ج6 - ف96
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء السادس/ القسم الأول
96- (في ملكيّة نيقوديموس)
29 / 03 / 1946
يصل يسوع هناك عند فجر منعش. جميلة هي هذه الأرياف الخصيبة التابعة لنيقوديموس الطيّب عند أشعّة الشمس الأولى. جميلة، رغم كون حقول كثيرة قد حُصدت وتُظهِر مظهر الحقول الكئيب بعد موت القمح، الذي في عرمات مِن ذهب أو أيضاً الممدّد كالجثث على الأرض، ينتظر نقله إلى البيادر. ومعه تموت الترنجانات (نبات برّي أزرق الزهر) النجمية بلون السفير، وفم السمكة البنفسجيّة، كؤوس الجريسات سريعة العطب، تويجات البابونج والأقحوان الضاحكة، الخشخاش فاقع اللون، ومائة نوع آخر مِن الزهور النجميّة أو على شكل السنابل أو العناقيد أو التويجات، جميعها كان يضحك سابقاً حيث يمتدّ الآن لون الحشفات (أصل الزرع بعد الحصاد) الأصفر. ولكن لمواساة الأرض المجرّدة مِن القمح بَرَزَ إيراق الأشجار المثمرة المتأنّق مع ثمارها التي تنمو متّخذة صبغات مختلفة، والتي، في هذه الآونة، تلمع كغبار ماس بفضل الندى الذي لم تبخّره الشمس بعد.
الفلاّحون الآن في عملهم، سعداء لبلوغهم نهاية عمل الحصاد المضني. يغنّون وهم يحصدون ويضحكون بفرح ويتنافسون في مَن يكون الأكثر رشاقة والأكثر دقّة في استخدام المنجل وربط الحُزَم. كتائب عديدة مِن الفلاّحين جيّدي التغذية سعداء في العمل لصالح معلّم طيّب. وعلى أطراف الحقول، أو خلف أولئك الذين يربطون الحُزَم، أطفال وأرامل ومسنّون ينتظرون التقاط السنابل الباقية، وهم ينتظرون دون قلق، لأنّهم يعلمون أنّ هناك ما يكفي الجميع، كالعادة، «بأمر مِن نيقوديموس» كما شَرَحَت إحدى الأرامل ليسوع الذي يسألها.
«هو يُراقِب» تقول «لكي يُترَك عَن عمد الكثير مِن السنابل خارج الحُزَم، مِن أجلنا. وإذ هو ما يزال غير راض عن مثل هذه المحبّة، وبعد أخذ كمّية مناسبة للبِذار، يوزّع علينا الباقي. آه! إنّه لا ينتظر السنة السبتية (انظر سفر اللاويين 25 : 1-7) ليفعل ذلك! ولكنّه يَجعَل الفقير يستفيد مِن قمحه على الدوام، وكذلك بالنسبة إلى الزيتون والكروم. لأجل ذلك يباركه الربّ بمحاصيل عجائبيّة. فبركات الفقراء كالندى على الحبوب وعلى الزهور، وتجعل كلّ حبّة تُنتِج سنابل أكثر، ولا تَسقُط زهرة دون أن تتشكّل ثمرة. ثمّ لقد أَعلَمَنا أنّ هذه السنة الكلّ لنا، لأنّها سنة نعمة. عن أيّة نعمة يتحدّث، لستُ أعلم. إن لم يكن كما يقال بيننا، نحن الفقراء، ووسط خدّامه السعداء، هو، بالسرّ، تلميذ لذاك الذي يقول إنّه المسيح الذي يكرز بالحبّ للفقراء شهادة لمحبّة الله... قد تعرفه أنتَ إذا كنتَ صديقاً لنيقوديموس... ذلك أنّ الأصدقاء عادة لهم العواطف نفسها... يوسف الذي مِن الرّامة، مثلاً، صديق عظيم لنيقوديموس، ويقال كذلك إنّه صديق الرابّي... آه! ماذا أقول! فليسامحني الله! أنا أسيء إلى اثنين صالِحَين مِن السهل!...» المرأة جَزِعة.
يبتسم يسوع ويَسأَل: «لماذا يا امرأة؟»
«لأنّه... آه! قُل لي، هل أنتَ صديق حقيقيّ لنيقوديموس ويوسف، أم أنتَ واحد مِن السنهدرين، أحد أصدقاء السوء الذين يسيئون للطيّبيَن الاثنين لو كانوا تأكّدوا أنّهما صديقا الجليليّ؟»
«كوني مطمئنّة. أنا صديق حقيقيّ للاثنين الطيّبين. ولكنّكِ تعلمين الكثير، يا امرأة! فكيف تعلمين ذلك؟»
«آه! نحن جميعاً نعلم هذا! عليّة القوم بحقد وصغار القوم بحبّ. لأنّنا حتّى ولو كنّا لا نعرف المسيح فإنّنا نحبّه، نحن المهمَّشين الذين هو وحده يحبّهم ويُعلّم الحبّ. ونرتعد مِن أجله... فغدّارون للغاية هم اليهود والفريسيّون والكَتَبَة والكَهَنَة!... ولكنّي أعثّركَ... سامحني. إنّه لسان امرأة لا يعرف أن يصمت... ولكن لأنّ الألم كلّه يحلّ بنا منهم، ذوي السلطان الذين يظلموننا بلا رحمة ويجبروننا على أصوام غير مكتوبة في الشريعة، ولكنّها تُفرَض لضرورة الحصول على المال لدفع كلّ الضرائب العشريّة التي يضعها الأغنياء على الفقراء...ولذلك فكلّ الأمل في ملكوت هذا الرابّي الذي، إن كان صالحاً الآن وهو مضطهَد، فما الذي يكونه عندما سيتمكّن مِن أن يُصبِح مَلِكاً؟»
«ملكوته ليس مِن هذا العالم، يا امرأة. فهو لن يكون له بلاط ولا جيوش. لن يَفرض قوانين بشريّة. لن يوزِّع مالاً، ولكنّه سيُعلّم الأفضل مِن الناس أن يفعلوا. والفقراء لن يجدوا اثنين أو عشرة أو مئة صديق وسط الأغنياء وحسب، بل إنّما كلّ الذين يؤمنون بالمعلّم يجمعون خيراتهم في سبيل مساعدة إخوتهم المحرومين مِن الخيرات. ذلك أنّه، مِن الآن، لم يعد يُطلَق مصطلح "قريب" على الشبيه، بل إنّما "أخ"، باسم الربّ.»
«آه!...» المرأة منذهلة وهي حالِمة بهذه الحقبة مِن الحبّ. تُداعِب أولادها، تبتسم، ثمّ ترفع رأسها وتقول: «إذن فأنتَ تؤكّد لي أنّني لم أُسبّب الأذى لنيقوديموس... بكلامي معكَ؟ فهذا أتاني تلقائيّاً... عيناكَ وادِعتان للغاية!... ومظهرك طَلِق للغاية!... لستُ أعلم... إنّني أشعر بطمأنينة كما لو كنتُ أمام ملاك مِن الله... لذلك تكلّمتُ...»
«لم تُسبّبي له الأذى، كوني على ثقة. على العكس فلقد منحتِ صديقي ثناءً عظيماً سوف أهنّئه عليه، وسيكون عزيزاً على قلبي أكثر مِن أيّ وقت. هل أنتِ مِن هذه المنطقة؟»
«آه! لا، سيّدي. أنا مِن المنطقة الواقعة بين ليدا وبيت تيجون. ولكن حينما يكون الأمر بخصوص عزاء المرء، فإنّه يجري، حتّى ولو كانت الطريق طويلة! فأشهر الشتاء والجوع أطول...»
«والأبديّة أطول مِن الحياة. فيجب أن تكون العناية بالنَّفْس كما هي بالجسد، والجري إلى حيث كلام الحياة...»
«هذا ما أفعله مع تلاميذ الرابّي يسوع، هذا الرجل الصالح، أتعلم؟ الوحيد الصالح بين رابّيينا الكثيرين جدّاً.»
«حسناً تفعلين، يا امرأة.» يقول يسوع مبتسماً. ولكنّه يشير إلى أندراوس ويعقوب بن زَبْدي اللذَين هما معه، بينما ذَهَبَ الآخرون إلى بيت نيقوديموس، بألاّ يقوما بما يَجعَل المرأة تُدرِك بأنّ الرابّي يسوع هو الذي تُكلّمه.
«بالتأكيد أُحسِن عملاً. أنا أريد أن أكون معفاة مِن خطيئة عدم حبّه والإيمان به... يقولون إنّه المسيح... أنا لا أعرفه، ولكنّي أريد أن أؤمن ذلك أنّني أفكّر أنّ نكبة ستصيب الذين لا يريدون أن يُقرّوا به هكذا.»
«وإذا كان تلاميذه مخدوعين؟» يقول يسوع ليختبرها.
«هذا لا يمكن أن يكون، يا سيّد. إنّهم طيّبون للغاية، متواضعون ومساكين حتّى يفكّروا أنّهم يتبعون أحداً ليس بقدّيس. وثمّ... لقد تحدّثتُ إلى أناس شفاهم هو. لا ترتكب خطيئة عدم الإيمان، يا سيّد! تُهلِك نفسكَ... بالنهاية... أنا أظنُّ أنّه، حتّى ولو كنّا جميعنا مخدوعين، وإن لم يكن هو الـمَلِك الموعود، فهو بالتأكيد قدّيس وصديق الله، إذا كان يقول هذا الكلام ويشفي النُّفوس والأجساد... وتقدير الصالحين، يعود بالخير على الدوام.»
«أَحسَنتِ قولاً، اثبتي في إيمانكِ... ها هو نيقوديموس...»
«نعم. ومعه تلاميذ للرابّي. بالفعل إنّهم في القرية يكرزون للحصّادين. كذلك في الأمس كما مؤخّراً قد أكلنا مِن خبزهم.»
نيقوديموس، بثياب قصيرة، يتقدّم في هذه الأثناء دون الانتباه إلى المعلّم، ويأمر الفلاّحين بعدم رفع أيّة سنبلة مِن التي حَصَدوها. «بالنسبة لنا، لدينا منها خبزاً... أعطوا هبة الله للمحرومين منها. وأعطوها دونما خوف.كان مِن الممكن أن يُدمَّر الموسم ببرَد متأخّر. ولم يُفقَد منها حبّة واحدة. فلنُعِد لله خبزه بمنحه لأبنائه البؤساء. أؤكّد لكم أنّ مواسم العام القادم ستكون مثمرة أكثر، ألف بالمئة، لأنّه، هو، قال: "مكيالاً طافحاً يُمنَح لِمَن أعطى".»
الفلاّحون، بإجلال وفرح، يُنصِتون ويؤيّدون المعلّم. ونيقوديموس يكرّر أمره متنقّلاً مِن حقل إلى حقل، ومِن مجموعة إلى أخرى.
يسوع شبه مختبئ خلف ستار مِن القصب بجانب خندق فصل، يؤيّد ويبتسم. وتزداد ابتسامته بالقدر الذي يقترب فيه نيقوديموس وأَصبَحَ وشيكاً اللقاء والمفاجأة.
ها هو يقفز فوق الخندق الصغير ليمضي إلى حقول أخرى... وها هو يجمد في مواجهة يسوع الذي يمدّ له ذراعيه.
أخيراً يجد ما يقول: «المعلّم القدّيس، ولكن كيف إذن أنتَ عندي، أيّها المبارك؟»
«لمعرفتكَ، إذا ما كانت حاجة بعد لذلك، مِن خلال كلام شهودكَ الأصدق: أولئك الذين تغمرهم بإحساناتكَ...»
يجثو نيقوديموس على ركبتيه منحنياً يلامس الأرض، كذلك يجثو التلاميذ الذين يقودهم استفانوس ويوسف الذي مِن عِمّاوس الجبل. يُدرِك الفلاّحون، ويدرك الفقراء، والجميع يجثون بذهول مفعم إجلالاً.
«انهضوا. حتّى هذه اللحظة كنتُ المسافر الذي يوحي بالثقة... انظروا إليَّ هكذا، وأحبّوني دون خوف. نيقوديموس، لقد أَرسَلتُ العشرة الغائبين إلى بيتكَ...»
«لقد أمضيتُ الليل خارجاً مِن أجل السهر على تنفيذ أحد الأوامر...»
«نعم. بارككَ الله مِن أجل هذا الأمر. أيّ صوت قال لكَ إنّ هذه هي سنة النعمة، وليس العام القادم مثلاً؟»
«... لا أعلم... وأعلم... أنا لستُ نبيّاً. ولكنّي لستُ غليظ السمع، ولقد اتّحد عقلي بنور سماويّ. يا معلّمي... كنتُ أريد أن يَفرَح المساكين بعطايا الله، بينما لا يزال الله وسط الفقراء... ولم أكن أجرؤ على الأمل بالحصول عليكَ، لمنح طعم لذيذ وقُدرة مقدِّسة لهذا القمح، لزيتوني والكروم ولبساتين الفاكهة التي ستكون لأبناء الله الفقراء، إخوتي... أمّا الآن وأنتَ هنا، فارفع يدكَ المباركة وبارك، كيما، مع غذاء الجسد، تحلّ على الذين سيتغذّون به، القداسة التي تنبثق منكَ.»
«نعم، يا نيقوديموس، هذه رغبة مستقيمة تؤيّدها السماء.» ويفتح يسوع ذراعيه ليبارك.
«آه! انتظر ريثما أنادي الفلاّحين.» ويُصفّر مِن صافرة معه ثلاث مرّات، صفيراً حادّاً يترجّع صداه في الجوّ الساكن ويؤدّي إلى جري الحصّادين، اللمّامين، الفضوليّين المقبلين مِن كلّ صوب. جمع صغير…
يَفتَح يسوع ذراعيه ويقول: «بقوّة الربّ، وبرغبة خادمه، فلتحلّ نعمة خلاص الروح والجسد في كلّ حبّة، حبّة عنب، حبّة زيتون وفي كلّ حبّة فاكهة، ولتوفِّق وتقدِّس الذين يتناولونها بروح صالح، نقيّ مِن كلّ شهوة وحقد، وراغبين بخدمة الربّ بالطاعة لمشيئته الإلهيّة والكاملة.»
«آمين.» يجيب نيقوديموس، أندراوس، يعقوب والتلاميذ الآخرون...
«آمين.» يكرّر الجمع الصغير، وهم ينهضون، إذ إنّهم كانوا قد جثوا ليباركهم يسوع.
«عَلِّق الأعمال، يا صديقي. أريد التحدّث إليهم.»
«عطيّة في العطيّة. شكراً مِن أجلهم، يا معلّم!»
يذهبون إلى ظلّ بستان الفاكهة كثير الأوراق وينتظرون أن يلحق بهم الـمُرسَلون العشرة إلى البيت الذين يجرون لاهثين وقد خاب أملهم لعدم إيجادهم لنيقوديموس.
ثمّ يتكلّم يسوع:
«السلام معكم. إليكم جميعاً يا مَن تُحيطون بي، سأعرض مَثَلاً وليتقبّل كلّ منكم التعليم والجزء الذي يناسبه أكثر.
اسمعوا: كان لرجل وَلَدان، تقدَّمَ مِن الأوّل وقال له: "يا بنيّ، تعال لتعمل اليوم في كروم أبيكَ." كان تكريماً عظيماً مِن الأب! فقد كان يُقدِّر أنّ الابن أهل للعمل حيث كان الأب هو الذي يعمل حتّى ذلك الحين. كانت إشارة إلى أنّه كان يرى في ابنه الإرادة الصالحة، المثابرة، الإمكانيّات، التجربة وحبّ الأب. ولكنّ الابن، منشغلاً قليلاً بأمور العالم، وخوفاً مِن أن يبدو كخادم -الشيطان يستخدم هذا النوع مِن السراب للإبعاد عن الخير- وخوفاً مِن السخريات، وقد يكون كذلك مِن انتقامات أعداء أبيه، الذين لم يكونوا يجرؤون على رفع اليد عليه، ولكنّ مراعاتهم للابن كانت أقلّ، يُجيب: "لن أذهب. لا أرغب بالذهاب إلى هناك." حينئذ مضى الأب إلى الابن الآخر ليقول له ما قاله للأوّل. وفي الحال أجاب الابن الثاني: "نعم يا أبي، أذهب في الحال."
ومع ذلك ما الذي حصل؟ كانت للابن الأوّل نَفْس مستقيمة. فبعد لحظة ضعف في التجربة، ثورة، نَدِمَ على الإساءة إلى أبيه، ودون أن يقول شيئاً، مضى إلى الكروم. عَمِل طوال اليوم حتّى ساعة متأخّرة مِن الليل. عاد إلى البيت راضياً والسلام في قلبه لأدائه الواجب. الثاني، على العكس، كاذب هو وضعيف، خرج مِن البيت، حقّاً، إنّما بعد ذلك أضاع الوقت بالتسكّع في القرية، بزيارات لا طائل منها لأصدقاء ذوي تأثير كان يأمل الاستفادة منهم. وكان يقول في قلبه: "الأب عجوز ولا يَخرُج مِن البيت. سأقول له إنّني أطعتُ الأمر، وسيُصدّق..."
ولكنّ المساء حلّ بالنسبة إليه كذلك، وعاد إلى البيت، مظهره مظهر إنسان ضَجِر مِن البطالة، ثيابه غير متجعّدة، السلام الناقص الذي أدّاه للأب الذي كان قد لاحظه وقارنه بالابن البِكر، الذي عاد متعباً، متّسخاً، أشعث الشعر، ولكنّه فَرِح، صادق بنظرته الصافية، المتواضعة والصالحة، الذي، دون إرادة منه بالتبجّح بإتمام الواجب، كان مع ذلك يريد القول للأب: "أحبّكَ وبحقّ، لدرجة أنّني كي أرضيكَ تغلّبتُ على التجربة"، كان يتكلّم بوضوح لفِكر الأب، الذي عانَقَ ابنه المتعب قائلاً له: "مبارك أنتَ لأنّكَ فهمتَ الحبّ!"
بالفعل، ماذا تظنّون؟ مَن مِن الاثنين أحبَّ؟ بالتأكيد تقولون: "الذي فَعَلَ مشيئة أبيه." ومَن الذي فَعَلَها؟ الابن الأوّل أم الثاني؟»
«الأوّل.» يُجيب الجمع بصوت واحد.
«الأوّل. نعم. في اسرائيل كذلك، وأنتم تتشكّون مِن ذلك، ليس الذين يقولون: "يا ربّ! يا ربّ!" قارعين صدورهم وليس في قلوبهم ندم حقيقيّ على خطاياهم -والأصحّ هو أنّ قلوبهم تزداد قسوة- ليس الذين يحافظون على الطقوس بتفاخر لكي يدعوهم الناس قدّيسين، ولكنّهم في حياتهم الخاصّة يفتقرون إلى المحبّة والعدل؛ ليسوا أولئك، الذين يثورون، في الحقيقة، على مشيئة الله الذي أَرسَلَني ويهاجمونها كما لو كانت مشيئة الشيطان، وهذا لن يُغفَر لهم؛ ليسوا هم القدّيسين في عينيّ الله. بل الذين يعرفون أنّ كلّ ما يفعله الله حسن هو، يَستَقبِلون الـمُرسَل مِن الله ويُنصِتون إلى كلامه ليعرفوا أن يعملوا أفضل، دائماً أفضل، ما يشاؤه الآب، هؤلاء هم القدّيسون والأحبّاء إليه تعالى.
الحقّ أقول لكم: الجَهَلَة والمساكين والعشّارون والبغاة يسبقون كثيراً الذين يُدعَون "معلّمين"، "مقتدرين"، "قدّيسين"، ويَدخُلون ملكوت الله. وسيكون هذا عدلاً. بالفعل جاء يوحنّا إلى إسرائيل ليقودها على دروب الاستقامة، وكثيرون في إسرائيل لم يصدّقوه، إسرائيل التي تُطلِق على نفسها صفة "عالِـم وقدّيس"، أمّا العشّارين والزناة فصدَّقوه. وأتيتُ أنا، والعلماء والقدّيسون لا يؤمنون بي، أمّا المساكين والأمّيّون والخطأة فيؤمنون بي. واجترحتُ المعجزات، وحتّى بهذه المعجزات لم يؤمنوا، ولم يندموا على عدم إيمانهم بي. على العكس حقدوا عليَّ وعلى الذين يحبّونني.
والآن أقول: "طوبى للذين يعرفون أن يؤمنوا بي، والعمل بمشيئة الله هذه التي فيها الخلاص الأبديّ." زيدوا إيمانكم وكونوا ثابتين. وستحصلون على السماء لأنّكم ستكونون قد عرفتم أن تحبّوا الحقّ.
امضوا. وليكن الله معكم على الدوام.»
يباركهم ويصرفهم، ثمّ، يمضي هو إلى جانب نيقوديموس إلى بيت التلميذ ليمكث في فترة الحرارة الشديدة...