ج6 - ف99
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء السادس/ القسم الأول
99- (الرُّسُل يتكلّمون)
05 / 04 / 1946
«أنا مستعجل للوصول إلى الجبال!» يهتف بطرس وهو يلهث ويمسح العرق الذي يسيل على طول خدّيه وعنقه.
«كيف؟ أنتَ الذي تكره الجبال ترغب بها الآن؟» يَسأَل بتهكّم يهوذا الاسخريوطيّ، الذي وقد رأى أن الخوف مِن أن يُكشَف أمره قد تلاشى، فإنّه يعود لغروره وتطاوله.
«نعم، بالحقيقة، أنا أرغب بها الآن. في هذا الفصل، هي مُلائِمة، ليست كالبحر... هي، آه!... ولكن على كلّ حال... لستُ أدري لماذا تكون الحقول أكثر حرارة بعد الحصاد. هي الشمس ذاتها، مع ذلك...»
«ليس أنّها أكثر حرارة. إنّها أكثر تعاسة، ونحن نشعر بالتعب لرؤيتنا إيّاها هكذا بعدما كانت ما تزال تحتفظ بالقمح.» يُجيب متّى بتعقّل.
«لا، سمعان على حقّ. فهي حارّة بشكل لا يُحتَمل بعد الحصاد. لم نشعر مطلقاً بمثل هذه الحرارة.» يقول يعقوب بن زَبْدي.
«أبداً؟ وماذا تفعل بتلك التي أحسسنا بها أثناء ذهابنا إلى نيقي؟» يُعقِّب يهوذا.
«أبداً ليست كهذه.» يُجيبه أندراوس.
«بالتأكيد! لقد مضى على بداية الصيف أربعون يوماً وبالنتيجة الشمس تلفح.» يصرّ يهوذا.
«بالفعل، فالقشّ يطلق مِن الحرارة أكثر مِن الحقول المكسوّة بالسنابل، وهذا كذلك يمكن شرحه. فالشمس التي كانت تقف سابقاً عند حدّ رؤوس السنابل، تُلهِب الآن مباشرة الأرض التي تعرّت واحترقت. وهذه تعكس حرارتها إلى الأعلى، بعكس الشمس التي تهبط أشعّتها إلى الأسفل فيجد الإنسان نفسه بين نارين.» يقول برتلماوس بأسلوب الحِكَم.
يبتسم يهوذا بسخرية ويقوم بتحيّة مبالغ فيها لرفيقه قائلاً: «رابّي نثنائيل، أحيّيكَ وأشكركَ على درسكَ العلميّ.
يَنظُر إليه برتلماوس... ويصمت. ولكنّ فليبّس يدافع عنه: «ليس هناك ما يدعو للسخرية! شرحه صحيح! وأنتَ لا تودّ بالتأكيد إنكار حقيقة تراها ملايين العقول الحكيمة حقيقيّة، منطقيّة، وسهلة التحقّق.»
«بالطبع! بالطبع! أعرف ذلك، أعرف أنّكم علماء، خبراء، مفعمون حكمة، صالحون وكاملون... أنتم كلّ هذا! كلّ هذا! أنا فقط النّعجة السوداء في القطيع الأبيض!... أنا فقط الحَمَل الهَجين، الخزي الذي ينكشف وتكون له قرون تيس... أنا فقط الخاطئ، الناقص، سبب كلّ سوء فيما بيننا، في إسرائيل وفي العالم... وقد أكون كذلك في النجوم... لم أعد أستطيع! لم أعد أستطيع رؤية نفسي الأخير، رؤية عديمي الكفاءة كهذين المعتوهَين اللذين يتحدّثان إلى المعلّم يُنظَر إليهما بإعجاب كقدّيسَين موحى إليهما، لقد تعبتُ مِن...»
«اسمع، يا ولدي...» يبدأ القول بطرس الذي أحمرّ مِن جرّاء الجهد الذي بَذَلَه ليضبط نفسه أكثر منه مِن جرّاء الحرارة.
ولكنّ يوضاس تدّاوس يقاطعه: «أتقيس الآخرين بحسب مقياسكَ؟ أنتَ، حاول أن تكون ناقصاً كما هما أخي يعقوب ويوحنّا بن زَبْدي، ولن يكون هناك عيب في الجماعة الرسوليّة.»
«ولكن ألستُ على حقّ؟ العيب هو أنا! آه! هذا كثير! ولكنّ هذا...»
«نعم، بالفعل أظنّ أنّ يوسف قد سقانا الكثير مِن الخمر... ومع هذه الحرارة، فهذا يؤلم... هذا يؤجّج الدم...» يقول توما بهدوء، بهدوء شديد ليحوّل الشجار المحتَدِم إلى مزاح.
ولكن بطرس استنفذ منابع صبره. يضغط على أسنانه، مُغلقاً كفّيه، للاستمرار في السيطرة على نفسه، ويقول: «اسمع يا ولدي. ليس لكَ سوى نصيحة واحدة أعطيكَ إيّاها: اعزل نفسكَ لبعض الوقت...»
«أنا؟ أنا أعزل نفسي؟ بأمركَ؟ وحده المعلّم يمكنه أن يأمرني، وإيّاه وحده أطيع. أنتَ، مَن أنتَ؟ مسكين...»
«صيّاد سمك، جاهل، فظّ وغير نافع لشيء. أنتَ محقّ... هذا ما كنتُ أقوله لنفسي قبلكَ. وأمام يهوه كلّيّ الوجود والذي يرى كلّ شيء، أؤكّد أنّني أُفضّل المكان الأخير عن الأوّل، ولكن بالأَولى أنتَ، لكي تتحرّر مِن وحش الحسد الذي يجعلكَ ظالماً، ولا يكون لكَ سوى الطاعة، طاعتكَ، يا ولدي... وثق تماماً أنّ هذا يكلّفني تعباً أقلّ مِن وجوب التحدّث إليكَ بصفتي "الأوّل". ولكنّه هو، المعلّم، الذي جعلني "الأوّل" فيكم... وينبغي لي أن أطيعه أوّلاً، هو أكثر مِن أيّ آخر... وأنتَ، عليكَ أن تطيع. وبحسّي السليم كصيّاد سمك، أقول لكَ، لا أن تعزل نفسكَ، كما فهمتَ الأمر أنتَ برؤيتكَ النار في كلامي الأكثر لطفاً، بل إنّما أن تبتعد لوقت قصير، أن تمكث بمفردكَ وتفكّر... هل كنتَ في وضع جيّد مِن بِتّير إلى الوادي، خلف الجميع؟ افعل كذلك الآن... المعلّم في الرأس... وأنت في الآخِر... وفي الوسط نحن... المعتوهون... فما مِن شيء غير البقاء على حدة للإدراك والهدوء... صدّقني... وهذا أفضل للجميع، ولكَ أنتَ أوّلاً...» ويمسكه مِن ذراعه ويُخرِجه مِن المجموعة، وهو يقول: «ابقَ هنا بينما نلحق نحن بالمعلّم. ثمّ... تقدّم ببطء... وسترى أنّ حنقكَ... يختفي.» ويزرعه هناك ليلحق برفاقه الذين تقدّموا بضعة أمتار.
«أوف! لقد تصبّبتُ عَرَقاً في حديثي معه أكثر ممّا حصل في السير... يا له مِن مزاج! ولكن ألا يمكن أبداً الحصول على شيء منه؟»
«أبداً، يا سمعان. أخي يتشبّث بالاحتفاظ به. ولكن... لن يفعل أبداً شيئاً صالحاً.» يجيبه يوضاس تدّاوس.
«لدينا بليّة حقيقيّة في وسطنا!» يُتمتم أندراوس ويُنهي بالقول: «يوحنّا وأنا نكاد نخشاه ونصمت على الدوام خشية مشاجرات أخرى.»
«إنّها أفضل طريقة.» يقول برتلماوس.
«أنا لا أتوصّل إلى الصمت.» يعترف تدّاوس.
«أنا كذلك أتوصّل بصعوبة... ولكنّي وجدتُ السرّ لفعل ذلك.» يقول بطرس.
«أيّ سرّ؟ أيّ سرّ؟ علّمنا إياه...» يقول الجميع.
«في العمل كثور بمحراث. عمل بلا جدوى، بالتأكيد... ولكنّه يفيدني في إفراغ ما يغلي في داخلي... على شيء ما لا يكون يهوذا.»
«آه! فهمتُ! لأجل ذلك قمتَ بمجزرة الشجيرات أثناء الهبوط إلى الوادي! لأجل هذا، أليس كذلك؟» يَسأَله يعقوب بن زَبْدي.
«نعم، لأجل هذا... إنّما اليوم... هنا... لم يكن أمامي ما أكسره دون أن أُحدِث خراباً. لا يوجد سوى أشجار الفاكهة وحرام تخريبها... فقد بَلَغَ تعبي ثلاثة أضعاف في... تحطيم ذاتي... كي لا أكون سمعان كفرناحوم العجوز... وعظامي تؤلمني...»
برتلماوس والغيور، بالحركة ذاتها والكلام ذاته: يُعانِقان بطرس هاتِفَين: «وتُدهَش لجعله إيّاكَ الأوّل فينا؟ فأنتَ لنا معلّم...»
«أنا؟ لأجل هذا؟... هذه التفاهة!... أنا رجل مسكين... ولكنّي أطلب منكم فقط أن تحبّوني وتعطوني النصائح الحكيمة، النصائح البسيطة والوَدودة. الحبّ والبساطة لكي أصبح مثلكم... وفقط محبّة به الذي أَصبَحَ يعاني آلاماً كثيرة...»
«أنتَ على حقّ. على الأقلّ علينا ألاّ نُسبّب له منها نحن!» يهتف متّى.
«لقد أصابني هَلَع عندما نادته يُوَنّا. أحقّاً لا تعلمان شيئاً، أنتما الاثنان اللذان كنتما قد تقدّمتما؟» يَسأَل توما.
«لا، بالتأكيد. ولكنّنا فكّرنا ضمنيّاً أنّه كان الذي في الخلف الذي... ارتكب حماقة.» يجيب بطرس.
«اصمت! راودتني الفكرة نفسها لدى سماعي المعلّم يتحدّث يوم السبت.» يبوح يوضاس تدّاوس.
«أنا أيضاً.» يضيف يعقوب بن زَبْدي.
«عجباً! لم أكن لأفكّر بهذا... ولا حتّى لدى رؤيتي يهوذا متجهّماً، هذا المساء، وأيضاً وهو فظّ، يجب قول ذلك.» يقول توما.
«حسناً! فلا نعد نتكلّم في هذا. ولنحاول... جعله أفضل، بكثير مِن الحبّ، مِن التضحيات، كما عَلَّمَنا مارغزيام...» يقول بطرس.
«ماذا بإمكان مارغزيام عمله؟» يَسأَل أندراوس مبتسماً.
«ولكن!... قريباً سنكون معه. وأنا أموت مِن نفاذ الصبر... تكلّفني الكثير هذه الفراقات.»
«مَن يدري لماذا يريدها المعلّم؟ في الوقت الذي... يمكن لمارغزيام المكوث معنا. لم يعد طفلاً وهو ليس ضعيف البنية.» يَلفت النظر يعقوب بن زَبْدي.
«وثمّ... إذا ما كان قد قطع مسافات كبيرة العام الماضي، بينما كان ما يزال نحيلاً، فبالأحرى يستطيع الآن ذلك.» يقول فليبّس.
«أنا، أظنّ أنّ ذلك كان لتحاشي حضوره بعض الأمور المنفِّرة...» يقول متّى.
«أو لوقايته مِن بعض الصدامات...» يُتمتم تدّاوس الذي بحقّ لا يتحمّل الاسخريوطيّ.
«قد تكونان كلاكما محقَّين.» يقول بطرس.
«ولكن لا! عليه فِعل ذلك ليُتمّ بلوغ الصلابة! سترون أنّه سيكون معنا في العام القادم.» يؤكّد توما.
«العام القادم! هل سيكون المعلّم ما يزال معنا، العام القادم؟» يَسأَل برتلماوس مشغول البال. «خُطَبه تبدو لي... إيحائية جدّاً...»
«لا تتكلّم في هذا!» يتوسّل الآخرون.
«لم أكن أودُّ الكلام فيه، ولكنّ الإحجام عن ذلك لا يُبعِد ما هو مكتوب.»
«حسناً... حجّة إضافية لنا لنصبح أفضل في هذه الأشهر... كي لا نُسبّب له الآلام ونكون على أهبة الاستعداد. أريد أن أخبره أنّنا الآن سوف نأخذ قسطاً مِن الراحة في الجليل، فيعلّمنا الكثير، الكثير، الكثير، خاصّة نحن، الاثنا عشر... سنكون هناك قريباً...»
«نعم، وإنّي أنتظر بفارغ الصبر لأن أكون هناك. فأنا مُسنّ، وهذه المسيرات، في هذه الحرارة تسبّب لي الكثير مِن المعاناة الخفيّة.» يبوح برتلماوس.
«ولي كذلك. كنتُ خَليعاً، وأنا عجوز أكثر ممّا يُحسَب بعدد السنين. الخلاعات... إذاً! أشعر بها الآن كلّها في عظامي... وثمّ نحن، أبناء لاوي، نعاني مِن الآلام، حقّاً بالطبيعة...»
«وأنا، كنتُ مريضاً لسنوات...وتلك الحياة في الكهوف، مع طعام قليل وبائس. كلّ هذا يؤثّر...» يقول الغيور.
«ولكن أما قلتَ مراراً إنّكَ مُذ شُفيتَ، كنتَ تشعر على الدوام أنّكَ قويّ؟» يَسأَل مِن خلفه يهوذا الذي لحق بهم. «لعلّ تأثير المعجزة قد انتهى بالنسبة لكَ؟»
عُبوس مميّز على وجه الغيور الدميم والمعبّر. يبدو وكأنّه يقول: «إنّه هنا! يا ربّي، أعطني الصبر!» ولكنّه يجيب بمنتهى الأدب: «لا. تأثير المعجزة لم ينتهِ. وهذا جليّ. لم أعد مريضاً، أنا قويّ وصلب. ولكنّ السنين هي السنين، والمشقّات هي المشقّات. وهذه الحرارة التي تجعل العرق يتصبّب منّا كما لوكنّا وقعنا في هوّة، وثمّ هذه الليالي، أقول المثلجة، مقارنة مع حرارة النهار، والتي تجعل العرق يتجلّد علينا، بينما يرطّب الندى الثياب المبلّلة بالعرق، فكلّ هذا حتماً لا يفيدني. وأتوق إلى الراحة لأهتمّ بنفسي قليلاً. في الصباح، خاصّة إذا ما كان النوم في العراء، أكون في ذروة الألم. وإذا ما أصبحتُ مريضاً بالكامل، فبأيّ شيء يمكنني أن أكون نافعاً؟»
«في الألم. فهو يقول إنّ الألم يعادل العمل والصلاة.» يُجيبه أندراوس.
«هذا حسن، ولكنّني أُفضّل أن أخدمه رسوليّاً و...»
«وتَعِب، أنتَ كذلك. اعترف بهذا. أنتَ تَعِب مِن الاستمرار في هذه الحياة دون الأمل بساعات ممتعة، إنّما على العكس مع توقّع الاضطهادات و... الانكسارات. تبدأ بالتفكير بأنّكَ تُخاطِر في أن تصبح الـمُبعَد.» يقول يهوذا الاسخريوطيّ.
«أنا لا أفكّر في شيء. أقول إنّني أشعر بأنّي سأصبح مريضاً.»
«آه! كما حين شفاكَ مرّة!...» ويضحك يهوذا ساخراً.
يحسّ برتلماوس بقرب شجار آخر فيتداركه منادياً يسوع. «يا معلّم! أما مِن شيء لنا؟ أنتَ دائماً في المقدّمة!...»
«أنتَ على حقّ، يا برتلماوس. ولكنّنا على وشك أن نتوقّف. هل ترى هذا البيت الصغير؟ هيّا بنا، فالشمس حادّة جدّاً. وفي المساء نعاود المسير. يجب الإسراع في العودة إلى أورشليم، فالعنصرة قريبة.»
«عن أيّ شيء كنتم تتحدّثون فيما بينكم؟» يَسأَل يوضاس تدّاوس أخاه.
«ولكن تصوّر! كنّا قد بدأنا الحديث عن يوسف الذي مِن الرّامة ووصلنا إلى الحديث عن ملكيّة يواكيم القديمة في الناصرة وعادته، قَدر ما كان ذلك ممكناً له، بالاحتفاظ بنصف المحصول وإعطاء الباقي للفقراء، وهذا ما يتذكّره قدماء الناصرة جيّداً. كم مِن الحرمانات للبارّين حنّة ويواكيم! حتماً، نالا معجزة الفتاة، تلك الفتاة!... ومع يسوع، كنتُ أستحضر سنوات الطفولة...» ويستمرّ الحِوار بينما يقتربون مِن البيت وسط الحقول المشمسة.