ج5 - ف7

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الخامس/ القسم الأول

 

7- (الرحيل مِن صور على السفينة الكريتيّة)

 

04 / 11 / 1945

 

تستيقظ صور على صفير الريح الشماليّة. البحر هو عبارة عن ارتعاش أمواج صغيرة، تألُّق أزرق-أبيض، مضطرب تحت سماء زرقاء، تحت سُحُبّ بيضاء تتحرّك في العُلى، كما الزَّبد ها هنا. تبتهج الشمس بيومها الصافي بعد رمدة الطقس السيّئ الطويلة.

 

«فهمتُ» يقول بطرس وهو ينتَصِب واقفاً في الـمَركَب حيث نام. «حان وقت التحرّك. و"هو" (ويشير إلى البحر شبه المضطرب حتّى في المرفأ) مَنَحَنا مياه التطهير... هوم! هيّا بنا إلى المرحلة الثانية للتضحية... قُل يا يعقوب... ألا يبدو الأمر لكَ وكأنّه حَمْل ضحيّتين كقربان؟ أنا، بلى.»

 

«وأنا كذلك يا سمعان. و... أشكر المعلّم على التقدير الذي يُكنِّه لنا. إنّما... أنا لم أكن أريد رؤية هذا الكمّ مِن الألم. ولم أُفكِّر مُطلقاً برؤية ذلك...»

 

«ولا أنا... ولكن... هل تَعلَم؟ أقول إنّ المعلّم لم يكن ليفعلها لو لم يَحشُر المجمع أنفه...»

 

«لقد قالها بالفعل... ولكن مَن الذي قام بتبليغ المجمع؟ هذا ما أودُّ معرفته...»

 

«مَن؟ يا الله الأزليّ، اجعلني أصمت واجعلني لا أُفكِّر! لقد نذرتُ أنا هذا النّذر، لأبُعِد هذا الشكّ الذي يتأكّلني. ساعِدني يا يعقوب على ألّا أُفكِّر. تكلّم عن شيء آخر.»

 

«ولكن عمَّ؟ عن الطقس؟»

 

«نعم. ممكن.»

 

«فيما يتعلّق بالبحر، أنا لا أعرف شيئاً...»

 

«أظنّ أنّنا سوف نتمايل.» يقول بطرس وهو يَنظُر إلى البحر.

 

«لا! بعض الموج، هذا لا شيء. أمس كان الطقس أسوأ. هذا البحر، بهذا الاضطراب، ينبغي أن يبدو جميلاً للغاية مِن أعلى السفينة. فهو سيروق ليوحنّا كثيراً... سيجعله يُنشِد. أيّة سفينة ستقلّنا؟»

 

يَنتَصِب هو كذلك وهو يَنظُر إلى السفن الراسية على الجهة الأخرى، والممكن رؤيتها، ببنائها العلوي، خاصّة حين يرفع الموج السفينة الصغيرة بحركة أرجَحَة. يَنظُرون بانتباه إلى مختلف السفن، متكهّنين... تنشط حركة المرفأ.

 

يستشير بطرس أحد الملّاحين، أو أحداً مِن هذا القَبيل، يُتاجِر على الرصيف: «هل تَعلَم إذا ما كانت في المرفأ، في هذا المرفأ، سفينة... صبراً ريثما أقرأ هذا الاسم... (ويُخرِج قصاصة مطويّة في حزامه)، ها هو: نيقوميدوس فيلادلفيوس فليبّس، كريتيّ مِن باليوكاسترو...»

 

«آه! الملّاح العظيم! ومَن لا يعرفه؟ أظنّه معروفاً ليس فقط في خليج اللآلئ ذي الأعمدة، أعمدة هرقل، بل إنّما حتّى البحر البارد، حيث يُقال إنّ الليل يستمرّ أشهراً كاملة! فكيف يُعقل ألّا تعرفه أنتَ البحّار؟»

 

«لا. لستُ أعرفه، ولكنّني سوف أعرفه قريباً، لأنّني أبحث عنه مِن أجل صديقنا لعازر بن ثيوفيلوس، الذي كان يوماً حاكماً في سورية.»

 

«آه! عندما كنتُ أُبحر -الآن أنا مسنّ- كان في أنطاكية... هل هو صديقكَ؟ وتبحث عن الكريتيّ نيقوميدوس؟ هيّا بأمان إذن. هل ترى تلك السفينة، الأعلى، التي تُرفرِف راياتها في الهواء؟ إنّها سفينته. إنّه يَرفَع المرساة قبل الساعة السادسة. إنّه لا يخشى البحر!...»

 

«فعلاً، علينا ألّا نخشاه. فهو ليس بالأمر الجَّلَل» يقول يعقوب. ولكنّ موجة مُفاجِئة تُسبّب اختلالاً تُبلِّل الاثنين مِن الرأس حتّى القدمين.

 

«أمس كان ساكناً جدّاً، واليوم هو مضطرب جدّاً. بل هو مجنون! أُفضِّل البحيرة...» يُتمتم بطرس وهو يمسح وجهه.

 

«أنصحكم بدخول الأحواض. الجميع يمضون إلى هناك. هل تَرَون؟»

 

«ولكن علينا الرحيل، وعلينا أن نستقلّ سفينة... انتظر: نيقوميدوس مع كلّ الباقين!» يقول بطرس الذي لا يتوصّل إلى تذكّر أسماء الكريتيّين الغريبة.

 

«ألن تُحمِّلوا أيضاً الـمَركَب في السفينة؟»

 

«حتماً لا!»

 

«إذن في الأحواض هناك مكان للحرّاس، ورجال يقومون بالحراسة حتّى العودة. قطعة (نقد) في اليوم حتّى العودة، لأنّني أعتقد أنّه يجب أن تعودوا...»

 

«طبعاً. نمضي لِنطَّلِع على وضع بساتين لعازر ونعود.»

 

«آه! أنتم قَيِّمون على أملاكه؟»

 

«بل أكثر...»

 

«حسناً. تعالوا معي. سأريكم المكان. فهو بالضبط لِمَن هُم مثلكم، يتركون الـمَراكِب...»

 

انتظر... ها هُم الآخرون. سنوافيكَ بعد لحظة.» ويَقفز بطرس على الرصيف ويَهرَع للقاء رفاقه الذين وَصَلوا.

 

«هل نمتَ جيّداً يا أخي؟» يَسأَل أندراوس بحنان.

 

«كالطفل في مهده. حتّى قد هُدهِد لي وأُنشِدَت أناشيد النوم...»

 

«يبدو لي أنّ هناك كذلك مَن غسلكَ وجَمَّلَك» يقول تدّاوس مبتسماً.

 

«نعم! فالبحر... طيّب لدرجة أنّه غَسَلَ لي وجهي ليوقظني.»

 

«هو هائج قليلاً، على ما يبدو لي.» يقول متّى.

 

«آه! لو تعلمون مع مَن سنمضي! أحدهم وهو معروف حتّى مِن قِبَل أسماك الجليد.»

 

«هل رأيتَه؟»

 

«لا، بل حَدَّثَني عنه أحدهم، وقد قال لي إن هناك مكاناً للمَراكِب، مَخزَن... هيّا لإنزال الصناديق، وهيّا بنا، فنيقوديموس، لا، نيقوميدوس الكريتيّ على وشك الرحيل.»

 

«في قناة قبرص سوف نرقص» يقول يوحنّا الذي مِن عين دور.

 

«حقّاً؟» يَسأَل متّى وهو مشغول البال.

 

«نعم، ولكنّ الله سيعيننا.»

 

هُم مِن جديد قرب مَركَبهم.

 

«ها نحن، أيّها الرجل. سوف نُخرِج كلّ حاجياتنا ثمّ نمضي، بما أنّكَ طيّب للغاية.»

 

«سوف نتعاون...» يقول ذاك الذي مِن صور.

 

«هيه! نعم! نتعاون، علينا أن نتعاون. علينا أن نتحابّ، فهذه هي شريعة الله...»

 

«قيل لي إنّ نبيّاً جديداً قام في إسرائيل، وهو يُعلِّم هذا. هل هذا صحيح؟»

 

«بلى هذا صحيح! هو يُعلِّم هذا وأشياء أخرى! وهو يَجتَرِح المعجزات! هيّا يا أندراوس، ارفع، ارفع، إلى اليمين أكثر. هيّا، حين يَرفَع الموج الـمَركَب... هوب! انتهى!... كنتُ أقول لكَ أيّها الرجل: وأيّة معجزات! أموات يقومون، مرضى يُشفون، عميان يُبصِرون، لصوص يهتدون، وحتّى... لو كان هنا لقال للبحر "اهدأ" فيسكُن... هل الأمر على ما يرام يا يوحنّا؟ انتظر، أنا آت. أنتم، أمسكوا بقوّة وقريباً... هيّا، هيّا... القليل بعد... أنتَ، سمعان، أَمسِك بالقبضة... انتبه إلى يدكَ يا يوضاس! هيّا، هيّا... شكراً أيّها الرجل... انتبها لئلّا تقعا في الماء، يا ابنيّ حلفى... هيّا... ها نحن هنا! المجد لله! تَعِبنا في إنزالها أقلّ منه في تحميلها... ولكنّ ذراعيّ منهكتان مِن عمل الأمس... كنتُ أتحدّث إذن عن البحر...»

 

«ولكن هل هذا صحيح؟»

 

«صحيح؟ لقد كنتُ هناك ورأيتُه!»

 

«نعم؟ آه!... ولكن أين؟»

 

«على بحيرة جنسارت. تعال في الـمَركَب لأحُدِّثكَ عنه أثناء ذهابنا إلى المخزن...» ويَمضي مع الرجل ويعقوب، وهو يُجذِّف، عَبْر القناة المؤدية إلى الأحواض.

 

«ويقول بطرس إنّه لا يُجيد فِعل ذلك...» يقول الغيور. «على العكس، لديه مهارة التعريف بالأشياء ببساطة، ويَفعَل أفضل مِن الجميع.»

 

«أكثر ما يُعجِبني فيه هو نزاهته» يقول الرجل الذي مِن عين دور.

 

«ومثابرته» يقول متّى.

 

«وتواضعه. فهو لا يتباهى رغم معرفته أنّه "الرئيس"! إنّه يَتعب أكثر مِن الجميع، ويهتمّ بنا أكثر مِن اهتمامه بنفسه...» يقول يعقوب بن حلفى.

 

«وهو فاضل جدّاً في مشاعره. أَخٌ صالحٌ. لا أكثر...» تُكمِل سِنْتيخي.

 

«إذن قد أُحسِن القول؟ أهذا ما تقولانه لنفسيكما؟» يَسأَل الغيور التلميذين بعد حين.

 

«نعم» تُجيب سِنْتيخي. «هذا أفضل. وهو ليس كذباً، بل حقيقة روحيّة. بالنسبة إليَّ هو أخ بِكر، مِن مَنبَت آخر، ولكنّه مِن الأب ذاته. الأب هو الله، والـمَنابِت مختلفة: إسرائيل واليونان. ويوحنّا هو أخي البِكر، وهذا جليّ مِن خلال فارق العمر، و-هذا لا يُرى ولكنّه صحيح- لأنّه تلميذ أقدم منّي كثيراً. ها هو ذا سمعان يعود...»

 

«لقد أُنجِز كلّ شيء. هيّا بنا...»

 

يَحمِلون الصناديق، وعَبْر البرزخ الضيّق يَعبُرون إلى المرفأ الآخر. يُرافِقهم الرجل الذي مِن صور، عَبْر ممرّات شَكَّلَتها البضائع الـمُكدَّسة تحت عنابر واسعة، إلى سفينة الكريتيّ الضخمة، والذي يقوم الآن بأعمال الرحيل الوشيك، وينادي رجال الشاطئ لِيُعيدوا إنزال العَبَّارة التي رَفَعوها.

 

«مُستحيل! فقد انتهت الحمولة» يَصيح رئيس الـمُجذِّفين.

 

«لديه رسالة عليه إيصالها» يقول الرجل مشيراً إلى سمعان بن يونا.

 

«رسالة؟ مِمَّن؟»

 

«مِن لعازر بن ثيوفيلوس، حاكم أنطاكية السابق.»

 

«آه! سأبحث عن المعلّم.»

 

يقول سمعان لسمعان الآخر ولمتّى: «عليكما أن تتصرّفا الآن. فأنا فظّ كثيراً ولستُ أهلاً لأن أتعامل مع رجل كهذا...»

 

«لا. فأنتَ الرئيس، وتُجيد التصرّف. نحن سنساعدكَ إذا اقتضى الأمر. إنّما لن تكون هناك ضرورة.»

 

«أين الرجل حامل الرسالة؟ فليصعد» يقول رجل أسمر وكأنّه مصري، نحيف، وسيم، أَهيَف، وصارم، له مِن العُمر حوالي الأربعين عاماً، أو أكثر قليلاً، وهو يتدلّى مِن أعلى الشاطئ، ويُنزِل العبَّارَة. ويَصعَد سمعان بن يونا بكلّ وقار وقد عاد وارتدى ثوبه ومعطفه بينما كان ينتظر الردّ. وخلفه الغيور ومتّى.

 

«السلام لكَ أيّها الرجل.» يقول بطرس بمهابة.

 

«السلام. أين هي الرسالة؟» يَسأَل الكريتيّ.

 

«ها هي ذي.»

 

يَفضّ الكريتي الغلاف، يفتحها، ويقرأ.

 

«أهلاً بِموفَدي عائلة ثيوفيلوس! فالكريتيّون لا ينسون مَن كان صالحاً ولطيفاً. إنّما أسرعوا. هل معكم الكثير مِن المتاع؟»

 

«ما تراه على الرصيف.»

 

«وكم عددكم؟»

 

«عشرة.»

 

«حسناً. سوف نجعل للمرأة مكاناً. وأنتم تتدبّرون أمر أنفسكم بأفضل ما يمكن. هيّا، بسرعة. يجب الخروج إلى البحر قبل أن تشتدّ الريح، فبعد الساعة السادسة، ستكون هكذا.»

 

وبصافرات تَصُمّ الآذان، يَأمُر بتحميل الصناديق ووضعها في أماكنها. ثمّ يَصعَد الرُّسُل مع التلميذين. تُرفع العَبَّارة، وتُغلَق الكوى، تُحلّ حبّال السفينة، وتُرفع الأشرعة. وتنطلق السفينة بترنّح قويّ في خروجها مِن المرفأ. ثمّ تتمدّد الأشرعة مُصطفقة، لشدّة انتفاخها مِن جرّاء الريح، وبِتَرَجُّح بَيِّن تركب السفينة البحر، ماضية بسرعة صوب أنطاكية…

 

رغم الريح الشديدة، يوحنّا وسِنْتيخي، الواحد بجانب الآخر، مُمسِكَين برافعة، في مؤخّرة السفينة، يَنظُران إلى الشاطئ الذي يبتعد، أرض فلسطين، ويبكيان...