ج5 - ف36
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الخامس/ القسم الأول
36- (مِن كفرناحوم إلى الناصرة مع منّان والنساء التلميذات)
02 / 12 / 1945
عندما وَطَأَت أقدامهم ساحل كفرناحوم الصغير، تستقبلهم هتافات الأولاد الذين يُنافِسون طيور السنونو المنهمكة في بناء أعشاش جديدة، وهي تُسرِع في جريها، وأصواتها الحادّة تُزقزِق، بين الشاطئ والبيوت، فَرِحِين فرح الأطفال البسيط، فبالنسبة إليهم، مشهد رائع هو، وأمر عجيب وجود سمكة ميتة على الضفة، أو حصاة صغيرة صَقَلَتها الموجة، وتبدو بلونها وكأنّها حجر ثمين، أو زهرة مكتشَفة بين صخرتين، أو زيز بألوان متغيّرة يُقبَض عليه أثناء الطيران. كلّ الخوارق التي جُعِلَت الأُمّهات تراها لِتُشارك الأولاد فرحهم.
أمّا الآن فقد رأت تلك السنونو البشريّة يسوع وحَوَّلت طيرانها كلّه إليه وهو يحاول أن يطأ الشاطئ بقدمه. إنّه سيل دافئ حي مِن الأجساد الطفوليّة، سِلسلة ناعمة مِن الأيدي الغضة، إنّه حبّ قلوب الأطفال الذي يتهاوى على يسوع، يحاصره، يقيّده ويدفئه مثل نار لطيفة.
«أنا! أنا!»
«قُبلة!»
«لي أنا!»
«وأنا أيضاً!»
«يا يسوع! أنا أحبّكَ كثيراً!»
«لا تُطِل رحيلكَ!»
«كنتُ آتي كلّ يوم لأرى إذا ما كنتَ قد وصلتَ.»
«أنا كنتُ أذهب إلى بيتكَ.»
«خُذ هذه الزهرة، إنّها لأُمّي، ولكنّني أعطيكَ إيّاها.»
«قُبلة أخرى لي، جميلة وقويّة. فالأولى لم تلمسني لأن ياعيل قد دفعتني...» وتصدح الأصوات الناعمة بينما يُحاول يسوع التنقّل في هذه الشَّبَكة مِن المودّة.
«ولكن دعوه وشأنه قليلاً! هيّا! يكفي!» يصيح التلاميذ والرُّسُل وهُم يُحاولون فكّ الحصار. نعم! يبدون كمتسلّقات مُزوَّدة بمحاجِم! عندما يتمّ فكّهم مِن ركن يرتبطون مِن الآخر.
«دعوهم، دعوهم! بالصبر يمكن التوصّل إلى بُغيتنا.» يقول يسوع مبتسماً وهو يخطو خطوات مِن الصّغر بشكل يفوق التصوّر، ليتمكّن مِن التقدّم دون أن يطأ الأقدام العارية.
ولكنّ الذي يُنقِذه مِن هذا الحصار الودود، هو وصول مَنَاين مع تلاميذ آخرين، منهم الرُّعاة الذين كانوا في اليهوديّة.
«السلام لكَ يا معلّم!» يقول مَنَاين بصوت مدوٍّ وهو يلبس ثوبه الفاخر. لم يَعُد يضع الذهب على جبهته وفي أصابعه، إنّما يُعلِّق على جنبه السيف الرائع الذي يَفرِض إعجاب الأولاد واحترامهم، وهُم الذين تباعدوا هَلِعِين أمام ذلك الفارس الرائع اللّابس الأرجوان، والمتسلّح بالسلاح الفاخر. وهكذا يتمكّن يسوع مِن تقبيله وتقبيل إيلي ولاوي ومتّياس ويوسف ويوحنّا وسمعان ولستُ أدري كَم مِن الآخرين.
«لماذا أنتَ هنا؟ وكيف عَلِمتَ أنّني وصلتُ؟»
«لقد علمتُ ذلك مِن هتافات الأولاد. لقد اختَرَقَت الجدران كالسهام التي تحمل الفرح. ولكنّني أتيتُ إلى هنا لاعتقادي بأنّ قدومكَ إلى اليهوديّة وشيك، وأنّ ما هو أكيد أن ستكون النساء معكَ... وأردتُ أن أكون أنا أيضاً... لأحميكَ، يا سيّدي، إذا لم يكن التفكير بذلك يحمل الكثير مِن الكبرياء. فهناك الكثير مِن الغليان ضدّكَ في إسرائيل. مؤلم هو قول ذلك، ولكنّكَ لا تجهله.» وأثناء قولهم هذا يَصِلون إلى البيت ويَلِجونه.
بعد أن يُقدِّم ربّ البيت وزوجته شعائر الاحترام للمعلّم، يتابع مَنَاين حديثه. «فالغليان الآن والاهتمام الذي أثَرْتَه اجتاح الأمكنة كلّها، فقد هزّ ولَفَتَ انتباه حتّى الأكثر صمماً والغافلين عنكَ بأمور كثيرة مختلفة عنكَ. فأخبار ما تَصنَعه قد اختَرَقَت حتّى أسوار مكرونة الكريهة، وملاذات هيرودس الخلاعيّة، إن يكن قصر طبريّا أو قصور هيروديّا أو القصر الملكيّ الباهر. إنّها تجتاز كأمواج النور والسُّلطان حواجز الظلام والوضاعة، وتُقوِّض أكوام الخطايا التي تُغلِّف كالخندق أو المخبأ أنواع الحبّ المزيّف في البلاط والجرائم الفظيعة، إنّها تنطلق كَسِهام مِن نار لتكتُب كلمات مُهدِّدة أكثر من تلك التي خُطّت خلال حفل بلشصّر على الأسوار المنجَّسة للمضاجِع وقاعات العرش والولائم (انظر دانيال 5 : 5 - 9). إنّها تهتف باسمكَ وقدرتكَ، بطبيعتكَ ورسالتكَ. هيرودس يرتجف هلعاً، هيروديّا تعضّ نفسها على سريرها مخافة أن تكون الـمَلِك المنتَقِم الذي ينتزع منها ثرواتها وحصانتها، هذا إن لم يكن حتّى حياتها، وذلك برميها تحت رحمة الجموع التي ستنتقم مِن جرائمها الكثيرة. في البلاط يرتجفون، وذلك بسببكَ.
الارتجاف مِن الخوف البشريّ هو ومِن الخوف فائق البشر. منذ أن هوى رأس يوحنّا، يبدو أنّ ناراً تَحرق أحشاء قاتِليه. فلم يَعُد لهم حتّى سلامهم البائس الذي كان لهم في السابق، سلام خنازير أُشبِعت مِن القصوف، التي تخنق تأنيب ضمائرهم في السُّكر والفجور. ضمائرهم تلك التي لم يعد شيء يُعيد لها السكينة... إنّهم يتعذّبون... ويَمقتون بعضهم بعد ساعات الفسق والفجور، يتقزّزون الواحد مِن الآخر، يتبادلون الاتّهامات بِذَنب الجريمة التي تُكدِّرهم، جريمة تجاوزت كلّ المقاييس. بينما سالومة، وكأنّ شيطاناً استحوَذَ عليها، مُحوِّلاً إيّاها إلى فريسة لشبق جنسيّ يَهوي بها إلى العبوديّة. فَمِن القصر الملكيّ تفوح نتانة تفوق نتانة المجارير.
لقد سألني هيرودس عنكَ مرّات عديدة. وفي كلّ مرة أُجيب: "بالنسبة إليَّ، هو مَسيّا، مَلِك إسرائيل، مِن الذريّة الملكيّة الوحيدة: ذريّة داود. إنّه ابن الإنسان الذي أَخبَرَ عنه الأنبياء، إنّه كلمة الله، الذي، مع كونه المسيح، مسيح الله، له الحقّ أن يَملِك على كلّ الأحياء". وهيرودس يَشحَب مِن الخوف ظانّاً أنّكَ الـمُنتَقِم. ويكبت خوفه، صرخة ضميره الذي يمزّقه التأنيب، -ذلك أنّ الحاشية، لمواساته، يقولون له إنّكَ يوحنّا الذي حَصَلَ خطأ في الظنّ أنّه قد مات، ومع ذلك يجعلونه يَغشى مِن الرعب، أو إيليّا، أو أحد الأنبياء، من الزمن الماضي- قائلاً: "لا، لا يمكن أن يكون يوحنّا! فلقد قطعتُ رأسه، وهيروديّا ما تزال تحتفظ برأسه في مكان أمين. ولا يمكن أن يكون أحد الأنبياء، لأنّ الميت لا يقوم. إنّما كذلك لا يمكن أن يكون المسيح. مَن يقول ذلك؟ مَن يقول إنّه هو؟ مَن يجرؤ أن يقول لي إنّه الـمَلِك مِن الذريّة الملكيّة الوحيدة؟ أنا الـمَلِك! وما مِن أحد غيري. مَسيّا قتله هيرودس الأكبر. منذ مولده غَرِق في بحر مِن الدم. لقد ذُبِحَ كحَمَل... وكان لا يتجاوز عمره بضعة أشهر... هل تسمع بكاءه؟ ثغاءه لا يزال يطنّ في أذني في الوقت ذاته مع زمجرة يوحنّا: ”لا يحقّ لكَ‘‘... لا يحقّ لي؟! بلى، كلّ شيء يحقّ لي، فأنا ’الـمَلِك‘. فهنا الخمر والنساء، إن رَفَضَت هيروديّا عِناقي، وقالت لسالومة أن ترقص لتوقِظ فيَّ المشاعر التي أَرعَبَتها رواياتكَ المفزعة".
ويَسكَر وسط ممثّلات البلاط الإيمائيّات، بينما امرأته المجنونة تصيح في مخدعه وتُطلِق الشتائم ضدّ الشهيد والتهديدات ضدّكَ. في هذه الأثناء، تَختَبِر سالومة ما تعنيه الولادة مِن الخطيئة مِن فاسقين، والمشاركة في جريمة حَصَلَت بتسليم جسدها لأوهام خلاعيّة لامرئ مُقزِّز. إنّما بعد ذلك يعود هيرودس إلى رشده، ويريد أن يستعلم عنكَ، وشاء أن يراكَ. ومِن أجل ذلك يُحبّذ مجيئي إليكَ على أمل أن أصطحبكَ إليه. وهذا أمر لا يمكنني فعله على الإطلاق، أن أصطحب قداستكَ إلى وكر حيوانات نجسة. هيروديّا تشاء الحصول عليكَ لتضربكَ، وهي تصيح والخنجر في يدها... وكذلك سالومة تودّ الحصول عليكَ وقد رأتكَ دون عِلم منكَ في طبريّا، في شهر إيتانيم (سبتمبر-اكتوبر) المنصرم، وقد أَثَرتَ فيها الجنون…
ذاك هو القصر الملكيّ، يا معلّم! ولكنّني باقٍ فيه لأراقب هكذا نواياهم تجاهكَ.»
«إنّني ممتنّ لكَ، والعليّ يباركك لذلك. فهذا أيضاً يُعَدّ خدمة لقرارات الأزليّ.»
«لقد خطر هذا على بالي، ولذلك أتيتُ.»
«مَنَاين، بما أنّكَ أتيتَ، أَطلُب منكَ أمراً، وبإلحاح. انزل إلى أورشليم، ليس معي، بل مع النساء. أمّا أنا، فسأذهب مع رُسُلي إلى هناك عَبْر طريق مجهولة ولن يستطيعوا أن يمسّوني بسوء. أمّا هنّ، فنساء ودون حماية، والذي يرافقهنّ نَفْسه وَديعة، وقد تَعلَّم أن يُقدِّم خدَّه لِمَن لطمه سابقاً. وجودكَ سيكون حماية أكيدة. أُدرك، ولكنّنا سوف نكون معاً في اليهوديّة. فلا ترفض طلبي أيّها الصديق.»
«ربّي، كلّ رغبة لكَ هي شريعة بالنسبة إلى خادمكَ. وأنا في خدمة أُمّكَ والنساء التلميذات اللواتي يرافقنها منذ هذه اللحظة وبقدر ما تشاء.»
«شكراً لكَ. هذه الطاعة كذلك ستُكتَب لكَ في السماء. أمّا الآن، وريثما تَصِل الـمَراكِب لنا جميعاً، فلنُكرِّس الوقت لشفاء المرضى الذين ينتظرونني.»
يَنـزل يسوع إلى الحديقة حيث المحفّات أو ذوي العاهات، ويشفيهم بسرعة، وهو يتلقّى التكريم مِن يائيروس وأصدقاء كفرناحوم قليلي العدد.
بين النساء، توجد بورفيرا وسالومة بالإضافة إلى امرأة برتلماوس المسنّة، وتلك الأصغر سنّاً منها امرأة فليبّس مع بناتها الشابّات. يهتممن بمعيشة الجماعة كثيري العدد الواجب إشباعهم بسلال السمك التي قُدِّمت لهم في بيت صيدا وكفرناحوم. عمليّة تنظيف كبيرة لسمك فضّي ما يزال يَختَلِج، عمليّة غسل كبيرة للسمك في القُدور، أصوات أزيز على المشواة في المطبخ، بينما مارغزيام يؤجِّج النار، مع تلاميذ آخرين، ويَجلبون الماء لمساعدة النساء.
أَصبَحَ الطعام جاهزاً بسرعة، ويتمّ التهامه بسرعة. وبما أنّ الـمَراكِب قد تجمّعت الآن لتنقل كلّ هذا الشعب، لم يبق سوى الإبحار إلى مجدلا على بحيرة فتّانة، بقدر ما هي صافية وملائكيّة، وكأنّها فصّ زمرّد في خاتم ضفافها.
حدائق وبيت مريم المجدليّة تُفتَح لتستضيف المعلّم وتلاميذه، الواصلين تحت شمس الظهيرة، ومجدلا كلّها تتوافد لتُلقِي التحيّة على الرابّي الذي يمضي إلى أورشليم.
وتَسمَع المنحدرات المنعشة للروابي الجليليّة المشية السريعة والفَرِحة للجماعة المؤمنة، تتبعها عربة مريحة حيث توجد يُوَنّا مع بورفيرا وسالومة وزوجة برتلماوس وتلك التي لفليبّس مع بناتها، بالإضافة إلى ماريّا ومتّياس بابتسامتهما العريضة، وقد أَصبَحَ مِن الصعب التعرّف عليهما للتبدّل الذي طرأ عليهما خلال الأشهر الخمسة.
يسير مارغزيام بهمّة مع الكبار، وحتّى مع الجماعة الرَّسوليّة بالضبط، حسب مشيئة يسوع، بين بطرس ويوحنّا، ولا تُفلِت منه كلمة ممّا يقوله يسوع.
وتَسطَع الشمس في سماء صافية للغاية، وَهَبّات مِن النسيم الدافئ تحمل روائح الغابة مِن نعناع وبنفسج وزهور متفتّحة، إضافة إلى أريج زهور الأشجار المثمرة التي تَنثر في كلّ مكان ثلجاً مِن البَتلات على العشب الأخضر. وقد سَقَطَ منها على كلّ الرؤوس أثناء المسير وسط زقزقة للعصافير متواصلة، وسط الأنغام الفتّانة للنداءات المتقطّعة بين الأدغال بين الذكور المقدامة والإناث المحتشمة، بينما ترعى النعاج، وقد ازداد حجمها بسبب أمومتها، والحِملان الأوائل تطرق أفواهها الورديّة بالضروع المتكوّرة ليزيد إفراز الحليب، أو تَثِب في المروج الـمُعشِبة كالأطفال السعداء.
بما أنّ الناصرة تأتي بسرعة بعد قانا، حيث تنضمّ سُوسَنّة إلى النساء الأخريات، حاملة معها ما أَنتَجَته أرضها في سِلال وأوعية، وغُصناً كاملاً مِن الزهور الحمراء والبراعم التي هي على وشك التفتّح، «لِتُقدّمها إلى مريم» حسب قولها.
«أنا أيضاً، أترين؟» تقول يُوَنّا، وهي تفتح علبة صُفَّت فيها زهور كثيرة في طُحلب رطب: «إنّها الأولى والأجمل، وهي دوماً لا شيء بالنسبة لها، هي المحبوبة جدّاً!»
أرى أنّ كل امرأة قد حَمَلَت معها، إضافة إلى زوّادة الرحلة الفصحيّة، وردة أو شتلة لحديقة مريم، وتعتذر بورفيرا لأنّها لم تجلب معها سِوى أصيص كافور رائع بأوراقه الخضراء الصغيرة التي يفوح منها عطرها بمجرد لمسها. وتقول: « لقد كانت مريم ترغب في هذه النبتة البلسميّة...» والجميع يمدحونها ويُشيدون بجمال الشُّجيرة. «آه! لقد اعتنيتُ بها الشتاء كله، واحتفظتُ بها في غرفتي بعيداً عن الصقيع والبَرَد. وقد كان مارغزيام يساعدني في إخراجها إلى الشمس كلّ صباح وإدخالها مِن جديد كلّ مساء... وهذا الولد الحبيب، لو لم يكن الـمَركَب والآن العربة، لكان حَمَلَها على كتفيه ليجلبها إلى مريم، ليرضيها ويرضيني كذلك.» هكذا تتكلّم المرأة المتواضعة التي تتجرّأ باطّراد بسبب طيبة يُوَنّا، ولم تعد الدنيا تَسَعها مِن الفرح بسبب رحلتها إلى أورشليم، ومع المعلّم ورَجُلها ومارغزيام.
«ألم تذهبي إليها قط؟»
طالما كان أبي حيّاً، كنتُ أذهب كلّ عام. إنّما فيما بعد ذلك... لم تذهب أُمّي قطّ.. كان أخوتي سيأخذونني، ولكنّني كنتُ أَخدم أُمّي، ولم تكن تدعني أذهب. ثمّ بعد ذلك تزوَّجتُ مِن سمعان... ولم تعد صحّتي على ما يرام. وكان على سمعان أن يبقى زمناً طويلاً في السفر، وهذا ما كان يضيرها... كذلك كنتُ أمكُث في البيت أنتظره... كان الربّ يرى رغبتي... وكان ذلك بمثابة تقدمتي للذبيحة في الهيكل...» تقول المرأة الوديعة.
ويُوَنّا، جارتها، تضع يدها على ضفائرها الرائعة قائلة لها: «عزيزتي!» وفي هذه الصفة الكثير مِن الحبّ، الكثير مِن التفهّم، والكثير مِن المعاني.
ها هي الناصرة... ها هو بيت مريم التي لحلفى التي تُعانِق أبناءها، وبيديها المبلّلتين، وقد جعلهما الغسيل حمراوين، تلاطفهم، ثمّ تمسحهما بصدريتها وتهرع إلى يسوع لتعانقه... ثمّ ها هو بيت حلفى الذي لسارة، وهو يَسبق بيت مريم مباشرة. وحلفى هذا يأمر أكبر أحفاده إعلام مريم، وفي هذه الأثناء يَسير بِخُطى واسعة صوب يسوع، مع كومة مِن الأحفاد على ساعديه، ويحيّيه مع هذا الرهط الذي يتزاحم على ذراعيه، ويُقدِّم له باقة مِن الزهور. وها هي ذي مريم تَظهَر على عَتَبَة الباب، تحت الشمس، بثوب البيت الأزرق الفاتح الباهت قليلاً، ويتلألأ ذهب شعرها على جبهتها قبل أن ينسدل ضفائر ثقيلة على قفا العنق. وترتمي على صدر ابنها الذي يعانقها بكلّ حبّه.
يَقِف الآخرون بحذر ليتركوا لهم حريّة اللقاء الأوّل. ولكنّها تُفلِت مباشرة وتلتفت بوجهها الذي لم تغيّره السنون، وهو الآن متورّد بفعل المفاجأة، ويشعّ بابتسامتها، وتحيّي بصوتها الملائكيّ: «السلام لكم يا خُدّام الربّ وتلاميذ ابني. السلام لكنّ، أيّتها الأخوات في الربّ» وتُبادِل اللواتي هبطن مِن العربة قُبلة أخويّة.
«آه! مارغزيام! لم يعد بإمكاني الآن أن أضمّكَ بين ذراعيّ! فالآن أنتَ رجل. ولكن تعال إلى أُمّ كلّ الصالحين، لأقبّلكَ أيضاً. عزيزي! فليبارككَ الله ويُنمِّكَ في طُرُقه، قويّاً كما ينمو جسدكَ الشاب، بل وأكثر أيضاً. بُنيّ، علينا أن نأخذه إلى جدّه. سيكون في منتهى السعادة أن يراه هكذا.» تقول بعدئذ ملتفتة إلى يسوع.
ثمّ تُعانِق يعقوب ويوضاس ابنيّ حلفى، وتزفّ إليهما الخبر الذي يفرحهما بالتأكيد: «هذا العام سيأتي معي سمعان كتلميذ للمعلّم. هذا ما قاله لي.»
وتُصافِح الأكثر شهرة والأكثر تأثيراً، الواحد تلو الآخر، ومع المصافحة كلمة شكر. هذا وقد قُدِّم لها مَنَاين كمتقدّم المرافقين في رحلتها إلى أورشليم.
«ألا تأتي معنا، يا بنيّ؟»
«لديَّ أماكن أخرى أُبشِّر فيها، يا أُمّي. سوف نلتقي في بيت عنيا.»
«لتكن مشيئتكَ الآن ودائماً. شكراً مَنَاين. أنتَ: الملاك البشريّ، مع حُرّاسنا: ملائكة السماء؛ سنكون في أمان كما لو كُنّا في قُدس الأقداس.» وتمدّ يدها إلى مَنَاين إشارة إلى الصداقة. والفارس الذي ترعرَعَ في العزّ والأبّهة، يجثو ليُقبِّل اليد التي مَدَّتها له.
في هذه الأثناء، تمّ إنزال الورود وكلّ ما ينبغي أن يبقى في الناصرة. ثمّ تمضي العربة إلى اسطبل في البلدة.
يبدو البيت الصغير كمزرعة ورود بسبب الورود التي نشرتها النساء التلميذات في كلّ مكان. ولكنّ نبتة بورفيرا، التي وَضَعَتها على الطاولة تُثير إعجاب مريم، ممّا يجعلها تنقلها إلى مكان ملائم بحسب إرشادات زوجة بطرس. بالطبع لا يمكن للجميع الدخول إلى البيت الصغير، ولا إلى الحديقة التي ليست هي بالمسكن، ولكنّها تبدو مرتقية صوب السماء الصافية، لتسبح في الأجواء، لكثرة الزهور على أشجار الحديقة. ويَسأَل يوضاس بن حلفى مريم مبتسماً: «هل قطفتِ اليوم أيضاً الغُصن الصغير لمزهريتكِ؟»
«بالطبع يا يوضاس. وعندما أتيتَ كنتُ أتأمّله...»
«وكنتِ، يا أُمّي، غارقة في التفكير في سرّكِ البعيد» يقول يسوع وهو يأخذها في ذراعه اليسرى ليشدّها إلى صدره.
ترفع مريم وجهها المحمرّ وتتنهّد: «نعم يا بنيّ... وكنتُ أُفكِّر بأوّل خفقة مِن قلبكَ في أحشائي...»
يقول يسوع: «فليبقَ الأخوات التلميذات والرُّسُل ومارغزيام والرُّعاة التلاميذ والكاهن يوحنّا واستفانوس وهَرْماس ومَنَاين. أمّا الباقون فلينصرفوا وليبحثوا عن مأوى...»
«بإمكاني إيواء عدد منهم في بيتي...» يهتف سمعان بن حلفى، مِن على عَتَبَة بيته حيث يقف «فأنا شريكهم بالتلمذة وأُطالِب بهم.»
«آه! يا أخي، هَلُمَّ لأعانقكَ.» يقول يسوع بِفَرَح، بينما حلفى بن سارة، وإسماعيل وأَشِير، تلميذا الناصرة صاحبا الحمير سابقاً، يقولون بدورهم: «عندنا. تعالوا، تعالوا!»
يَمضي التلاميذ الذين لم يتمّ اختيارهم، ويُغلَق الباب... لِيُفتَح مِن جديد مباشرة بعد ذلك، لمجيء مريم التي لحلفى التي لم تستطع البقاء بعيداً، حتّى وإن كانت منشغلة بالغسيل. يوجد حوالي الأربعين شخصاً، ينتشرون في الحديقة الدافئة والساكنة، إلى أن يوزَّع الطعام الذي يَجِد الجميع فيه طعماً سماويّاً لمتعة التهامه في بيت الربّ، وقد وزَّعَته مريم.
يَعود سمعان بعد أن يستقرّ التلاميذ في أماكنهم ويقول: «لم تَدْعُني كالآخرين، ولكنّني بالرغم مِن ذلك أنا أخوك وسأبقى.»
«لقد جئتَ في حينكَ، يا سمعان. لقد أردتُكَ هنا لأعرّفك على مريم. كثيرون منكم تعرفون مريم "كأُمّ" والبعض "كزوجة". ولكنّ أحداً لا يعرف مريم "كعذراء". أنا أريد أن أكشف لكم ذلك في هذه الحديقة الـمُزهِرة، حيث يأتي قلبكم مفعماً رغبة وهو يفارق مرغماً، وكذلك كما ليرتاح مِن أتعاب الرسالة.
لقد سمعتُكم تتكلّمون، أنتم الرُّسُل والتلاميذ والأهل، ولاحظتُ انطباعاتكم، ذكرياتكم وأحكامكم على أُمّي. أريد أن أُبدّل لكم كلّ هذا، الذي رغم كونه محبّباً جدّاً، ولكنّه كذلك بشريّ جدّاً، بمعرفة فائقة الطبيعة. ذلك أنّ أُمّي، قبلي أنا، يجب أن تتبدّل صورتها في عيون الذين يستحقّون ذلك بالأكثر، ليُظهِروها على حقيقتها. أنتم تَرَون فيها المرأة. المرأة التي، بقداستها، تبدو لكم مختلفة عن الآخرين، ولكنّكم ترونها في الحقيقة نَفْساً يغلّفها الجسد، كما هي الحال في جميع النساء أخواتها. ولكنّني الآن، أريد أن أكشف النقاب عن نَفْس أُمّي، بهائها الحقيقيّ والأزليّ.
تعالي هنا، يا أُمّي. لا تصطبغي بالحمرة ولا تنسحبي خائفة، يا يمامة الله اللذيذة. ابنكِ هو كلمة الله، ويمكنه التحدّث عنكِ وعن سرّكِ، عن أسراركِ، يا سرّ الله السَّنيّ. فلنجلس هنا، في ظلّ الأشجار الـمُزهِرة، قرب البيت، قرب مسكنكِ المقدّس. هكذا! ولنُزِل هذه الستارة المتماوجة، ولِتَخرُج موجات القداسة والفردوس مِن هذا المسكن البتوليّ، لتشبعنا جميعاً منكِ... نعم، أنا أيضاً. فلأتعطّر بكِ، أيّتها العذراء الكاملة، كي أتمكّن مِن تحمُّل نتانات العالم، لأتمكّن مِن رؤية الطهارة بعينيّ المشبعة مِن طهركِ. هنا، مارغزيام، يوحنّا، استفانوس، وأنتنّ أيّتها الأخوات التلميذات، في قبالة الباب المفتوح على المسكن العفيف للعفيفة بين كلّ النساء. وفي الخلف، أنتم، يا أصدقائي. وهنا إلى جانبي، أنتِ، يا أُمّي الحبيبة.
لقد كلّمتُكم، منذ بعض الوقت، عن: "بهاء نَفْس والدتي الأزليّ". أنا الكلمة، وبالتالي أعرف استخدام الكلمات دون خطأ. قُلتُ: الأزليّ، وليس الخالد. ولم أقل ذلك بغير قصد. فالخالد هو الذي، بعد أن يُولَد، لا يعود يُدرِكه الموت. هكذا هي نفوس الصدّيقين خالدة في السماء، ونفوس الخطأة خالدة في جهنم، لأنّ النَّفْس، ما أن تُخلَق، لا تعود تموت إلّا عن النّعمة. ولكنّ النَّفْس تحيا، يُصبِح لها وجود منذ اللحظة التي يُفكِّر بها الله. فَفِكر الله هو الذي يَخلُقها. والله يُفكِّر بِنَفْس أُمّي منذ الأزل. وبالتالي فهي أزليّة في بهائها، وقد سَكَبَ الله فيها كلّ الكمال ليجني منها البهجة والتعزية.
قيل في سفر جدّنا سليمان الذي سبق فرآكِ، والذي هو بالتالي نبيّكِ: "الربّ حازني في أوّل طريقه قبل ما عَمِلَه منذ البدء. مِن الأزل مُسحْتُ مِن الأوّل، مِن قبل أن كانت الأرض. وُلدْتُ حين لم تكن الغمار والينابيع الغزيرة المياه. قبل أن أُقِرَّت الجبال وقبل التلال وُلِدْتُ. إذ كان لم يصنع الأرض بعد، ولا ما في خارجها ولا مبدأ أتربة المسكونة. حين هيّأ السماوات كنتُ هناك، وحين رَسَمَ حدّاً حول وجه الغمر. حين ثبَّتَ الغيوم في العلاء وقرّر ينابيع الغَمر. حين وَضَعَ للبحر رسمه فالمياه لا تتعدّى أمره، وحين رسم أُسس الأرض. وكنتُ عنده مهندساً، وكنتُ في نعيم يوماً فيوماً ألعب أمامه في كلّ حين. ألعب في مسكونة أرضه."
نعم، أيّتها الأُمّ، الله، اللامحدود، العظيم، البتول، الذي لم يُخلَق، كان مُثقَلاً بكِ، وكان يحملكِ كَحِمله الأكثر عذوبة، ويبتهج لإحساسه تهتزّين فيه، مُقدِّمة إليه الابتسامات التي صَنَعَ منها الخليقة! أنتِ التي أنجَبَكِ بألم ليمنحكَ للعالم، نَفْساً لذيذة للغاية، مولودة مِمَّن هو بتول لتكوني "البتول"، كمال الخليقة، نور الفردوس، مشورة الله، بحيث إذا ما نَظَرَ إليكِ يمكنه أن يغفر الخطيئة، ذلك أنّكِ أنتِ وحدكِ، وبذاتكِ، تعرفين أن تحبّي كما لا تستطيع كلّ الإنسانيّة مجتمعة أن تحبّ. ففيكِ مسامحة الله! فيكِ علاج الله، أنتِ يا بلسم الأزليّ على الجرح الذي سبَّبَه الإنسان لله! فيكِ سلام العالم، يا أُمّ الحُبّ المتجسّد والفادي الذي وُهِب! نَفْس أُمّي! المنصهرة في الحبّ مع الآب، كنتُ أنظر إليكِ في داخلي، يا نَفْس أُمّي!... وروعتكِ، وصلاتكِ، والفِكر الذي تقدّمينه لي يخفّف عنّي وطأة مصيري المؤلم، والتجارب اللاإنسانيّة في ما يمثله العالم الفاسد تجاه الله الكلّيّ الكمال. لقد نزلتُ وأنا لا أحسّ إلّا بكِ، عطركِ، نشيدكِ، وحبّكِ... فَرَح، يا فرحي!
ولكن اسمعوا، أنتم يا مَن أصبحتم الآن تعلمون أنّها وحيدة هي المرأة التي لا دَنَس فيها، وحيدة هي الخليقة التي لم تُكلِّف الفادي جراحاً، اسمعوا الصورة الثانية لمريم، مختارة الله.
كان عصر أحد أيّام آذار (مارس) الصافي، وكانت الأشجار مُزهِرة في الحديقة الصامتة. وكانت مريم عروسة يوسف قد قَطَفَت غصن شجرة مُزهِراً لتستبدل به الذي كان في غرفتها. وكانت مريم قد عادت منذ وقت قريب إلى الناصرة، حيث كانت منشغلة في الهيكل في تزيين بيت الأقداس. وقد كانت نَفْسها موزّعة بين الهيكل والبيت والسماء. وكانت هي تُفكِّر، وهي تَنظُر إلى هذا الغصن، أنّه بواسطة غصن مماثل كان قد أَزهَرَ بطريقة غير مألوفة، غُصن قُطِع مِن هذه الحديقة في ملء الشتاء، وكان قد أَزهَرَ كما في ملء الربيع أمام تابوت عهد الربّ -قد يكون "الله-الشمس" قد بَثَّ فيه الحرارة بإشعاعه فيه مجده- قد أفصَحَ لها الله عن إرادته... وكانت تُفكِّر أيضاً أنّ في يوم عرسها كان يوسف قد جَلَبَ لها أزهاراً أُخرى، ولكنّها أبداً لم تكن تُشبِه الأولى التي كان قد كُتِبَ على بتلاتها الخفيفة: "أريدكِ أن تقترني بيوسف"... كانت تُفكِّر في أمور كثيرة... وأثناء التفكير كانت تسمو إلى الله. وكانت يداها رشيقتين جدّاً بين المغزل والمردن، وكانت تغزل خيطاً أدق مِن إحدى شعراتها…
كانت النَّفْس تَنسج سجّادة حبّ وهي تمضي رشيقة كالمكوك على النول، مِن الأرض إلى السماء، مِن احتياجات البيت وزوجها إلى احتياجات النَّفْس والله. وكانت تُنشِد وتُصلّي. وكانت السجّادة تتشكّل على النول الروحانيّ، وتمتدّ مِن الأرض إلى السماء، تسمو حتّى تغيب في الأعالي... مِمَّ هي مُشكّلة؟ مِن خيوط كاملة وصلبة، مِن فضائلها، مِن الخيط الذي كان يقفز مِن المكوك الذي كانت تحسبه لها، بينما هو كان لله: مكوك مشيئة الله الذي كانت قد لَفَّت عليه مشيئة الصغيرة، عذراء إسرائيل العظيمة، تلك التي كان العالم يجهلها بينما الله كان يعرفها، إرادتها الملتفَّة على مشيئة الربّ، والتي كانت واحدة معها. وكانت تتفتّح في السجّادة زهور الحبّ والطهارة، سعف السلام، سعف المجد، البنفسج والياسمين... كانت الفضائل كلّها تُزهِر على السجادة التي كانت العذراء تمدّها مِن الأرض إلى السماء. وبما أنّ السجّادة لم تكن تكفي، فقد كانت تُطلِق قلبها في نشيد: "فليأت حبيبي إلى بستانه وليأكل مِن ثمار أشجاره... ولينـزل حبيبي إلى حديقته، حديقة العطور، ليَشبَع مِن البساتين، ولكي يَقطف الزنابق. أنا لحبيبي وحبيبي لي، وهو الذي يأكل وسط الزنابق!" ومِن مسافات لا نهاية لها، بين سيول مِن نور، كان يَصِل صوت، لا يمكن أن تَسمَعه أذن بشريّة، كما لا يمكن أن يَصدُر عن حنجرة بشريّة. وكان يقول: "كم أنتِ جميلة يا صديقتي! كم أنتِ جميلة!... شفتاكِ تَقطُر عسلاً... أنتِ حديقة مُسيَّجة، نبع متدفِّق، أيّتها الأخت، عروسي..." ويتَّحِد الصوتان معاً لِيُنشِدا الحقيقة الخالدة: "الحبّ أقوى مِن الموت. لا شيء يمكنه أن يُطفئ أو يَجتاح حُبّنا". وهكذا كانت العذراء تتجلّى... هكذا... هكذا... بينما كان جبريل يَنزِل ويُذكِّرها، باضطرام، بالأرض، يُعيد اتّحاد روحها بجسدها كي تتمكّن مِن سماع وإدراك طَلَب ذاك الذي دعاها "أُختاً" ولكنّه كان يريدها "عروساً".
هنا حَصَلَ السرّ... وامرأة عفيفة، أكثر النساء عفّة، تلك التي لم تعرف حتّى اندفاع غريزة الجسد، تتفتّح أمام ملاك الربّ، لأنّه وإن يكن ملاكاً، فإنّه يَجعل عفّة وتواضع العذراء تَضطَرِب، ولم تَسكُن إلّا حين سماعه يتكلّم، وآمَنَت وقالت الكلمة التي بواسطتها أصبَحَ "حبّهما" جسداً وتغلَّبَ على الموت، وما مِن ماء يمكنه إطفاء وهجه ولا فساد يمكنه أن يطغى عليه...»
ينحني يسوع بهدوء على مريم التي انزَلَقَت حتّى قدميه نشوانة في ذكرى ساعة بعيدة، مُشرِقة بنور خاصّ يبدو أنّه ينبعث مِن نَفْسها، ويَسأَلها بلطف: «ماذا كان جوابكِ أيّتها العذراء الطاهرة لذاك الذي أكَّدَ لكِ أنّكِ بصيرورتكِ أُمّاً لله لن تَفقُدي عذريّتكِ الكاملة؟»
ومريم، وكأنّها في حلم، على مهل، وهي تبتسم، وقد توسَّعَت عيناها بدموع الفرح :«ها أنا ذا أَمَة للربّ! فليكن لي بحسب قولكَ» وتَسند رأسها على ركبتي الابن، وَلهَانة.
يُجلِّلها يسوع بمعطفه، حاجباً إيّاها عن عيون الجميع ويقول: «وهذا ما حَصَل، وما سوف يَحصل حتّى النهاية، في تجلّياتها الأخرى. ستكون على الدوام "خادمة الله". ستفعل على الدوام ما تقوله "الكلمة". أُمّي! هكذا هي أُمّي. وحَسَن أنّكم بدأتم التعرّف إليها في ملء قداسة وجهها... أُمّي! أُمّي! ارفعي وجهكِ، يا حبيبتي... ذَكِّري الأرض التي نحن الآن عليها بمشاعركِ...» يقول ذلك وهو يَكشف الرداء عن مريم بعد فترة لم يُسمَع فيها سوى طنين النحل وخرير مياه الينبوع الصغير.
ترفع مريم وجهها المبلّل بالدموع وتُهمهِم: «لماذا فعلتَ بي هذا، يا بنيّ؟ أسرار الـمَلِك مقدّسة...»
«إنّما يمكن للمَلِك أن يكشف عنها متى شاء. فيا أُمّي، لقد فعلتُ ذلك ليُفهَم كلام النبيّ: "امرأة ستحوي الإنسان في داخلها" وكلام النبيّ الآخر: "ها إنّ العذراء تَحبَل وتَلِد ابناً". وكذلك مِن أجل الذين يَرهَبون أموراً كثيرة في ما يخصّ كلمة الله، وهي مُخزية لهم، لتكون لهم في المقابل أمور أخرى كثيرة تثبّتهم في فرح أن يكونوا خاصّتي. وبهذه الطريقة لا يعودون يتعثّرون، وحتّى بسبب ذلك يبلغون السماء... والآن فليمضِ الذين عليهم أن ينـزلوا في البيوت المضيفة. أنا، أبقى مع النساء ومارغزيام. غداً، فليكن الجميع هنا مِن الفجر، لأنّني أريد أخذكم إلى مكان قريب مِن هنا. ونعود بعد ذلك لإلقاء التحيّة على النساء التلميذات لنعود بعدئذ إلى كفرناحوم بغية جمع تلاميذ آخرين وإرسالهم في الأثر...»