود العين للظهور بين الجفنين اللذين أُعيد تَشَكُّلهما، وأُغلِقَت الشَّفَتان مِن جديد على أسنان تميل إلى الاصفرار، فقط الشعر واللحية بقيا غائبين إلّا مِن خُصلات قليلة حيث كانت هناك بقايا جلد سليم.
يَصرخ الجمهور مِن الذهول، ويُدرِك الرجل أنّه شُفِيَ لدى سماعه هتافات الفرح. يَرفَع يديه اللتين كانتا مخبّأتين حتّى ذلك الحين في العشب، ويتلمّس عينه حيث كانت الحفرة الكبيرة. يَلمِس رأسه حيث كانت القرحة الكبيرة التي كانت تغطّي الجمجمة، ويتلمّس الجلد الجديد. حينئذ يَنهَض ويَنظُر إلى صدره وردفيه... كلّ شيء سليم ونظيف... ويَخرّ الرجل مِن جديد في الحقل الـمُزهِر باكياً مِن الفرح.
«لا تبكِ. انهض واسمعني. عُد إلى حياتكَ مُحافِظاً على الشَّعائِر، ولا تقل لأحد حتّى يتمّ. اذهب إلى الكاهن في أسرع وقت وأَرِه نفسكَ. وقَرِّب ما أَمَرَ به موسى مِن قربان شهادة للمعجزة التي أدَّت إلى شفائكَ.»
«لكَ أنتَ ينبغي لي أن أَشهَد يا سيّدي!»
«ستفعل ذلك بحبّكَ لـمَذهَبي. امضِ.»
يدنو الجمع مِن جديد، ومُحافِظِين على المسافة المفروضة، يُهنِّئون الذي حَدَثَت المعجزة له. ويشعر البعض بالحاجة إلى منحه معونة لسفره، فيرمون له قِطعاً نقديّة. ويرمي له آخرون خبزاً وزاداً. أحد الرجال، وقد رأى ثوب الأبرص الذي ليس سوى خِرقة بالية تستره بشكل سيّئ، يَخلَع معطفه جاعلاً منه صُرّة، ويرميه للأبرص الذي يتمكّن هكذا مِن ستر جسده بشكل مُحتَشِم. وآخر، حيث إنّ المحبّة مُعدِية، عندما يكون الناس على شكل جماعة، لا يُقاوِم الرغبة في توفير حذاء له، فيخلع حذاءه ويرميه له.
«ولكن، وأنتَ؟» يَسأَله يسوع الذي يراه يفعل.
«آه! أنا اقطن قريباً مِن هنا. ويمكنني السير حافي القدمين. أمّا هو فدربه طويل.»
«ليبارككَ الله، وجميع الذين أسدوا خدمة لهذا الأخ. يا رجل، سوف تُصلّي مِن أجلهم.»
«نعم، نعم مِن أجلهم، ومِن أجلكَ ليؤمن العالم بكَ.»
«وداعاً. اذهب بسلام.»
يبتَعِد الرجل بضعة أمتار، ثمّ يعود ويهتف: «لكن هل يمكنني البوح للكاهن بأنّكَ أنتَ مَن شَفَيتَني؟»
«لا. يجب ألّا تفعل. قل له فقط: "الربّ ترأّفَ بي". إنّها الحقيقة الصَّرف. ولا شيء آخر.»
يتزاحم الجمهور حول المعلّم، يشكّلون دائرة لا يمكن فتحها بأيّ ثمن. ولكن في تلك الأثناء مالت الشمس. إنّه بدء استراحة السبت. البلدات بعيدة. ولكنّ الناس لا يَتحسَّرون على البلدات ولا على القُوت ولا على أيّ شيء. حينئذ أَخَذَ الرُّسُل يَقلَقون، وكَلَّموا يسوع بهذا الخصوص. حتّى الرُّسُل الأكبر سنّاً قَلِقوا. فهناك النساء والأطفال، وإذا كان الليل دافئاً، وعشب الحقول طريّاً، فالنجوم ليست خبزاً، وحجارة المنحدر لا تُوفِّر ما يُؤكل.
يسوع هو الوحيد الذي لا يهتمّ للأمر. وفي غضون ذلك، يأكل الناس ما تبقّى لديهم وكأنّ شيئاً لم يكن. ويَلفت يسوع انتباه أتباعه إلى ذلك: «الحقّ أقول لكم، إنّ هؤلاء الناس أسمى منكم! انظروا بأيّة لا مبالاة يُنهون ما بقي لديهم. لقد قلتُ لهم: "مَن لا يمكنه الإيمان بأنّ الله سيعطي غداً أبناءه ما يأكلون، فلينسَحِب". وهُم ظَلّوا. والله لا يُكذِّب مسيحه ولا يَخذل الذين يأملون به.»
يرفع الرُّسُل أكتافهم، ولا يعودون يهتمّون بشيء آخر. بعد غسق أحمر، يهبط الليل هادئاً وجميلاً، وصمت الريف يخيّم على كلّ شيء، بعد أمسية غنائيّة أخيرة أَدَّتها العصافير. بعض مِن هَفيف الريح، ثمّ طيران صامت لعصفور ليل في اللحظة التي تُشرِق فيها النجمة الأولى، وأوّل نقيق ضفدع.
لقد نام الأطفال، والكبار يتحدّثون فيما بينهم، وبين الفينة والفينة، يذهب أحدهم إلى المعلّم طالباً إيضاحاً. ولا نندهش كذلك عندما نرى شخصيّة هامّة، مَظهَراً ولباساً وسنّاً، قادماً على درب بين حقليّ قمح. وخلفه رجال يتبعونه. يَلتَفِت الجميع للنَّظَر إليه، ويشيرون متهامسين. تمتمة قصيرة مِن مجموعة لأخرى تنشط وتخمد. والمجموعة الأكثر ابتعاداً يقتربون مدفوعين بالفضول.
يَصِل الرجل ذو المظهر النبيل إلى يسوع الذي كان جالساً عند أسفل شجرة يستمع إلى بعض الناس، ويحيّيه بعمق. ينهض يسوع فوراً ويردّ التحيّة بالاحترام ذاته. ويتابع الموجودون جميعهم الحَدَث بانتباه شديد.
«لقد كنتُ على الجبل. وقد تكون فَكَّرتَ بأنّني كنتُ أَفتَقد إلى الإيمان، لأنّني كنتُ قد مَضَيتُ لكيلا أبقى على الرّيق. ولكنّني مَضَيتُ بدافع آخر. كنتُ أريد أن أكون أخاً بين الأخوة، الأخ البِكر. أودُّ أن أبوح لكَ بما أُفكّر على انفراد. هل يمكنكَ الاستماع إليَّ؟ أنا لا أُضمِر العَداء لكَ، رغم كوني مِن الكَتَبَة.»
«هيّا بنا نبتعد قليلاً...» ويذهبان إلى وسط حقول القمح.
«كنتُ أودُّ توفير الطعام للحجّاج، وقد نَزَلتُ لإصدار الأمر بتأمين الخبز لكلّ هذا الجمع، وكما ترى، فأنا ضمن نطاق الشَّرع، ذلك أنّ هذه الحقول لي، ومِن هنا حتى القمّة، طريق يمكنني قطعها يوم السبت. كنتُ سآتي غداً مع خُدَّامي، ولكنّني عَلِمتُ أنّكَ هنا مع الجمع. أرجوكَ السماح لي بتأمين الطعام لهم أثناء السبت. وإلّا فيسوءني أنّي تخلّيتُ عن الاستماع إليكَ سُدى.»
«لم يكن ذلك سُدى أبداً، فالآب سيمنحكَ أنواره أجراً. ولكنّني أشكركَ، ولن أُخيِّب رجاءكَ. أَلفِت نَظَرَكَ فقط إلى أنّ الجمع غفير.»
«لقد جَعَلتُ الأفران كلّها تعمل، حتّى تلك التي تُستَخدَم لتجفيف المحاصيل. وسأتوصّل للحصول على الخبز للجميع.»
«ليس هذا. كنتُ أودّ الحديث عن كميّة الخبز...»
«آه! هذا لا يزعجني. فالغِلال كانت وفيرة العام الماضي. وهذا العام، أنتَ ترى السنابل. دعني أفعل. وسيكون هذا أفضل ضمان لحصادي. ثمّ، يا معلّم... يا لذاك الخبز الذي مَنَحتَنيه اليوم... أنتَ، نعم، أنتَ خبز الروح!...»
«إذن، ليكن كما تريد. هيّا بنا نقول ذلك للحجّاج.»
«لا. لقد قُلتَه.»
«هل أنتَ مِن الكَتَبَة؟»
«نعم، أنا كذلك.»
«فليَقُدكَ الربّ إلى حيث يستحقّ قلبكَ.»
«أُدرِك ما لا تقوله. تريد القول: إلى الحقيقة. لأنّ فينا الكثير مِن الأخطاء... والكثير مِن سوء النيّة.»
«مَن أنتَ؟»
«أنا ابن لله. صَلِّ إلى الآب مِن أجلي. وداعاً.»
«ليكن السلام معكَ.»
يعود يسوع على مهل إلى أتباعه، بينما يبتعد الرجل مع خُدّامه.
«مَن كان ذاك؟ ماذا كان يريد؟ هل قال لكَ ما يُزعِج ويُكدِّر؟ هل لديه مرضى؟» وانهالت الأسئلة على يسوع.
«مَن يكون، لا أدري. يعني أَعلَم أنّها نَفْس صالحة وهذا...»
«إنّه يوحنّا، أحد الكَتَبَة.» يقول واحد مِن الجمع.
«حسناً، الآن وقد قُلتَها، أَعرِف، كان يريد بكلّ بساطة أن يكون خادم الله في أبنائه. صَلّوا مِن أجله، فسنأكل غداً بفضل طِيبه وصلاحه.»
«في الحقيقة إنّه بارّ.» يقول أحدهم.
«نعم، ولستُ أدري كيف يمكنه أن يكون صَديق الآخرين.» يُعلِّق آخر.
«تَلُفّه الروادِع والسُّنن مثل مولود جديد. ولكنّه ليس سيّئاً.» يَخلص ثالث.
«هل هذه الحقول ملكه؟» يَسأَل كثير مِن الناس الغريبين عن البلدة.
«نعم. أظنُّ أنّ الأبرص كان أحد خدّامه أو أحد فلّاحيه، ولكنّه كان يتغاضى عن وجوده في الجوار، وأظنُّ أنّه كان يطعمه كذلك.»
الحِوار مستمرّ، ولكنّ يسوع يُفلِت منه منادياً الاثني عشر إلى جانبه، حيث يسألهم: «والآن ماذا ينبغي لي أن أقول لكم حول قلّة إيمانكم؟ ألم يُرسِل الآب خبزاً لنا جميعاً، وبِيَدَيّ مَن تُضمِر لنا طَبَقَتَه العَداء؟ آه! يا قليلي الإيمان!... ولكن اذهبوا وناموا في العشب الوثير. سوف أصلّي إلى الآب ليفتح قلوبكم، وأَشكره على صلاحه. السلام لكم.»
ويمضي إلى مشارف منحدرات الجبل. وهناك يجلس ويختلي بنفسه في الصلاة. وهو، إذ يرفع عينيه، يرى قطيع النجوم المتلألئة في السماء. وإذ يخفضهما، يرى قطيع النيام المتمدِّدِين في الحقول. لا شيء آخر. ولكن هذا كان فرح قلبه حتّى بدا أنّه يتجلّى نوراً.