ج2 - ف103

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الثاني / القسم الثاني

 

103- (عيد الأنوار في بيت لعازر مع الرُّعاة)

 

22 / 03 / 1945

 

إنّ بيت لعازر مُتألّق أصلاً. أمّا هذا المساء فإنّه يتسربَل بهاء رائعاً، ويتوهّج بأنوار لا تُحصى أُضيئَت فيه، وقد تجلّى وَهجها خارجاً، إذ قد بدأ الليل يُرخي سُدوله، واستفاضت مِن الغُرَف إلى الردهة، ومنها إلى الرِّواق، واستطالت حتّى كَسَت بالذهب حجارة الدرب، والنباتات والأعشاب الأرضيّة، مُشارِكة بذلك نور القمر، بينما هي تهيمن خلال الأمتار الأولى بتألّقها الأصفر المادّيّ، وعلى بُعد أمتار يصبح كلّ شيء ملائكيّاً، مُتَسَربِلاً الثوب الفضّيّ النقيّ الذي يبسطه القمر على كلّ شيء. حتّى الصمت الذي يغلّف الحديقة الرائعة، حيث لا يُسمَع سوى نغمات خرير الماء في البِركة، يبدو وكأنّه زاد سلام الليلة القمريّة الخاشع والفردوسيّ، بينما، قرب المنـزل، أصوات عديدة فَرِحَة، مصحوبة بمرح ضوضاء الأثاث الذي يُوضَع في مكانه، والشراشف التي تُبسَط على الطاولات، وجميعها تُذكّر بأنّ الإنسان هو الإنسان، ولم يُصبِح بَعد روحاً.

 

تتحرّك مرثا مُسرعة بثوبها المتألّق والمحتشِم، بلونه الأحمر البنفسجيّ، وتبدو كزهرة، بل زنبقة أو فراشة تتحرّك بين جدران الردهة الأرجوانيّة، أو جدران غرفة الوليمة الـمُزيَّنة برسومات صغيرة توحي بأنّها سجّادة.

 

يسوع، مِن جهته، يتمشّى وحيداً قرب البِركة. يبدو أنّه يستغرق بتأمّل مُتناوِب بين ظلّ مُعتِم تُلقيه شجرة غار عملاقة، ونور القمر الفوسفوريّ، الذي يصبح أكثر صفاء. نور لامع لدرجة أنّ تَدَفُّق ماء البركة يبدو وكأنّه ريش زينة فضّيّ يتكسّر بعدئذ إلى شظايا بَريق تتساقط لِتَهيم على سُكون سطح البِركة الفضّيّ. يَنظُر يسوع ويُنصِت. يَنظُر يسوع ويُنصِت إلى همسات الماء في الليل، فإنّ لها وَقعاً موسيقيّاً أَيقَظَ بلبلاً نائماً على شجرة الغار الكثيفة. ويَردّ على نَغَم قطرات الماء البطيء بصوت مزمار حادّ، ثمّ يتوقّف ليتسلّم النغمة ويتماشى معها، أخيراً يُباشِر، كَمَلِك حقيقيّ للغناء، أنشودة فَرَحَه التامّة والـمُتنوّعة والـمُفعَمَة عُذوبة وفَرَحاً.

 

يتوقّف يسوع عن المشي لكي لا يُزعِج، بصوت خُطاه، فرح البلبل الصافي، وفرحه هو كذلك على ما أَظُنُّ، فهو يبتسم، حانياً رأسه، ابتسامة نقيّة جدّاً. وأتساءل كيف يمكن لحنجرة، بهذا الحجم الصغير، أن تتوصّل إلى إتقان النَّغَم وطبقاته بهذا الشكل. ثمّ يتوقّف التغريد. ويهتف يسوع: «أبارككَ أيّها الآب القدّوس لهذا الكمال وللفرح الذي وَهَبتَنِيه!» ثمّ يُعاوِد مشيته البطيئة، الثقيلة بقدر لستُ أدري أي تَأَمُّل.

 

يَلحَق به سمعان: «يا معلّم، لعازر يرجوكَ أن تأتي، فكلّ شيء جاهز.»

 

«هيّا بنا. وليتبدّد هكذا آخر شكّ بأنّ محبّتهم قد تضاءَلَت في قلبي بسبب مريم.»

 

«يا للكآبة يا معلّم! معجزة سرّيّة منكَ فقط، ويُشفى ذلك الألم. ولكن ألا تَعلَم أنّ لعازر كاد يَفرّ، عندما خَرَجَت هي مِن المنـزل، لدى عودتهم، وهي تقول إنّها كانت تهجر القبور مِن أجل متعة الفرح... ووقاحات أخرى؟ وقد استحلفناها، أنا ومرثا، ألّا تفعل، لأنّ، في هذه الحال... لا يمكن التكهُّن بِردّة فِعل قلب. لو كان وَجَدَها، أظنُّه كان سيعاقبها أشدّ العقاب. كانوا يريدونها، أقلّه أن تصمت، فلا تتحدّث بأيّ شيء يخصّكَ.»

 

«كان بإمكاني اجتراح معجزة مباشرة لها. ولكنّني لا أريد إبراء القلوب بالقوّة. أنا آمُر الموت فيطيع ويعيد فريسته، ذلك لأنّني سيّد الموت والحياة. ولكن عندما يكون الأمر بخصوص الأرواح، وهي ليست مادّة جامدة وبلا حياة، إنّما هي جواهر غير قابلة للموت، وقادرة على النهوض بمحض إرادتها، وأنا لا أُكرِهها على الانبعاث. إنّني أقتَصِر على منح النداء الأوّل والعَون الأوّل، مثل الذي يَفتَح قبراً كان قد حوى إنساناً ما زال حيّاً، يُفتَرَض أن يموت إذا ما طالت إقامته في تلك الظلمات الخانقة، وأدع الهواء والنور يَلِجان... ثمّ أنتَظِر. إذا كانت للروح إرادة للخروج، يَخرُج. وإذا لم يُرِد، فإنه يَغرَق أكثر في الظلمات وينطَمِر. ولكن لو يَخرُج!... آه! لو يَخرُج، الحقّ أقول لكَ إنّه ما مِن إنسان يكون أعظم مِن هذا الروح الـمُنبَعِث. وحدها البراءة الـمُطلَقَة هي أكبر مِن ذلك الموت الذي يعود إلى الحياة بقوّة حبّه الذاتيّ ولفرح الله... هي ذي انتصاراتي العُظمى!

 

انظر إلى السماء يا سمعان، تَجِد نجوماً كبيرة أو صغيرة، وكواكب بأحجام مختلفة. وكلّها تتمتّع بحياة وأَلَق مِن الله الذي خَلَقَها. ولكنّها ليست جميعها بالحجم ذاته والتألُّق ذاته. وفي سمائي كذلك سوف يكون هذا. ستكون الحياة لكلّ الذين أفتديهم، وبِنُوري سيكون التألُّق. إنّما لن يكون للجميع التألُّق ذاته والعَظَمَة ذاتها. بل سيكون البعض مجرّد غُبار النجوم، مثل تلك التي تُشكِّل الـمَجَرَّة الغلاطيّة (Milky Way). فأولئك الذين لا حصر لهم، سيحصلون مِن المسيح، أو بالحريّ يَأخذون عنه، الحدّ الأدنى اللازم لكي لا يُدانوا، وهُم فقط، بفضل رحمة الله اللانهائيّة، وبعد مَطهَر طويل الأمد، يَأتون إلى السماء. آخرون سوف يكونون أكثر بريقاً وأكثر كمالاً في التكوين: سيكون الأبرار الذين يُوحّدون إرادتهم -انتبه جيّداً، قُلتُ إرادتهم وليس إرادتهم الحسنة- بإرادة المسيح، وأَطاعوا كلامي لئلّا يُدانوا. ثمّ ستكون هناك الكواكب، الإرادات الحسنة، آه! بتألُّق لا مثيل له! وسيكون تلألؤهم كتلألؤ الماس النقيّ أو الجواهر مختلفة الألوان: أحمر الياقوت، بنفسجيّة الجمز، وأشقر الزبرجد وبياض اللآلئ الناصع. إنّهم أولئك الذين سيكونون عاشقين حتّى الموت، الذين سيكونون قد عانَقوا الكفارة بحبّ، الذين سيكونون قد تصرّفوا بحبّ، الذين بالحبّ ظَلّوا أنقياء ولم يُوصَموا.

 

يُوجَد البعض ممّن تمثّلهم تلك الكواكب، وهُم أمجادي كفادي، وسيكون فيهم نور الياقوت والجمز والزبرجد والدُّرر، لأنّ كلّ كيانهم سيكون حُبّاً، وببطولاتهم يتوصّلون إلى نَيل الغُفران لأنّهم لم يعرفوا أن يحبّوا منذ بداية حياتهم، وتائبين، لإشباع ذواتهم بالتكفير، كما إستير، قبل أن تتقدّم إلى أحشوروش، أَشبَعَت نفسها بالعطر، أولئك الذين لا يَكلّون، بل يَعمَلون في وقت قليل، في القليل مِن الوقت الباقي لهم، ما فاتهم فِعله خلال السنوات التي أضاعوها بالخطيئة، وهم أنقياء حتّى البطولة، ليَنسوا، حتّى في أحشائهم، وليس في نفسهم وفكرهم فقط، أنّ أحاسيسهم موجودة. وسوف يكونون هُم الذين يَلفتون، بتألّقهم المتعدّد الأشكال، أنظار المؤمنين، الأنقياء، التائبين، الشهداء، الأبطال، النُّسَّاك والخَطَأَة، ولكلّ مِن تلك الفئات سيكون تألّقهم، كلمة وإجابة، ودعوة وأماناً…

 

إنّما هيّا بنا، إنّنا نتحدّث هنا وهم ينتظروننا هناك.»

 

«ذلك لأنّكَ حينما تتحدّث ننسى أنّنا مِن الأحياء. هل يمكنني أن أقول هذا كلّه للعازر؟ إذ يبدو لي أنّ في ذلك وَعد...»

 

«بل ينبغي لكَ أن تقوله. ذلك أنّه يمكن لكلمة الصديق أن تُبلسِم جرحهم دون أن يَحمرّوا خَجَلاً منّي... لقد جعلناكِ تنتظرين يا مرثا. وذلك لأنّني كنتُ أتحدّث إلى سمعان عن النجوم ونَسينا كلّ هذه الأنوار. حقّاً إنّ بيتكِ هو قُبّة السماء الليلة...»

 

«ليس مِن أجلنا نحن ومِن أجل الخدّام فقط أضأنا هكذا، إنّما مِن أجلكَ أنتَ أيضاً ومِن أجل الضيوف أصدقائكَ. شكراً لمجيئكَ في الليلة الأخيرة. فالآن هو العيد، وبالتحديد التطهير...» كانت مرثا تَبغي إكمال الحديث، ولكنّها أَحَسَّت بالدموع في عينيها وصَمَتَت.

 

«السلام لكم جميعاً.» يقول يسوع، بينما هو يَدخُل إلى الرَّدهة حيث أُضيئت عشرات المصابيح الفضّية ووُضِعَت في كلّ مكان…

 

يتقدّم لعازر مبتسماً: «السلام والبركة لكَ يا معلّم، وسنوات عديدة مِن السعادة المقدّسة.» يُقبِّلان بعضهما. «لقد روى لي بعض الأصدقاء أنّكَ وُلِدتَ بينما كانت بيت لحم تسطع بعيد أنوار بعيد. وإنّنا لَنَغتبط لكونكَ معنا هذا المساء، نحن وهُم. أفلا تَسأَل مَن يكونون؟»

 

«ليس لي أصدقاء آخرون، إن لم يكونوا تلاميذي وأصدقائي الأعزّاء الذين في بيت عنيا، إلّا الرُّعاة. هُم إذن. هل أتوا؟ لماذا؟»

 

«لِنَسجد لكَ يا مسيحنا. يوناثان أَخبَرَنا بحضوركَ، وها نحن هنا. مع قطعاننا، وهي الآن في إسطبلات لعازر، ومع قلوبنا التي هي تحت قدميكَ المقدَّسَتَين الآن ودائماً.» تَكلَّمَ إسحاق باسم إيلي ولاوي ويوسف ويوناثان الساجِدِين جميعاً عند قدميه. يُحافِظ يوناثان على مظهره الجميل كقهرمان، ومعلّمه يحبّه كثيراً، وإسحاق، بهيئته كمُتجوِّل لا يعرف التعب، ولِباسه الصوفيّ السميك، الكستنائيّ الداكن، غير النَّفوذ للماء؛ لاوي ويوسف وإيلي يَرتَدون ثياباً جديدة تماماً، قَدَّمَها لهم لعازر ليتمكّنوا مِن أخذ أماكنهم على الطاولات بغير الثوب البائس الـمُمزَّق العَابِق برائحة قطعان الرُّعاة.

 

«أَمِن أجل هذا بَعَثتُم إلى الحديقة في طَلَبي؟ فليبارككم الله جميعاً! لا ينقص سوى أُمّي لتكمل سعادتي. انهضوا، انهضوا، إنّه عيد ميلادي الأوّل الذي أَحتَفِل به بغياب أُمّي. ولكنّ حضوركم ينفي عنّي حزني وحنيني إلى قُبلتها.»

 

يَدخُل الجميع إلى غرفة الوليمة، وهنا المصابيح، في غالبيتها، مصنوعة مِن الذهب. والمعدن يتأجّج بتألُّق النور، والنور يبدو أكثر تَوَهُّجاً، يعكسه هذا الكمّ مِن الذهب. وقد وُضِعَت الطاولات على شكل U لإفساح المجال أمام عدد أكبر مِن الأشخاص، ولتسهيل عمل الخدّام. فبالإضافة إلى لعازر، هناك الرُّسُل والرُّعاة ومكسيميان خادم سمعان العجوز.

 

تهتم مرثا بتوزيع الأماكن، وتريد أن تظلّ واقفة، ولكنّ يسوع يَعتَرِض: اليوم لستِ الـمُضيفة، بل أنتِ الأخت، ومكانكِ إلى جانبي كما لو كنّا إخوة دم. إنّنا عائلة واحدة. والقواعد تَسقُط لتفسح المجال للحبّ. هنا، إلى جانبي، وإلى جانبكِ يوحنّا. وأنا مع لعازر، إنّما أعطوني مصباحاً، وليسهر نور بيني وبين مرثا... شُعلة مِن أجل الغائِبات وهنّ حاضرات في روحنا. مِن أجل اللواتي نحبّهنّ، ننتظرهنّ، النساء العزيزات على قلوبنا والبعيدات عن هنا. لأجلهنّ جميعاً: كَلِمات الشُّعلة مُضيئة وكلمات الحبّ مُلتَهِبة، وتلك الكلمات تذهب بعيداً، على الموجات غير الماديّة للأرواح التي تتواجد باستمرار خلف الجبال والبحار وتجلب القُبلات والبَرَكات... تجلب كلّ شيء. أليس صحيحاً؟»

 

تضع مرثا المصباح حيث يريد يسوع، في مكان بَقِيَ شاغِراً... وتنحني مرثا وقد فَهِمَت قصده لتُقبِّل يد يسوع التي يضعها على شعر رأسها البنّي مباركاً ومؤاسياً إيّاها.

 

يبدأ الأكل. في البداية، يبدو الرُّعاة الثلاثة غير مرتاحين. إنّما إسحاق أَصبَحَ أكثر اطمئناناً ويوناثان لا يُبدي انزعاجاً. ولكنّهم كلّما تقدّم الوقت أثناء الوليمة، ازدادوا جُرأة، وبعد أن ظَلّوا صامتين طَفَقوا يتكلّمون. وعن أيّ شيء يتحدّثون إذا لم يكن عن ذكرياتهم؟

 

«كنتُ قد انسحبتُ قبل قليل.» يقول لاوي. «وكنتُ قد شعرتُ ببرد قارس، حتّى إنّني لَجَأتُ إلى القطعان أحتمي وسطها. كنتُ أبكي، ووَدَدتُ لو أكون مع أُمّي...»

 

«أنا كنتُ أُفكّر بالأُمّ الشابّة التي كنتُ التَقَيتُها قبل بعض الوقت، وكنتُ أقول لنفسي: "أيُعقل أن تكون وَجَدَت مكاناً؟ لو كنتُ أعلَم أنّها كانت في إسطبل لكنتُ أخذتُها إلى حظيرتنا!... ولكنّها كانت لطيفة للغاية: زنبقة في ودياننا، حتّى إنّني اعتقدتُ أنّني أهينها إن قلتُ لها: "تعالي بيننا". إلّا أنّني كنتُ أُفكّر بها... وكنتُ أُحِسُّ بالبرد أكثر، لتفكيري أنّها ستعاني منه. هل تَذكُر نور تلك الليلة؟ وخوفكَ؟»

 

«نعم... إنّما فيما بعد... الملاك... آه!» ويَتيه لاوي قليلاً في حُلمه، ويبتسم لذكراه.

 

«آه! اسمعوا أيّها الأصدقاء. نحن لا نعرف إلّا القليل، واطّلاعنا يَسير. لقد سَمِعنا مَن يتحدّث عن الملائكة، وعن المغارة والقطعان في بيت لحم... بينما نحن نَعلَم أنّه جليليّ ونجّار... فليس عدلاً ألّا نكون على عِلم، نحن! ولقد سَأَلتُ المعلّم في منطقة المياه الحلوة... إنّما بعد ذلك تحدّثنا عن أشياء أخرى. وهذا الذي يَعلَم لَم يَقل لي شيئاً... نعم، الكلام لكَ يا يوحنّا بن زَبْدي. فإنّ احترامكَ لي أنا الـمُسنّ رائع! ولكنّكَ تحتفظ بكلّ شيء لنفسكَ، وتتركني أكبُر مثل تلميذ محدود!»

 

يَضحَكون مِن سُخط بطرس، أمّا هو فيلتفت إلى معلّمه: «إنّهم يَضحَكون، ولكنّني أنا الذي على حقّ.» ثمّ يتوجّه إلى برتلماوس وفليبّس ومتّى وتوما ويعقوب وأندراوس: «هيّا، قولوا ذلك أنتم أيضاً. احتَجّوا معي! لماذا نحن لا نعرف شيئاً؟»

 

«حقّاً... أين كنتم عندما توفّي يونا؟ وفي لبنان أين كنتم؟»

 

«أنتَ على حقّ، إنّما بخصوص يونا، فأنا على الأقل، ظَنَنتُ ذلك هَذَيان مُحتَضِر، وفي لبنان... كنتُ تَعِباً ونائماً. سامحني يا معلّم، ولكنّها الحقيقة.»

 

«وسوف تكون تلك هي الحقيقة بالنسبة للكثير مِن الناس! فذاكَ الذي نالَ البُشرى غالباً ما سيُجيب القاضي الأزليّ، لتبرير جَهلهِ رغم تعليم رُسُلي، سيُجيب بما كنتَ تقولَه، سيقول: "كنتُ أظنُّه هَذَياناً... كنتُ تَعِباً ونائماً". وفي الأغلب هو لا يَقبَل الحقيقة لأنّه يَحسَبها هَذَياناً، ولا يتذكّر الحقيقة لأنّه سيكون مُنهَمِكاً بأمور كثيرة لا طَائِل منها، عابِرة، وحتّى أثيمة. بينما الحاجة إلى واحد: معرفة الله.»

 

«حسناً، الآن وقد قلتَ لنا ما نستحقّ، اروِ لنا الأمور كما جَرَت... لبطرسكَ. وسأنقل ذلك فيما بعد للناس. وإلّا قلتُ لكَ: ما الذي يمكنني قَوله؟ فالماضي أَجهَلهُ، والنبوءات والكِتاب لا أُجيد شَرحها، والمستقبل... آه! يا لي مِن مسكين! بماذا يمكنني أن أُبَشِّر إذن؟»

 

«نعم، يا معلّم. لنَعلَم نحن كذلك... إنّنا نعرف أنّكَ مَسيّا ونؤمن به. إنّما على الأقلّ، حسب اعتقادي، كان صعباً عليَّ تَقبُّل أن يَخرُج مِن الناصرة شيء صالح... فلماذا لم تُعلِمنا على الفور عن ماضيكَ؟» يقول برتلماوس.

 

«لاختبار إيمانكَ واستنارة روحكَ. إنّما الآن فسأُحدّثكم. أو بالأحرى: سوف نحدّثكم عن ماضيّ. حتّى أنّي سأقول لكم أيضاً ما لا يَعرفه الرُّعاة. وهم سَيَروون ما رَأوه. وستعرفون فجر المسيح. اسمعوا:

 

عندما بَلَغَ زمان النعمة، هيّأ الله لذاته عذراءه. يمكنكم الإدراك جيّداً عدم إمكانيّة إقامة الله حيث كان الشيطان قد وَضَعَ إشارته التي لا تُمحى. لقد عَمِلَت القُدرة إذن لتصنع تابوتها المستقبليّ الطاهر. وبواسطة إنسانَين بارَّين طاعِنَين بالسن، وبخلاف قواعد الإنجاب الـمُعتادة، حُبِل بالتي لم تَشُبها شائبة، وهي بريئة مِن كلّ عَيب. مَن الذي وَضَعَ هذه النَّفْس في الجسد الجنيني الذي أعاد الخِصب إلى أحشاء حنّة بنت هارون، العجوز، جدّتي؟ أنـتَ يا لاوي، لقد رأيتَ رئيس ملائكة كلّ البِشارات. ويمكنكَ القول: إنّه ذاك. إذ إنّ قوّة الله جَعَلَت دائماً الـمُنتَصِر يَنقُل خبر الفرح للقدّيسين والأنبياء، الذي لا يُقهر، وقد تكسّرت عليه أعظم قوّة للشيطان، بصرخة فرح. وهو الـمُبشّر الذي كان حينئذ يَعرف طُرُق الأرض، لأنّه كان قد نَزل ليُكلّم الأنبياء، أَخَذَ مِن النار الإلهيّة الشرارة البريئة الطاهرة، التي كانت نَفْس الطفل الأزليّ، وحافِظاً إيّاها في دائرة اللَّهَب الملائكيّ، لَهيب حبّه الروحيّ، حَمَلَها إلى الأرض وإلى داخل أحشاء. ومنذ تلك اللحظة، حَصَلَ العالم على العَابِدة؛ ومنذ تلك اللحظة أصبَحَ في مقدور الله النَّظَر إلى نقطة مِن الأرض دون الإحساس بتقزُّز. ووُلِدَت الطفلة المحبوبة مِن الله وملائكته، الـمُكَرَّسة لله، المحبوبة مِن والِدَيها بقداسة. "وقَدَّمَ هابيل لله بَواكير قطيعه". آه! في الحقيقة، إنّ وَالِدَيّ هابيل الأزليّ عَرِفا أنّ يُقَدّما بواكير خيراتهما، بل كلّ خيراتهما، وأن يموتا في سبيل تقديم هذه الخيرات لِمَن كان قد أعطاهما إيّاها!

 

كانت أُمّي طفلة الهيكل منذ سنّ الثالثة وحتّى الخامسة عشرة، وعَجَّلَت مجيء المسيح بقوّة حبّها. عذراء قبل الحَبَل بها، عذراء في ظلمة الأحشاء، عذراء في بداية حياتها، عذراء عند خطواتها الأولى، وانتَمَت العذراء لله، لله وحده. وأَعلَنَت حقّها الأسمى في قرار شريعة إسرائيل بحصولها، مِن العروس الذي مَنَحَها الله إيّاه، على تحقيق رغبتها في بقائها غير مَمسوسة بعد مراسيم زواجها.

 

كان يوسف الناصريّ بارّاً. وإليه وحده كان يمكن أن تُعهَد زنبقة الله، وهو وحده امتَلَكَها. ملاكاً كان بنَفْسه كما بجسده، أَحَبَّ كما تحبّ ملائكة الله. عُمق هذا الحبّ القوي الذي كان فيه التَّودُّد الزوجي كلّه، إنّما دون تَجاوُز حاجز النار السماويّة الذي كان خلفه تابوت عهد الربّ، قليلون هم الناس الذين سَيُدرِكون ذلك على الأرض. إنّه الشهادة على ما يمكن أن يكونه بارّ، شرط أن يُريد هو ذلك، على ما يستطيع فِعله، إذ حتّى النَّفْس التي ما زالت مَكلومة بالخطيئة الأصليّة، تمتلك قوى قادرة على الارتقاء والتذكُّر والعودة إلى كرامتها كابنة لله تعمل بشكل إلهيّ مِن أجل حُبّ الآب.

 

كانت مريم ما تزال في بَيتها، في انتظار مُساكَنَة عروسها، عندما عاد إلى الأرض جبرائيل، ملاك البِشارات الإلهيّة، وطَلَبَ مِن العذراء أن تكون أُمّاً. وكان آنئذ قد سَبَقَ وَوَعَدَ الكاهِن زكريّا، الذي لم يُصدّقه، بالسَابِق (يوحنّا المعمدان). ولكنّ العذراء آمَنَت أنّ هذا ممكن الحدوث بإرادة الله. وبِسُموّ فائق، في جَهلها للأمر، سَأَلَت فقط: "كيف يمكن أن يَحدُث هذا؟" وأَجابَها الملاك: "إنّكِ الممتلئة نعمة يا مريم. فلا تخافي إذن، لأنّكِ قد نِلتِ حُظوة لدى الله، حتّى بخصوص بُتوليّتكِ. وستَحمِلين وتَلِدين ابناً تُسمّينه يسوع، ذلك أنّه هو الـمُخَلِّص الموعود به ليعقوب وكلّ أحبار وأنبياء إسرائيل. ويكون عظيماً، وابن العليّ يُدعَى، لأنّ الحَبَل به سيكون بِفِعل الروح القدس. ويُوليه الله عرش داود، كما قيل، ويَملك على آل يعقوب أَبَد الدّهر، ولن يكون لـمُلكه انقضاء. والآن فالآب والابن والروح القدس ينتظرون طاعتكِ ليُتِمّوا الوَعد. وها إنّ سابِق المسيح قد أَصبَحَ في أحشاء نسيبتكِ أليصابات، وإذا وافَقتِ فإنَّ الروح القدس يَحلّ عليكِ، ويكون المولود منكِ قُدّوساً ويُدعى باسمه الحقيقيّ، ابن الله".

 

حينئذ أجابت مريم: "ها أنذا أَمَة للربّ. وليكن لي بحسب قوله". وحَلَّ الروح القدس على عروسه، ومنذ العِناق الأوّل مَنَحَها أنواره التي انتهت بكمال فضائل الصمت والتَّواضُع والفِطنة والمحبةّ التي امتَلَأَت بها، ذلك أنّها أَصبَحَت والحِكمة واحداً وغير قابلة للانفصال عن المحبّة والطّاعة، وتلاشت العَفيفة في مُحيط الطّاعة الذي هو أنا، وعَرَفَت فرح أن تكون أُمّاً دون الخضوع لاضطرابات أن تكون مَمسوسة. أَضحَت الثلج الذي أَزهَرَ كله، وهكذا قَدَّمَت نفسها لله...»

 

«ولكن الزوج؟» سَأَلَ بطرس مندهشاً.

 

«خاتم الله أَغلَقَ شِفاه مريم، ولم يُعلَم يوسف بالمعجزة إلّا في اللحظة التي ظَهَرَت فيها مريم أُمّاً في عينيّ عروسها أثناء عودتها مِن بيت قريبها زكريّا.»

 

«وهو ماذا فَعَلَ؟»

 

«تألَّمَ... وتَألَّمَت مريم...»

 

«لو كُنتُ أنا...»

 

«كان يوسف قدّيساً يا سمعان بن يونا. والله يعرف أين يضع نِعمته... وقد تَألَّمَ بصمت وقَرَّر أن يُخليها، مُتحمّلاً سُمعة الظُّلم. ولكنّ الملاك نَزَلَ ليقول له: "لا تخف أن تتّخذ مريم امرأتكَ. فإنّ الذي حَبَلَت به مِن الروح القدس هو، وهو ابن الله، وبِفِعل الله أَصبَحَت هي أُمّاً. وعندما يُولَد الابن سَمِّه يسوع، لأنّه هو الـمُخلِّص".»

 

«هل كان يوسف مُثقّفاً؟» يَسأَل برتلماوس.

 

«كأيّ واحد مِن نسل داود.»

 

«إذاً فقد حَصَلَ على النور فوراً، وهو يتذكّر النبيّ القائل: "ها إنّ العذراء تَحبَل..."»

 

«نعم، كان له ذلك. وعَقب الاختبار كان الفرح...»

 

«لو كُنتُ أنا...» يُعاوِد سمعان بطرس الكلام. «لما كان حَصَلَ شيء صالح، إذ قَبْل ذلك كُنتُ... آه! يا ربّ، كم كان حسناً أنّي لم أكُن أنا! فإنّني كُنتُ حَطَّمتُها مِثل قَشّة جافّة، دون إفساح المجال لها للكلام. وفيما بعد، لو لم أكن قاتلاً، لكُنتُ خفتُ منها... خوف إسرائيل كلّها، منذ الدهور، حيال تابوت العهد...»

 

«حتّى موسى خافَ مِن الله، ومع ذلك حَصَلَ على النجدة، وبَقِيَ معه على الجبل... ذَهَبَ يوسف إذن ليَسكُن في بيت عروسه المقدّس، واهتمّ باحتياجات العذراء والـمُزمَع أن يُولَد. وعندما حان موعد الاكتتاب، ذَهَبَ مع مريم إلى أرض الآباء، وبيت لحم لم تَقْبلهم، لأنّ قلب الناس قد أُقفِل في وجه المحبّة. والآن جاء دوركم في الكلام.»

 

«أنا قابَلتُ، حوالي المساء، امرأة شابّة بَاسِمة، راكبة على جحش، ويُرافِقها رَجُل. سَأَلَني قليلاً مِن الحليب وبعض المعلومات. وقُلتُ له ما كنتُ أعرفه... ثمّ أَقبَلَ الليل... وكان نور عظيم... وخَرَجنا... ورأى لاوي ملاكاً قُرب الحظيرة. قال الملاك: "لقد وُلِد الـمُخلِّص". كان الليل في أَوجه، والسماء تعجّ بالنجوم. ولكنّ نور تلك الليلة اضمَحَلَّ في نور الملاك، وآلاف آلاف الملائكة... (مازال أيلي يبكي كلما تَذَكَّر) وقال لنا الملاك: "اذهبوا واسجدوا له. إنّه في إسطبل، في مِذوَد... وهناك ستجدون طفلاً وَليداً مُقمّطاً بأقماط فقيرة..." آه! كم كان الملاك يتلألأ لدى قوله تلك الكلمات!... ولكن هل تَذكُر يا لاوي كيف كانت أجنحته تقذف لَهَباً عندما، بعد أن انحنى ليَذكُر اسم الـمُخلِّص، قال: "... إنّه المسيح الربّ"؟»

 

«آه! بالطبع أتذكّر! وأصوات الآلاف؟ آه!... "المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام لِذَوي الإرادة الصالحة!" تلك الموسيقى هنا، إنّها هنا، وهي تنقلني إلى السماء في كلّ مرة أَسَمعها.» ويَرفَع لاوي وجهاً مُنتَشِياً، عليه دمعة تَلمَع.

 

«وذَهَبنا» يقول إسحاق. «مُحمَّلين مثل الدَّواب، فَرِحين كما مِن أجل عُرس، ثمّ... ما عدنا نعرف ماذا نفعل عندما سَمِعنا الصوت الطفوليّ وصوت الأُمّ، ودَفَعْنا لاوي، الذي كان ما يزال صغيراً، كي يَنظُر. لقد أحسَسنا بأنفسنا وكأنّنا برص أمام كلّ هذه الطَّهارة… ولاوي كان يَسمَع ويضحك وهو يبكي، وكان يُردِّد بصوت كصوت الحَمَل، حتّى إن نعجة إيلي شَرَعَت بالثّغاء. وجاء يوسف إلى فتحة الإسطبل وأَدخَلَنا... آه! كم كُنتَ صغيراً وجميلاً! بُرعُم لحم وَرديّ على القَشّ الوَاخِز... وكُنتَ تبكي... ثمّ كُنتَ تبتسم في دفء جِلد النّعجة التي قَدَّمناه لكَ، والحليب الذي حَلَبناه لكَ... وجبتكَ الأولى... آه!... ثمّ... ثمّ قَبَّلناكَ... وكانت تفوح منكَ رائحة اللوز والياسمين... ولم نعد نستطيع فراقكَ...»

 

«بالفعل لم تُفارِقوني.»

 

«صحيح» يقول يوناثان. «قَسَماتكَ طُبِعَت فينا، وكذلك صوتكَ وابتسامتكَ... كنتَ تنمو... وكنتَ تُصبِح أكثر فأكثر جمالاً... وكان عالَم الصالحين يأتي ليَسعَد بكَ... وعالَم الأشرار كان يتحاشاكَ... حنّة... خطواتكَ الأولى... الحُكَماء الثلاثة... النجمة...»

 

«آه! تلك الليلة، يا له مِن نور! كان العالم يبدو مُتوهّجاً بألف نور. ليلة قدومكَ، على العكس، كان النور ساكِناً ومُرَصَّعاً باللآلئ... ثمّ كانت رَقصة الكواكب، ولكن حينئذ كان سُجود الكواكب. ونحن، مِن مكان مُرتَفِع، كنّا نرى القافلة تمرّ وكنّا نتبعها لنرى ما إذا كانت ستتوقّف... وفي الغد، وفي الغد شَهِدَت بيت لحم كلّها سُجود الحُكَماء. ثمّ... آه! لا نتكلّمنّ عن الهَول!... لا نتكلّمنّ عنه!...» ويَشحب لون إيلي لتلك الذكرى.

 

«نعم، لا نتكلّمنّ. ولنلزم الصمت حِيال الكراهية...»

 

«الألم الأكبر كان حينما لم نعد نَحظَى بكَ، وبَقينا دون سَماع أخباركَ. وكذلك زكريّا، لم يكن يَعلَم شيئاً. أَمَلنا الأخير... لا شيء.»

 

«لماذا يا ربّ لم تَجبُر قَلب خدّامكَ؟»

 

«أتسأل عن اللّماذا يا فليبّس؟ لأنّ تَصَرُّفاً كهذا كان على سبيل الحَذَر. أنتَ ترى أن زكريّا نفسه الذي كان إعداده الروحيّ قد اكتَمَلَ، لم يَشأ أن يَكشف النقاب. حتّى زكريّا...»

 

«ولكنّكَ قُلتَ لنا إنّه هو مَن اعتنى بالرُّعاة. وإذن، لماذا هو لم يَقُل لهم أوّلاً، ولكَ فيما بعد، إنّ البعض كان يبحث عن الآخَر؟»

 

«كان زكريا بارّاً، رجلاً بكل معنى الكلمة. وأَصبَحَ أقلّ رجولة وأكثر برّاً أثناء أشهر البكم (الخَرَس) التسعة، وسَعَى نحو الكمال خلال الأشهر التي تَلَت وِلادة يوحنّا، ولكنّه أَصبَحَ روحاً بارّاً. حينما وَقَعَ تكذيب الله على كبرياء الإنسان. كان قد قال: "أنا كاهِن الله أقول إنّ على الـمُخلِّص أن يحيا في بيت لحم". وأَظهَرَ له الله أنّ أيّ حُكم، حتّى ولو كان مِن كاهِن، إذا لم يكن مُناراً مِن الله، هو حُكم هَزيل، وذلك كان عن طريق جَعله يُفكِّر برعب: "لو كنتُ تكلّمتُ لكان مِن الممكن جعلهم يَقتلون يسوع". وأَصبَحَ زكريّا البار الذي يستريح الآن في انتظار الجنّة. ولقد عَلَّمتُه البَرارة الفِطنة والمحبّة، المحبّة حيال الرُّعاة، والفِطنة حيال العالم الذي كان عليه أن يظلّ جاهلاً يسوع. عندما تَوَجّهنا إلى الناصرة بعد العودة إلى الوطن، بالحِيطة ذاتها التي كانت تُوجِّه زكريّا، تحاشينا الخليل وبيت لحم، وقد عُدنا إلى الجليل بمحاذاة البحر. حتّى يوم بلوغي سنّ الرُّشد، لم يكن ممكناً أن يُرى زكريّا يأتي لحضور الاحتفال والعودة مساء مع ابنه.

 

كان الله يَرى، وكان الله يُثَبِّت، وكان الله يُدبِّر، وكان الله يُحَسِّن. فامتلاك الله ليس امتلاك الفرح فقط، بل هو امتلاك الجِدّ كذلك. وكان لدى أبي الحَنون السَّعي الجادّ، وكذلك أُمّي، حِيال نفسي وجسدي، حتّى إنّ ما كان مَسموحاً به، كنّا نتحاشاه ليبقى السرّ مُجلِّلاً المسيح الطفل بالظلّ. وهذا ما يُفَسِّر لكثير مِن الناس الذين لا يُدرِكون السبب الـمُضاعَف للّهفة والقلق عندما اعتُبِرتُ تائهاً لمدّة ثلاثة أيّام. حبّ أُموميّ وحبّ أبويّ حِيال طفل ضائع؛ خوف حُرّاس مَسيّا الذي كان ممكناً أن يُفتَضح أمره قبل الأوان؛ الذُّعر مِن الإخفاق في حماية خَلاص العالم وعَطيـّـــة الله العُظمى؛ ذاك هو الدَّافِع للصــــرخة غير المألوفة: "يــــا بنيّ، لِـمَ فَعَلتَ بنا ذلك؟ فأنا وأبوكَ كنّا نبحث عنكَ متلهّفَين!" أبوكَ، أُمّكَ... ويتــــمّ ســَــــتر بــَــريــق الكلمة المتجسّد. والإجابة الوَاثِقة: "لماذا تبحثان عنّي؟ ألا تَعلَمان أنّه ينبغي لي أن أكون في ما هو لأبي؟" إجابة قَبِلَتْها وأَدرَكَتْها الممتلئة نعمة بما تعنيه، أي: "لا تخافا. إنّني صغير، طفل. ولكن إذا كنتُ حسب الإنسانيّة أنمو بالجسم والحكمة والنعمة في عيون الناس، فأنا الكامل كَوني ابن الآب، وأعرف أن أتصرّف بإتقان. خادماً الآب ليَسطع نوره، خادماً الآب بالحفاظ على الـمُخلِّص". وهكذا كنتُ أتصرّف حتّى قبل سنة مِن الآن.

 

لقد آن الأوان في الوقت الحاضر، ونُزِعَت الحُجُب. وابن يوسف يَظهَر بطبيعته: مَسيّا البُشرى الحسنة، الـمُخلِّص، الفادي، مَلِك الدهر الآتي.»

 

«أولم تَعُد تَرى يوحنّا أبداً؟»

 

«في الأردن فقط، عزيزي يوحنّا، عندما رغبتُ في أن أعتمد.»

 

«بشكل لم تَكُن تَعلَم معه أنّ زكريّا قد أسدى خدمة لهؤلاء؟»

 

«لقد قُلتُ لكم: بعد حَمَّام الدم البريء، الأبرار أَصبَحوا قدّيسين، والناس أَصبَحوا أبراراً. فقط الشياطين ظَلّوا على ما هُم عليه. وزكريّا تَعلَّمَ تقديس ذاته بالتَّواضُع والمحبّة والفِطنة والصمت.»

 

«أودُّ لو أتذكّر كلّ هذا، ولكن هل سأستطيع؟» يقول بطرس.

 

«كُن مطمئنّاً وساكِناً يا سمعان. غداً سأجعل الرُّعاة يُكرّرون ذلك أمامي مرّة واثنتين وثلاثاً إن لَزِم. وذاكرتي جيّدة، وقد أَنـمَيتُها وطوَّرتُها في مكتبي، وسوف أتذكّر مِن أجل الجميع. عندما تشاء سأتمكن مِن تَكرار كلّ شيء. فأنا لم أكن أُدوُّن حسابات كفرناحوم، ومع ذلك...»

 

«آه! لا، لم تكن تخطئ، ولا حتّى بدراخما واحدة!... أَذكُر ذلك... تماماً! أُسامحكَ عمّا مَضى ومِن كلّ قلبي، إذا ما تَذَكَّرتَ هذه الرواية... وإذا ما رَوَيتَها لي دائماً. أودُّ لو تَسكُن الرواية قلبي كأولئك!... كما يونا... آه! أن أموت وأنا أنطُق اسمه!...»

 

يَنظُر يسوع إلى بطرس ويبتسم، ثمّ يَنهَض ويُقبِّل رأسه الذي يَخطّه الشَّيب.

 

«لماذا تمنحني هذه القُبلة يا معلّم؟»

 

«لأنّكَ كنتَ نبيّاً. سوف تموت وأنتَ تنطق اسمي. ولقد قَبَّلتُ الروح الذي نَطَقَ فيكَ.»

 

ثمّ يتلو يسوع مزموراً بصوت قويّ ومُدوٍّ، والجميع في وَضعيّة الوقوف، يُردّدونه بعده: «انهَضوا وبارِكوا الربّ إلهكم، مِن دهر إلى دهر. فليكن مباركاً اسمه العظيم الممجّد بكلّ مديح وكلّ بَرَكَة. أنتَ وحدكَ الربّ. لقد صَنَعتَ السماء، وسماء السماوات وكلّ جيشها. الأرض وكلّ ما تحوي... إلخ»

 

وينتهي كل شيء بهذه الترتيلة الطويلة. لستُ أدري ما إذا كانت مِن الطقس القديم، أو إن يسوع يقولها مِن تلقاء نفسه.

 

وَجَدتُ نفسي في فترة راحة منذ ثلاثة أيام، فَفَتَحتُ الكتاب المقدّس، فَتَحتُه لا على التّعيين، فقط لكي أقرأ شيئاً يكون كَلِمَة مِن عند الله. فَأَقَع على المقاطِع 25-31 مِن المزمور 17. الربّ يتكلّم: «أليس مِن المحتمل أن يكون هذا هو ما يمكنكِ قوله عن ذاتكِ؟ كان وقت، كنتُ فيه، مِن جِهَتي، أحبّكِ بكلّ الكمال الممكن، إنّما أنتِ لم تكوني تحبّينني بكلّ الكمال الذي كنتِ تستطيعينه. بالفِعل، كُنتِ تُفكّرين بي في أعماق قلبكِ، إنّما كانت هناك عَواطِف أكثر قوّة مِن تلك التي كُنتِ تمنحينني إيّاها. لذلك لم تكوني أهلاً لأن أُكافَِئكِ. هل تذكرين ذلك الوقت؟ أمّا أنا فأتذكّره. كُنتِ قد تَخَرَّجتِ مِن المدرسة الداخليّة مُعطّرة بالله، كما إحدى العذارى في الهيكل، مُعَطّرة ببخور الطُّقوس. وكُنتُ أنا، آنذاك، قد اخترتُكِ. متى اخترتُكِ أنا؟ هل تَوَدّين أن تَعلَمي؟ في الحقيقة، كان ذلك يوم خُلِقَت نفسُكِ، ذلك أنّ أيّ مصير بشريّ لا يُخفى عن الفِكر الأزليّ. ولكنّ مريم الصغيرة حُفِظَت في الحياة بإرادتي، رغم ظروف وِلادَتكِ البائسة، وتلك التي رافَقَتكِ وأنتِ بعد ملاك صغير يَرضَع، تلك الصغيرة أَضحَت لي عندما انهَمَرَت أولى دموعها لدى رؤيتي نازلاً مِن على الصليب. أنتِ بَحَثتِ عنّي. وأنا، وَهَبتُ نفسي مع ابتسامة مُجامَلة. تلك الابتسامة تَكرَّرَت مِن أجلكِ في السماء وقالت للآب والروح الـمُعزّي: "دَعوا الأطفال يأتون إليّ".

 

فَما مِن شيء يُزيل آلام جِراحه سوى شفاه الأطفال الصغار، الأطفال الصغار بسنّهم أو الذين يُوافِقون على أن يكونوا كذلك، فأولئك الذين، بحبّهم وطاعتهم للمعلّم "يُصبِحون شبيهين بالأطفال الصغار لينالوا ملكوت السماوات"، بهجة الله هي مريم، الأُمّ العذراء، وهي الطفلة الصغيرة الكاملة، التي تتمتّع بالغبطة في ملكوت السماوات. إنّ نفوس البالِغين الـمُتمتّعة "بالطفولة الصغيرة" نادرة نُدرة الجواهر المستديرة تماماً، ذات الحجم الـمُدهِش. بينما الأطفال الصغار بسنّهم، لديهم جميعاً هذه النَّفْس، حيث لا تكون بعد قد دُنِّسَت، وهي تُشكِّل بهجة الله وتعزية المسيح. والابن قد أرادَكِ منذ تلك اللحظة. فكلّ دمعة بريئة منكِ ساوَت قُبلة له، وكلّ قُبلة نِعمة، وكلّ نِعمة جَعَلَتكِ تُخطَبين إلى الحبّ الإلهيّ. ليس خطأ النَّظَر إلى الوراء مِن أجل إنشاد "تُعَظِّم نفسي" و"ارحمني يا الله". أمّا "تُعَظِّم نفسي" فقد كان بإمكانكِ إنشادها إلى حين خروجكِ مِن المدرسة الداخليّة. فقد كُنتِ بأكملكِ لله. مذبح وحيد في داخلكِ وحبّ وحيد. ففي الكأس كانت الزنبقة شِبه الـمُتَفتّحة التي لم تكن ممتلئة سوى بالنَّدى السماويّ والأشعّة الإلهيّة. ثمّ أتى العالم ومعه هياكل كثيرة وأنواع أخرى كثيرة للحبّ، وقد اغتَصَبوا مكاني. وظَلّوا بالقَدْر الذي ارتَضَيتُه أنا.

 

كان باستطاعتي أيضاً ألّا أريد. سيكون هناك مَن يقول: "كانت تجربة خطيرة". لا بل كانت ضروريّة. لقد اتَّضَعَ الرُّسُل بارتدادهم عن المسيح. وفي تلك اللحظة، هَيمَنَت الفَوقيّة في كلّ فروع الإنسانيّة التي أُفسِدَت، وتَمَلَّكَهم، مِن جديد، كلّ ما مِن شأنه جعل الإنسان يَضطَرِب، وهَزَّهم وأثارهم. حينذاك أَدرَكوا أنّهم في المجال الذي أضحوا فيه مُختَلِفين، لم يكن ذلك لمحض استحقاقهم، إنّما بِفِعل كَونهم مع يسوع. وسُحِق فيهم الكبرياء مُفسِد الإنسان. مِن الضروري أن يَحدُث هذا لكلّ الـمُختَارين، نظراً لمصيرهم الخاصّ، لكي لا يَخسَروا دعوتهم بخسارتهم حبّي. ولقد سَقَطَ الذين اغتَصَبوا مكاني فيكِ، الواحد تِلو الآخر. وعاد إلهكِ وحده مَلِكَكِ الذي رَتَّلتِ له: "ارحمني يا الله". بتوبتكِ الحكيمة. والآن يا ابنتي، انظري إلى الماضي والحاضر. انظري إلى زمن حبّكِ المتعدّد، للإنسان والعلوم ولِذاتِكِ، وانظري إلى الوقت الحالي حيث، مِن جديد، لم يعد لكِ سوى حبّ وحيد، حبّي. وقولي لي، قولي لي ذلك بروحكِ، بسماعكِ إيّاه وحده فقط، فليس سوى النَّفْس، صوتها صادق وثمين. أليس لديكِ كلّ شيء الآن؟ منذ أَصبَحتِ لي، ألم يُصبِح لديكِ كلّ شيء؟ سوف يقول الأغبياء: "لا شيء لديها! لا صحّة، ولا فرح، ولا رفاهيّة". ولكنّ نفسكِ التي ترى بعينيها هي، تقول: "أملك كلّ شيء، حتّى ما هو كماليّ مقدّس". لو استطعنا تسمية كماليّ كل ما هو خارج الضروريّ حصراً للصعود إلى الله. فأنتِ لديكِ رسالة خاصّة "الناطقة بلسان". وذلك عَطيّة ونِعمة، وليس ضروريّاً امتلاكها لتكوني الـمُفَضَّلَة. فلديكِ تَقَبُّل الله لكلّ تلك الرغبات. لماذا؟ لأنه، كما يقول المزمور (17/20-25) "كَافَأَني الربّ بحسب بِرّي وبحسب طهارة يديّ أَثابَني. لأنّي حَفِظتُ طرق الربّ ولم أَعصَ إلهي. وأحكامه كلّها أمامي وسِننه لم أَحِد عنها. صرتُ لديه كاملاً وحُفِظتُ مِن إثمي. فأثابني الربّ بحسب بِرّي، بحسب طهارة يديّ أمام عينيه".

 

إنّني مُتساهِل إلى أبعد الحدود، وبشكل إلهيّ، مع الأبرار وذَوي القلب الطاهر. إنّني طيّب مع الضعفاء، طيّب بشكل كامل مع الذين يعرفون أن يكونوا أقوياء مِن أجل حبّي. وبما أنّني أنا الحبّ، ينبغي لي أن أُمارِس العنف مع نفسي لكي لا أكون ضعيفاً حيال الـمُقَصِّرين. لهؤلاء أَمنَح الرحمة، لأبنائي أَمنَح تَعَدُّد نِعَمي. أُخلِّصهم، أُنيرهم، أُحرّرهم، وأُقوّيهم على الدوام، أقودهم، مُمسِكاً بأيديهم على طريقي التي لا عَيب فيها، مُثَقِّفاً إيّاهم بكلمتي مُغَمَّسَة في نار الحبّ الإلهيّ. هكذا هي الحال بالنسبة لكِ، يا نفسي التي وَضَعتِ فيَّ حبّكِ وكلّ ثقتكِ. لا تخافي يا زهرة الله. فلا تُوجَد قَطّ زهرة مِجهريّة واحدة مِن المناطق المتجمّدة، أو عِملاقة مِن المناطق الحارّة، أَترُكها بلا ندى وضوء وحرارة ضروريّة لحياتها الجميلة. وهي ليست سوى سوق نباتيّة! إنّما زهرات نفسي، فأيّة اهتمامات يُولِيها باريها؟ لا تخافي يا زهرة الله، الـمُرَصَّعة بدم ودموع الابن والعذراء. مُزَيَّنة بتلك الجواهر إضافة إلى وفائكِ، فأنتِ عزيزة على قلبي للغاية! رَنِّمي على الدوام "تُعَظِّم نفسي". الآب والابن والروح الـمُعزّي معكِ.»

 

آه! ربّي! ربّي! أنتَ تقول ذلك، وبالتأكيد هي الحقيقة. كلّ شيء كان ضروريّاً. ولكن ما الذي لم يَعْنِهِ لي إهمالكَ إيّاي في العام الماضي؟ إنّكَ ترى ذلك، ولا تجهل انطباعات القلوب. هناك جِراح تُؤلِم، حتّى بعد الاندمال، حالَ لَمسها بأخفّ ما يمكن. جِراح تُؤلِم حتّى بعد التئام الجُّرح. إهمالكَ لي، حتّى الآن وقد أَعَدتَني إلى قلبكَ، جرح يؤلمني على الدوام، ذلك أنّه قَطَعَ العَصَب الذي يربطني بكَ. لستُ أسألكَ لماذا فَعَلتَ ذلك؟ لكنّني أقول لكَ فقط: أنتَ تَعلَم ما كان إهمالكَ بالنسبة لي! اليوم أرتجف وأنا أكتب: 10 نيسان (أبريل)، فاليوم تَكتَمِل السنة على موعد ترككَ زهرتكَ البائسة دون ندى ودون نور ودون حرارة. أَوشَكتُ أن أُصبِح في عِداد الأموات. إذ قد أَعطَيتُكَ كلّ شيء، حتّى ولو كنتُ أملك شيئاً آخر لكنتُ قَدَّمتُه لكَ. ولكن لا تُخضِعني مرّة أخرى لاختبار مُشابِه. فأنتَ ترى أنّ بؤسي لا يمكنه احتماله. أُرَنّم، نعم. أُنشِد "تُعَظِّم نفسي"! وكذلك أقول لكَ: بالتأكيد لم أَستَحِقُّ أن تَصنَع بي "العظائم". إلّا أنّ نَشيدي يمتزج على الدوام بالدموع. مثل طفل مَرَّ بمرحلة طفولة مُهمَلَة، فلم تَعُد لديه ابتسامة الأطفال السُّعداء الصافية، بالـمِثل هو دائماً حاضر في ذِهني: إهمالكَ لي العام الماضي. يسوع على حقّ! مريم على حقّ! ما لا نستطيع تَحَمُّله في "آلامنا" هو إهمالكَ لنا أيّها الآب…

 

أثناء كتابتي، يُضاء النور الذي يُنار دائماً أمام يسوع. النجمة الصغيرة التي تَلمَع مع قلبي هي أمام يسوعي المصلوب. فلقد مَرَّ عام على انطفائها... زنزانتي، تابوت عَهدي، فردوسي لم يَعُد فيه نور. وهذا ما كان يؤلمني كثيراً... لقد حَصَلتُ على كلّ شيء مِن حبكَ، إنّما كذلك، على كلّ شيء مِن قَسوَتكَ: ظُلُمات وَوَحدة وأيضاً ما أسماه ابنكَ (ماريا تتكلم مع الآب) "جحيماً"... بَقيتُ مثل عصفور هَرَبَ صُدفَة مِن مُعذِّبيه. إنّني خائفة... فإنّني أرى مِن كلّ صَوب شِبَاكاً وأقفاصاً وتعذيباً... رحمتكَ ربي...