ج5 - ف74
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الخامس/ القسم الثاني
74- (في بيت سليمان)
15 / 02 / 1946
بيت سليمان الصغير، ذاك الذي رأيتُهُ في آذار (مارس) 1944 دون معرفة مَن يكون مالكه، في رؤيا قيامة لعازر، هو أحد أواخر البيوت في الطريق الوحيد النافذ مِن النهر، لهذه القرية الصغيرة الفقيرة والضائعة. قرية صيّادي سمك صغيرة، ببيوتها الصغيرة الأكثر... ثراءً الواقعة على طول الطريق الترابي الصغير والبيوت الأخرى المتوزّعة وسط أشجار الضفّة. وهي ليست بكثيرة. أظنّها لا تصل إلى الخمسين، وهي صغيرة لدرجة أنّها تندرج ضمن أحد البيوت الشعبيّة في المدن الحاليّة. الآن يجعلها الربيع تبدو أقلّ بؤساً إذ يزخرفها بجدّته، وبأكاليل اللبلاب، وضفائر دوالي العنب، أو الضحكة الصافية لزهور اليقطين، تُزيّن الأسيجة البدائيّة التي تحدّ الملكيّات، حوافّ الأسطحة، أُطُر أبواب البيوت، دون عدّ بعض الورود التي يبدو جمالها المذهل وسط السِّلال والشِّباك، بلون الخردل المزهر الأصفر والاهتزاز الخفيف لطلائع قرون الخضار.
الطريق نفسه يبدو أقلّ قباحة لأنّ المقصبة (منبت القصب) هناك في العمق ليس لها فقط خلجان قاسية مِن المناطق الترابيّة المنعزلة، ولكنّها تتزيّن بشريط مِن خصلات الريش، ووسط شرائط أوراق القصب، تنتصب سكاكين الزنبق البرّيّ التي تبسط السنابل متعدّدة الألوان بأزهارها، بينما اللبلاب الخفيف ذو السُّوق الخَيطيّة يحيط بلوالبه القصب والعُقَد، جاعلاً في كلّ لفّة الكأس المرهف جدّاً لزهرتها الصغيرة باللون الزهريّ الليلكيّ العذب للغاية. عصافير، بأعداد لا تحصى، تمرح في القصب، وتتغازل على القصب، تتأرجح جاثمة على سوق اللبلاب، مثيرة برجرجات صوتها وألوانها خضرة الضفاف المستنقعيّة.
يدفع يسوع السياج الريفيّ الصغير المؤدّي إلى حديقة صغيرة أو حوش صغير. بالتأكيد لو كانت حديقة، فهي الآن ركام برّيّ اجتاحته الأعشاب؛ ولو كانت حوشاً فهو كذلك فوضى نباتات بذرتها الرياح. وحده اليقطين بَرهَنَ عن حكمة بتعلّقه على الكرمة الوحيدة والتينة، وتَسَلُّقه ليضع فوهات زهوره الضاحكة إلى جانب العناقيد المنمنمة للكرمة أو أوراق التينة الناعمة، التي في قاعدتها، في مهد عنقها، تحوي برعم التين القاسي، الذي زهوره بالكاد تشكَّلَت. القرّاص يؤلم الأقدام الحافية، لدرجة أنّ بطرس وتوما، إذ وَجَدا مجذافين منخورين، يَشرَعان بضرب النباتات المخرِّشة لتفادي سمّها.
في هذه الأثناء يحاول يعقوب ويوحنّا جعل الـمِغلاق الضخم المكسوّ صدأ يعمل، وبعد إنجاز العمل يفتحون البوّابة الغليظة ويَلِجون المطبخ الذي تنبعث منه رائحة قويّة مِن العفونة والهواء الحبيس. الجدران ممتلئة غباراً وخيوط عنكبوت. طاولة بدائيّة، مقاعد وكراسي، ومائدة جدار هي الأثاث، وبابان في الجدار.
يتفحّص بطرس... «هنا غرفة صغيرة بسرير واحد فقط: جيّد مِن أجل يسوع... وهنا؟ آه! فهمتُ! المخزن، دار الصناعة البحريّة، سقيفة ووكر الجرذان... انظر إلى ميدان سباق الجرذان! لقد قرضوا كلّ شيء خلال هذه الأشهر. أمّا أنا فأفكّر فيكَ الآن، لا تخشَ شيئاً. يا معلّم... هل يمكننا التصرّف بحريّة هنا؟»
«هذا ما قاله سليمان.»
«حسناً! قُل، يا أخي، وأنتَ يا يعقوب. تعاليا هنا لتسدّا كلّ الثقوب. وأنت يا متّى، مع يهوذا، قفا عند الباب ولا تدعا جرذاً واحداً يخرج. تصوّر أنّكَ ما زلتَ عشّار كفرناحوم الظريف. آنذاك لم يكن ليفلت منكَ زبون واحد حتّى ولو كان رشيقاً كعظاءة وقت صحوتها... وأنتم اخرجوا إلى الحديقة واجلبوا أكبر قدر ممكن مِن العشب إلى هنا. وأنتَ، يا معلّم، اذهب... حيثما يحلو لكَ، بينما، أهتمّ بأمر هذه الشياطين القذرة التي خرّبت هذه الشِّباك الجيدة، وأكلت أرينة (الجسر الممتدّ على طول قعر السفينة وهي تستند عليه) بأكملها...» وبينما يتكلّم يُكدِّس الخشب المقروض، قِطَع الشِّباك التي تحوّلت إلى مُشاقات، حُزَم الحطب... الكلّ وسط الغرفة، وعندما يستلم العشب الأخضر، يضعها فوق ما سلف، ويُضرِم فيها النار ويفرّ بينما ترتفع أولى تلافيف الدخان مِن الكومة تلك. ويقول ضاحكاً: «فليمت كلّ غير مستنير!»
«ولكنّكَ لن تحرق الكلّ؟» يَسأَل سمعان الغيور.
«لا، يا عزيزي. ذلك أنّ رطوبة الأغصان تحبس الشعلة، والشعلة تُطلِق دخان الأعشاب. وهكذا بالتضافر الجيّد، يتعاون الأخضر واليابس في الانتقام. هل تشمّ هذه النتانة؟ قريباً ستسمع الصراخ! مَن الذي حدّثني عن الإوزّ الذي يغنّي قبل أن يموت؟ آه! سِنْتيخي! فالجرذان ستغنّي في الحال.»
يَقطَع يهوذا الاسخريوطيّ موجة الضحك ويبدي ملاحظته: «لم نستطع معرفة شيء عنها، ولا عن يوحنّا الذي مِن عين دور. مَن يدري أين هما؟»
«في المكان الصحيح، بالتأكيد.» يُجيب بطرس.
«هل تعرفه؟»
«أعلم أنّهما لم يعودا يُستَخدمان هدفاً لنيّة السوء.»
«ألم تَسأَل أحداً؟ أنا، بلى.»
«وأنا، لا. معرفة أين هما، أمر لا يهمّني. يكفيني أن أُفكِّر بهما وأن أصلّي كي يُحفَظا في القداسة.»
توما يقول: «أمّا أنا فقد سألني فرّيسيّون أثرياء، زبائن لأبي. ولكنّني أجبتُهم بأنّني لا أعرف شيئاً.»
«أوَلا يُساوِركَ الفضول لمعرفة ذلك؟» يُصِرّ يهوذا.
«أنا، لا. وأقول الحق...»
«اسمعوا! اسمعوا! الدخان يفعل فِعله. ولكن فلنخرج خارجاً كي لا يخنقنا نحن كذلك.» يقول بطرس، والتحويل يضع حدّاً للنقاش.
يسوع في الحديقة. يُعيد تقويم سوق الخضار النائمة، وقد نَبَتَت مِن بذور وَقَعَت.
«أتعمل بستانيّاً، يا معلّم؟» يَسأَل فليبّس مبتسماً.
«نعم. يؤلمني كذلك أن أرى نباتاً يمتدّ على الأرض، بغير ذي فائدة، بينما مُقدَّر له أن يرتفع صوب الشمس ويُثمِر.»
«موضوع جيّد لخطاب، يا معلّم.» يقول برتلماوس.
«نعم. جميل. كلّ شيء ينفع كموضوع لِمَن يعرف أن يتأمّل.»
«سوف نساعدكَ نحن كذلك. هيّا بنا! مَن يذهب إلى النهر لجلب القصب منه مِن أجل الخضار؟»
يمضي الشباب ضاحكين، والأكبر سنّاً يَشرعون بالتنظيف وهُم يَقلَعون بانتباه النباتات الضارّة.
«آه! هكذا يَرى المرء أنّها حديقة. ليس هناك سَلَطَة (خَسّ). بل كرّاث، ثوم، أعشاب ناعمة، وخضار، هذه متوفّرة. واليقطين! كم مِن يقطين! يجب تشذيب الكرمة، تحرير التينة و...»
«ولكن، يا سمعان، نحن لن نبقى هنا!...» يقول متّى.
«ولكنّنا سنأتي إليه مرّات كثيرة. هو قال ذلك، ولن يزعجنا أن يكون حوله القليل مِن الترتيب. انظر، انظر! حتّى ياسمينة، مسكينة، تحت هذا الشلاّل مِن اليقطين. لو كانت بورفيرا ترى هذه النبتة هكذا بهذا السوء لكانت بكت عليها، ولكانت تحدَّثَت إليها كما إلى طفل. نعم، ذلك أنّها، قبل الحصول على مارغزيام، كانت تتحدّث إلى زهورها كما إلى أولاد... هاكَ. هنا أيضاً وَسَّعتُ مكاناً. لقد قَطَفتُ بعض اليقطين لأن... آه! ها هُم الأولاد ومعهم القصب ومعهم أحد... يا معلّم، هذا شغلكَ. إنّه أعمى!»
بالفعل يدخل يعقوب ويوحنّا وأندراوس وتوما، حامِلِين القصب، وتوما يحمل على ظهره عجوزاً مسكيناً بثياب رثّة، وعينين بَيَّضهما السّاد (الماء الأبيض).
«يا معلّم كان يبحث عن الهندباء في الجرف وكاد يقع في الماء. هو وحيد منذ بضعة أشهر، ذلك أنّ ابنه الذي كان يراعيه قد مات، وكنّته عادت إلى بيت أهلها وهو... يعيش بحسب ما يتيسّر له. أليس كذلك يا أبي؟»
«نعم! نعم! أين الربّ؟» يَسأَل وهو يتلفت بعينيه المغشّاتين.
«إنّه هنا. هل ترى ذاك الصفاء الفائق؟ إنّه هو.»
ولكن يسوع يتقدّم إليه ويمسك بيده. «أأنتَ وحيد، أيّها الأب المسكين، ولا ترى؟»
«لا. طالما كنتُ أرى كنتُ أحبك السِّلال وسلال صيد السمك والشِّباك، أمّا الآن... فإنّني أرى بأصابعي أكثر منه بعينيّ. وفي بحثي عن الأعشاب، أُخطِئ وأصاب بألم في بطني بسبب تلك الأعشاب الضارّة.»
«ولكن في القرية...»
«آه! إنّهم جميعاً فقراء ولديهم أولاد، وأنا، مُسِنّ... إذا مات حمار... فهذا يُكدِّر. أمّا إذا مات عجوز!... ما هو هذا العجوز؟ ماذا أكون؟ لقد أَخَذَت كنّتي منّي كلّ شيء. ليتها فقط أخذتني معها، كنعجة عجوز، ليكون أحفادي إلى جانبي... أبناء ابني...» يبكي مستسلماً على صدر يسوع الذي يحيطه بذراعيه ويلاطفه.
«أليس لكَ بيت؟»
«لقد باعته.»
«وكيف تعيش؟»
«كالحيوانات. في البداية كانت القرية تساعدني. ولكنّها فيما بعد تراخت...»
«إذاً فسليمان ليس مِن الأصل ذاته، ذلك أنّه كريم.» يُبدي متّى ملاحظته.
«فعلاً، معنا نحن. لماذا لم يعط البيت للرجل العجوز؟» يَسأَل فليبّس.
«لأنّه عندما مرَّ هنا في المرّة الأخيرة، كان ما يزال لي بيت. سليمان رجل صالح، ولكنّ القرية تسمّيه "المجنون" منذ بعض الوقت ولا تعمل بما عَلَّمه سليمان.» يقول الرجل العجوز.
«هل ترضى أن تبقى هنا، معي؟»
«آه! ولن أعود مُستَفقِداً لأحفادي!»
«حتّى ولو بقيتَ فقيراً وأعمى هل يكفيكَ أن تخدمني كي تكون سعيداً؟»
«نعم!» نعم مرتجفة ولكنّها على درجة عالية مِن اليقين…
«حسناً أيّها الأب، اسمع. لا يمكنكَ أن تمشي الطريق التي أسلك. أنا، لا يمكنني البقاء هنا. إنّما يمكننا أن نتحابّ وأن نُحسِن الواحد للآخر.»
«أنتَ، نعم، لي. أمّا أنا... ماذا يمكن لحنانيا العجوز أن يفعل؟»
«احرس لي البيت والحديقة كي أجده مرتباً لدى كلّ عودة لي. هل يرضيكَ هذا؟»
«آه! نعم! ولكنّني أعمى... البيت... أعتاد على الجدران. إنّما الحديقة... فكيف العمل للاهتمام بها إذا كنتُ لا أميّز النباتات؟ آه! سيكون رائعاً جدّاً أن أخدمكَ، يا ربّ! أن أنهي حياتي هكذا...» يضع العجوز يده على قلبه حالماً بالأمر المستحيل.
ينحني يسوع مبتسماً ويُقبِّل له عينيه الضريرتين…
«ولكن أنا... بدأتُ أرى... أنا أرى... آه! آه! آه!...» الفرح يجعله يترنّح، وكاد يقع لو لم يسنده يسوع.
«هيه! الفرح!...» يقول بطرس بصوت جِدّ متأثّر.
«والجوع كذلك... لقد قال إنّه منذ بضعة أيّام لا يقتات إلاّ على الهندباء بدون زيت ولا ملح...» يَخلص توما.
«نعم، لقد أتينا به لأجل ذلك، لكي نقدّم له الطعام...»
«العجوز المسكين!» يقول الجميع بحزن.
يعود العجوز المسكين إلى ذاته، ويبكي، يبكي. دموع العجائز المسكينة... الحزينة للغاية حتّى ولو كانت دموع فَرَح، ويُتمتم: «الآن نعم، الآن أستطيع أن أخدمكَ، مبارك أنتَ! مبارك! مبارك!» ويهمّ بالانحناء لتقبيل قدميّ يسوع.
«لا، أيّها الأب. فلندخل الآن وسوف نتناول طعامنا. وبعد ذلك نقدّم لكَ ثوباً وتكون بين أبناء، ويكون لنا أب يرحِّب بنا في كلّ مرّة نعود، ويمنحنا بركته في كلّ مرّة نرحل. سوف نجلب فرخيّ حَمام لتكون لكَ مخلوقات حيّة إلى جانبكَ. سوف نجلب بذوراً للحديقة، وستَبذر البذور في أجزاء الحديقة المخصّصة للزهر، وستبذر الإيمان بي في قلوب هذه القرية.»
«سوف أُعلِّم المحبّة. فإنّهم يفتقدونها!»
«المحبّة كذلك، ولكن كُن لطيفاً...»
«آه! سأكون كذلك. لم أَقُل كلمة واحدة لكنّتي التي هجرتني. لقد تَفَهّمتُ وغَفَرتُ.»
«لقد رأيتُ ذلك في قلبكَ، ولذلك أحببتُكَ. تعال، تعال معي...» ويَدخُل يسوع إلى البيت ممسكاً العجوز بيده.
يَنظُر بطرس إليهما يمضيان ويمسح دمعة بظاهر يده قبل معاودة العمل الذي انقطع.
«هل تبكي، يا أخي؟»
بطرس لا يُجيب.
فيلحّ أندراوس: «لماذا تبكي، يا أخي؟»
«أنتَ، اهتمّ بالنجيل. إذا كنتُ أبكي فلأنّني... لأنّني أعرف ذلك، أنا...»
«قُله لنا. كُن لطيفاً.» يقول كثيرون.
«هذا لأنّ... هذا لأنّ هذه الدُّرُوس تمسّ قلبي أكثر... نعم... خلاصة القول إنّها تفعل ذلك، أكثر ممّا عندما يُدوّي وهو مهيب...»
«ولكن حينئذ نرى فيه الـمَلِك!» يهتف يهوذا.
«وهنا نرى فيه القدّيس. بطرس على حقّ.» يقول برتلماوس.
«ولكن كي يَملك يجب أن يكون قوّياً.»
«ولكي يفتدي، عليه أن يكون قدّيساً.»
«بالنسبة إلى النُّفوس، نعم. أمّا بالنسبة إلى إسرائيل...»
«إسرائيل لن تكون أبداً إسرائيل، إذا لم تتقدّس النُّفوس.»
تتقاطع الـ «نعم» والـ «لا» وكُلّ يُدلي برأيه الخاصّ.
يعود العجوز إلى الخارج وبيده إبريق. يذهب إلى الينبوع لجلب الماء. لم يعد بمظهره السابق، لشدّة ما كان سعيداً.
«أيّها الأب العجوز، اسمع. وبحسب رأيكَ، إلامَ تحتاج إسرائيل لتكون عظيمة، أإلى مَلِك أَم إلى قدّيس؟» يَسأَل أندراوس.
«ما هو بحاجة إليه هو الله. لهذا الإله الذي هنا، في الداخل، يُصلّي ويتأمّل. آه! أبنائي، أبنائي! كونوا صالحين، أنتم يا مَن تتبعونه! كونوا صالحين، صالحين، صالحين! آه! أيّة نعمة منحكم الربّ! يا لها مِن نعمة! يا لها مِن نعمة!» ويمضي، رافعاً ذراعيه صوب السماء ومتمتماً: «يا لها مِن نعمة! يا لها مِن نعمة!»...