ج6 - ف129

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء السادس/ القسم الثاني

 

129- (يسوع ومريم في حِوار)

 

15 / 05 / 1946

 

لا أعلم فيما إذا كان مساء السبت ذاته. ما أعلَمه هو أنّني أرى يسوع ومريم، جالِسَين على مقعد حجريّ مقابل المنزل، بجانب باب غرفة الطعام، والتي يخرج منها ضوء خفيف لمصباح زيت موضوع قرب الباب. الشعلة الصغيرة ترتجف في الهواء، تتوهّج وتَخفُت، كما لو كانت حركة تنفُّس. إنّه الضوء الوحيد في هذه الليلة غير المقمرة: إنّه ضوء خافت ينبثق في البستان، حيث يُضيء شريط أرض صغير أمام الباب، ويخبو عند أوّل غصن ورد في حوض الزهور. لكن ذاك الضوء الخافت كاف كي يُنير المظهر الجانبي للاثنين المتّحدين في حِوار حميم في الليل الهادئ الذي يعبق برائحة الياسمين وزهور صيفيّة أخرى.

 

إنّهما يتحدّثان عن أقاربهما... عن يوسف بن حلفى الذي ما يزال مستمرّاً بعناده، عن سمعان الخائف مِن المجاهرة بإيمانه، الـمُسَيطَر عليه مِن قِبَل شقيقه الأكبر، المتعجرف والمتعنّت بأفكاره كما كان عليه والده. إنّه الألم الأعظم لمريم التي ترغب في أن يكون كلّ أقربائها تلاميذ ليسوعها.

 

يسوع يعزّيها، وكي يبرّر ابن عمّه فإنّه يؤكّد على قوّة إيمانه الإسرائيليّ: «إنّه عائق، أتعلمين؟ إنّه عائق حقيقيّ. لأنّ كلّ القواعد والتعاليم تُشكّل عائقاً أمام تقبُّل الفكرة المسيحانيّة على حقيقتها. وإنّه مِن الأسهل أن نهدي وثنيّاً، شريطة ألّا تكون روحه فاسدة تماماً. فالوثنيّ يُفكّر ويتبيّن الفرق في الصّلاح بين الأولمب وملكوتي. إنّما إسرائيل... القسم الأكثر ثقافة مِن إسرائيل... يجد أنّه مِن الصعب اتّباع الفكر الجديد!...»

 

«ومع ذلك فهو دائماً الفكر نفسه!»

 

«نعم. إنّها دائماً الوصايا العشر ذاتها، النبوءات ذاتها. ولكنّ الإنسان قد شوّه طبيعتها. فبعد أن حصل عليها مِن مجالها الفائق الطبيعة حيث كانت، فقد جذبها إلى مستوى الأرض، إلى جوّ العالم، تعامَلَ معها بإنسانيّته مبدّلاً إيّاها... فالمسيح -الـمَلِك الروحيّ للمملكة العظيمة التي دُعِيَت مملكة إسرائيل، لأنّ المسيح كان قد وُلِد مِن عرش إسرائيل، والتي كان مِن الأصحّ دعوتها: مملكة المسيح، لأنّ المسيح يشتمل على الجزء الأفضل مِن إسرائيل، في ماضيه وحاضره معاً، ويتسامى به في كماله كإله إنسان- لا يمكن أن يكون وفقاً لهم الإنسان الوديع والفقير، غير التوّاق إلى السُّلطة والثروات، المطيع لأولئك الذين يحكموننا بفعل عقاب إلهيّ، رغم أنّ الطاعة هي قداسة عندما لا تُبطِل الشريعة العظمى. وبناءً عليه يمكننا القول بأنّ إيمانهم يعمل ضدّ الإيمان الحقيقيّ.

 

هناك الكثيرون ممّن ينتمون إلى هذه الفئة المتعنّتة، وهم مقتنعون بأنّهم على صواب... إنّهم موجودون في كلّ طبقة... وحتّى بين أقاربي ورُسُلي. صَدّقي يا أُمّي بأنّ ما يعميهم عن التصديق بآلامي هو هذا الأمر. إنّ خطأهم في التقدير يتأتّى مِن ذلك... وأيضاً نفورهم المتصلّب مِن احترام الوثنيّين وعَبَدَة الأصنام، لا بالنظر إلى الإنسان، بل إلى روح الإنسان، هذا الروح الذي يمتلك أصلاً واحداً، والذي يودّ الله منحه مصيراً واحداً فقط: السماء. تأمّلي في برتلماوس... إنّه مَثَل. إنّه صالح جدّاً، حكيم، مستعدّ لفعل أيّ شيء كي يكرّمني ويعزّيني... إنّما -لن أقول إنّه أمام أغليّا أو سِنْتيخي، التي هي الآن زهرة بالمقارنة مع المسكينة أغليّا، التي وحدها التوبة هي ما حوّلها مِن وحل إلى زهرة- إنّما حتّى أمام طفلة، طفلة مسكينة تثير الكثير مِن الشفقة، والتي يثير حياؤها الغريزيّ الإعجاب، فهل جَعَلَ ذلك اشمئزازه مِن الوثنيّين يختفي، فلا مَثَلي كان قد أَقنَعَه، ولا حتّى كلامي بأنّني قد جئتُ مِن أجل الجميع.»

 

«إنّكَ على حقّ. لا وبل إنّ برتلماوس ويهوذا الاسخريوطيّ، الاثنان الأكثر ثقافة، أو على الأقل: برتلماوس المتعلّم، ويهوذا الاسخريوطيّ، والذي لا أعلم إلى أيّة طبقة ينتمي تحديداً، إنّما المتشرّب والـمُشبَع مِن هواء الهيكل، هما الأكثر مقاومة. إنّما... برتلماوس صالح ومقاومته قابلة للعذر. أمّا يهوذا... فلا. لقد سمعتَ ما قاله متّى الذي ذهب إلى طبريّا عمداً... ومتّى هو رجل ذو خبرة، وخصوصاً بتلك الحياة... وملاحظة يعقوب بن زَبْدي كانت صحيحة: "مَن الذي يعطي كلّ هذا المقدار مِن المال ليهوذا؟" لأنّ تلك الحياة مكلفة... مسكينة مريم التي لسمعان!»

 

يسوع يقوم بحركته بيديه ليقول: "هكذا هو الأمر..." ويتنهّد. ثمّ يقول: «هل سمعتِ؟ السيّدات الرومانيّات في طبريّا... فاليريا لم تقل لي شيئاً. إنّما عليَّ أن أَعلَم قبل أن أستأنف رحلتي. أُمّي، أريدكِ أن تأتي معي إلى كفرناحوم لبعض الوقت... ثمّ تعودين إلى هنا، سوف أذهب باتّجاه الحدود الفينيقيّة-السوريّة، وسوف أعود كي أودّعكِ قبل النزول صوب اليهوديّة، نعجة إسرائيل العنيدة...»

 

«بنيّ، سوف أذهب مساء الغد... سوف آخذ مريم التي لحلفى معي. أوريا سوف تبقى مع سمعان بن حلفى، لأنّ بقاءها هنا معكم لبضعة أيّام سوف يكون بالتأكيد محلّ انتقاد... هكذا هو العالم... وسوف أذهب... إلى قانا كمرحلة أولى، ثمّ سأرحل عند الفجر، وسأتوقّف في منزل أُمّ سالومة التي لسمعان. ثمّ سأنطلق مجدّداً عند الغروب، وسوف نصل إلى طبريّا نهاراً. سأبقى في منزل يوسف، التلميذ، لأنّني أريد الذهاب شخصيّاً إلى منزل فاليريا، وإذا ما ذهبتُ إلى عند يُوَنّا، فهي سوف تودّ الذهاب... ولكن لا. فأنا، أُمّ المخلّص، وسوف أبدو في نظرها، مختلفة عن تلميذة المخلّص... وهي لن تقول لي لا. لا تخف يا بنيّ!»

 

«أنا لستُ خائفاً. إنّما يؤسفني تحمّلكِ المتاعب.»

 

«آه! لتخليص نَفْس! ما هي نحو الثلاثين كيلومتراً في فصل جيّد؟»

 

«سوف تكون أيضاً مشقّة معنويّة. أن تتوسّلي... وربّما أن تُذَلّي...»

 

«أمر بسيط ويَعبُر. إنّما النَّفْس فتبقى!»

 

«ستكونين مثل سنونو تائهة في طبريّا الفاسدة... خذي سمعان معكِ.»

 

«لا يا بنيّ. فقط نحن الاثنتان، امرأتان مسكينتان... إنّما أُمّان وتلميذتان، أي، قوّتان معنويّتان عظيمتان... سوف أُنهي الأمر بسرعة. دعني أذهب... فقط باركني.»

 

«نعم يا أُمّي. مِن كلّ قلبي كابن، وبكلّ قدرتي كإله. اذهبي ولترافقكِ الملائكة على طول الطريق.»

 

«شكراً يا يسوع. حسناً، لندخل. عليَّ أن أنهض فجراً كي أُعِدّ كلّ ما يلزم لأولئك الذين سيرحلون ولأولئك الذين سيبقون. أُتلُ الصّلاة يا بنيّ...»

 

يسوع ومريم ينهضان كلاهما ويَتلوان الأبانا معاً... ثمّ يعودان إلى المنزل، إنّهما يغلقان الباب... الضوء يختفي ولا يعود يُسمَع أيّ صوت بشريّ. لا يُسمَع سوى حفيف النسيم على الأوراق وخرير المياه في حوض النافورة...