ج10 - ف17

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء العاشر

 

17- (يسوع يثبّت بقيامته الّذين يؤمنون به في أماكن مختلفة)

 

16 -17 / 04 / 1947

 

أولاً: يسوع يَظهَر لأُمّ أناليا.

 

إليز، أُمّ أناليا، تبكي بقنوط في منزلها، مُنزوية في غرفة صغيرة، حيث يوجد سرير صغير مِن دون أغطية، قد يكون سرير أناليا. رأسها مسترخ فوق ذراعيها، المسترخيين بدورهما والممدودين فوق السرير الصغير، كما كي تعانقه بكامله. جسدها يرزح بكلّ ثقله فوق ركبتيها في وضعية خمول. ما مِن شيء قويّ فيها سوى دموعها.

 

ضوء خفيف يدخل عبر النافذة المفتوحة. فالنهار قد بزغ منذ قليل. إنّما يتبدّى نورٌ ساطع حين يدخل يسوع. أقول: يدخل، كي أقول أنّه لم يكن هناك قبلاً. وسأقول دوماً هكذا لأُعبّر عن ظهوره في مكان مُقفَل، مِن دون أن أكرّر دائماً كيف أنّه يتبدّى مِن خلف سطوع عظيم يُذكِّر بسطوع التجلّي، مِن وراء نار بيضاء -إذا سُمِح لي بالمقارنة- كما لو أنّ الجدران والأبواب تُذاب كي تسمح ليسوع بالدخول بجسده الحقيقيّ، ‏النابض، الصلب، الـمُمجّد، نار، سطوع ينغلق عليه ويخفيه عندما يرحل. إنّما، بعد ذلك، يتجسّد الشكل الجميل جدّاً للقائم مِن الموت، إنّما إنسان، إنسان بحقّ، بوسامة تزيد مائة ضعف عن الّتي كان عليها قبل الآلام. إنّه هو، إنّه هو الـمُمجَّد، الـمَلِك.

 

«لماذا تبكين يا إليز؟»

 

لا أدري لماذا لا تتعرّف المرأة على صوته الممييَّز. ربّما لأنّ الألم يخدّرها. تُجيب كما لو أنّها تتحدّث إلى أحد أقربائها الّذي ربّما قصدها بعد موت أناليا.

 

«أسمعتَ أولئك الرجال مساء أمس؟ هو كان لا شيء. قوّة سحريّة إنّما ليست إلهيّة. وأنا الّتي أذعنتُ لموت ابنتي، معتقدةً بأنّها كانت محبوبة مِن الله، في سلام... هو قال لي ذلك!...» تُضاعِف البكاء.

 

«لكنّ كُثُر قد رأوه قائماً مِن الموت. الله وحده يمكنه القيامة بذاته.»

 

«أنا أيضاً قلتُ ذلك لرجال الأمس. لقد سَمِعتَني. لقد حاربتُ أقوالهم. لأنّ كلماتهم كانت تعني الموت لرجائي، لسلامي. لكن هم -أسمعتَهم؟- قالوا: "كلّ ذلك كان كوميديا مِن أتباعه، كي لا يعترفوا بأنّهم كانوا مغفّلين. لقد مات ومات بحقّ، وفسد، وسرقوا الجثّة وأتلفوها، قائلين بأنّه قد قام". هذا ما قالوه... لذلك أرسل العليّ الزلزال الثاني، ليُشعِرهم بغضبه حيال كذبهم التدنيسيّ. آه! لم يعد لي تعزية!»

 

«إنّما لو كنتِ رأيتِ الربّ القائم، بعينيكِ، ولمستِه بيديكِ، فهل كنتِ ستؤمنين؟...»

 

«لا أستحقّ ذلك... إنّما بالتأكيد كنتُ سأؤمن! يكفيني أن أراه. لن أجرؤ على لمس جسده، فإن كان الأمر كذلك، فسيكون جسداً إلهيّاً، وامرأة لا تستطيع الاقتراب مِن قدس الأقداس.»

 

«ارفعي رأسكِ يا إليز، وانظري مَن يقف أمامكِ!»

 

ترفع المرأة رأسها الأشيب، وجهها مشوّه بالدموع، وترى... تهوي أكثر بعد على عقبيها، تفرك عينيها، تفتح فمها لتصرخ، لكن الذُّهول يحبس صرختها في حنجرتها.

 

«هذا أنا، الربّ. المسي يدي، قبّليها. لقد ضحّيتِ لي بابنتكِ. إنّكِ تستحقّين ذلك. وستجدين، على هذه اليد، القبلة الروحيّة لطفلتكِ. إنّها في السماء، وهي مغتبطة. سوف تحدّثين التلاميذ عن ذلك، وعن هذا اليوم.»

 

المرأة مفتونة إلى حدّ أنّها لا تجرؤ على تقبيل يده، ويسوع هو الّذي يضغط أطراف أصابعه على شفتيها.

 

«آه! لقد قمتَ حقّاً!!! كم أنا سعيدة! كم أنا سعيدة! لتكن مباركاً لأنّكَ عزّيتَني!»

 

تنحني لتُقبّل قدميه. تُقبّلهما وتلبث هكذا. النور فائق الطبيعة يُغلّف المسيح بسطوعه، لم يعد في الغرفة. لكنّ قلب الأُمّ امتلأ بيقينٍ لا يتزعزع.

***

ثانياً: يسوع يَظهَر لمريم الّتي لسمعان [أم يهوذا] في إسخريوط، لحنّة أم يوحنّه والعجوز حنانيا.

إنّه منزل حنّة، أُمّ يوحنّه. نفس المنزل الريفيّ حيث يسوع، برفقة أُمّ يهوذا، أجرى معجزة شفاء حنّة1. وكذلك هنا توجد غرفة فيها امرأة ممدّدة فوق سرير. امرأة لا يمكن التعرّف عليها مِن فرط ما يشوّهها انقباض نَفْس قاتل. وجهها مضنى. الحمّى تنهشه، محمّرة الوجنتين البارزتين، بقدر ما خدّاها غائران. عيناها المحاطتان بهالّتين سوداوين، حمراوان مِن الحمّى والدموع، نصف مغمضتين تحت الجفنين المنتفخين. هناك لا وجود لاحمرار حمّى، البشرة شديدة الاصفرار، مخضرّة، كما لو أنّ الصفراء (محتوى الحويصل الصفراويّ) كانت منتشرة في الدم. ذراعاها النحيلتان ويداها الهزيلتان، مستسلمةً على الأغطية الّتي يرفعها اللُّهاث.

 

قرب المريضة، الّتي هي بالتأكيد أُمّ يهوذا، تتواجد حنّة، أُمّ يوحنّه. إنّها تمسح دموعها ‏وعرقها، تُحرّك مروحة مِن سعف النخيل، تُغيّر الكمادات المبلّلة بالخلّ المعطّر، الموضوعة على جبهة المريضة وعنقها، تداعب يديها، وتلاطف شعرها المشعث، الّذي غدا في وقت قصير أبيضاً أكثر منه أسوداً، إنّه مبغثر فوق الوسادة، ملتصق بفعل التعرّق بالأذنين اللتين أصبحتا شفّافتين. حنّة تبكي أيضاً وهي تقول كلمات تعزية: «ليس هكذا يا مريم! ليس هكذا! كفى! هو... هو قد أخطأ. أمّا أنتِ، أنتِ تعلمين كيف هو الربّ يسوع...»

 

«اصمتي! هذا الاسم… لي… حين ينادونني به… يدنّسونه... إنّني أُمّ... ‏قايين... الله! آه!» يستحيل البكاء إلى تشنّج مديد، مُـمزِّق. تشعر بأنّها تغرق، تتعلّق بعنق صديقتها الّتي تنجدها فيما هي تتقيّأ سائلاً صفراويّاً.

 

«سلاماً! سلاماً يا مريم! ليس هكذا! آه! ماذا عليّ أن أقول لإقناعكِ بأنّه، الربّ، يحبّكِ؟ أكرّر لكِ ذلك! أُقسِم لكِ بما هو أكثر قداسة بالنسبة إليّ: مخلّصي وطفلتي. هو قال لي ذلك حين أتيتِني به. كانت له حيالكِ كلمات بعد نظر حبّ لا نهائيّ. ‏أنتِ بريئة. هو يحبّكِ. أنا واثقة، أنا متأكّدة مِن أنّه سوف يهب نفسه مرّة أخرى كي يمنحكِ السلام، أيّتها الأُمّ الشهيدة المسكينة.»

 

«أُمّ قايين الله! أتسمعين؟ تلك الريح، هناك، خارجاً... تقول ذلك... الصوت ينتشر عبر العالم، الصوت... صوت الريح، ويقول: "مريم الّتي لسمعان، أُمّ يهوذا، ذاك الّذي خان المعلّم وسلّمه لمن صلبوه". أتسمعين؟ كلّ شيء يقول ذلك... الجدول، هناك خارجاً... اليمام... النِّعاج... كلّ الأرض تصرخ بأنّني كذلك... لا، لا أريد أن أشفى. أريد أن أموت!... الله عادل ولن يضربني في الحياة الأخرى. إنّما هنا، لا. العالم لا يغفر... لا يميّز... إنّني أصاب بالجنون لأنّ العالم يصرخ... "أنتِ أُمّ يهوذا"!» تهوي منهكة فوق وِساداتها. حنّة تجلسها، وتحمل خارجاً البياضات المتّسخة…

 

مريم، المغمضة العينين، الشاحبة كميتة بعد الجهد الّذي بذلته، تنوح: «أُمّ يهوذا! يهوذا! يهوذا!» تلهث، ثمّ تستأنف: «لكن ما يكون يهوذا؟ ماذا أنجبتُ؟ ما هو يهوذا؟ ‏ماذا...»

 

يسوع في الغرفة، الّتي يضيئها مصباح راجف لأنّ نور النهار لا يزال ضعيفاً للغاية ليضيء الغرفة الواسعة الّتي يقع السرير في آخرها، بعيداً جدّاً عن النافذة الوحيدة. ينادي بصوت لطيف: «مريم! مريم الّتي لسمعان!»

 

المرأة تهذي تقريباً ولا تعطي أهمّية للصوت. إنّها مغيّبة، تستولي عليها دوّامات ألمها، وتُردّد الأفكار الّتي تستحوذ على دماغها، برتابة، مثل تكتكة رقّاص ساعة: «أُمّ يهوذا! ماذا أنجبتُ؟ العالم يصرخ: "أُمّ يهوذا"...»

 

دمعتان في الزاوية مِن عينيّ يسوع الوديعتين جدّاً. تدهشانني كثيراً. لم أكن أتوقع أنّ يسوع يمكنه البكاء بعدما قام… ينحني. السرير منخفض كثيراً، بالنسبة إليه هو، الطويل القامة جدّاً! يضع يده على الجبهة المحمومة، مُبعِداً الكمّادات المبلّلة بالخلّ، ويقول: «بائس. هذا ولا شيء آخر. إذا صرخ العالم، فإنّ الله سيحجب ذلك الصراخ بقوله لكِ: "كوني في سلام، لأنّني أنا أحبّكِ". انظري إليّ، أيّتها الأُمّ المسكينة! استعيدي روحكِ التائهة وضعيها في يديّ. أنا يسوع!...»

 

مريم الّتي لسمعان تفتح عينيها، كأنّها كانت خارجةً مِن كابوس وترى الربّ، تشعر بيده على جبهتها، تغطّي وجهها بيديها الراجفتين وتنوح: «لا تلعنّي! لو علمتُ ما كنتُ سأُنجِب، لكنتُ انتزعتُ أحشائي لئلاّ يُولَد.»

 

«ولكنتِ ارتكبتِ خطيئة. مريم! آه! مريم! لا تتخلّي عن برّكِ بسبب إثم شخص آخر. الأُمّهات اللواتي أنجزن واجبهنّ يجب ألاّ يعتبرن أنفسهنّ مسؤولات عن خطايا أبنائهنّ. لقد أدّيتِ واجبكِ يا مريم. أعطيني يديكِ المسكينتين. اهدئي، أيّتها الأُمّ المسكينة.»

 

«أنا أُمّ يهوذا. نَجِسة أنا مثل كلّ ما مسّه الشيطان. أُمٌّ لشيطان! لا تلمسني.» تتخبّط للإفلات مِن اليدين الإلهيّتين اللتين تريدان الإمساك بها. دمعتا يسوع تسقطان فوق وجهها الّذي احمرَّ بفعل الحمّى.

 

«لقد طهّرتكِ يا مريم. دموع رحمتي عليكِ هي. لم أذرف دموعي على أحد مذ استنفدتُ ألمي. لكنّني أبكي عليكِ بكلّ رحمتي العطوفة.» لقد تمكّن مِن الإمساك بيديها ويجلس، نعم، يجلس بحقّ على حافّة السرير، ضامّاً هاتين اليدين المرتجفتين بين يديه.

 

الرحمة العطوفة لعينيه اللامعتين تداعب، تغلّف، تشفي البائسة الّتي تهدأ وهي تبكي بصمت وتهمس: ‏«ألا تحمل ضغينة ضدّي؟»

 

«أحمل محبّة. لذلك أتيتُ. كوني في سلام.»

 

«أنتَ، تغفر! إنّما العالم! أُمّكَ! سوف تكرهني.»

 

«إنّها تفكّر بِكِ كما بأخت. العالم فظّ. هذا صحيح. أُمّي هي أُمّ المحبّة، وهي طيّبة. أنتِ لا يمكنكِ الذهاب عبر العالم، لكنّها ستأتي إليكِ حين سيكون كلّ شيء في سلام. الوقت يُسَكِّن...»

 

«اجعلني أموت، إذا كنتَ تحبّني...»

 

«قليلاً بعد. ابنكِ لم يُحسِن إعطائي شيئاً. أنتِ، أعطيني وقتاً مِن معاناتكِ. سيكون قصيراً.»

 

«ابني أعطاكَ الكثير... الفظاعة اللامتناهية هي ما أعطاكَ.»

 

«وأنتِ الألم اللامتناهي. الفظاعة انقضت، ما عاد لها تأثير. ألمكِ يفيد. إنّه يتّحد بجروحي، ودموعكِ ودمي تغسل العالم. كلّ الآلام تتّحد لتغسل العالم. إنّ دموعكِ هي وسط دمي ودموع أُمّي، وحولها كلّ آلام القدّيسين الّذين سيتعذّبون مِن أجل المسيح ومِن أجل البشر، حبّاً بي وبالبشر. أيّتها المسكينة مريم!» يمدّدها بلطف، يشبك يديها، ينظر إليها تستكين…

 

حنّة تعاود الدخول وتلبث مذهولة عند العتبة.

 

يسوع، الّذي نهض مجدّداً، ينظر إليها وهو يقول: «لقد أطعتِ رغبتي. السلام للطائعين. نفسكِ فهمتني. عيشي في سلامي.»

 

يعاود خفض نظره صوب مريم الّتي لسمعان الّتي تنظر إليه بدورها وهي تذرف دموعاً أكثر سكينة، ويبتسم لها بعد. يقول لها أيضاً: «ضعي كلّ رجائكِ في الربّ، وهو سوف يمنحكِ كلّ تعزياته.» يبارِكها ويهمّ بالرحيل.

 

مريم الّتي لسمعان تُطلِق صرخة انفعاليّة: «يقال إنّ ابني خانكَ بقبلة! أهذا صحيح يا ربّ؟ إذا كان نعم، فدعني أغسلها بتقبيل يديكَ. ما مِن شيء آخر أستطيع فِعله! لا أستطيع أن أفعل شيئاً آخر لمحو... لمحو...» الألم يعاودها بشكل أقوى.

 

يسوع، آه! يسوع لا يعطيها يديه لتقبيلهما، تلك اليدين اللتين ينسدل عليهما كُمّ ثوبه الأبيض العريض حتّى وسط المشط مُخفياً الجروح، بل يمسك رأسها بين يديه وينحني ليمسّ بشفتيه الإلهيّتين الجبهة اللاهبة لأشقى النساء، ويقول لها وهو يعاود النهوض: دموعي وقبلتي! ما مِن أحد نال هذا المقدار منّي. كوني إذاً في السلام لأنّ لا شيء بيني وبينكِ سوى المحبّة.» يباركها، وبعد أن يجتاز الغرفة سريعاً، يخرج خلف حنّة، الّتي ‏لم تجرؤ على التقدّم، ولا على التكلّم، إنّما تبكي بانفعال.

 

لكن حين يغدوان في الممشى الّذي يقود إلى باب المنزل، حنّة تتجرّأ على الكلام، على طرح السؤال الّذي في قلبها: «يوحنّتي؟»

 

«إنّها تبتهج في السماء منذ خمسة عشر يوماً. لم أقل ذلك في الداخل، لأنّ هناك تبايناً كبيراً بين ابنتكِ وابنها.»

 

«هذا صحيح! كرب رهيب! أعتقد بأنّها تموت مِن هذا.»

 

«لا. ليس في الحال.»

 

«الآن ستحظى بمزيد مِن السلام. لقد عزّيتَها. أنتَ! أنتَ الّذي أكثر مِن الجميع...»

 

«أنا الّذي أكثر مِن الجميع أُشفِق عليها. أنا الرحمة الإلهيّة. أنا المحبّة. أقول لكِ يا امرأة: لو أنّ يهوذا ألقى عليَّ فقط نظرة توبة، لكنتُ حصلتُ له على غفران الله...»

 

يا له مِن حزن على وجه يسوع! المرأة مصعوقة مِن ذلك. الكلام والصمت يتصارعان على شفتيها، لكنّها امرأة، والفضول يغلبها. تسأل: «إنّما هل كان ذلك لـ... لـ... نعم، أقصد: هل أخطأ ذلك الشقيّ فجأة، أم...»

 

«كان يخطئ منذ أشهر، ولم أقل كلمة واحدة، ولا أيّ فِعل كان قادراً على إيقافه، مِن فرط ما كانت إرادته في الخطيئة قويّة. إنّما لا تقولي لها ذلك...»

 

«لن أقول!... يا ربّ! عندما حنانيا، الّذي كان قد هرب مِن أورشليم حتّى مِن دون إكمال الفصح، تحديداً في عشيّة السبت، قد دخل هنا صارخاً: "ابنكِ خان المعلّم وسلّمه لأعدائه! خانه بقبلة. ورأيتُ المعلّم مضروباً، ومكسواً بُصاقاً، مجلوداً، مُكلّلاً بالأشواك، حاملاً الصليب، مصلوباً وميتاً بسبب ما فعله ابنكِ. وأعداء المعلّم ينادون باسمنا ظافرين بوقاحة، ويتناقلون تصرّفات ابنكِ الّذي، بأقل مِن ثمن حَمَل، باع المسيح، وبقبلة خيانة أرشد إليه الحرّاس!" مريم سقطت أرضاً، وقد غدت سوداء فوراً، والطبيب يقول أنّ مرارتها انسكبت وكبدها انفجر وأنّ كلّ دمها قد فسد بسبب ذلك. و... العالم شرّير. معها حقّ... لقد اضطررتُ لنقلها إلى هنا، فقد كانوا يذهبون قرب منزل إسخريوط ليصرخوا: "ابنكِ قاتل الله وقد انتحر! شنق نفسه! وبعلزبول أخذ نَفْسه وكذلك جسده قد جاء الشيطان لأخذه." أهي صحيحة تلك المعجزة الرهيبة؟»

 

«لا يا امرأة. لقد وُجِد ميّتاً، مشنوقاً إلى شجرة زيتون...»

 

«آه! وكانوا يصرخون: "المسيح قام وهو الله. ابنكِ خان الله. أنتِ أُمّ مَن خان الله. أنتِ أُمّ يهوذا". لقد جلبتُها إلى هنا خلال الليل، أنا وحنانيا وخادم وفيّ، الوحيد الّذي بقي لي، لأنّ ما مِن أحد كان يريد البقاء بقربها... لكنّ مريم تسمع تلك الصرخات في الريح، في ضوضاء الأرض، في كلّ شيء.»

 

«يا للأُمّ المسكينة! إنّه لأمر رهيب، نعم.»

 

«إنّما ألم يفكّر ذاك الشيطان بهذا يا ربّ؟»

 

«كان ذلك إحدى الحجج الّتي كنتُ أستخدمها لأوقفه. لكن بلا جدوى. إنّ يهوذا قد وصل إلى كره الله باعتباره لم يحبّ مطلقاً أباه وأُمّه ولا أيّ قريب آخر حبّاً حقيقيّاً؟»

 

«هذا صحيح!»

 

«وداعاً يا امرأة. لتمنحكِ بركتي العزاء لاحتمال ازدراءات العالم مِن أجل شفقتكِ حيال مريم. قبّلي يدي. لكِ أستطيع أن أريها. أمّا بالنسبة لها فسوف يؤذيها للغاية أن ترى هذا.» يردّ كُمّه إلى الوراء كاشفاً عن المعصم المثقوب.

 

حنّة تطلق صيحة تأوُّه وهي بالكاد تلمس بشفتيها طرف الأصابع.

 

صوت باب ينفتح وصيحة مخنوقة: «الربّ!» رجل مسنّ يسجد ويلبث هكذا.

 

«حنانيا، الربّ صالح. أتى ليعزّي قريبتكَ، وكي يعزّينا نحن أيضاً.» تقول حنّة لتعزّي أيضاً الرجل المسن، المتأثّر للغاية.

 

لكنّ الرجل لا يجرؤ على القيام بحركة. يقول وهو يبكي: «نحن مِن دمٍ مفضوح. لا أجرؤ على النظر إلى الربّ.»

 

يسوع يمضي نحوه. يلمس رأسه قائلاً له الكلمات ذاتها الّتي سبق أن قالها لمريم الّتي لسمعان: «الأهل الّذين قاموا بواجبهم يجب ألاّ يَعتبروا أنفسهم مسؤولين عن خطيئة قريبهم. تشجّع يا رجل! الله عادل. السلام لكَ ولهذا المنزل. أنا أتيتُ وأنتَ سوف تذهب إلى حيث أُرسِلك. التلاميذ سيكونون في بيت عنيا لأجل الفصح الـمُكمِّل. سوف تذهب إليهم وتقول لهم إنّكَ في اليوم الثاني عشر بعد موته قد رأيتَ الربّ في إسخريوط، حيّاً وحقيقيّاً، بجسده ونفسه وألوهيته. سوف يصدّقونكَ لأنّني سبق أن أمضيتُ وقتاً طويلاً معهم. إنّ ذلك سوف يثبّت إيمانهم بطبيعتي الإلهيّة بمعرفتهم أنّني في كلّ مكان في اليوم نفسه. وقبل ذلك أيضاً، سوف تذهب اليوم بالذات إلى إسخريوط لتطلب مِن رئيس المعبد أن يجمع الشعب، وسوف تقول في حضور الجميع أنّني أتيتُ إلى هنا، وأن يتذكّروا كلماتي الوداعيّة2. بالتأكيد سوف يقولون لكَ: "لماذا لم يأتِ إلينا؟" وسوف تجيب هكذا: "الربّ طلب منّي أن أقول ‏لكم أنّكم لو كنتم فعلتم ما كان قد قال لكم أن تفعلوه حيال الأُمّ البريئة، لكان أظهر نفسه. لقد أخفقتم في المحبّة، ولذلك لم يُظهِر الربّ نفسه." هل ستفعل ذلك؟»

 

«هذا الأمر صعب يا ربّ! صعب القيام به! يعتبروننا كلّنا بمثابة بُرص القلب... رئيس المعبد لن يستمع لي، والشعب لن يدعني أتكلّم. ربّما سيضربني... ومع ذلك سأفعله طالما أنتَ تشاء.» الرجل العجوز لا يرفع رأسه. يتكلّم لابثاً منحنياً في سجود عميق.

 

«انظر إليَّ يا حنانيا!»

 

الرجل يرفع وجهاً يرتجف إجلالاً.

 

يسوع متألّق ووسيم كما على جبل طابور... النور يغلّفه مُخفياً شكله وابتسامته... يختفي مِن الممشى، دون أن يُفتَح أيّ باب ليسمح له بالعبور.

 

الاثنان يعبدان، يعبدان بعد، وقد أصبحا عبادة كُلّية بفعل الظهور الإلهيّ.

***

ثالثاً: في يافا (يسوع يَظهَر لأطفال يافا مع أُمّهم سارة.)

إنّه بستان منزل سارة. الأطفال يلعبون تحت الأشجار الـمُورِقة. الأصغر يتدحرج على العشب قرب صفّ كثيف مِن أوراق جفنة عنب، الآخرون الأكبر سنّاً، يُطارِدون بعضهما بصيحات السنونو الفَرِحة، ويلعبون الغمّيضة خلف الأسيجة ودوالي العنب.

 

ها هو يسوع يَظهَر قرب الصغير الّذي منحه اسمه3. آه! يا لبساطة الأبرياء المقدّسة! إنّ يشوع لا يُدهَش لرؤيته هناك، فجأة، إنّما يمدّ له ذراعيه الصغيرتين كي يحمله بين ذراعيه ويسوع يحمله: يجري ذلك في منتهى التصرّف الطبيعيّ.

 

الآخرون يَصِلون راكضين، و -مرّة أخرى، بساطة الأطفال المباركة!- ومِن دون ذهول، يقتربون منه، بسعادة. يبدو أنّ ما مِن شيء تغيّر بالنسبة إليهم. ربّما لأنّهم لا يعرفون. إنّما بعد أن يلاطف يسوع كلّ واحد منهم، مريم، الّتي هي الأكبر والأكثر نضجاً، تقول: «إذاً لم تعد تتألّم يا ربّ، الآن وقد قمتَ؟ لقد تعذّبتُ للغاية!...»

 

«لم أعد أتألّم. أتيتُ لأبارككم قبل أن أصعد إلى أبي وأبيكم، في السماء. إنّما مِن هناك أيضاً سوف أبارككم دوماً، إذا كنتم دوماً طيّبين. سوف تقولون للذين يحبّونني أنّني تركتُ لكم بركتي، اليوم. تذكّروا هذا اليوم.»

 

«ألا تأتي إلى المنزل؟ أُمّي هناك. لن يصدّقونا.» تقول أيضاً مريم.

 

لكنّ أخاها لا يسأل. يصيح: «أُمّاه، أُمّاه! الربّ هنا!...» يكرّر تلك الصيحة وهو يركض صوب ‏المنزل.

 

تهرع سارة، تظهر... في الوقت المناسب كي ترى يسوع، وسيماً جدّاً، عند حدود البستان، يختفي في النور الّذي يمتصّه…

 

«الربّ! إنّما لماذا لم تنادوني قبلاً؟...» تقول سارة ما أن تستعيد القدرة على الكلام. «لكن متى؟ مِن أين أتى؟ أكان وحده؟ يا لكم مِن أغبياء!»

 

«وجدناه هنا. قبل دقيقة لم يكن موجوداً... لم يأت مِن الطريق، ولا مِن البستان كذلك. كان يشوع بين ذراعيه... وقال لنا بأنّه أتى ليباركنا ويمنح البركة للّذين يحبّونه في يافا، وأن نتذكّر هذا اليوم. والآن سيمضي إلى السماء، لكنّه سيحبّنا إذا كنّا طيّبين. كم كان وسيماً! يداه كانتا مجروحتين، إنّما لا تؤلمانه بعد. قدماه أيضاً كانتا مجروحتين. لقد رأيتُهما مِن بين العشب. هذه الزهرة كانت تلامس تحديداً جرح إحدى قدميه. أنا، سأقطفها...» يتكلّمون كلّهم معاً، يؤجّجهم الانفعال. حتّى إنّهم يتعرّقون بسبب فرط انفعالهم.

 

سارة تلاطفهم هامسةً: «الله عظيم! هيّا بنا. تعالوا. لنذهب ونخبر الجميع بذلك. أنتم، أيّها الأبرياء، تكلّموا. أنتم يمكنكم أن تتكلّموا عن الله.»

***

رابعاً: للشّابّ جايا في بيلّا.

الشّابّ يعمل بحيويّة حول عربة. إنّه يُحَمّلها بخضار مقطوفة مِن بستان مجاور. الحمار يضرب بحافره أرض الدرب الريفيّة الصلبة.

 

وفيما يستدير ليتناول سلّة خسّ يرى يسوع الّذي يبتسم له. يترك السلّة تسقط أرضاً ويركع وهو يفرك عينيه، غير مصدّق لما يراه، ويهمس: «أيّها العليّ، لا تدعني أتوهّم! لا تسمح يا ربّ بأن يضلّلني الشيطان بمناظر فاتنة كاذبة. لقد مات ربّي حقّاً! ودُفِن، والآن يقولون إنّ جثمانه قد سُرِق. ارحمني، أيّها الربّ العليّ! أَظهِر لي الحقّ.»

 

«أنا الحقّ يا جايا. أنا نور العالم. انظر إليّ. تمعّن بي. مِن أجل ذلك أعدتُ إليكَ النّظر4، مِن أجل أن تشهد على قدرتي وقيامتي.»

 

«آه! الربّ بالحقيقة! هو أنتَ! نعم، أنتَ يسوع!» يزحف على ركبتيه ليُقبّل له القدمين.

 

«ستقول إنّكَ رأيتَني وكلّمتَني، وإنّني حيٌّ حقّاً. ستقول بأنّكَ رأيتَني اليوم. لكَ سلامي وبركتي.»

 

جايا يبقى وحده، إنّه سعيد. ينسى العربة والخضار، وعبثاً يضرب الحمار الهائج الأرض وينهق احتجاجاً على الانتظار… جايا في نشوة.

 

تخرج امرأة مِن المنزل القريب مِن البستان وتراه هناك، شاحباً مِن الانفعال ووجهه هائماً. تصرخ: «جايا! ما بكَ؟ ماذا أصابكَ؟» تهرع، تهزّه، تعيده إلى الأرض…

 

«الربّ! لقد رأيتُ الربّ القائم. قبّلتُ قدميه ورأيتُ جروحه. لقد كذبوا. قد كان حقّاً الله، وقام. لقد خشيتُ أن تكون خدعة. لكنّه هو! إنّه هو!»

 

المرأة ترتجف وترتعش تأثّراً وتهمس: «هل أنتَ واثق مِن ذلك بحقّ؟»

 

«أنتِ طيّبة يا امرأة. لقد جعلتِنا أنا وأُمّي نعمل عندكِ حبّاً به، لا تمتنعي عن التصديق!...»

 

«إذا كنتَ واثقاً، فأنا أصدّق. ولكن هل حقّاً كان جسداً؟ أكان حارّاً؟ أكان يتنفّس؟ يتكلّم؟ أكان له حقّاً صوت، أم أنّ ذلك بدا لكَ؟»

 

«إنّني متأكّد. كان جسداً دافئاً لإنسان حيّ، كان صوتاً حقيقيّاً، كان يتنفّس. كان جميلاً مثل الله، إنّما إنساناً، مثلي ومثلكِ. هيّا، هيّا لنخبر أولئك الّذين يتألّمون أو يشكّون.»

***

خامساً: في منزل يوحنّا الّذي مِن نوبة.

العجوز بمفرده في منزله. إنّه ساكن. يصلح كرسيّاً انتُزعت مسامير إحدى جهاته، ويبتسم لا أدري لأيّ حلم.

 

قَرعٌ على الباب. العجوز، دون أن يترك عمله، يقول: «تفضّلوا! ماذا تريدون، أنتم الّذين تأتون؟ أأنتم مِن أولئك مجدّداً؟ لقد أصبحتُ عجوزاً كي أتغيّر! حتّى لو صرخ كلّ العالم: "لقد مات"، فأنا أقول: "إنّه حيّ". وحتّى لو كان عليّ أن أموت بسبب قول ذلك. ادخلوا إذن!»

 

ينهض ليتوجّه نحو الباب، كي يرى مَن يقرع دون أن يدخل. إنّما حين يصبح على مقربة، يُفتَح الباب ويدخل يسوع.

 

«آه! آه! آه! ربّي! حيّ! لقد آمنتُ! وهو يأتي ليكافئ إيماني! مبارك! أنا لم أشكّ. في ألمي قلتُ: "إذا كان قد أرسل لي الحَمَل لوليمة الفرح5، فهي علامة على أنّه سيقوم في ذاك اليوم". حينذاك فهمتُ كلّ شيء. حين متَّ واهتزّت الأرض، فهمتُ ما لم أكن قد فهمتُه قبلاً. وبدوت بأنّني جننتُ، في نوبة، وما أن غابت شمس اليوم التالي للسبت، قمتُ بتحضير وليمة الفصح وذهبتُ لأدعو عدداً مِن المتسوّلين قائلاً: "لقد قام صديقنا!" وقد كان يقال إنّ الأمر لم يكن صحيحاً. كان يقال إنّهم سرقوكَ، في الليل. إنّما أنا لم أصدّق، لأنّه منذ اللحظة الّتي متَّ فيها فهمتُ أنّكَ كنتَ تموت كي تقوم، وأنّ تلك كانت علامة يونان.»

 

يسوع يدعه يتكلّم وهو يبتسم. ثم يسأل: «والآن أما زلتَ تريد الموت6، أم تريد أن تبقى لتشهد على مجدي؟»

 

«كما تشاء أنتَ يا ربّ!»

 

«لا. ما تريده أنتَ.»

 

العجوز يفكّر، ومِن ثمّ يقرّر: «سيكون حسناً الخروج مِن العالم، حيث لم تعد موجوداً كما في السابق. لكنّني أتخلّى عن سلام السماء في سبيل أن أقول للشكّاكين: "لقد رأيتُه"»

 

يسوع يضع يده على رأس الرجل المسنّ مُبارِكاً إيّاه ويضيف: «إنّما قريباً سيحلّ أيضاً السلام، وسوف تأتي إليّ برتبة الـمُعتَرِف بالمسيح.»

 

ويرحل. هنا، ربّما رفقاً بالرجل المسنّ، لم يعطِ لظهوره واختفائه الصبغة العجائبيّة، بل فعل كلّ شيء كما لو أنّه يسوع الّذي كان قبلاً، الّذي كان يدخل ويخرج إلى منزل، بطريقة بشريّة.

***

سادساً: في منزل متّياس المنعزل في يابيش جلعاد.

العجوز يعمل حول خضاره ويناجي نفسه: «كلّ أرزاقي هذه هي له. وهو لن يتذوّقها ثانيةً أبداً. لقد عملتُ بلا جدوى. إنّني أؤمن بأنّه كان ابن الله، وبأنّه مات وقام. لكنّه لم يعد المعلّم، الّذي يجلس إلى مائدة الفقير أو الغني ويتقاسم معهما الطعام بنفس القدر مِن المحبّة، بالتأكيد، حتّى، الطعام مع الفقير يكون بمحبّةٍ أكثر منه مع الغنيّ. الآن إنّه الربّ القائم. قام ليثبّتنا في الإيمان نحن المؤمنين به. وهم يقولون بأنّ ذلك ليس صحيحاً. يقولون إنّه ما مِن أحدٍ أبداً قام مِن الموت بذاته. لا أحد. لا. ولا إنسان. إنّما هو فنعم. لأنّه الله.»

 

يصفّق بيديه ليطرد طيور الحمام خاصّته، الّتي تحطّ لتنتزع بذوراً مِن الأرض المحروثة والمبذورة حديثاً، ويقول: «أصبح مِن العبث أن تتكاثري! هو لن يتذوّق صغاركِ! وأنتِ أيّتها النحلات عديمة الفائدة؟ لمن تصنعين العسل؟ كنتُ آمل أن أحظى به معي لمرّة واحدة على الأقل، الآن وقد غدوتُ أقلّ بؤساً. فكلّ شيء قد ازدهر هنا، مذ جاء... آه! إنّما بكل هذا المال، الّذي لم ألمسه أبداً، أريد أن أذهب إلى الناصرة، إلى منزل أُمّه، وأقول لها: "اجعليني خادمكِ، إنّما دعيني أبقى حيث أنتِ، لأنّكِ لا تزالين هو..."» يمسح دمعةً بظاهر ‏يده…

 

«متّياس، هل لديكَ خبز لمسافر؟»

 

متّياس يرفع رأسه، وحيث إنّه يجثو على ركبتيه، فإنّه لا يستطيع أن يرى الّذي يتكلّم مِن خلف السياج العالي الّذي يسيّج ملكيّته المتواضعة، الضائعة في تلك العزلة الخضراء الّتي هي ذلك المكان فيما وراء الأردن. لكنّه يجيب: «كائناً مَن تكون، تعال، باسم الربّ يسوع.» وينهض ليفتح البوّابة.

 

يجد نفسه بمواجهة يسوع، وتتجمّد يده على القفل، دون أن يكون قادراً على القيام بأيّة حركة.

 

«ألا تريدني كضيف لكَ يا متّياس؟ لقد قمتَ بذلك مرّة7. كنتَ تشكو مِن أنّكَ لن تستطيع القيام بذلك. أنا هنا ولا تفتح لي؟» يقول يسوع وهو يبتسم…

 

«آه! يا ربّ... أنا... أنا... أنا لستُ أهلاً لأن يدخل ربّي إلى هنا... أنا...»

 

يسوع يمرّر يده ‏فوق المدخل ويفتح القفل قائلاً: «الربّ يدخل إلى حيث يشاء يا متّياس.»

 

يدخل، يسير عبر الحديقة المتواضعة، يمضي صوب المنزل، عند العتبة يقول: «ضحّي إذاً بصغار حماماتكَ. أقطف خضاركَ مِن الأرض، واجلب العسل مِن نحلاتكَ. سوف نتقاسم الخبز معاً ولن يكون عملكَ عديم الجدوى، ولا عبثية رغبتكَ. وهذا المكان سيكون عزيزاً عليكَ، ولن يكون عليكَ الذهاب إلى حيث سرعان ما سيكون صمتٌ وهجر. أنا في كلّ مكان يا متّياس. مَن يحبّني هو معي، دوماً. تلاميذي سيكونون في أورشليم. هناك ستنشأ كنيستي. حاول أن تكون هناك للفصح الـمُكمِّل.»

 

«سامحني يا ربّ. لكنّني لم أحتمل البقاء في ذلك المكان وهربتُ. كنتُ قد وصلتُ هناك في التاسعة في اليوم السابق للتحضيرات، وفي اليوم التالي... آه! هربتُ لئلّا أراكَ تموت. فقط لهذا السبب يا ربّ.»

 

«أعرف. وأعرف أنّكَ عدتَ، أحد الأوائل، لتبكي على قبري. لكنّي لم أكن فيه. إنّني أعرف كلّ شيء. هو ذا، أنا أجلس هنا وارتاح. لطالما ارتحتُ هنا... والملائكة تعرف ذلك.»

 

الرجل يشرع بالعمل، إنّما يبدو كأنّه يتحرّك في كنيسة مِن فرط ما هي خاشعة حركاته. بين فينة وأخرى يمسح دمعة تريد أن تمتزج مع ابتسامته، فيما يروح ويجيء للإمساك بالحمامات، ذبحها، تحضيرها، إضرام النار، قطف الخضار وغسلها، ووضع بواكير التين في صحن، وتجهيز المائدة بأفضل أدوات المائدة. إنّما، حين يغدو كلّ شيء جاهزاً، كيف يمكنه الجلوس للأكل؟ يريد أن يَخدم، وحتّى ذلك يبدو له كثيراً، لا يريد شيئاً آخر. لكنّ ‏يسوع، الّذي قدّم وبارك، يقدّم له نصف الحمامة الّتي قسمها، واضعاً اللحم فوق قطعة مِن الخبز الّتي غمسها في الـمَرَق.

 

«آه! كما لأحد المفضّلين!» يقول الرجل، ويأكل، باكياً مِن الفرح والتأثّر، مِن دون أن تفارق عيناه يسوع الّذي يأكل... الّذي يشرب، الّذي يتذوّق الخضار، الثمار، العسل، الّذي يقدّم له كأسه بعد أن يتناول جرعة نبيذ. قبلاً كان يشرب دائماً الماء.

 

الوجبة انتهت.

 

«أنا حيّ فعلاً. ترى ذلك، وأنتَ بغاية السعادة. تذكّر أنّني منذ اثني عشر يوماً مضت كنتُ قد متُّ بإرادة البشر، إنّما إرادة البشر تكون معدومة حين لا تكون متوافقة مع مشيئة الله. لا وبل إنّ إرادة البشر المتعارضة مع مشيئة الله تصبح أداةً ذليلة للمشيئة الأبديّة. وداعاً يا متّياس. وكما قلتُ إنّه سيكون معي مَن أعطاني لأشرب حين كنتُ ذاك المسافر الّذي كان لا يزال كلّ شكّ فيه مشروعاً، كذلك لكَ أقول: ستكون لكَ حصّة في ملكوتي السماويّ.»

 

«إنّما سأفقدكَ الآن يا ربّ!»

 

«أَبصِرني في كلّ مسافر، في كلّ متسوّل، أنا، في كلّ عاجز، أنا، في كلّ محتاج إلى خبز، ماء وثياب. أنا في كلّ إنسان يتألّم، وكلّ ما يُفعَل للّذي يعاني، فقد فُعِل لي.»

 

يفتح ذراعيه مباركاً، ويختفي.

***

سابعاً: في منزل إبراهيم الّذي مِن عين جدي.

ساحة عين جدي: مَعبَد شاهق مِن أشجار نخيل تُصدِر حفيفاً. الينبوع: مرآة لسماء نيسان [أبريل]. طيور الحمام: همس خافت لأرغن. العجوز إبراهيم يجتاز الساحة حاملاً أدوات عمله على كتفيه. يبدو أكبر سنّاً، إنّما ساكن النّفْس كمن وجد الراحة بعد عاصفة شديدة. يجتاز أيضاً بقيّة المدينة، يذهب إلى الكروم قرب الينابيع. الكروم الجميلة الخصبة، الواعدة بغلّة وافرة. يدخلها، يبدأ بالتعشيب، التشذيب، الربط. ينهض بين الحين والأخر، يستند إلى الـمِعزقة، يفكّر. يلمّس لحيته الوقورة، يتنهّد، يهزّ رأسه في حوار داخليّ.

 

رجل مُلتفّ تماماً بردائه يصعد الطريق نحو العيون والكروم. أقول: رجل. لكنّه يسوع، ذلك أنّ هذا هو ثوبه وهذه هي مشيته. إنّما بالنسبة إلى الشيخ فهو: رجل. والرجل ينادي إبراهيم قائلاً: «أيمكنني أن أتوقّف هنا؟»

 

«الضيافة مقدّسة. إنّني أبداً لم أمنعها عن أحد. تعال. ادخل. لتكن عذبة راحتكَ في ظلّ كرومي. أتريد حليباً؟ خبزاً؟ سوف أعطيكَ ما أمتلكه هنا.»

 

«وأنا ماذا أستطيع أن أعطيكَ؟ لا أملك شيئاً.»

 

«مَن هو المسيا أعطاني كلّ شيء، أعطى كلّ البشر. والبعض الّذي أعطيه، هو لا شيء بالمقارنة مع ما أعطاني هو.»

 

«هل تعلم أنّهم صلبوه؟»

 

«أعلم بأنّه قام. هل أنتَ أحد الّذين صلبوه؟ لا يمكنني أن أكرهكَ لأنّه لا يريد الكراهية. إنّما لو كان بإمكاني ذلك، لكرهتُكَ إن كنتَ كذلك.»

 

«‏لستُ أحد الّذين صلبوه. كن في سلام. فإذن أنتَ تعلم كلّ شيء عنه؟»

 

«كلّ شيء. وأليشع... إنّه ابني، أتدري؟ أليشع لم يعاود الرجوع إلى أورشليم، قائلاً: "اصرفني يا أبي، لأنّني أتخلّى عن كلّ خير لأُبشِّر بالربّ. سوف أذهب إلى كفرناحوم بحثاً عن يوحنّا، وسوف أنضمّ إلى التلاميذ الأوفياء."»

 

«ابنكَ ترككَ إذاً؟ على الرغم مِن أنّكَ عجوز ووحيد إلى هذا الحدّ؟»

 

«ما تدعوه أنتَ تركاً إنّما هو الفرح الّذي طالما حلمتُ به. ألم يحرمني البَرَص منه؟ ومَن أعاده إليّ؟ المسيا. فهل أفقده، ربّما، لأنّه يُبشِّر بالربّ؟ بالطبع لا! سوف أجده ثانية في الحياة الأبديّة. لكنّكَ تتكلّم بطريقة تثير شكوكي. هل أنتَ مبعوث مِن الهيكل؟ أتأتي لتضطهد مَن يؤمنون بالقائم مِن الموت؟ اضرب! لن أهرب. لن أقتدي بالحكماء الثلاثة للزمن البعيد8. إنّني أبقى. فإذا سقطتُ مِن أجله، فإنّني سأنضمّ إليه في السماء، وتستجاب صلاتي للعام السابق9

 

«هذا صحيح. فقد قلتَ آنذاك: "انتظرتُ الربّ بقلق، وهو التفت إليّ."»

 

«كيف تعلم ذلكَ؟ هل أنتَ واحد مِن تلاميذه؟ أكنتَ هنا معه عندما صلّيتُ له؟ آه! إذا أنتَ كذلك، فساعدني لأُوصِل إليه صراخي، كي يتذكّره.» يسجد، معتقداً بأنّه يكلّم أحد الرُّسُل.

 

«هذا أنا يا إبراهيم عين جدي، وأقول لكَ: "تعال".» يسوع يفتح له ذراعيه، مُظهِراً نفسه، ويدعوه للإسراع بإلقاء نفسه والاستسلام للاستراحة على قلبه.

 

في تلك الأثناء يدخل طفل إلى الكرم، يتبعه شابّ، منادياً: «أبي! أبي! ها نحن قد وصلنا ‏لمساعدتكَ.»

 

لكنّ صراخ الشّابّ الحاد يطغى عليه صراخ الشيخ القويّ، صراخ خلاصٍ حقيقيّ: «ها أنا ذا! إنّني آتٍ!» ويرتمي إبراهيم بين ذراعيّ يسوع، صارخاً مرّة أخرى: «يا يسوع، أيّها المسيا القدّوس! بين يديكَ أستودع روحي!»

 

موتٌ مغبوط! موتٌ أحسده عليه! على قلب المسيح، في السلام الهادئ في الريف الـمُزهِر لنيسان [أبريل]…

 

يسوع يمدّد العجوز بهدوء على العشب الـمُزهِر الّذي يتموّج بفعل النسيم، تحت صفّ مِن الدوالي، ويقول للولدين اللابثين مدهوشين وخائفين، ويوشكان على البكاء: «لا تبكيا. لقد مات بالربّ. طوبى للذين يموتون فيه! هيّا، أيّها الولدان، كي تقولا لأهالي عين جدي بأنّ رئيس معبدهم رأى القائم مِن الموت ورأى استجابته لصلاته. لا تبكيا! لا تبكيا!» يلاطفهما وهو يقودهما إلى المخرج. ثمّ يعود إلى قرب المتوفّى ويرتّب له لحيته وشعره، يسدل له جفنيه اللذين بقيا نصف مغمضين، يسوّي له أطرافه، ويبسط فوقه الرداء الّذي كان إبراهيم قد خلعه ليعمل.

 

يبقى هناك حتّى يسمع أصواتاً آتية مِن جهة الطريق. عندها يستقيم. بهيّاً... أولئك الّذين يهرعون يرونه. يصرخون. يزيدون سرعتهم كي يدركوا يسوع. إنّما هو يتوارى عن أنظارهم في تألّق شعاعٍ مِن الشمس أكثر اتّقاداً.

***

ثامناً: إيليا، أسّيني كريت.

إنّها العزلة القاسية للجبل الوعر الّذي يتدفّق أسفله الكريت. إيليا يصلّي، أكثر نحولاً وأكثر التحاءً، يرتدي لباساً مِن الصوف الخشن، ليس رماديّاً ولا كستنائيّاً، يجعله مشابهاً للصخور الّتي تحيط به.

 

يلاحظ حدوث ضوضاء مشابهة لتلك الّتي للريح أو الرّعد. يرفع رأسه. يسوع ظهر على صخرة معلّقة في حالة توازن فوق هاوية يجري السيل في قعرها.

 

«المعلّم!» يرتمي أرضاً، ووجهه إلى الأديم.

 

«هذا أنا يا إيليا. ألم تشعر بزلزال في عشيّة السبت؟10»

 

«نعم، شعرتُ به، ونزلتُ إلى أريحا وإلى بيت نيقي. لم أجد أحداً مِن أولئك الّذين يحبّونكَ. استعلمتُ عنكَ. ضربوني. ثمّ شعرتُ بالأرض وكانت تهتزّ ثانيةً، إنّما بأكثر خفّة، وعدتُ إلى هنا، للتكفير، معتقداً بأنّ سدّ الغضب السماويّ قد فُتِح.»

 

«بل قل الرحمة الإلهيّة. لقد متُّ وقمتُ. انظر إلى جروحي. انضمّ إلى خدّام ‏الربّ على جبل طابور، وقل لهم إنّني أرسلتُكَ.»

 

يباركه ويختفي.

***

تاسعاً: في قيصريّة فيلبّس.

ابن دوركا الصغير، تسنده أُمّه، يقوم بخطواته الأولى على سور حصن القلعة. ودوركا، كونها منحنية، لا ترى الربّ يَظهَر. لكنّها، إذ تركت الصغير حرّاً قليلاً، تراه يمشي بثقة وسرعة صوب زاوية الحصن، تنتصب لتركض باتّجاهه، لتمنعه مِن السقوط وربّما الهلاك بمروره عبر المتاريس أو المسالك المصنوعة عمداً للأسلحة الهجوميّة. وفيما تفعل ذلك، ترى يسوع يحمل الطفل إلى قلبه ويُقبّله. المرأة لا تجرؤ على الإتيان بحركة، لكنّها تُطلِق صيحة تجعل أولئك الّذين في الساحات يرفعون رؤوسهم، وتجعل الوجوه تطلّ مِن النوافذ. «الربّ! الربّ! المسيا هنا! لقد قام حقّاً.» إنّما، قبل أن يهرع الناس، يسوع يختفي.

 

«إنّكِ مجنونة! أنتِ تحلمين! تَلاعُب الضوء جعلكِ ترين شبحاً.»

 

«آه! لقد كان حيّاً فعلاً! انظروا إلى ابني كيف يحدّق إلى هناك، وكيف يحمل بين يديه تفّاحة جميلة مثل وجهه الصغير. إنّه يقضمها بأسنانه الصغيرة ويضحك. أنا ليس لديّ تفّاح...»

 

«لا أحد لديه تفّاح ناضج في هذه الأيّام، وطازج إلى هذا الحد...» يقولون وهم ما يزالون متأثّرين.

 

«لنسأل طوبيا [يشوع].» تقول بعض النسوة.

 

«وما الّذي تردن فِعله؟ إنّه بالكاد يقول "أُمّي!"» يستهزئ بها بعض الرجال.

 

لكنّ النسوة ينحنين فوق الصغير ويقلن: «مَن أعطاك التفّاحة؟»

 

والفم، الّذي بالكاد يجرؤ على قول الكلمات الأساسيّة، يقول واثقاً، بضحكة مبتهجة تُظهِر أسنانه البالغة الصِّغَر واللثّة الّتي لا تزال فارغة: «يسوع.»

 

«آه!»

 

«هه! إنّكم تدعونه يشوع! إنّه يستطيع قول اسمه.»

 

«يشوع أنتَ، أم يسوع الربّ؟ أيّ ربّ؟ أين رأيتَه؟» النسوة يلحّون عليه بالأسئلة.

 

«هناك، الربّ. يسوع الربّ.»

 

«أين هو؟ إلى أين ذهب؟»

 

«هناك.» يشير إلى السماء المغمورة بأشعّة الشمس، ويضحك بسعادة، ويقضم تفّاحته.

 

وفيما الرجال يمضون وهم يهزّون رؤوسهم، دوركا تقول للنسوة: «كان وسيماً. كان يبدو وكأنّه كان يلبس نوراً. وكانت على يديه أثار المسمارين، حمراء مثل حجر كريم في بياض شديد. لقد رأيتُه جيّداً، لأنّه كان يحمل الطفل هكذا.» وتقلّد حركة يسوع.

 

يهرع القيّم، يطلب منهنّ إعادة القصّة، يفكّر، يستنتج: «المزمور يقول ذلك: "على فم الأطفال والرضّع وضعتَ حمدكَ كاملاً". ولماذا لا يكون ذلك صحيحاً؟ إنّهم أبرياء. ونحن... فلنتذكّر هذا اليوم... إنّما لا! بل سأذهب إلى قرية التلاميذ. سوف أرى إذا كان الرابّي هناك... ومع ذلك... كان ميتاً... ولكن!...»

 

وعلى هذه الـــــ "لكن!" الّتي تُنهي استنتاجه الداخليّ، يمضي القيّم، فيما النسوة، متحمّسات، يتابعن طرح الأسئلة على الصغير، الّذي يضحك ويكرّر: «يسوع، هناك. ومِن ثمّ هناك. يسوع الربّ.» ويشير إلى المكان حيث كان يسوع، ثمّ باتّجاه الشمس حيث رآه يختفي، سعيداً، سعيداً.

***

عاشراً: في قادش.

أهل قادِش مجتمعون في المعبد ويتناقشون مع الشيخ متّياس، رئيس المعبد، حول الأحداث الأخيرة. المعبد معتم إلى حدّ ما، لأنّ الأبواب مغلقة والستائر مُسدَلَة على النوافذ، ستائر ثقيلة بحيث ريح نيسان [أبريل] تحرّكها بصعوبة.

 

وميضٌ يُضيء القاعة. يبدو كأنّه وميض، لكنّه النور الّذي يتقدّم يسوع. ويسوع يُظهِر نفسه، مسبّباً الذهول لعدد كبير مِن الناس. يفتح ذراعيه، وتظهر واضحةً الجروح على يديه وقدميه، لأنّه يُظهِر نفسه على الدرجة الأخيرة مِن درجات ثلاث تقود إلى باب مغلق. يقول: «لقد قمتُ. أُذكّركم بالنقاش الّذي دار بيني وبين الكَتَبَة11. لقد أعطيتُ لهذا الجيل الشرّير العلامة الّتي وعدتُ بها. علامة يونان. وأمنح بركتي للّذين يحبّونني والأوفياء لي.» لا شيء آخر. اختفى.

 

«إنّما كان هو! مِن أين؟ مع ذلك كان حيّاً! لقد قال ذلك! هو ذا! الآن أُدرِك. علامة يونان: ثلاثة أيام في بطن الأرض، ومِن ثمّ القيامة…»

 

ضجيج تعليقات…

***

أحد عشر: في جيسكالا.

مجموعة حَقودة مِن الرابّيين يحاولون إقناع بعض الأشخاص المتردّدين بالرضوخ لمطالبهم. إنّهم يودّون مِن هؤلاء الذهاب إلى عند غَمَالائيل، الّذي حبس نفسه في منزله ولا يريد رؤية أحد.

 

يقول هؤلاء الرجال: «نقول لكم أنّه ليس هنا. لا نعلم أين هو. لقد أتى، راجع بعض اللفّائف. ورحل. لم يقل ولا كلمة.» ويقول الآخرون: «كان مخيفاً مِن فرط ما كان مضطرباً وهَرِماً.»

 

يدير الرابّيون ظهورهم للذين يتكلّمون ويمضون باستياء قائلين: «غَمَالائيل أيضاً مجنون مثل سمعان! ليس صحيحاً أنّ الجليليّ قام مِن الموت! ليس صحيحاً. ليس صحيحاً! ليس صحيحاً أنّه الله. ليس صحيحاً. لا شيء صحيح. نحن ‏وحدنا على حقّ.» ذات القلق الشديد الّذي ينتابهم وهم يقولون بأنّ ذلك غير صحيح يُظهِر بأنّهم خائفون مِن أن يكون صحيحاً، وحاجتهم إلى طمأنة أنفسهم.

 

لقد ساروا بمحاذاة سور المنزل ‏وهم مِن جهة قبر هِلّيل. وهم لا يزالون ينبحون نفيهم، يرفعون رؤوسهم... ويهربون صارخين. يسوع الطيّب جدّاً مع الطيّبين هو هناك، سلطان رهيب، ذراعاه مفتوحتان كما على الصليب... جرحا يديه شديدا الاحمرار كأنّهما كانا ما يزالان يقطران دماً. لا يقول كلمة. لكنّ نظراته تصعق.

 

الرابّيون يهربون، يقعون، يعاودون النهوض، يجرحون أنفسهم وهم يصطدمون بالأشجار والحجارة، لقد جنّوا، الخوف أحالهم مجانين. يشبهون قَتَلَة قد اقتيدوا ليمثلوا أمام ‏ضحيّتهم.

***

اثنا عشر: في منزل يواكيم ومريم في بصرة.

«مريم! مريم! يواكيم ومريم! تعاليا إلى الخارج.»

 

الاثنان، المتواجدان في غرفة هادئة، مضاءة بمصباح، واحدة مُنكبّة على الخياطة، والآخر مشغول بإجراء حسابات، يرفعان رأسيهما، يتبادلان النّظرات... يواكيم، الّذي يشحب مِن الخوف، يهمس: «إنّه صوت الرابّي! يأتي مِن الحياة الأخرى...»‏ المرأة تلتصق بزوجها مذعورة. لكنّ النداء يتكرّر والاثنان، اللذان يلتصقان ببعضهما كي يتشجّعا، يجرؤان على الخروج، الذهاب باتّجاه الصوت.

 

في الحديقة، الّتي ينيرها الهلال الجديد، ويسطع، بنور أشدّ مِن أقمار عديدة، يتواجد يسوع. النور يحيط به جاعلاً منه إلهاً. ابتسامته الوديعة ونظرته العطوفة تجعلان منه ‏إنساناً: «اذهبا وقولا لأهل بصرة أنّكما رأيتماني حيّاً وحقيقيّاً. وأنتَ، يا يواكيم قل ذلك على جبل طابور، للآتين هناك.» يباركهما. يختفي.

 

«لقد كان هو! لم يكن حلماً! أنا... غداً سأذهب إلى الجليل. قال على جبل طابور، أليس كذلك؟...»

***

ثلاثة عشر: في أفرايم في منزل مريم الّتي ليعقوب.

المرأة تعجن طحيناً لتَخبِز. تتلفّت حولها وقد سمعت أحداً يناديها وترى يسوع. الوجه إلى الأرض، اليدان على الأرض. صامتة تتعبّد، خائفة قليلاً.

 

يسوع يتكلّم: «سوف تقولين للجميع أنّكِ رأيتِني وأنّني كلّمتُكِ. الربّ لم يعد خاضعاً للقبر. لقد قمتُ في اليوم الثالث كما وعدتُ. ثابروا، أنتم الّذين في طريقي، ولا تدعوا أنفسكم للخداع بكلام الّذين صلبوني. سلامي لكِ.»

***

أربعة عشر: في منزل سِنْتيخي في أنطاكية.

سِنْتيخي تُعِدّ كيس سفر. إنّه المساء، لأنّ مصباحاً صغيراً مضاء هناك، مرتجف، بإضاءة مناسبة، موضوع على طاولة قرب المرأة المنشغلة بطيّ الملابس.

 

الغرفة تسطع بشدّة وسِنْتيخي ترفع رأسها، مندهشة مِن رؤية الّذي يحدث، ما هو مصدر كلّ هذا النور الساطع في تلك الغرفة المقفلة تماماً. إنّما قبل أن ترى، يسوع يبادرها: «هذا أنا. لا تخافي. لقد أظهرتُ نفسي للكثيرين لأثـبّتهم في الإيمان. ولكِ أيضاً أُظهِر نفسي، أيّتها التلميذة المطيعة والوفيّة. لقد قمتُ. أترين؟ ما عدتُ أتألّم. لماذا تبكين؟»

 

المرأة، أمام جمال الـمُمَجَّد، لا تجد كلاماً... يسوع يبتسم لها ليشجّعها ويضيف: «أنا يسوع نفسه الّذي قَبِلَكِ على الطريق قرب قيصرية12. وعلى الرغم مِن أنّكِ كنتِ مذعورة إلاّ أنّكِ كنتِ تحسنين التكلّم، وكنتُ بالنسبة لكِ الغريب. والآن لا تعرفين أن تقولي لي كلمة؟»

 

«يا ربّ! كنتُ على وشك الرحيل... لأريح قلبي مِن الكثير مِن القلق والألم.»

 

«لماذا الألم؟ ألم يقولوا لكِ أنّني قد قمتُ؟»

 

«قالوا لي ذلك ثمّ تراجعوا. لكنّني لم أنزعج مِن هذه التناقضات. قد كنتُ أعلم أنّكَ لا يمكن أن تفسد في قبر. بكيتُ استشهادكَ. آمنتُ بقيامتكَ، حتّى قبل أن يقولوا لي. وواصلتُ الإيمان حتّى حين جاء آخرون ليقولوا إنّ ذلك لم يكن صحيحاً. إنّما كنتُ أريد المضيّ إلى الجليل. كنتُ أفكّر: هو، ما عادوا يستطيعون أذيّته. إنّه الآن الله أكثر منه إنسان. لا أدري إذا كنتُ أُجيد القول...»

 

«أفهم فكركِ.»

 

«وكنتُ أقول: سوف أعبده، وسأرى مريم. كنتُ أفكّر بأنّكَ لن تبقى وقتاً طويلاً وسطنا، وكنتُ أستعجل الرحيل. كنتُ أقول لنفسي: حين سيعود إلى أبيه، كما كان يقول، ستكون أُمّه حزينة قليلاً في فرحها، فهي نَفْس، لكنّها أُمٌّ كذلك... وأنا سأحاول أن أعزّيها، الآن وهي وحيدة... كنتُ متكبّرة!»

 

«لا. لقد كنتِ عطوفة. سوف أنقل فكركِ لأُمّي. لكن لا تذهبي إلى هناك. ابقي حيث أنتِ وواصلي العمل مِن أجلي. الآن أكثر مِن أيّ وقت. إنّ إخوتكِ، التلاميذ، يحتاجون إلى عمل الجميع ليتمكّنوا مِن نشر عقيدتي. لقد رأيتِني. إنّ مريم في رعاية يوحنّا. فلتسقط كلّ معاناتكِ. ستستطيعين أن تُقوّي روحكِ في يقين أنّكِ رأيتِني، وبقدرة بركتي.»

 

سِنْتيخي ترغب بشدّة في تقبيله، لكنّها لا تجرؤ على ذلك. يسوع يقول لها: «تعالي.» وتجرؤ على الدنوّ مِن يسوع زاحفة على ركبتيها، وتهمّ بتقبيل قدميه، لكنّها ترى الجرحين ولا تجرؤ. تتناول هدب ثوبه وتُقبّله باكيةً وتهمس: «ماذا فعلوا بكَ!» ومِن ثم تسأل: «ويوحنّا-فيلكس؟»

 

«إنّه سعيد. ما عادَ يتذكّر سوى المحبّة ويحيا فيها. السلام لكِ يا سِنْتيخي.» يختفي.

 

المرأة تلبث متعبّدة، راكعة، وجهها للأعلى، يداها مبسوطتان قليلاً، دموع على وجهها، ابتسامة على فمها…

***

خمسة عشر: في منزل اللاويّ زكريّا.

إنّه زكريّا اللاويّ، هو في غرفة صغيرة، يجلس مستغرقاً بالتفكير، رأسه مستند على إحدى يديه.

 

«لا تكن مرتاباً. لا تُنصِت إلى الأصوات الّتي تزعجك. أنا الحقّ والحياة. انظر إليّ. المسني.»

 

الشّابّ، الذي رفع وجهه لحظة سماعه أولى تلك الكلمات ورأى يسوع، جثا على ركبتيه. يصرخ: «اغفر لي يا ربّ. لقد خطئتُ. لقد تقبّلتُ في نفسي الشكّ بحقيقتكَ.»

 

«إنّ الّذين يسعون إلى تضليل روحكَ مُذنِبون أكثر منكَ. لا تخضع لتجاربهم. إنّني جسد حيّ وحقيقيّ. تحسّسْ الوزن والحرارة، صلابة يدي وقوّتها.» يُمسِكه مِن ساعده ويرفعه ‏بقوّة قائلاً: «انهض وسر في طرق الربّ. بعيداً عن الشكّ والخوف. وستكون سعيداً إن أحسنتَ المثابرة حتّى النهاية.»

 

‏يبارِكه ويختفي.

 

الشّابّ، بعد لحظة مِن الذهول وهو منبهر، يهرع خارج الغرفة صائحاً: «أُمّي! أبي! لقد رأيتُ المعلّم. ليس صحيحاً ما يقوله الآخرون! لم أكن مجنوناً. لا تستمرّا في تصديق الكذب، بل باركا معي العليّ الّذي أشفق على خادمه. إنّني مغادر. أذهب إلى الجليل. أمضي لملاقاة بعض مِن تلاميذه. أذهب لأقول لهم أن يؤمنوا أنّه قام بحقّ.»

 

لا يأخذ زاداً ولا ثياباً. يضع رداءه ويغادر راكضاً، مِن دون أن يمنح ‏أبويه الوقت ليستفيقا مِن ذهولهما ويتمكّنا مِن التدخّل لمنعه مِن الرحيل.

***

ستة عشر: لامرأة مِن سهل شارون.

طريق ساحليّة. ربّما هي تلك الّتي تصل قيصريّة بيافا، أو غيرها. لا أعرف. أعرف أنّني أرى ريفاً مِن جهة الداخل، والبحر مِن الخارج، أزرقاً زاهياً ما وراء خطّ الشاطئ الأصفر. الطريق بالتأكيد شارع رئيسيّ رومانيّ، كما تشهد طريقة رصفها.

 

امرأة باكية تسير على هذا االشارع في الساعات الأولى مِن صباحٍ صافٍ. الفجر بزغ منذ قليل. لا بدّ أنّ المرأة متعبة جدّاً، لأنّها تتوقّف مِن حين إلى آخر للجلوس على أحجار المسافة أو على الطريق. ثمّ تنهض وتتابع، كأنّ شيئاً ما يستعجل سيرها، على الرغم مِن التعب الشديد.

 

يسوع، مسافر ملتفّ برداء، يسير إلى جانبها. لا تنظر المرأة إليه. تتقدّم مستغرقة في ألمها. يسوع يسألها: «لماذا تبكين يا امرأة؟ مِن أين تأتين؟ وإلى أين تذهبين بمفردكِ هكذا؟»

 

«إنّني آتية مِن أورشليم وأعود الى منزلي.»

 

«أهو بعيد؟»

 

«في منتصف الطريق بين يافا وقيصريّة.»

 

«سيراً على الأقدام؟»

 

«في الوادي، قبل مودين، لصوص أخذوا حماري بما يحمله.»

 

«قد كنتِ عديمة الاحتراس بذهابكِ وحيدة. ليس مِن المألوف مجيء المرء وحيداً للفصح.»

 

«لم أكن قد أتيتُ للفصح. لقد بقيتُ في المنزل، فعندي، آمل بأنّه لا يزال عندي، طفل مريض. زوجي كان قد ذهب مع الآخرين. لقد تركتُه يتقدّمني، وبعد أربعة أيام مضيتُ. لأنّني قلتُ: "هو بالتأكيد في أورشليم للفصح. سوف أبحث عنه". كنتُ خائفة قليلاً، لكنّني قلتُ: "إنّني لا أفعل شيئاً سيّئاً. الله يرى. إنّني أؤمن. وأعلم أنّه صالح. لن يصدّني لأنّ..."» تتوقّف كأنّها قد خافت وتُلقي نظرة خاطفة على الرجل الّذي يسير بجانبها، المغطّى جيداً بحيث بالكاد تُرى عيناه، العينان الفريدتان ليسوع.

 

«لماذا تصمتين؟ أأنتِ خائفة مني؟ هل تعتقدين بأنّني عدوّ الّذي كنتِ تبحثين عنه؟ لأنّكِ كنتِ تبحثين عن معلّم الناصرة لتطلبي منه أن يأتي إلى منزلكِ ليشفي الصبي، فيما زوجكِ كان غائباً...»

 

«أرى أنّكَ نبيّ. هو ذاك. إنّما حين وصلتُ إلى المدينة، المعلّم كان قد مات.» البكاء يخنقها…

 

«لقد قام مِن الموت. ألا تؤمنين بذلك؟»

 

«أعلم ذلك. أؤمن بذلك. إنّما أنا... إنّما أنا... لبضع أيّام خلت أملتُ برؤيته أنا أيضاً... يقولون إنّه أظهر نفسه للبعض. وأنا تأخّرتُ بالانطلاق… كلّ يوم كان لي عذاباً، لأنّ... طفلي مريض جدّاً... كان قلبي منقسماً… الذهاب لأعزّي في موته... البقاء للبحث عن المعلّم... لم أكن لأطمح أن يأتي إلى منزلي. بل أن يعدني بأن يشفيه.»

 

«وهل كنتِ لتؤمني؟ أتعتقدين أنّه مِن بعيد؟...»

 

«أؤمن. آه! لو قال لي: "اذهبي في سلام. ابنكِ سيشفى"، لم أكن لأشكّ. لكنّني لا أستحقّ ذلك، لأنّ...» تبكي وهي تضغط وشاحها على فمها كما كي تمنع نفسها مِن الكلام.

 

«لأنّ زوجكِ هو أحد مُتَّهِمي يسوع المسيح وجلّاديه. لكنّ يسوع المسيح هو المسيا. إنّه الله. والله عادِل يا امرأة. إنّه لا يعاقب بريئاً بسبب شخص مذنب. إنّه لا يعذّب أُمّاً لأنّ الأب خاطئ. يسوع المسيح هو الرحمة الحيّة...»

 

«آه! أنتَ ربّما أحد رُسُله؟ أربّما تعلم أين هو؟ أنتَ... ربّما هو أرسلكَ لتقول لي هذا الكلام. لقد شعر، رأى ألمي، إيماني، ويرسلكَ إليّ كما أرسل العليّ رئيس الملائكة رافائيل إلى طوبيّا. قل لي إن كان الأمر كذلك، وأنا، على الرغم مِن إرهاقي الشديد وصولاً للحمّى، فسأعود أدراجي لأبحث عن الربّ.»

 

«أنا لستُ رسولاً. لكنّ الرُّسُل بقوا لعدّة أيام في أورشليم بعد قيامته...»

 

«هذا صحيح. كان بإمكاني أن أسألهم.»

 

«بالتأكيد. هم استمراريّة المعلّم.»

 

«لم أكن أعتقد بأنّهم يستطيعون اجتراح معجزات.»

 

«لقد أجروا منها أيضاً...»

 

«إنّما الآن... قيل لي بأنّ واحداً منهم فقط بقي وفيّاً، ولم أكن أصدّق...»

 

«نعم. زوجكِ قال لكِ هذا، هازئاً بِكِ في هذيان منتصر زائف. إنّما أنا أقول لكِ أنّ أيّ إنسان يمكنه أن يخطئ، لأنّ الله وحده كامل، ويمكنه أن يتوب. وإذا تاب، فإنّ قوّته تتعاظم، والله يزيد نِعَمه بسبب ندمه. ألم يغفر الربّ العليّ لداود؟»

 

«إنّما مَن أنتَ. مَن أنتَ لتكلّمني بكلّ هذا القدر مِن الوداعة والحكمة، إن لم تكن رسولاً؟ أتكون ملاكاً ربّما؟ ملاك ولدي. ربّما لفظ أنفاسه الأخيرة وأنتَ أتيتَ لتهيّئني...»

 

يسوع يدع رداءه يسقط عن رأسه ووجهه، ومنتقلاً مِن المظهر المتواضع لمسافر عاديّ إلى جلال الله-الإنسان، العائد مِن الموت، يقول بمهابة وادعة: «هذا أنا. المسيح الّذي صلبوه عبثاً. أنا القيامة والحياة. امضي يا امرأة. ابنكِ يحيا، لأنّني كافأتُ إيمانكِ. ابنكِ شفي. فإذا كان رابّي الناصِرة قد أتمّ رسالته، فإنّ عمّانوئيل يتابع رسالته حتّى انتهاء العصور لكلّ مَن يتحلّون بالإيمان، الرجاء والمحبّة في الله الواحد والثالوثيّ، والّذي كلمته المتجسّد هو أحد الأقانيم، الّذي بسبب الحبّ الإلهيّ، غادر السماء كي يأتي ليُعلِّم، يتألّم ويموت كي يمنح الحياة للبشر. امضي في سلام يا امرأة. وكوني قويّة في الإيمان، لأنّ الزمن حلّ حيث في العائلة الواحدة سيكون الزوج ضدّ الزوجة، الأب ضدّ أولاده وهم ضدّه، بدافع كره أو محبّة لي. إنّما طوبى للذين لا ينتزعهم الاضطّهاد عن طريقي.»

 

يباركها ويختفي.

***

سبعة عشر: لبعض الرُّعاة على حرمون الكبير.

مجموعة مِن القطعان والرُّعاة. يستمتعون على منحدرات مراعٍ رائعة. يتكلّمون عن أحداث أورشليم. إنّهم مُحبَطون وهم يقولون الواحد للآخر: «لن نعود نحظى على الأرض بصديق الرُّعاة.» ويتذكّرون لقاءاتهم الكثيرة معه هنا وهناك... «لقاءات.» يقول راع عجوز «لن نعود نجريها.»

 

يسوع يَظهَر كأنّه كان يطأ ذلك الموضع مِن خلف غيضة متشابكة، حيث تتشابك أصول الأشجار العالية مع الأدغال الواطئة الّتي تحجب رؤية المسلك. لا يتعرّفون إليه في مظهر إنسان وحيد، ويهمسون وهم يرونه وقد التفّ بثوب أبيض: «مَن هو؟ إسّينيّ؟ هنا؟ فرّيسيّ ثريّ؟» إنّهم حائرون.

 

يسوع يسألهم: «لماذا تقولون بأنّكم لن تلتقوا بالربّ ثانية؟ لأنّ الّذي تتكلّمون عنه هو الربّ.»

 

«نعلم ذلك. إنّما أأنتَ لا تعلم ما فعلوا به؟ الآن ثمّة مَن يقول إنّه قام وآخرون ينفون. لكن، حتّى لو أنّه قام، كما نفضّل الاعتقاد، فإنّه سيكون قد رحل الآن. فكيف يمكنه أن يُحِبّ ويبقى وسط شعبٍ صلبه؟ ونحن الّذين أحببناه، حتّى لو أنّنا لم نعرفه جميعنا، حزانى لأنّنا فقدناه.»

 

«لا تزال هناك طريقة لامتلاكه ثانية. هو كان يُعَلِّمها.»

 

«آه! نعم. أن نفعل ما كان هو يُعَلِّمه. حينذاك نحظى بملكوت السماوات ونكون معه. إنّما قبل ذلك علينا أن نحيا ومِن ثمّ نموت. وهو لم يعد بيننا ليشدّد مِن عزيمتنا.» يهزّون رؤوسهم.

 

«أبنائي، إنّ الّذين يحيون تعاليمه، حافظين تعليمه في قلوبهم، يكونون كأنّهم يمتلكون يسوع في قلوبهم. ذلك أنّ الكلمة والعقيدة هما أمر واحد. هو لم يكن معلّماً عَلَّم أشياء لم يفعلها هو. وبالتالي، فكلّ مَن يفعل ما قاله، يملك يسوع حيّاً في داخله ولا يكون منفصلاً عنه.»

 

«تُحسِن القول. لكنّنا أناس مساكين و... نودّ أيضاً أن نراه بأعيننا كي نشعر جيّداً بالفرح... أنا لم أره أبداً، وابني كذلك، ولا يعقوب، هذا؛ ولا مَلكيّا، هذا؛ ولا يعقوب، هذا الآخر؛ ولا شاول. أترى، فقط مِن بيننا، كم عدد الّذين لم يروه؟ لطالما بحثنا عنه، وكلما كنّا نصل، يكون هو قد رحل.»

 

«ألم تكونوا في أورشليم ذاك اليوم؟»

 

«آه! لقد كنّا هناك! إنّما حين عَلِمنا ما كانوا مزمعين أن يفعلوا به، هربنا مثل المجانين إلى الجبال، لنعود إلى المدينة بعد السبت. لسنا مذنبين بدمه، لأنّنا لم نكن في المدينة. لكنّنا فعلنا سوءاً بجبننا. كنّا لنراه على الأقل، ونحيّيه. بالتأكيد كان ليباركنا على تحيّتنا... إنّما لم نكن بحقّ نملك الجرأة لننظر إليه وسط العذابات…»

 

«إنّه يبارككم الآن. انظروا إلى الّذي ترغبون في معرفة وجهه.»

 

يتجلّى، إلهيّاً على نحو بهيّ، فوق خُضرة المرج. وأمام ذهولهم، الّذي يلقيهم أرضاً والّذي أيضاً يسمّر حدقاتهم على الوجه الإلهيّ، يختفي في اتّقاد نور.

***

ثمانية عشر: في صيدون، في منزل الطفل المولود أعمى.

الطفل يلعب وحده تحت عريشة كثيفة. يسمع أحدهم يناديه ويجد نفسه قبالة يسوع. يسأله، وهو خائف بعض الشيء: «لكنّكَ الرابّي الّذي منحني عينيّ13؟» يركّز عينيه الطفوليّتين الصافيتين، اللتين تشبه زرقتهما زرقة عينيّ يسوع، بالعينين الإلهيّتين المتلألئتين.

 

«هذا أنا يا بنيّ. أنتَ لستَ خائفاً منيّ؟» يداعب رأسه.

 

«لستُ خائفاً. إنّما أنا وأُمّي بكينا كثيراً حين عاد أبي قبل الأوان وقال لنا بأنّه هرب لأنّهم قبضوا على الرابّي ليقتلوه. لم يُقِم الفصح وعليه أن يغادر مجدّداً ليقيمه. إنّما لم تمت حينذاك؟»

 

«لقد مُتُّ. انظر إلى الجراح. مُتُّ على الصليب. لكنّني قمتُ. قل لأبيكَ أن يبقى لبعض الوقت في أورشليم بعد الفصح الثاني، وأن يبقى في جوار بستان الزيتون، في بيت فاجة. سيجد هناك مَن يقول له ما يفعل.»

 

«أبي كان يفكّر بالبحث عنكَ. ففي عيد المظالّ لم يستطع أن يكلّمكَ. كان يريد أن يقول لكَ إنّه يحبّكَ كثيراً لأجل العينين اللتين منحتَني إيّاهما. لكنّه لم يستطع القيام بذلك لا آنذاك ولا الآن...»

 

«سوف يفعل ذلك مِن خلال إيمانه بي. وداعاً أيّها الصبيّ. السلام لكَ ولعائلتكَ.»

***

تسعة عشر: في منزل فلّاحي جيوقانا.

القمر يُقبّل حقول جيوقانا. صمت مُطبِق. مساكن الفلاحين الفقيرة، في ليلة خانقة تُرغِم الناس على إبقاء أحد الأبواب مفتوحاً على الأقل، لتجنّب الموت مِن الحرّ في الغرف المنخفضة، حيث تتكدّس أجساد كثيرة بقدر ما يمكنها الاستيعاب.

 

يسوع يدخل إحدى الغرف. يبدو أنّ القمر بذاته يمدّ أشعّته ليصنع له سجادة مَلَكيَّة على أرضية التراب المرصوص. ينحني فوق أحد النائمين المنبطح على بطنه ويغطّ في نوم عميق بسبب الإرهاق. يناديه. يَعبُر إلى آخر وإلى آخر. يناديهم كلّهم، أصدقاءه الأوفياء والفقراء. يَعبُر بخفّة وسرعة مثل ملاك يطير. يدخل أكواخاً أخرى... ثمّ يذهب لانتظارهم خارجاً، قرب مجموعة مِن الأشجار. الفلاّحون، نصف نائمين، يخرجون مِن أكواخهم. اثنان، ثلاثة، واحد فقط، خمسة معاً، بضع نسوة. كلّهم منذهلون وقد تمّت مناداتهم هكذا بصوت مألوف قال الكلمات نفسها للجميع: "تعالوا إلى بستان التفّاح."

 

يذهبون إلى هناك، الرجال يُنهون ارتداء ملابسهم الفقيرة، النسوة يرتّبن جدائلهن، ويتكلّمون بصوت منخفض.

 

«لقد بدا لي أنّه كان صوت يسوع الناصريّ.»

 

«قد يكون روحه. لقد قتلوه. أسمعتم؟»

 

«أنا لا يمكنني أن أصدّق ذلك. هو كان الله.»

 

«ومع ذلك فقد رآه يوئيل أيضاً وهو يَعبُر تحت الصليب...»

 

«قيل لي بالأمس، بينما كنتُ انتظر الوكيل لينهي شؤونه، أنّ التلاميذ مرّوا بيزرائيل وقالوا بأنّه قام حقّاً مِن الموت.»

 

«اصمت! تعلم ما الّذي قاله ربّ العمل. كل مَن يقول ذلك سوف يُجلَد.»

 

«الموت، ربّما. إنّما ألن يكون ذلك أفضل مِن هذه المعاناة؟»

 

«والآن هو لم يعد موجوداً!»

 

«لقد أصبحوا أكثر شرّاً، الآن وقد تمكّنوا مِن قتله.»

 

«إنّهم أشرار لأنّه قام مِن الموت.»

 

يتكلّمون بصوت منخفض بينما يتوجّهون نحو المكان الّذي تعيّن لهم.

 

«الربّ!» تصرخ امرأة، وهي الأولى الّتي تسقط على ركبتيها.

 

«إنّه طيفه!» يصيح آخرون، وبعضهم خائفون.

 

«هذا أنا. لا تخافوا. لا تصرخوا. تقدّموا. هذا أنا بحقّ. لقد أتيتُ لتثبيت إيمانكم، الّذي أعلم أنّ الآخرين يعملون على تقويضه. أترون؟ جسدي يُلقي ظلّاً لأنّه جسد حقيقيّ. أنتم لا تحلمون، لا. إنّه صوتي الحقيقيّ. أنا يسوع ذاته الّذي كان يقسم الخبز معكم ويمنحكم حبّه. كذلك ‏الآن أمنحكم حبّي. سوف أرسل لكم تلاميذي. وسأكون بعد أنا، لأنّهم سيعطونكم ما كنتُ أعطيكم، وما أعطيتُهم كي يكونوا قادرين على إيصالي للذين يؤمِنون بي. احملوا صليبكم كما حملتُ أنا صليبي. كونوا صبورين. اغفروا. سيقولون لكم كيف مُتُّ. اقتدوا بي. درب الألم هو درب السماء. اتبعوها في سلام وسوف تحظون بملكوتي. لا يوجد درب آخر سوى درب الاستسلام لمشيئة الله، العطاء بسخاء، المحبّة للجميع. لو كانت هناك طريقة أخرى، لكنتُ دللتُكم عليها. أنا عبرتُ مِنه، لأنّه الدرب الصحيح. كونوا أوفياء لشريعة سيناء، الثابتة بوصاياها العشر، وكونوا أوفياء لعقيدتي. سيأتي مَن يُعلِّمكم، لئلاّ تُترَكوا لدسائس الأشرار. إنّني أبارككم. تذكّروا دوماً أنّني أحببتُكم وحللتُ بينكم قبل تمجيدي وبعده. الحقّ أقول لكم إنّ كُثُراً كانوا ليرغبوا في رؤيتي الآن، ولن يروني. الكثير مِن العظماء. لكنّني أُظهِر نفسي فقط للذين أحبّهم ويحبّونني.»

 

رجل يتشجّع ويقول: «إذاً... هل مملكة السماء موجودة حقّاً؟ أأنتَ كنتَ حقّاً المسيا؟ هم يؤثّرون علينا...»

 

«لا تُنصِتوا إلى كلامهم. تذكّروا كلامي وتقبّلوا كلام تلاميذي الّذين تعرفونهم. إنّها كلمات حقّ. والّذين يتقبّلونها ويطبّقونها، حتّى لو كانوا خدّاماً أو عبيداً على الأرض، سيكونون سكّان ملكوتي وشركاء في الميراث.» يباركهم فاتحاً ذراعيه ويختفي.

 

«آه! أنا... أنا لم أعد أخاف شيئاً!»

 

«ولا أنا أيضاً. هل سمعتَ؟ هناك مكان لنا نحن أيضاً!»

 

«ينبغي أن نكون صالحين!»

 

«أن نسامح!»

 

«أن نصبر!»

 

«أن نصمد.»

 

«أن نبحث عن التلاميذ.»

 

«لقد أتى إلينا، نحن الخدّام الفقراء.»

 

«سوف نقول ذلك لرُسُله.»

 

«لو كان جيوقانا يعلم!»

 

«ودوراس!»

 

«سوف يقتلوننا لئلّا نتكلّم.»

 

«إنّما سوف نصمت. لن نقول ذلك إلاّ لخدّام الربّ.»

 

«ميخا، ألا ينبغي لكَ أن تمضي مع هذه الحمولة إلى سيفوريس؟ لماذا لا تذهب إلى الناصرة لتبوح بذلك...»

 

«لمن؟»

 

«للأُمّ. للرُّسُل. قد يكونون معها...»

 

يبتعدون وهم يتكلّمون عن مخطّطاتهم.

***

عشرون: على أراضي دانيال قريب حِلقِيّا. في بيترون.

حِلقِيّا، الفرّيسيّ، يتناقش مع نظرائه لمعرفة ما يتوجّب فِعله مع عضو السنهدرين سمعان، الّذي أصيب بالجنون يوم الجمعة العظيمة، يتكلّم ويقول أشياء كثيرة. الآراء مختلفة. أحدهم يقول بأن يُعزَل في مكان منعزل، حيث لا يمكن أن يَسمع صراخه سوى خادم وفيّ جدّاً ويشاطرهم الآراء. وآخر، أكثر تساهلاً، واثقاً أنّها عارض عابر، فسوف يكون كافياً إبقاؤه حيث هو.

 

حِلقِيّا يجيب: «أتيتُ به إلى هنا حيث كنتُ غير عارف أن آخذه إلى أيّ مكان آخر. وأنتم تعلمون أنّني أشكّ كثيراً بقريبي دانيال...»

 

آخرون، أسوأ بعد مِن حِلقِيّا، يقولون: «يريد أن يهرب، يريد أن يمضي عبر البحر. لماذا لا نلبّي له طلبه؟»

 

«لأنّه غير أهل لأن يقوم بأفعال منسّقة. سوف يهلك في البحر وحده، وما مِن أحد منّا قادر على قيادة مركب.»

 

«وحتّى! إن يكن الأمر هكذا! ما الّذي يحدث في موضع الرسوّ، مع الكلام الّذي يقوله؟ دعوه ‏يختار طريقه... في حضور الجميع، وحتّى قريبكَ، اجعله يختار ما يريد، ولنلبِّ له رغباته.»

 

يوافقون على هذا الاقتراح، وحِلقِيّا ينادي خادماً ويأمره بجلب سمعان ودعوة دانيال. الاثنان يأتيان، وإذا كان دانيال يبدو رجلاً يشعر بعدم الارتياح تجاه بعض الأشخاص، فإنّ الآخر يبدو حقّاً مخبولاً.

 

«أَنصِت إلينا يا سمعان. أنتَ تقول إنّنا نبقيكَ في سجن لأنّنا نريد قتلكَ...»

 

«عليكم أن تفعلوا ذلك، لأنّ هذا ما أُمِر به.»

 

«أنتَ تهذي يا سمعان. اصمت وأَنصِت! أين تعتقد أنّه يمكنكَ أن تشفى؟»

 

«في البحر. في البحر. في وسط البحر. حيث لا يُسمَع صوت. حيث لا وجود لقبر، لأنّ القبور تنفتح والموتى يخرجون منها، وأُمّي تقول...»

 

«اصمت! أَنصِت! إنّنا نحبّكَ، كجسدنا. أتريد حقّاً أن تذهب إلى هناك؟»

 

«بالتأكيد أريد ذلك. فهنا القبور تنفتح وأُمّي...»

 

«سوف تذهب إلى هناك. سنأخذكَ إلى البحر، سنعطيكَ مركباً، وأنتَ...»

 

«إنّما فعلكم هذا هو جريمة قتل! إنّه مجنون! لا يمكنه الذهاب وحده!» يصرخ دانيال النّزيه.

 

«إنّ الله لا يقسر إرادة الإنسان. أيمكننا نحن أن نفعل ما لا يفعله الله؟»

 

«لكنّه مجنون! لا إرادة له. إنّه مجرّد مِن الذكاء أكثر مِن حديث الولادة! لا يمكنكم!...»

 

«اصمت. أنت مُزارِع لا أكثر. نحن نعلم... غداً سنمضي إلى البحر. ابتهج يا سمعان. إلى البحر، أتفهم؟»

 

«آه! لن أعاود سماع أصوات الأرض! لا مزيد مِن الأصوات... آه!» صرخة طويلة، نوبه اهتياج، عيناه وأذناه تُغلَق. وصرخة أخرى، تلك الّتي لدانيال، الّذي يهرب مرتاعاً.

 

«إنّما ما هذا؟ ماذا يحدث؟ أَوقِفوا هذا المجنون وذاك الأبله! أربّما بدأنا كلّنا نفقد صوابنا؟» يصرخ حِلقِيّا.

 

لكنّ الّذي يدعوه حِلقِيّا "الأبله" أي قريبه دانيال، بعد أن ركض عدّة أمتار، يسجد على الأرض، فيما الآخر يزبد، هناك حيث هو، في اختلاجات مخيفة، ويصرخ، يصرخ: «أَسكِتوه! إنّه لم يمت ويصرخ، يصرخ، يصرخ! أكثر مِن أُمّي، أكثر مِن أبي، أكثر ممّا كان يفعل على الجلجلة! هناك، هناك، ألا ترون هناك؟» يشير إلى المكان حيث دانيال، هادئاً، مبتسماً، رافعاً وجهه للأعلى بعدما كان إلى الأرض.

 

حِلقِيّا يذهب إليه ويهزّه بعنف، حانقاً، دون أن يكترث بسمعان الّذي يتدحرج على الأرض ويزبد، ويُطلِق صرخات وحشية وسط الآخرين المذعورين الّذين يحيطون به.

 

حِلقِيّا ينتهر دانيال: «أيّها الرائي الخامل، ألا تقول لي ماذا تفعل؟»

 

«دعني وشأني. الآن أنا أعرفكَ. وسوف أتجنّبكَ. لقد رأيتُ مَن تريدون إقناعي بأنّه مات، رفيقاً بي، رهيباً لكم. إنّني راحل. أريد أن أحمي نفسي الّتي هي أهمّ مِن المال ومِن كلّ ثروة. وداعاً أيّها الملعون! وإن استطعتَ، حاول أن تستحقّ غفران الله.»

 

«لكن إلى أين أنتَ ذاهب؟ إلى أين؟ أنا لا أريد!»

 

«أتملك الحقّ بأن تسجنني؟ مَن أعطاكَ إيّاه؟ أترك لكَ ما تحبّ وأتبع ما أحبّ. وداعاً.» يدير له ظهره ويمضي، سريعاً كأنّما كانت تجذبه قوّة فائقة للبشر، وينحدر عبر المنحدر الأخضر لأشجار الزيتون والبساتين.

 

حِلقِيّا، وليس هو وحده، شاحب. الغضب يخنقهم كلّهم. حِلقِيّا يهدّد بالانتقام مِن قريبه، مِن كلّ الّذين "بجنونهم" -كما يقول- يؤكّدون أنّ الجليليّ حيّ. يريد أن يقول، يريد أن يفعل…

 

أحدهم، لا أعلم مَن يكون، يقول: «سوف نتصرّف، سوف نتصرّف، لكنّنا لن نستطيع إقفال كلّ أفواه وعيون الّذين يتكلّمون لأنّهم يرون. لقد هُزِمنا. الجريمة تثقلنا. آن أوان التكفير...» ويضرب على صدره، وقد استولى عليه ضيق يجعله يبدو كمن يصعد درجات مشنقة. ويقول أيضاً: «انتقام يهوه.» ويَظهر في صوته كلّ رعب ذكرى ألفيّة إسرائيل.

 

في هذه الأثناء، سمعان، المجروح، الّذي يزبد، الخائف، يصرخ بصياح مَن هو مُدان: «يا قاتل الأب14، قد قال لي! أَسكِتوه! أَسكِتوه! قاتل الأب! كلمة أُمّي ذاتها! أيردّد الموتى جميعهم نفس الكلام؟!...»

***

واحد وعشرون: لامرأة مِن الجليل.

القمر، الّذي يوشك على الغروب، يشرع بإخفاء قوسه الجديد الّذي لا يزال رقيقاً خلف تحدّب جبل. وبالتالي فإنّ نوره خفيف جدّاً، وعمّا قليل لن يعود يخيّم على الريف الفسيح.

 

ومع ذلك فهناك عابر سبيل على الدرب المنعزل. إنّه درب صغير، ممرّ وسط الحقول، لا أكثر. يسير حاملاً فانوساً بدائياً معلّقاً بحلقة، قديماً كالعالم، على ما أظنّ، يستخدمه عادة سائقو العربات للإنارة ليلاً. وهذا، باعتبار أنّ الزجاج لم يكن شائعاً -بل أعتقد بأنّه كان مجهولاً تماماً، فلم يحدث لي أبداً أن رأيتُ منه في أيّ منزل، لا كما كوب للشرب، لا كما آنية، لا على النوافذ- إنّ شعلته كانت محميّة بشيء قد يكون أحد أنواع أحجار الميكا [اللُّكَاثُ] أو الرق. فالضوء الّذي يرشح منه ضعيف جدّاً إلى درجة أنَّه يضيء فقط مساحة صغيرة حول الفانوس. إنّما، بما أنّ القمر يتوارى كلّياً، فإنّ نور الفانوس المتواضع يتعاظم، ناشراً بقعة ضوء مترنّح في عتمة الريف.

 

عابر الطريق يسير دون توقّف…

 

في السماء أثر لفجر يشرع بالبزوغ في الأفق البعيد، إنّما هو ضعيف إلى حدّ أنّه الآن لا يضيء شيئاً، والفانوس المتواضع لا يزال يفيد.

 

قرب الجسر الصغير، مسافر آخر، ‏مُلتفٌّ تماماً بردائه، ينتظر أو يرتاح. المسافر الّذي يحمل الفانوس، الّذي يتّجه نحو ذلك الجسر، يتوقّف متردّداً. يتساءل إن كان عليه أن يعبر مِن هناك أو أن يعود أدراجه، حيث تنتشر فوق حصى أرضية مجرى السيل الخفيف أحجار كبيرة يمكن أن تنفع للعبور وسط الماء قليل العمق.

 

ذاك ‏الجالس على الحافّة الخشنة، المصنوعة مِن جذع شجرة لا يزال يحتفظ بقشرته البيضاء-الخضراء، يرفع رأسه ليرى المسافر الّذي توقّف. ينهض ويقول: «لا تخف منيّ. تقدّم. أنا رفيق طيّب، ولستُ لصّاً.»

 

إنّه يسوع. أتعرّف إليه مِن صوته أكثر مِن مظهره الّذي يحجبه الشفق العميق بحيث لا يصل النور إلى المكان الّذي يقف فيه يسوع. لكنّ الشخص، يتوقّف، لا يزال متردّداً.

 

«تعالي يا امرأة. لا تخافي. سوف نمشي معاً لمسافة قصيرة مِن الطريق، وسيكون في ذلك خير لكِ.»

 

المرأة، الآن أعرف أنّها امرأة، تتقدّم، وقد شجّعتها عذوبة الصوت أو قوّة خفيّة، وتهزّ رأسها بينما تتقّدم وهي تهمس: «لم يعد مِن خير لي.»

 

الآن يتقدّمان جنباً إلى جنب على طول الدرب العريض كفاية بحيث يسمح بعبور راجِلَين. الفجر الطالع يكشف، مِن إحدى جهتيّ الممرّ، عن غابة مصغّرة متراصّة مِن الحبوب الناضجة الّتي تنتظر مَن يحصدها. وعلى الجهة الأخرى، الحبوب المحصودة بالفعل، تتمدّد في حُزَم في الحقل الّذي جُرِّد مِن مجده بالمحصول الناضج.

 

«لتكن ملعونة!» تقول المرأة بصوت خافت بينما تُلقي نظرة على الرُّزَم المطروحة أرضاً.

 

يسوع يصمت.

 

النهار يتقدّم. المرأة تطفئ الفانوس المتواضع، ولكي تفعل ذلك فإنّها تكشف عن وجهها الّذي شوّهته الدموع. وترفع رأسها لتنظر نحو الشرق، حيث خطّ أصفر-ورديّ يُعلِن عن بزوغ الشمس. تمدّ قبضتها باتّجاه الشرق وتقول أيضاً: «ولتكن أنتَ ملعوناً!»

 

«النهار؟ هو الله مَن صنعه. كما صنع الحبوب. إنّهما نِعَمٌ مِن الله. يجب ألاّ تُلعن...» يقول يسوع بلطف.

 

«وأنا ألعنها. ألعن الشمس والمحاصيل. ولديّ مبرّر لذلك.»

 

«ألم تكن مصدر خير لكِ على مدى أعوام كثيرة؟ ألم تُنضِج لكِ الشمس خبزكِ اليومي، العنب الّذي يستحيل خمراً، خضار البستان وثماره، ألم تُنَمِّ المراعي لتغذّي النعاج والحملان، الّتي تغذّيتِ على حليبها ولحمها، والّتي نسجتِ ثيابكِ مِن صوفها؟ والحبوب ألم تعط الخبز لكِ، لأولادكِ، لأبيكِ ولأُمّكِ، لزوجكِ؟»

 

تنفجر باكيةً وتصرخ: «لم يعد لي زوج! هي قتلته! كان قد ذهب ليعمل، لأنّ عندنا سبعة أطفال، والقليل الّذي كنّا نملكه لم يكن يكفي لإطعام عشرة أشخاص. والبارحة، في المساء، عاد وهو يقول: "أنا متعب وعلى غير ما يرام"، وانطرح فوق السرير، ملتهباً مِن الحمّى. أنا وأُمّه أسعفناه على قدر استطاعتنا، عازمتين على استدعاء طبيب المدينة اليوم... لكنّه مات بعد صياح الديك. لقد قتلته الشمس. أنا ذاهبة إلى المدينة، نعم. لجلب ما هو ضروريّ. عندما أعود أفكّر بإعلام إخوته. لقد تركتُ أُمّه تسهر على ابنها وأطفالي... ومضيتُ لأفعل ما ينبغي القيام به... وليس لي أن ألعن الشمس الـمُحرِقة والحبوب؟»

 

وبقدر ما كانت متحفّظة في البداية بحيث لم أكن لأتبيّن بأنّها كانت امرأة، وبخاصّة امرأة مبتلاة، فهي الآن، والألم قد حطّم كلّ السدود، فهو يفيض بعنف. تقول كلّ ما لم تقله في منزلها "لئلاّ توقظ أطفالها الّذين ينامون في الغرفة المجاورة"، كلّ ما كان يُثقِل على قلبها ويجعلها تشعر كأنّه على وشك الانفجار. ذكريات حبّ، تخوّف مِن المستقبل، ألم أرملة، كلّها تمرّ بفوضوية مثل ركام مُنتَزَع مِن الضفة فوق مياه هائجة لنهر فائض…

 

يسوع يدعها تتكلّم. لأنّ يسوع يُحسِن الإشفاق على الألم، ويدعها تكشف عن مكنونات قلبها، بحيث يرتاح الإنسان منها ومِن التعب نفسه الّذي يلي فيضان الألم، ويجعلها مؤهّلة للإصغاء للشخص الّذي يريد أن يعزّيها. عندها يقول لها بلطف: «في ناحيم وفي الناصرة، وفي المواضع الواقِعة بين الاثنتين، هناك تلاميذ لرابّي الناصرة. اقصديهم...»

 

«وما الّذي تريدهم أن يفعلوا؟ لو كان هو لا يزال موجوداً!... إنّما هم؟ هم ليسوا قدّيسين! زوجي كان في أورشليم في ذاك اليوم. وهو يعلم... آه! لا! كان يعلم! لم يعد يعلم ‏شيئاً! لقد مات!»

 

«ماذا كان يفعل زوجكِ في ذلك اليوم؟»

 

«حين أيقظه صخب الشارع، هرع إلى شرفة المنزل حيث كان مع إخوته، ورأى الرابّي يمرّ، حيث كان يُقاد إلى مقرّ القضاء، وتبعه مع جليليّين آخرين إلى أن مات. لقد تعرّض هو والآخرون للرشق بالحجارة، حين عُرِفوا أنّهم جليليّون، هناك على الجبل، ودُفِعوا إلى أسفل. لكنّهم بقوا هناك إلى أن تمّ كلّ شيء. ثمّ... ابتعدوا... والآن هو قد مات. آه! لو على الأقلّ كنتُ أعلم أنّه الآن في سلام بسبب إشفاقه على الرابّي!»

 

يسوع لا يردّ على هذه الرغبة. لكنّه يقول: «إذاً لا بدّ أن يكون قد رأى أنّ تلاميذاً كانوا على الجلجلة. أربّما كان الجليليّون كلّهم مثل زوجكِ؟»

 

«آه! لا. كثيرون، وحتّى مِن الناصِرة، كانوا يهينونه. الجميع يعرفون ذلك. يا للعار!»

 

«فإذاً، قد كان أناس كثيرون حتّى مِن الناصِرة لم يتحلّوا بالمحبّة تجاه يسوعهم، ومع ذلك فهو غفر لهم، وكثيرون سوف يتقدّسون مستقبلاً، فلماذا تريدين أن تحكمي على كلّ تلاميذ المسيح بالطريقة نفسها؟ أتريدين أن تكوني أكثر صرامة مِن الله؟ إنّ الله يمنح الكثير لأولئك الّذين يغفرون...»

 

«لم يعد الرابّي الطيّب موجوداً! لم يعد موجوداً! وزوجي مات.»

 

«الرابّي أعطى تلاميذه سلطان أن يفعلوا ما كان يفعله هو.»

 

«أريد تصديق ذلك. إنّما هو الوحيد الّذي كان يغلب الموت. هو فقط!»

 

«ألا نقرأ أنّ إيليا أعاد الروح إلى ابن أرملة صِرْفَةَ15؟ الحقّ أقول لكِ إنّ إيليا كان نبيّاً عظيماً، لكنّ خدّام المخلّص، الّذي مات وقام لأنّه كان ابن الله الحقّ الّذي تجسّد لافتداء البشر، لديهم سلطان أعظم، لأنّهم الأوائل الّذين غَفر لهم خطاياهم مِن على الصليب، عارفاً بحكمته الإلهيّة الحزن الحقيقيّ لأرواحهم النادمة، قَدَّسهم بعد قيامته بغفرانٍ جديد، وبثّ فيهم الروح القدس، ليتمكّنوا مِن تمثيلي باستحقاق، وبالقول والفعل معاً، لئلاّ يبقى العالم بائساً بعد رحيلي عنه.»

 

المرأة تتراجع بحدّة، مصعوقة. تُلقي بحجابها إلى الوراء كي تتمعّن برفيقها. ومع ذلك هي لا تتعرّف إليه. تظنّ بأنّها أساءت الفهم. لكنّها ما عادت تجرؤ على الكلام…

 

«أتخافين منّي؟ في البدء اعتقدتِ بأنّني لصّ متأهّب للاستيلاء على المال الّذي تحملينه في صدركِ، المعدّ لشراء ما هو ضروريّ للدفن. وشعرتِ وبالخوف. أأنتِ خائفة الآن أيضاً مِن أن تعلمي أنّني يسوع؟ أليس يسوع هو الّذي يعطي ولا يأخذ؟ الّذي يخلّص ولا يُهلِك؟ عودي أدراجكِ يا امرأة. أنا القيامة والحياة. فالكفن والطيوب ليست ضروريّة لمن ليس ميّتاً، لمن لم يعد ميّتاً، لأنّني أنا مَن يغلب الموت ويكافئ المؤمن. امضي! امضي إلى منزلكِ! زوجكِ حيّ. ما مِن إيمان بي يظلّ بلا مكافأة.» ثمّ يقوم بحركة المباركة والرحيل.

 

المرأة تخرج مِن ذهولها. لا تسأل، لا تشكّ… لا. هي تسقط على ركبتيها، للتعبّد. ثمّ، أخيراً، وفيما تفتّش في صدرها، تسحب منه كيس مالٍ صغير، كيس مال متواضع لناس فقراء يمنعهم بؤسهم مِن إقامة تكريم فخم لموتاهم، تفتح فمها وهي تقدّم كيس المال وتقول: «لا أملك شيئاً آخر... ما مِن شيء آخر لأُعبّر لكَ عن امتناني، لأُكرِّمكَ، لـــــ...»

 

«لم أعد بحاجة إلى المال يا امرأة. ستحملينه لرُسُلي.»

 

«آه! نعم. سوف أذهب إليهم مع زوجي... إنّما ماذا أعطيكَ إذاً، يا ربّي؟ ماذا؟ أنتَ مَن ظهر لي... هذه المعجزة... وأنا لم أتعرّف إليكَ... أنا الساخطة جدّاً... نعم، الظالمة جدّاً حتّى مع الأشياء...»

 

«نعم. ولم تكوني تفكّري بأنّها موجودة لأنّني أنا موجود، وأنّ كلّ ما عمله الله حسن هو. لو لم تكن الشمس موجودة، لو لم تكن الحبوب موجودة، لما كنتِ حظيتِ بالنعمة الحاليّة.»

 

«ولكن يا له مِن ألم، مع ذلك!...» المرأة تبكي وهي تتذكّر ذلك.

 

يسوع يبتسم ويُظهِر لها يديه قائلاً: «هذا جزءٌ زهيد مِن ألمي. وأنا قد استنفذتُه كلّه، مِن دون أن أشتكي منه، مِن أجل خيركم.»

 

المرأة تنحني حتّى الأرض كي تعترف: «هذا صحيح. اغفر لي تذمّري.»

 

يسوع يختفي في نوره، وحين ترفع وجهها تجد نفسها وحيدة. تنهض، تنظر حولها. ما مِن شيء يمكن أن يعيق نظرها، ذلك أنّ النهار قد سطع الآن، ولا شيء سوى حقول المحاصيل مِن حولها. المرأة تقول لنفسها: "ومع ذلك لم أكن أحلم!" ربّما الشيطان يجرّبها كي يجعلها تشكّ، لأنّها بدت في حالة ريبة للحظة، فيما تزن كيس المال في يدها. إنّما بعد ذلك يتغلّب الإيمان، وتدير ظهرها للمكان الّذي كانت متوجّهة إليه، لتعود على أعقابها، سريعة كأنّ الريح تحملها، مِن دون أن تتعب، وجهها يشعّ بفرح أعظم مِن فرحٍ بشريّ مِن فرط ما هي مرتاحة. إنّها تردّد في كلّ لحظة: «كم هو صالح الربّ! هو حقّاً الله! إنّه الله. ليكن مباركاً العليّ وذاك الّذي أرسله.» لا تُحسِن قول شيء آخر. وابتهالها هذا يتمازج الآن مع تغاريد الطيور. المرأة مستغرقة إلى حدّ أنّها لا تسمع تحيّات بعض الحصّادين، الّذين يرونها تمرّ ويسألونها مِن أين تأتي في هذه الساعة…

 

أحدهم يدركها ويقول لها: «هل تحسّن مرقس؟ هل قصدتِ الطبيب؟»

 

«مرقس مات عند صياح الديك وقام مِن الموت. لأنّ مسيح الربّ صنع ذلك.» تجيب وهي تحثّ الخطى.

 

«الألم أفقدها صوابها!» يتمتم الرجل ويهزّ رأسه وهو ينضمّ إلى رفاقه الّذين بدأوا بحصاد الحبوب.

 

الحقول تزدحم أكثر فأكثر. لكنّ الفضول يغلب لدى الكثيرين الّذين يقرّرون اللحاق بالمرأة الّتي تحثّ خطاها أكثر فأكثر.

 

تمضي، تمضي. ثمّ… ها هو منزل صغير ومتواضع جدّاً، منخفض، منعزل، ضائع وسط الريف. تتّجه نحوه ضامّة يديها على قلبها.

 

تدخله. إنّما ما إن تطأه قدمها، حتّى ترتمي امرأةٌ عجوز بين ذراعيها صارخةً: «آه! يا ابنتي، أيّ نعمة مِن الربّ! استجمعي قواكِ أيّتها الابنة، لأنّ ما عليّ أن أقوله لكِ هو أمرٌ عظيم، ‏سارّ، بحيث...»

 

«أعلم يا أُمّاه. مرقس لم يعد ميتاً. أين هو؟»

 

«تعلمين... كيف؟»

 

«لقد التقيتُ الربّ. لم أتعرّف عليه، إنّما هو كَلَّمني، وحين شاء، قال لي: "زوجكِ يحيا". إنّما هنا... متى؟»

 

«كنتُ بالكاد قد فتحتُ النافذة، وكنتُ أنظر إلى شعاع الشمس الأوّل على شجرة الّتين. نعم، بالضبط هكذا. أوّل شعاع شمس لامس وقتها شجرة الّتين المواجهة للغرفة... حين سمعتُ تنهيدة عميقة، كما لواحد يستيقظ. استدرتُ مذعورة ورأيتُ مرقس يجلس ويرمي إلى الوراء الغطاء الّذي كنتُ قد ألقيتُه على وجهه، وينظر إلى أعلى بوجهٍ، وجهٍ... ثمّ نظر إليّ وقال: "أُمّاه! لقد شفيتُ!" أنا... كدتُ أموت، وهو أَنجَدَني. لقد أدركَ أنّه كان ميّتاً. هو لا يتذكّر شيئاً. يقول أنّه يتذكّر فقط لحظة وضعه على السرير، وبعد ذلك لا شيء، حتّى اللحظة الّتي رأى فيها ملاكاً، ملاكاً بدا كرابّي الناصرة والّذي قال له: "قم!" وقام. بالضبط في اللحظة الّتي أتمّت فيها الشمس شروقها.»

 

«في الوقت الّذي قال لي: "زوجكِ يحيا"، آه! يا أُمّاه، أيّ نعمة! كم أحبّنا الله!»

 

الّذين يَصِلون يرونهما متعانقتين، باكيتين. ويعتقدون بأنّ مرقس مات، وأنّ امرأته، في لحظة صحو، أدركت مصابها. لكنّ مرقس، الّذي يسمع الأصوات، يَظهَر، مشرقاً، ‏يحمل أحد أطفاله بين ذراعيه، والآخرون يتمسّكون بجلبابه، ويقول بصوتٍ عالٍ: «ها أنا ذا. لنبارك الربّ!»

 

الّذين وصلوا أخيراً ينهالون عليه بالأسئلة، وكالعادة في الأمور البشريّة، تَظهَر التناقضات. البعض يعتقدون بأنّها قيامة حقيقيّة، الأخرون، الأغلبيّة، يقولون بأنّه لم يمت، وإنّما وقع في سُبات. ثمّة مَن يقرّون بأن المسيح ظهر لراحيل، وآخرون يقولون إنّ ذلك كلّه هراء، فالبعض يقولون: "لقد مات" وآخرون يقولون: "لقد قام مِن الموت، لكنّه ساخط، وله أن يكون كذلك، إلى حدّ أنّه لم يعد يصنع معجزات لشعبه القاتل."

 

«قولوا ما يحلو لكم.» يقول الرجل الّذي يفقد صبره: «وقولوه حيث تشاؤون. يكفي ألّا تقولوه هنا حيث الربّ أقامني مِن الموت. وانصرفوا يا أيّها التعساء! ولتفتح السماء عقولكم حتّى تؤمنوا. إنّما انصرفوا الآن ودعونا في سلام.»

 

‏يدفعهم خارجاً ويُقفِل الباب. يضمّ زوجته وأُمّه إلى قلبه ويقول: «الناصرة ليست بعيدة. سوف أمضي إليها كي أُعلِن المعجزة.»

 

«هذا ما يريده الربّ يا مرقس. سنأخذ هذا المال إلى تلاميذه. هيا بنا لنبارك الربّ. هكذا كما نحن، إنّنا فقراء، إنّما هو أيضاً كان كذلك، ورُسُله لن يزدرونا.»

 

تبدأ بعقد أربطة نعال الأطفال، فيما تضع الأُمّ بعض المؤن في كيس، وتُقفِل الأبواب والنوافذ، ومرقس يمضي ليفعل لا أدري ماذا. يخرجون حين يصبحون جاهزين ويسيرون سريعاً، الصغار على الأذرع، الآخرون فرحين ومندهشين قليلاً، يمضون صوب الشرق، باتجاه الناصرة بالتأكيد. ربّما هذا الموضع هو في مرج ابن عامر إنّما في مكان مُختلِف عن مكان جيوقانا.

---

1- راجع [ج6 - ف85].

2- راجع [ج6 - ف84].

3- راجع [ج2 - ف40].

4- راجع [ج5 - ف48].

5- راجع [ج8 - ف37].

6- راجع [ج7 - ف226].

7- راجع [ج5 - ف49].

8- راجع [ج6 - ف80].

9- راجع [ج6 - ف80].

10- راجع [ج5 - ف71].

11- راجع [ج5 - ف30].

12- راجع [ج4 - ف117].

13- راجع [ج7 - ف167].

14- راجع [ج7 - ف232].

15- راجع [1ملوك 17-22].