ج7 - ف204
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء السابع
{تابع السنة الثالثة في الحياة العلنية}
الكتاب الثالث / القسم الثاني
204- ("نحن ذرّيّة إبراهيم")
30 / 09 / 1946
يعود يسوع إلى الهيكل مع الرُّسُل والتلاميذ. وبعض الرُّسُل، وليس فقط رُسُلاً، ينبّهونه إلى أنّ فِعل ذلك ليس مِن الفطنة. ولكنّه يجيب: «بأيّ حقّ يمكن رفض دخولي؟ هل أنا مدان يا ترى؟ لا، في هذه الآونة أنا لستُ كذلك بعد. أَصعَد إذاً صوب هيكل الله مثلي مثل كلّ إسرائيليّ يخاف الربّ.»
«ولكنّكَ تنوي الكلام...»
«وأليس هو المكان الذي يجتمع فيه الرابّيين عادة ليتكلّموا؟ الاستثناء هو البقاء خارج هذا المكان للحديث والتعليم، وهذا قد يتمثّل في الراحة التي يأخذها رابّي أو ضرورة شخصيّة، إنّما هنا هو المكان الذي يرغب فيه كلّ واحد أن يعلّم التلاميذ. ألا ترون حول الرابّيين أناساً مِن كلّ جنسيّة يتقدّمون ليستمعوا مرّة واحدة على الأقلّ للرابّيين ذائعي الصيت؟ أقلّه للتمكّن من القول لدى العودة إلى الوطن الأُمّ: "لقد استمعنا إلى معلّم أو إلى فيلسوف يتحدّث بحسب الطريقة الإسرائيليّة". معلّم، بالنسبة إلى الذين هم يهود أو يسعون لأن يكونوا كذلك؛ فيلسوف، بالنسبة إلى الوثنيّين بمعنى الكلمة. والرابّيون لا يأنفون مِن أن يستمع إليهم هؤلاء الآخرين، أملاً بأن يصبحوا صابئين. ودون هذا الأمل الذي، إن يكن متواضعاً يصبح مقدّساً، لما تواجدوا في باحة الوثنيّين، بل لفرضوا التكلّم في باحة اليهود، وإن كان ممكناً، في القدس ذاته، ذلك أنّه بحسب فهمهم لذواتهم، فإنّهم قدّيسون للغاية بحيث لا يفوقهم في ذلك إلاّ الله... وأنا، المعلّم، أتحدّث حيث يتحدّث المعلّمون. ولكن لا تخافوا! لم يحن وقتهم. عندما يحين وقتهم سوف أقول لكم، لتُقوّوا قلوبكم.»
«لن تقول ذلك.» يقول الإسخريوطيّ.
«لماذا؟»
«لأنّكَ لن تتمكّن مِن معرفته. لن تدلّكَ عليه أيّة إشارة. لا إشارات. فمنذ ثلاث سنوات وأنا معكَ ورأيتُكَ على الدوام مهدّداً ومُضطَهَداً. وحتى آنذاك كنتَ وحيداً. الآن وراءكَ الشعب الذي يحبّكَ والفرّيسيّون يخشونه. فأنتَ إذاً أقوى. فما الذي يمكنه أن يشير لكَ إلى الأوان؟»
«ذلك أنّني أرى ما في قلب الناس.»
يبقى يهوذا برهة مذهولاً، ثمّ يقول: «ولن تقوله كذلك لأنّكَ... تشفق علينا لشكّكَ بشجاعتنا.»
«مِن أجل عدم إحزاننا هو يصمت» يقول يعقوب بن زَبْدي.
«هذا كذلك. إنّما بالتأكيد لن تقوله.»
«سوف أقوله لكم. وطالما لم أقله لكم، فلا يعترينّكم الهلع مهما يكن مِن عنف وحقد سترونهما ضدّي، فلا عواقب لهما. امضوا إلى الأمام. وأنا سأبقى هنا في انتظار مَنَاين ومارغزيام.»
ويمضي الاثنا عشر والذين معهم إلى الأمام على مضض.
يعود يسوع إلى الباب لانتظار الاثنين، بل حتّى إنّه يخرج إلى الشارع ويلتفت صوب قلعة أنطونيا.
بعض الجنود، وقد توقّفوا قرب القلعة، يشيرون إليه بالإصبع ويتكلّمون فيما بينهم. يبدو أنّ هناك بعضاً من جِدال، ثمّ يقول أحدهم بصوت مرتفع: «سوف أسأله عن ذلك.» وينفصل عنهم ليأتي إلى يسوع.
«التحيّة، أيّها المعلّم. هل تتكلّم اليوم أيضاً داخلاً؟»
«فليُضئ لكَ النور. نعم سوف أتكلّم.»
«إذاً... كن حذراً. أحدهم وهو على اطّلاع قد نبّهنا، وأحد الذين يجلّونكَ قد أصدر أوامره بالحراسة. نحن على مقربة مِن النفق جهة الشرق. هل تعرف المدخل؟»
«أنا لا أجهله، ولكنّه مغلق مِن الطرفين.»
«هل تظنّ ذلك؟» يضحك الجندي برهة، وفي ظلّ قبّعته تلمع عيناه وأسنانه، ليظهر أكثر شباباً. ثمّ يحيّي متصلّباً: «التحيّة يا معلّم. تذكّر كوينتوس فيلكس.»
«سوف أتذكّر. فليُضئ لكَ النور.»
يعاود يسوع المسير ويعود الجنديّ إلى حيث كان ويتحدّث إلى رفاقه.
«يا معلّم، هل تأخّرنا؟ كان هناك الكثير مِن اليهود!» يقولان معاً مَنَاين، المرتدي البنّيّ الداكن، ومارغزيام.
«لا. لقد أنجزتما بسرعة. ومع ذلك هيّا بنا، ينتظرنا الآخرون. مَنَاين، هل أنتَ مَن أخطر الرومان؟»
«حول ماذا يا ربّ؟ لم أتكلّم مع أيّ أحد. ولستُ أعلم... الرومان ليسوا في أورشليم.»
إنّهم مِن جديد قرب باب السور. وكما لو أنّ اللاويّ زكريا متواجد هنا بالصدفة.
«السلام لكَ يا معلّم. أودّ أن أقول لكَ... سأعمل على أن أكون على الدوام حيث تكون أنتَ، هنا في الداخل. وأنتَ لن تغيب عن ناظري. وإن كان هناك صخب ورأيتَني أمضي، فحاول أن تتبعني دائماً. إنّهم يكرهونكَ كثيراً! لا يمكنني فِعل أكثر مِن هذا... إفهمني...»
«فليكافئكَ الله وليبارككَ مِن أجل الرحمة التي تُبديها نحو كلمته. سأفعل ما تقول، ولا تخشَ مِن أن يعلم أحد عن محبّتكَ لي.»
يفترقان.
«قد يكون هو مَن تحدّث إلى الرومان. كونه في الداخل، فقد علم...» يتمتم مَنَاين.
يمضون إلى الصلاة مارّين بين الناس الذين ينظرون إليهم بمشاعر مختلفة، ويتجمّعون بعدئذ حول يسوع عندما، ما إن تنتهي الصلاة، يعود مِن باحة اليهود.
خارج السور الثاني يتوقّف يسوع، ولكنّه يجد نفسه محاطاً بمجموعة مختلطة مِن الكَتَبَة، الفرّيسيّين والكهنة. واحد مِن أحبار الهيكل يتكلّم باسم الجميع.
«أما تزال هنا؟ ألا تدرك أنّنا لا نريدكَ؟ ألا تخاف مِن الخطر الذي يتهدّدكَ هنا؟ إذهب. كثير أنّنا ندعكَ تدخل لتصلّي. لا نسمح لكَ بعد بتعليم معتقداتكَ.»
«نعم. إذهب. إذهب. مجدّف!»
«نعم. أَذهَب كما تريدون. وليس فقط خارج هذه الأسوار. سأمضي. أنا في صدد المضيّ، إلى أبعد ممّا تستطيعون أن تلحقوا بي، وسيأتي زمن تبحثون فيه عنّي أنتم كذلك، وليس فقط لاضطهادي، إنّما كذلك بهلع خرافيّ مِن أن تُضرَبوا لكونكم طردتموني، بقلق خرافيّ لأن تحصلوا على مغفرة على خطيئتكم لتنالوا رحمة. ولكنّني أقول لكم: إنّها ساعة الرحمة. ساعة عقد صداقة معه تعالى. ما أن تمرّ، فلا يعود أيّ ملجأ ينفع. لن تعودوا حاصلين عليّ وسوف تموتون بخطيئتكم. حتّى ولو جبتم الأرض كلّها، ولو نجحتم ببلوغ النجوم والكواكب، فلن تجدوني بعد، ذلك أنّي حيث أمضي لا يمكنكم أن تأتوا. لقد قلتُها لكم: الله يأتي ويعبر. والحكيم يستقبله لدى مروره مع عطاياه. والغبيّ يدعه يمضي ولا يعود يجده أبداً. أنتم مِن هنا مِن الأسفل، أنا مِن هناك مِن الأعلى. أنتم مِن هذا العالم؛ أنا لستُ مِن هذا العالم. لذلك، ما إن أعود إلى سكنى أبي، خارج هذا العالم الذي هو عالمكم، فلن تعودوا تجدوني وستموتون في خطاياكم، ذلك أنّكم لن تعرفوا حتى الوصول إليّ روحيّاً بالإيمان.»
«أتريد أن تنتحر أيّها الشيطان؟ فبالتأكيد حينذاك في جهنّم حيث يهبط العنيفون، نحن لا يمكننا المجيء للحاق بكَ، ذلك أنّ جهنّم للمدانين، للملعونين، ونحن الأبناء المباركون للعليّ» يقول البعض.
ويؤكّد آخرون قائلين: «بالتأكيد هو يريد الانتحار، ذلك أنّه يقول بأنّه إلى حيث يمضي، نحن لا يمكننا الذهاب. هو يدرك أنّه اكتُشِف وفَشِل، ويقضي على نفسه دون الانتظار بأن يُقضى عليه مثل الجليلي الآخر، المسيح المزيّف.»
وآخرون، عطوفون: «وإذا، على العكس، كان المسيح بحقّ، وإذا عاد بالحقيقة إلى مَن أرسله؟»
«أين؟ إلى السماء؟ إنّ إبراهيم ليس هناك، وتريده هو أن يذهب إليها؟ فعلى مَسيّا أن يأتي قبل ذلك.»
«ولكنّ إيليّا اختُطف إلى السماء على مركبة ناريّة.»
«على مركبة، نعم. ولكن إلى السماء!... مَن يؤكّد ذلك؟»
والنقاش يدوم بينما الفرّيسيّون والكَتَبَة والقضاة والكهنة، واليهود الخاضعون للكَهَنَة والكتبة والفرّيسيّين، يلاحقون المسيح عبر الأروقة الواسعة كما تُلاحِق شرذمة مِن الكلاب طريدة اكتشفتها.
ولكنّ البعض، الصالحين في قلب كتلة الأعداء، أولئك الذين تقودهم بحقّ رغبة نزيهة، يشقّون لنفسهم طريقاً إلى أن يصلوا إلى يسوع، ويطرحون عليه السؤال المقلق الذي سمعتُه مرّات عدّة يُطرح بمحبّة أو ببغض: «مَن أنتَ؟ قل ذلك كي نعرف أن نتصرّف. قل الحقيقة، باسم العليّ.»
«أنا الحقّ ذاته ولا أكذب مطلقاً. إنّني ذاك الذي صرّحتُ لكم أنّي هو منذ اليوم الأوّل الذي تحدّثتُ فيه إلى الجموع، في كلّ مكان في فلسطين، ذاك الذي قلتُ أنّني هو، هنا، مرّات كثيرة، قرب قدس الأقداس حيث لا أخشى الصواعق لأنّني أقول الحقيقة. ولديّ الكثير لأقوله ولأحكم عليه خلال يومي وبما يخصّ هذا الشعب، ورغم أنّ المساء يبدو قريباً منّي، فأنا أعلم أنّني سوف أقولها وأدين الجميع، ذلك أنّ هذا ما وعدني به الذي أرسلني والذي هو صادق. لقد كلّمني في عناق محبّة أزليّة، قائلاً لي كلّ أفكاره، لأتمكّن أنا مِن قولها للعالم بكلمتي، ولن أتمكّن مِن الصمت، ولا يمكن لأحد أن يجعلني أصمت لغاية إعلاني للعالم كلّ ما سمعتُه مِن أبي.»
«وما تزال تجدّف؟ وتستمرّ في القول بأنّكَ ابن الله؟ ولكن مَن تريد أن يصدّقكَ؟ مَن تريد أن يرى فيكَ ابن الله؟» يقول له أعداؤه بحركات عنيفة، بقبضاتهم التي تكاد تلامس وجهه، وقد جعلهم حقدهم مجانين.
الرُّسُل، التلاميذ، أناس ذوو نوايا صالحة يدفعونهم، جاعلين نوعاً مِن الحاجز لحماية المعلّم. اللاويّ زكريّا يتسلّل بهدوء، بحركات محسوبة كيلا يثير انتباه المهووسين، وصولاً إلى يسوع، إلى جانب مَنَاين وابنَيّ حلفى.
إنّهم الآن على طرف رواق الوثنيّين، لأنّ المسير بطيء بين التيّارات المتناقضة، ويسوع يقف في مكانه المعتاد عند العمود الأخير جهة الشرق. يتوقّف. ومِن الموضع الذي يتواجد فيه حتى الوثنيّين، هم لا يمكنهم طرد إسرائيليّ حقيقيّ دون إثارة الجمع. إنّه أمر يتحاشى الحاذقون فعله. ومِن هنا يعاود الحديث للإجابة على الذين يهينونه، ومعهم الجميع: «عندما ترفعون ابن الإنسان...»
يصيح الفرّيسيّون والكَتَبَة: «ومَن تريده أن يرفعكَ؟ بلد بائس هو البلد الذي فيه، كما مَلِك، ثرثار مجنون ومجدّف يشنّع على الله. لن يرفعكَ أحد منّا، كن على ثقة. وما بقي لكَ مِن نور قليل جعلكَ تدرك ذلك في الوقت المناسب عندما اختُبِرتَ. أنتَ تعلم جيّداً أنّه لا يمكننا مطلقاً أن نجعل منكَ مَلِكَنا!»
«أعلم ذلك. لن ترفعوني على عرش، ومع ذلك فسترفعونني. وستظنّون أنّكم تضعونني عندما ترفعونني. ولكن بالضبط عندما تظنّون أنّكم تضعونني، سأكون قد ارتفعت. ليس فقط على فلسطين، ليس فقط على مجمل إسرائيل المنتشر في العالم أجمع، بل إنّما على كلّ العالم، وحتّى على الأمم الوثنيّة، حتّى على الأماكن التي يجهلها علماء العالم. ولن أكون كذلك فقط على مدى عمر إنسان واحد، بل إنّما على مدى كامل عمر الأرض، وظلّ راية عرشي سيمتدّ باطّراد على الأرض حتى يغطّيها بأكملها. وفقط حينذاك سأعود وسترونني. آه! سوف ترونني!»
«ولكن اسمعوا خطابات المجنون هذه! سوف نرفعه حينما نضعه، ونضعه برفعنا إيّاه! مجنون! مجنون! وظلّ عرشه على كل الأرض! أعظم مِن سيروس! مِن الإسكندر! مِن قيصر! أين تضع قيصر؟ هل تظنّ أنّه سيترككَ تستولي على إمبراطورية روما؟ وسيبقى على العرش طوال مدّة بقاء العالم! ها! ها! ها!» سخريتهم لاذعة أكثر مِن سوط.
ولكنّ يسوع يدعهم يقولون. يرفع صوته لكي يُسمَع وسط صياح الذي يسخرون منه والذين يدافعون عنه، والذي يملأ المكان مثل صخب بحر غاضب.
«عندما ترفعون ابن الإنسان، حينذاك تدركون مَن أكون، وأنّني لا أعمل شيئاً مِن ذاتي، ولكنّني أقول ما علّمنيه أبي، وأنّني أعمل مشيئته. والذي أرسلني لا يتركني وحيداً، ولكنّه معي. كما يتبع الظلّ الجسم، هكذا هو الآب في إثري، ساهراً، حاضراً، رغم كونه غير مرئيّ. إنّه ورائي ويشجّعني ويساعدني ولا يبتعد، لأنّني أعمل ما يرضيه على الدوام. فالله، على العكس، يبتعد عندما لا يطيع أبناؤه شرائعه وإلهاماته. حينذاك يمضي ويتركهم بمفردهم. لأجل ذلك يخطئ الكثيرون في إسرائيل. ذلك أنّ الإنسان إذ يُترك لذاته لا يجيد حفظ ذاته بارّاً ويسقط بسهولة في حبائل الحيّة. والحقّ الحقّ أقول لكم إنّ الله، بسبب خطيئتكم بمقاومتكم النور ورحمة الله، يبتعد عنكم ويترك هذا المكان وقلوبكم خالية مِن ذاته، وما بكاه إرميا في نبوءاته ونواحه سيتمّ بالضبط. تأمّلوا هذه الكلمات النبويّة وارتعدوا. ارتعدوا وعودوا إلى ذواتكم بروح صالح. أنصتوا ليس إلى تهديدات الآب، إنّما أيضاً إلى صلاحه الذي ينذر أبناءه إذ لا يزال ممكناً لهم الإصلاح والخلاص. اسمعوا الله في الأقوال وفي الأفعال، وإذا لم تريدوا الإيمان بكلامي، لأنّ إسرائيل العتيق يخنقكم، آمنوا على الأقلّ بإسرائيل العتيق. ففيه يصرخ الأنبياء بأخطار ومصائب المدينة المقدّسة ووطننا بأكمله، إذا لم يلتفت صوب الربّ إلهه وإذا لم يتبع المخلّص. على هذا الشعب ثقلت يد الله في العصور الماضية، ولكنّ الماضي كما الحاضر لن يُحسَب شيئاً بالنسبة إلى المستقبل المريع الذي ينتظره لعدم إرادته استقبال الـمُرسَل مِن الله. فلا شيء يقارن لا في الشدّة ولا في المدّة ما ينتظر إسرائيل الذي يرفض المسيح. هو أنا الذي أقول لكم، ونظري يغوص في العصور: مثل شجرة مكسورة ومرميّة في تيّارات نهر جارفة، هكذا ستكون الذرّيّة العبريّة التي ضربتها اللعنة الإلهيّة. وستعمل على التشبّث بإصرار على الشواطئ بهذه النقطة أو تلك، وبما أنّها متينة فسوف تُبرعم وتتجذّر. إنّما حينما تعتقد أنّها ثبتت في مقام، ستؤخذ مِن جديد بعنف التيّار الذي ينتزعها مِن جديد، يكسر جذورها وشكيرها [ما ينبت حول الشجرة]، وتمضي إلى ما هو أبعد تتألّم، تتعلّق لتُنتَزع مِن جديد وتتشتّت. وما مِن شيء يمكنه أن يمنحها السلام، ذلك أنّ التيّار الذي يلاحقها سيكون غضب الله وسخرية الشعوب. ولن يكون التنعّم بالسلام سوى في الارتماء في بحر مِن الدم الحيّ والمقدِّس، ولكنّها سوف تفرّ مِن هذا الدم رغم أنّه ما يزال يدعوها، لأنّه سيبدو لها أنّه صوت دم هابيل الذي يناديها، هي قايين هابيل السماويّ.»
صخب آخر قويّ أُشيع داخل السور شبيه بصخب المدّ والجزر، إنّما يخلو هذا الصخب مِن صوت الفرّيسيّين والكَتَبَة الأجشّ، واليهود المرتبطين بهم.
يغتنم يسوع الفرصة ليحاول الذهاب، إلاّ أنّ بعض الذين كانوا بعيدين يدنون منه ويقولون له: «يا معلّم، أنصت إلينا. لسنا جميعنا مثلهم (ويشيرون إلى الأعداء)، ومع ذلك يصعب علينا اتّباعكَ، كذلك لأنّ صوتكَ هو الوحيد مقابل مئة ألف صوت يقولون عكس ما تقول، والأمور التي يقولونها هم، هي عينها التي سمعناها مِن آبائنا منذ طفولتنا. بيد أنّ أقوالكَ تجذبنا إلى الإيمان. ولكن كيف العمل للإيمان الكامل والحصول على الحياة؟ فنحن كمن هو مقيّد بفكر الماضي...»
«إذا ما تعلّقتم بكلامي، يكون ذلك كالولادة الجديدة، فستؤمنون بالكامل وتصبحون تلاميذي. إنّما يجب التخلّي عن الماضي وقبول مذهبي. فكلامي لا يلغي كلّ الماضي. على العكس، يدعم ويقوّي ما هو مقدّس وفائق الطبيعة في الماضي، وينزع البشريّ غير المجدي، واضعاً كمال مذهبي حيث كانت المذاهب البشريّة الغير كاملة على الدوام. وإذا أقبلتم إليّ فستعرفون الحقّ، والحقّ يحرّركم.»
«يا معلّم، صحيح أنّنا قلنا لكَ بأنّنا كالمقيّد بالماضي، ولكنّ هذا القيد ليس بسجن ولا عبوديّة. نحن مِن سلالة إبراهيم في الأمور الروحيّة. فإذا لم نكن مخطئين، يقال سلالة إبراهيم كي يقال سلالة روحيّة، بمقابل سلالة هاجر التي هي سلالة عبوديّة. فكيف إذاً يمكنكَ القول بأنّنا سنصبح أحراراً؟»
«ألفت نظركم إلى أنّ إسماعيل وأولاده كانوا كذلك مِن نسل إبراهيم، فإنّ إبراهيم هو أبو إسحاق وإسماعيل.»
«ولكنّه نسل دَنِس ذلك أنّه كان ابن امرأة أَمَة ومصريّة.»
«الحقّ، الحقّ أقول لكم بأنّه لا عبوديّة سوى واحدة؛ عبوديّة الخطيئة. فقط الذي يرتكب الخطيئة هو عبد عبوديّة لا يمكن افتداؤها بأيّة قيمة ماليّة، عبد لمعلّم قاس ومتوحّش، ويخسر مباشرة السيادة الحرّة في ملكوت السموات. إنّ العبد، الرجل الذي جعلته الحرب أو النكبات عبداً، قد يقع كذلك في ملكيّة معلّم صالح، ولكنّ وضعه الجيّد مؤقّت على الدوام، إذ يمكن لمعلّمه أن يبيعه لمعلّم متوحّش. هو سلعة ليس إلاّ. يُستَخدم أحياناً كالمال لدفع أحد الديون. ولا يحقّ له حتّى أن يبكي. الخادم، على العكس، يعيش في منزل المعلّم إلى أن يُصرَف. إلاّ أنّ الابن يمكث على الدوام في منزل الأب، ولا يفكّر الأب في طرده، بإرادته فقط يمكنه أن يخرج. في هذا يكمن الفرق بين العبوديّة والخدمة، وبين الخدمة والبنوّة. العبوديّة تجعل السلاسل تقيّد الإنسان، والخدمة تجعله تحت تصرّف أحد المعلّمين، أمّا البنوّة فتضعه على الدوام وبتكافؤ الحياة في بيت الأب. العبوديّة تسحق الإنسان، الخدمة تجعله تابعاً، أمّا البنوّة فتجعله حرّاً وسعيداً. الخطيئة تحيله إلى عبد، إلى ما لا نهاية، للسيّد الأكثر وحشيّة: الشيطان. الخدمة، في حال الشريعة القديمة، تجعل الإنسان مذعوراً مِن الله كما مِن كائن متشدّد. البنوّة، أي الإقبال إلى الله مع بِكره، معي أنا، تجعل الإنسان حرّاً وسعيداً، إذ يعرف أباه ويثق بمحبّته. تَقَبُّل مذهبي، هو الإقبال إلى الله معي، بِكر أبناء محبوبين كثيرين. سأحطّم قيودكم إذا ما أقبلتم إليّ لأحطّمها، وستصبحون أحراراً بحقّ وشركائي بميراث ملكوت السماوات. أعلم أنّكم سلالة إبراهيم. إنّما مَن يحاولون منكم أن يميتونني لا يعودون يكرّمون إبراهيم، بل الشيطان، ويخدمونه كعبيد أوفياء. لماذا؟ لأنّهم يرفضون كلمتي فلا يمكنها ولوج الكثيرين منكم. الله لا يستخدم العنف مع الإنسان ليرغمه على الإيمان، لا يرهبه ليرغمه على قبولي، ولكنّه يرسلني لأدلّكم على مشيئته. وأنا أقول لكم ما رأيتُه وسمعتُه مِن أبي، وأعمل ما يريد. ولكن الذين يضطهدونني بينكم يعملون ما تَعَلَّموه مِن أبيهم وما يوسوس به إليهم.»
ومثل نَوبة تعود بعد تراجع أعراض مرض ما، فإنّ غضب اليهود والفريسيّين والكَتَبَة الذي كان يبدو أنّه هدأ، يتنبّه بعنف. يَلِجون كما سنّ قاطعة في الدائرة المغلقة التي تحيط بيسوع ويحاولون الاقتراب منه. في الجمع حركة أمواج معاكسة، كما هي مشاعر القلوب متناقضة. فاليهود، الممتقعين مِن الغضب والحقد، يصيحون: «أبونا هو إبراهيم. وليس لنا أب سواه.»
«أب البشر هو الله. إبراهيم نفسه هو ابن للأب الكونيّ. ولكنّ كثيرين يرفضون الأب الحقيقيّ مِن أجل أحد هو ليس أباً، ولكنّهم يختارونه كذلك لأنّه يبدو أكثر سلطاناً ومستعدّاً لإرضاء رغباتهم غير المعتدلة. الأبناء يفعلون ما يرون أباهم يفعله. إذا كنتم أبناء إبراهيم ، لماذا لا تفعلون أفعال إبراهيم؟ ألا تعرفونها؟ أينبغي لي أن أسردها لكم كطبيعة وكرمز؟ أطاع إبراهيم بذهابه إلى البلد الذي عيّنه له الله، صورة الإنسان الذي ينبغي أن يكون مستعدّاً لأن يترك كلّ شيء ليمضي إلى حيث يرسله الله. فكان إبراهيم المتنازل لابن أخيه وجعله يختار المنطقة التي كان يفضّلها، صورة عن احترام حرية التصرّف والمحبة المفترضة تجاه القريب. كان إبراهيم متواضعاً بعد أن أعلن الله تفضيله ومجّده في منبرة [Mambré]، شاعراً نفسه على الدوام عدماً أمام العليّ الذي كان قد كَلَّمه، صورة لوضعية المحبّة الإجلالية التي ينبغي للإنسان أن يبديها تجاه إلهه. إبراهيم آمن بالله وأطاعه، حتّى في الأمور الأكثر صعوبة في التصديق والأكثر ألماً في الإنجاز، ولم يكن أنانيّاً كي يشعر أنّه في أمان، ولكنّه صلّى مِن أجل أهل صادوم. إبراهيم لم يبرم عهداً مع الله راغباً في مكافأة لإطاعاته العديدة، بل ولتمجيده إلى المنتهى، إلى الحدّ الأقصى، فقد ضحّى له بابنه المحبوب...»
«لم يُضَحِّ به.»
«لقد ضحّى بابنه المحبوب، إذ بالحقيقة كان قلبه قد ضحّى به، خلال المسير، من خلال إرادته بالإطاعة، وقد أوقفه الملاك عندما كان قلب الأب ينفطر، حيث كاد يوشك أن يفطر قلب ابنه. كان يقتل ابنه إكراماً لله. أمّا أنتم فتقتلون لله ابنه إكراماً للشيطان. هل تعملون إذن أعمال الذي تدعونه أباكم؟ لا، أنتم لا تعملونها. أنتم تسعون لقتلي لأنّني أقول لكم الحقيقة، كما سمعتُها مِن الله. لم يكن إبراهيم ليتصرّف هكذا. لم يكن يسعى لقتل الصوت القادم مِن السماء، بل كان يطيعه. لا، أنتم لا تعملون أعمال إبراهيم، إنّما تلك التي يعيّنها لكم أبوكم.»
«نحن لم نولد مِن عاهر، ولسنا أبناء زنى. أنتَ نفسكَ قلتَ إنّ أبا البشر هو الله، ونحن مِن الشعب المختار ومِن الطبقات المختارة في هذا الشعب. فإذن الله هو أبونا الوحيد.»
«لو كنتم تتعرّفون إلى الله كأب، بالروح والحقّ، لكنتم تحبّونني، إذ إنّني أنبثق وآتي مِن الله؛ لم آتِ مِن ذاتي، بل هو مَن أرسلني. وبالتالي، لو كنتم تعرفون الآب حقيقة، لكنتم عرفتموني أنا كذلك، ابنه وأخاكم ومخلّصكم. هل يمكن ألاّ يعرف الإخوة بعضهم؟ هل يمكن لأبناء الواحد الأحد ألاّ يعرفوا اللغة التي يتمّ التكلّم بها في منزل الأب الأوحد؟ لماذا إذن لا تفهمون لغتي ولا تتحمّلون كلامي؟ هذا لأنّني أنا آتي مِن الله، أمّا أنتم فلا. لقد غادرتم المنزل الأبويّ ونسيتم وجه ولغة مَن يقطن فيه. لقد ذهبتم بكامل إرادتكم إلى مناطق أخرى، في منازل أخرى، حيث يهيمن آخر ليس الله، وحيث يتمّ التكلّم بلغة أخرى. والذي يهيمن يفرض للدخول إليه أن يجعل مِن الداخل ابنه وأن يطيعه. وأنتم فعلتم ذلك وما زلتم تفعلونه. أنتم تجحدون وتنكرون الله الآب لتختاروا لكم أباً آخر. وهو الشيطان. لكم أب هو إبليس وتبغون إتمام ما يمليه عليكم. ورغبات إبليس هي رغبات الخطيئة والعنف، وأنتم تتقبّلونها. من البدء كان قاتلاً، ولم يثابر في الحقّ، ذلك أنّه، وهو الذي ثار على الحقّ، لا يمكن أن يكون فيه محبّة للحقّ. عندما يتكلّم، يتكلّم كما هو، أي كونه الكذّاب والمظلم، إذ في الحقيقة، هو كذّاب وقد حبل بالكذب وأنجبه بعد تلقيحه بالكبرياء وتغذيته بالتمرّد. ففي أحشائه كلّ الشهوة وينفثها ويلقّحها ليسمّم كلّ الخلائق. هو المظلم، الساخر، الزاحف الملعون الدنيء، إنّه العار والهَول. منذ دهور ودهور، أعماله تؤرّق الإنسان، وأمام فكر الإنسان دلالاتها وثمارها. ومع ذلك، فله هو الذي يكذب ويدمّر، تعيرون آذانكم الصاغية، بينما إذا ما تحدّثت أنا وقلت ما هو حقيقيّ وصالح، فلا تصدّقوني وتعاملونني كخاطئ. ولكن مَن مِن الكثيرين الذين تقرّبوا منّي، بحقد أو بمحبّة، يمكنه القول بأنّه رآني أقترف خطيئة؟ مَن يمكنه قول ذلك بحقّ؟ أين الدلائل لإقناعي ولإقناع الذين يؤمنون بي، أنّني خاطئ؟ أيّة وصيّة مِن الوصايا العشر أَخَلَّيت بها؟ مَن يُقسم أمام هيكل الله أنّه رآني أنقض الشريعة والعادات، والأحكام، والتقاليد، والصلوات؟ مَن مِن الناس كلّهم يمكنه جعلي أغيّر لوني لأكون، ببراهين قاطعة، مقتنعاً بخطيئة؟ لا يمكن لأحد أن يفعلها. لا أحد مِن البشر ولا مِن الملائكة. الله يهتف في قلب الناس: "إنّه البريء". بهذا، أنتم جميعكم مقتنعون، وأنتم الذين تتّهمونني أكثر مِن كلّ الآخرين الذين لا يعلمون مَن مِن بيننا أنا وأنتم هو على حقّ. إنّما فقط الذي ينتمي إلى الله يستمع إلى كلمات الله. أنتم لا تستمعون إليها، رغم أنّها تدوّي في نفوسكم ليلاً ونهاراً، ولا تسمعونها لأنّكم لستم مِن الله.»
«نحن، نحن الذين نعيش للشريعة وفي الالتزام الدقيق بالوصايا إكراماً للعليّ، أفلا نكون مِن الله؟ وأنتَ تتجرّأ على قول ذلك؟ آه!!!» يبدون وكأنّ الهلع قد خنقهم، كما لو أنّ حبلاً كان يشدّ على رقبتهم.
«وينبغي لنا ألاّ نقول بأنّكَ ممسوس وسامريّ؟»
«أنا لستُ لا هذا ولا ذاك، ولكنّني أكرّم أبي، حتّى ولو كنتم تنكرون ذلك كي تلصقوا بي اللائمة، إنّما لومكم لا يحزنني. فأنا لا أبحث عن مجدي. هناك مَن يهتمّ به ويدين. أقول هذا لكم أنتم يا مَن تريدون إذلالي، إنّما لأصحاب النوايا الصالحة فأقول بأنّ مَن يتقبّل كلامي، أو مَن قد تقبّله فعلاً ويعرف كيف يحفظه، لا يرى الموت إلى الأبد.»
«آه! الآن نرى جيّداً أنّ الشيطان الذي يستحوذ عليكَ يتكلّم بشفتيكَ! أنتَ نفسكَ قد قلتَ ذلك: "يتكلّم بالكذب". وما قلتَه هو كذب، فكلامكَ إذاً شيطانيّ هو. إبراهيم مات والأنبياء ماتوا، وأنتَ تقول بأنّ مَن يحفظ كلامكَ لا يرى الموت أبداً، إلى الأبد. أفلن تموت أنتَ إذاً؟»
«لن أموت إلاّ كإنسان لأقوم في زمن النعمة، أمّا ككلمة فلن أموت. الكلمة حياة هي ولا تموت. ومَن يتقبّل الكلمة يحظى بالحياة في ذاته ولا يموت للأبد، ولكنّه يقوم في الله، ذلك أنّني أنا سوف أقيمه.»
«مجدّف! مجنون! شيطان! هل أنتَ أعظم مِن أبينا إبراهيم الذي مات ومِن الأنبياء؟ مَن تظنّ نفسكَ؟»
«إنّني البداية، أنا الذي أكلّمكم.»
تَحدث جلبة، وفي هذه الأثناء يدفع اللاويّ زكريّا يسوع بشكل لاشعوريّ إلى أحد أركان الرواق، يساعده في ذلك ابنا حلفى وآخرون، ومِن المحتمل أنّهم فعلوا ذلك دون علم منهم ماذا يفعلون.
عندما يصبح يوع مستنداً جيّداً إلى الجدار، يحميه الأكثر وفاء الذين هم أمامه، ويهدأ الصخب قليلاً حتى في الفناء، يقول بصوته النافذ والجميل للغاية، الهادئ للغاية، حتى في الأوقات الأكثر اضطراباً: «لو مجّدتُ نفسي، فمجدي لا قيمة له. يمكن لكلّ واحد أن يقول عن نفسه ما يريد. إنّما مَن يمجّدني هو أبي الذي تقولون عنه إنّه إلهكم، فيما هو يكاد لا يكون لكم، إذ لا تعرفونه ولم تعرفوه مطلقاً ولا تريدون أن تعرفوه مِن خلالي أنا الذي أكلّمكم عنه لأنّني أعرفه. ولو كنتُ أقول إنّني لا أعرفه للتخفيف مِن حقدكم تجاهي، لكنتُ كاذباً مثلكم عندما تقولون إنّكم تعرفونه. أعرف أنّه لا ينبغي لي أن أكذب مهما يكن السبب. لا ينبغي لابن الإنسان أن يكذب، حتّى ولو كان قول الحقيقة سبب موته. إذ لو كان ابن الإنسان يكذب فلا يعود ابن الحقّ، والحقّ ينبذه بعيداً عنه. أنا أعرف الله، كإله وكإنسان. وكإله وكإنسان أحفظ كلامه وأتقيّد به. أيا إسرائيل، فَكّر! هنا يتمّ الوعد. وفيّ أنا يتمّ. تعرّفوا عليّ مَن أكون! إبراهيم أبوكم تلهّف كي يرى يومي. لقد رآه نبويّاً، بنعمة مِن الله، وقد تهلّل فرحاً، وأنتم مَن تعيشون ذلك بحقّ...»
«ولكن أُصمت! لم تبلغ بعد الخمسين مِن عمركَ وتقول بأنّكَ رأيتَ إبراهيم وهو رآكَ.» وضحكتهم الماكرة تتفشّى كموجة مسمومة أو كحمض ينخر.
«الحقّ الحقّ أقول لكم: قبل أن يولد إبراهيم أنا كائن.»
«"أنا كائن"؟ وحده الله يمكنه قول ذلك، لأنّه أزليّ. وليس أنتَ! مجدّف! "أنا كائن"! ملعون! هل مِن الممكن أن تكون أنتَ الله لتقول ذلك؟» يصيح به أحدهم قد يكون شخصيّة هامّة، إذ وقد وصل منذ قليل، فهو الآن قرب يسوع، وقد أفسح له الجميع المجال لدى مجيئه وقد يكون ذلك بهلع.
«أنتَ قلتَ ذلك.» يجيب يسوع بصوت كالرعد.
كلّ شيء يغدو سلاحاً في يد الحاقدين. بينما الأخير الذي سأل المعلّم يستسلم لإيماءة رعب مستنكر، ينزع قبّعته، يمرّر يده على شعره ولحيته، يفكّ العقلة الضابطة الثوب حول عنقه، كما لو أنّه كان يشعر بوهن نتيجة الهلع، قبضات مِن التراب والحجارة -التي يستخدمها باعة الحمام والحيوانات الأخرى لشدّ حبال الحظائر، والتي يستخدمها الصيارفة مِن أجل... الحفاظ بحرص على صناديقهم التي يتمسّكون بها أكثر مِن حياتهم- تُرمى على المعلّم، وبالطبع تعود لتتساقط على الجمع ذاته، ذلك أنّ يسوع في عمق الداخل، تحت الرواق، بحيث لا يمكن بلوغه، والجمع يتذمّر ويتشكّى…
زكريّا، اللاويّ، يدفع يسوع بقوّة، الوسيلة الوحيدة لجعله يصل إلى باب صغير منخفض، مختفٍ في جدار الرواق وجاهز لأن يُفتَح، ويدفعه داخلاً وفي الوقت ذاته يدفع ابنيّ حلفى ويوحنّا ومَنَاين وتوما. الآخرون يبقون خارجاً، في الجلبة... التي يصل صوتها ضعيفاً إلى ممشى سفلي، بين الأسوار الحجرية الضخمة، التي لا أعرف كيف تُدعى معماريّاً. الحجارة فيها مدمجة، كما أظنّ، بحيث تحيط الحجارة الكبيرة بالصغيرة، والعكس بالعكس، لستُ أدري إذا ما أجدتُ التعبير. فهي داكنة، ضخمة، منحوتة بغير إتقان، بالكاد تُرى في النور الخافت الذي يصل مِن فرجات ضيّقة متوضّعة في الأعلى على مسافات منتظمة لتهوية المكان ومنعه مِن أن يكون مظلماً تماماً. إنّه نفق ضيّق لستُ أدري لماذا يُستَخدم، ولكنّه يولّد لديّ انطباعاً بأنّه يدور تحت الرواق كلّه. قد يكون بُني للحماية، كما ملجأ، أو لمضاعفة وبالتالي زيادة مقاومة أسوار الأروقة، التي هي بمثابة أسوار للهيكل الحقيقي، لقدس الأقداس. خلاصة القول أنا لا أعلم. أروي ما أشاهده. هناك رائحة رطوبة، ذاك النوع مِن الرطوبة التي لا يمكن معها القول إن كان الجوّ بارداً أم لا، كما في بعض الأقبية.
«وماذا نفعل هنا؟» يَسأَل توما.
«أُصمت! قال لي زكريّا بأنّه سيأتي، وبأن نبقى صامتين وبغير حركة.» يجيب تدّاوس.
«ولكن هل يمكن الوثوق به؟»
«آمل ذلك.»
«لا تخافوا. الرجل صالح.» يقول يسوع لتشجيعهم.
في الخارج يبتعد الصخب. يمضي بعض الوقت. ثمّ يُسمَع وقع أقدام أصمّ ووميض ضعيف مرتجف، قادم مِن الأعماق المظلمة.
«هل أنتَ هنا يا معلّم؟» يقول صوت يبغي أن يُسمَع ولكنّه يخشى مِن أن يكون مسموعاً.
«نعم يا زكريّا.»
«التسبيح ليهوه! هل جعلتكم تنتظرونني؟ كان عليّ الانتظار ليهرع الجميع إلى المخارج الأخرى. تعال يا معلّم... رُسُلكَ... لقد نجحتُ في القول لسمعان بأن يذهبوا جميعهم إلى بيت حِسدا والانتظار هناك. النزول مِن هنا... النور خفيف، ولكنّ الطريق آمنة. النزول إلى خزّانات المياه... والخروج إلى قدرون. إنّه درب قديم، وهو ليس معدّاً دوماً للاستخدام الجيّد. إنّما في هذه المرّة، بلى... وهذا ما يقدّسه...»
يواصلون النزول في ظلام لا يقطعه سوى وميض المصباح المرتعش، إلى أن يظهر هناك في العمق نور... ومِن بعده جلاء أخضر يبدو بعيداً... حاجز يكاد يكون بوابة لضخامته وتراصّه، ينهي الممشى.
«يا معلّم، لقد أنقذتُكَ. يمكنكَ الذهاب، إنّما أنصت إليّ. توقّف عن القدوم إلى هنا لبعض الوقت. لا يمكنني خدمتكَ على الدوام دون أن يلاحظني أحد. و... انسَ، انسوا جميعكم هذا الدرب وأنا الذي قدتُكم فيه.» يقول زكريّا بينما يعمل على حركات ميكانيكيّة على البوّابة الثقيلة ويفتحها بحيث تسمح بالضبط بمرور الأشخاص. ويكرّر: «انسوا رأفة بي.»
«لا تخف. لن يتكلّم أحد منّا، وليكن الله معكَ بسبب محبّتكَ.» يرفع يسوع يده ليضعها على رأس الشاب المنحني.
يخرج، يتبعه ابنا عمّه والآخرون. يجد نفسه على موضع قفر يزحمه العلّيق حيث بالكاد يتّسع لهم جميعاً، في مقابل بستان الزيتون. درب ماعز يهبط وسط العلّيق صوب السيل.
«هيّا بنا. سوف نعاود الصعود إلى مستوى باب النعاج، وأنا سأمضي مع أخوتي إلى بيت يوسف، بينما تذهبون إلى بيت حسدا لتأخذوا الآخرين وتلحقوا بي. سنمضي إلى نوبة غداً مساء بعد الغسق.