ج2 - ف85

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الثاني / القسم الثاني

 

85- (يسوع في منطقة المياه الحلوة. بدايات حياة الجماعة مع التلاميذ)

 

26 / 02 / 1945

 

لو أردنا مقارنة هذا البيت الريفيّ والمنخفض، بالبيت الذي في بيت عنيا، لكان بالتأكيد حظيرة، كما يقول لعازر. إنّما لو قُورِنَ ببيوت فلّاحي دوراس فهو مَسكَن لا بأس بجماله.

 

إنّه منخَفِض جدّاً وواسع جدّاً، ولقد روعيَت في بنائه الصلابة، فيه مطبخ، أي مَوقِد في غرفة سَوَّدَها الدخان، فيها توجد طاولة وكراسي وجِرار ومصفاة ريفيّة مع أطباق وكؤوس. باب كبير مِن الخشب الخام هو بمثابة المدخل، كذلك هو يسمح للنور بالتسرّب. ثمّ على الجدار ذاته، توجد أبواب ثلاثة أخرى تؤدّي إلى غرف ثلاث كبيرة، طويلة وضيّقة، وقد طُلِيَت جدرانها بالكلس. الأرض، كما في المطبخ، مِن تربة مرصوصة. في اثنين مِن هذه الغرف يوجد الآن مَراقِد. تحسبها غرف منامة جماعيّة صغيرة. الـمَشابِك (العَلَّاقات) الكثيرة المثبّتة في الجدران تشير إلى أنّ العُدد كانت تُعلّق عليها، وكذلك أكياس المحاصيل الزراعيّة. أمّا الآن فهي تستعمل لتعليق المعاطف وكذلك خُرج كلّ منهم. أمّا الغرفة الثالثة (وهي بالأحرى ممرّ أكثر منها غرفة، ذلك أنّ طولها وعرضها غير متناسبين) فهي خالية. يُفتَرَض أنّها كانت تستخدم كمأوى للحيوانات، حيث يوجد فيها مَعلَف وحلقات في الجدار، وتَظهَر جليّاً الثقوب الخاصّة بالأرض التي تضربها الحوافر الـمُنَعَّلة بالحديد. وفي الوقت الحاضر لا شيء فيها.

 

في الخارج، جانب هذه الغرفة الأخيرة، يوجد رِواق ريفيّ كبير، يغطّيه سقف مِن حُزَم مِن الأغصان الـمُرتَكِزة على جذوع أشجار بالكاد رُبّعت. وهو ليس بالرِّواق. بل هو ظُلّة (سقيفة بسطح مائل)، فهي مفتوحة في جوانب ثلاثة منها: اثنين بطول عشرة أمتار، والثالث أضيق، وهو بطول لا يتجاوز الأمتار الخمسة. في الصيف تَبسُط كرمة أغصانها مِن ساق إلى آخر على الجانب الأوسط. أمّا الآن فقد سَقَطَت أوراقها لتَظهَر الأغصان كالهيكل العظميّ. وهناك كذلك تينة عملاقة قد تَعَرَّت بشكل مُشابِه، وهي التي كانت، في الصيف، تُظلّل البِركة التي جُعِلَت وسط الفناء لإرواء الحيوانات. وفي أحد الجوانب بئر بدائيّة، أو بالحرّي حُفرة على مستوى الأرض، بالكاد وُضِعَت عليها علامة، هي عبارة عن دائرة مِن الحجارة المسطّحة البيضاء.

 

هذا هو البيت الذي يأوي إليه يسوع وأتباعه في المكان المسمّى منطقة المياه الحلوة. وكذلك هناك حقول: مُروج وكُروم تُحيط به. وعلى مسافة حوالي ثلاثين متراً (بياناتي ليست دقيقة تماماً)، يَظهَر بيت آخر وسط الحقول، إنّه أجمل، إذ يحوي شُرفة لا يحويها الآخر. وأَبعَد مِن هذا البيت الثاني، غابة صغيرة مِن الزيتون والأشجار الأخرى، وهي عارية جزئيّاً، وبعضها مُورِقة، وهي تحجب الرؤية.

 

يَعمَل بطرس مع أخيه ويوحنّا بجدّ ونشاط في كَنس الفناء والغُرَف وترتيب الـمَراقِد وسحب الماء مِن البئر. أمّا بطرس فإنّه يُحدِث كذلك جَلَبَة حول البئر في محاولة منه لتعديل الأوضاع وتقوية الحِبال لتصبح أكثر عمليّة وأكثر مُلاءَمة لسحب الماء مِن البئر. أمّا أبنا عمّ يسوع فإنّهما، مِن جهتهما، يُعمِلان الـمِطرَقَة والـمِبرَد في إصلاح الـمَغالِق والـمَصارِع، ويساعدهم يعقوب بن زَبْدي مُستَخدِماً المنشار والفأس مثل عامل مَصنع سُفن.

 

في المطبخ، توما مُنشَغِل للغاية، ويبدو كَطَاه محترف، لإتقانه تنظيم النار والشُّعلة وتقشير الخُضار التي أحضَرَها يهوذا مِن البلدة المجاورة، بهمّة ونشاط. أُدرِك أنّها بلدة لا أهميّة كبيرة لها، إذ يَشرَح يهوذا أنّهم يَخبزون الخبز مرّتين في الأسبوع فقط، وأنّ اليوم لا يوجد.

 

يَسمَعه بطرس فيقول: «سنصنع الفطائر على اللَّهَب طالما يُوجَد طحين. بسرعة، انزع ثوبكَ واصنع العجين، وسأهتمّ بعدئذ أنا بِخَبزه. فأنا أعرف أن أتدبّر الأمر.» لا أستطيع تَمالُك نفسي مِن الضحك، لدى رؤيتي الاسخريوطيّ يُرَطِّب الطحين ذارّاً إيّاه بوفرة على نفسه.

 

يسوع غائب، وكذلك سمعان وبرتلماوس ومتّى وفليبّس.

 

«اليوم هو الأكثر صعوبة.» يردّ بطرس على يهوذا الاسخريوطيّ الذي يُدَمدِم. «إنّما غداً فستجري الأمور بشكل أفضل. أمّا في الربيع فسيكون الأمر قد أَصبَحَ جيّداً جدّاً.»

 

«في الربيع؟ ولكن هل سنمكث أبداً هنا؟» يقول يهوذا مَذعوراً.

 

«ولِم لا؟ أوَليس بيتاً؟ فلو هَطَلَ المطر، نكون في مَأمَن. ويوجد فيه ماء صالح للشرب. وكذلك الوقود متوفّر. فماذا تريد بعد؟ أنا مرتاح هنا. وثمّ فإنّني لا أُحِسُّ بنتانة الفرّيسيّين والآخرين الذين على الشاكلة ذاتها...»

 

«هيّا بنا يا بطرس نَرفَع الشِّباك.» يقول أندراوس، ويصطحب بطرس خارجاً، قبل أن ينفجر النقاش بينه وبين الاسخريوطيّ.

 

«لا يَقدر هذا الرجل أن يراني.» يهتف يهوذا.

 

«لا. لا يمكنكَ قول ذلك. إنّه هكذا مع الجميع. ولكنّه طيّب. إنّما أنتَ المتكدِّر على الدوام.» يُجيب توما الذي هو، على العكس، مبتهج دائماً.

 

«هذا لأنّني كنتُ أَحسَب أمراً آخر...»

 

«ابن عمّي لا يمنعكَ مِن المضيّ إلى أمور أخرى.» يقول يعقوب بن حلفى بهدوء. «أظنُّ أنّنا جميعاً، ببلاهة منّا، كنا نتخيّل أنّ اتِّباعه يعني شيئاً آخر. ولكنّ ذلك إنّما هو لأنّ لنا رأساً صُلباً، ونحن متكبّرون. وهو لم يُخفِ عنّا قطّ الخطر والألم الكامِنَين في اتِّباعه.»

 

يُتَمتِم يهوذا بين أسنانه، ويُجيبه يوضاس تدّاوس وهو يَعمَل حول دعامة في المطبخ ليصنع خزانة جداريّة صغيرة: «إنّكَ لعلى خطأ. وإن تكن حسب العادات فأنتَ مخطئ. على كلّ إسرائيلي أن يَعمَل. وها نحن نَعمَل. هل العمل ثقيل جدّاً عليكَ؟ أنا لا أشعر به، لأنّني، حينما أكون معه، لا أعود أشعر بالتعب.

 

«وأنا كذلك لا أشكو مِن شيء، وأنا مسرور لكوني هنا، تماماً كما ضمن عائلة.» يقول يعقوب بن زَبْدي.

 

«سوف نصنع العظائم هنا!...» يُعَلِّق يهوذا الاسخريوطيّ بسخرية.

 

«ولكن بالنتيجة بماذا تُطالِب؟» يقول تدّاوس مُنفَجِراً. «هل تُطالِب بقصر؟ لا أسمح لكَ بانتقاد ما يفعله ابن عمّي. هل تفهم؟»

 

«اصمت يا أخي.» يقول يعقوب بن حلفى. «فيسوع لا يرضى بمثل هذه النـزاعات. فليكن كلامنا أقلّ ما يمكن، وهذا يكون أفضل للجميع. على كلّ حال، إذا لم ينجح هو بتغيير القلوب... أفتأمل ذلك أنتَ بكلامكَ؟»

 

«القلب الذي لا يمكن تغييره هو قلبي، أليس كذلك؟» يقول الاسخريوطيّ بعدوانيّة.

 

ولكنّ يعقوب لا يُجيب. بل بالأحرى يضع مسماراً بين أسنانه، ويُثبّت الدفوف بالمسامير بعزم، لدرجة أن تَمتَمات يهوذا ضاعت مع الصوت.

 

يمرّ بعض الوقت، ثمّ ها هو إسحاق وأندراوس يَصِلان. الأوّل يحمل بيضاً وسلّة خبز حارّ والآخر يحمل سمكاً في سلّة لصيد السمك.

 

«هاكُم.» يقول إسحاق. «الوكيل أَرسَلَها، وهو يَسأَل عمّا إذا كان يَنقص أيّ شيء، فإنّه قد تلقّى الأوامر بذلك.»

 

«هل ترى أنّنا لن نموت مِن الجوع؟» يقول توما للإسخريوطي. ثمّ يضيف: «هات السمكات يا أندراوس، يا لجمالها! إنّما كيف يتمّ تحضيرها؟... فأنا لا أعرف كيفيّة تجهيزها.»

 

«أنا أهتمّ بذلك.» يقول أندراوس، «فأنا صيّاد.» ويَقبَع في زاوية يُجوّف سمكاته التي ما تزال حيّة.

 

«المعلّم على وشك الوصول. لقد جَالَ في البلدة والقرى. سَتَرَون أنّه سيكون هنا بعد قليل. لقد شفى عيوناً مريضة. ثمّ أنا كنتُ قد جبتُ تلك القرى، وقد أخذ الناس فيها عِلماً...»

 

«إيه! طبعاً! أنا، أنا! الرُّعاة وحدهم... لقد تَرَكْنا، أنا على الأقلّ، حياة هادئة لنقوم بهذا وذاك مِن الأعمال، إنّما لا يهمّ...»

 

يَنظُر إسحاق إلى الاسخريوطيّ بدهشة... إنّما، بحكمة منه، يَحجم عن الإجابة، ويَصمت الآخرون أيضاً... ولكنّ الغَلَيان في داخلهم على أشدّه.

 

«السلام لكم جميعاً.» يسوع على العَتَبَة مبتسماً وطيّباً. وتحسب الشمس قد زاد بريقها مذ وَصَلَ إلى هنا. «يا لكم مِن مجتهدين! الجميع يعمل! هل يمكنني مساعدتكَ يا ابن العمّ؟»

 

«لا، استرح أنتَ، فلقد انتهيتُ.»

 

«نحن مهتمّون بالطعام. الكلّ أراد العطاء. ليت للجميع قلب المتواضعين!» يقول يسوع وهو حزين بعض الشيء.

 

«آه! يا معلّمي! فليبارككَ الله!» إنّه بطرس، يَدخُل وحُزمة مِن الحَطَب على كتفيه، ويحيّي يسوع دون إنزالها.

 

«ليبارككَ الربّ، أنتَ أيضاً، يا بطرس. لقد أحسنتَ عملاً.»

 

«ثمّ إننا سنعمل أكثر في الأوقات الحُـرّة. فلدينا بيت ريفيّ، نحن!... وعلينا أن نجعل منه جنّة عدن. وفي هذه الأثناء رَتَّبتُ أنا البئر لكي ينكشف مكان وجوده ليلاً، وللتأكّد مِن عدم فقد الأواني لدى إنزالها. وثمّ... هل ترى عمل ابنيّ عمّكَ البارِعَين؟ كلّ ما يجب فِعله للعيش والإقامة طويلاً في مكان ما. أنا، صيّاد السمك، لم أكن لأعرف. إنّهما حقيقة بَارِعان. وكذلك توما، كان بإمكانه أن يكون رئيس الطُّهاة لدى هيرودس. ويهوذا كذلك بارع، فقد صَنَعَ فطائر رائعة...»

 

«وعديمة النّفع. يوجد خبز الآن.» يُجيب يهوذا بمزاج سيّئ. ويَنظر إليه بطرس، وقد توقَّعتُ منه إجابة لاذعة، ولكنّ بطرس يهزّ رأسه، يرتّب الرماد الحارّ، ويَبسط الفطائر فوقها.

 

«سيكون كلّ شيء جاهزاً.» يقول توما ضاحكاً.

 

«هل ستتحدّث اليوم؟» يَسأَل يعقوب بن زَبْدي.

 

«نعم، بين الساعة السادسة والتاسعة. رفاقكَ قالوا ذلك. لنأكل إذن دون تأخير.»

 

لحظة ويضع يوحنّا الخبز على الطاولة، يُهيّئ الكراسي، يَجلب الكؤوس والأباريق. ويَجلب توما الخُضار المطبوخة والسمكات المشويّة.

 

يسوع في الوسط. يُقدّم ويُبارك. يُوزّع ويأكل الجميع بشهيّة.

 

كانوا ما يزالون يأكلون عندما وَصَلَ إلى الدار أناس. يَنهَض بطرس، ويذهب إلى الباب: «ماذا تريدون؟»

 

«الرابّي. ألن يتحدّث اليوم هنا؟»

 

«سوف يتحدّث. ولكنّه الآن يأكل لأنّه إنسان هو أيضاً. اجلسوا هناك في الأسفل، وانتظروا.»

 

الجمع قليل عَدده. يَذهَبون تحت العنبر الريفيّ.

 

«البرد يَحلّ، وعلى الأرجح سيهطل المطر. أقول يمكننا استخدام هذا الإسطبل الخالي. لقد نَظّفتُه جيّداً، ويمكن للمِذوَد أن يحلّ محلّ المقعد...»

 

«لا تَسخَروا سُخريات بلهاء كهذه.» يقول يهوذا؛ «فالرابّي هو الرابّي.»

 

«ولكن أيّة سُخريات؟ إذا كان وُلِدَ في إسطبل، فيمكنه التحدّث مِن على مِذوَد!»

 

«إنّ بطرس على حقّ، ولكن أرجوكم أحبّوا بعضكم بعضاً!» يبدو يسوع تَعِباً للغاية وهو يقول تلك الكلمات.

 

يُنهون الأكل، ويَخرُج يسوع مباشرة ليذهب إلى الجمع.

 

«انتظر يا معلّم،» يَهتف خلفه بطرس. «إن ابن عمّكَ قد صَنَعَ لكَ كرسيّاً لأنّ الأرض رطبة في الأسفل.»

 

«لا حاجة لذلك، وأنتَ تَعلَم جيّداً أنّني أتحدّث واقفاً. يريد الناس أن يَرَوني، وأنا أريد أن أراهم. بل بالحريّ... اصنعوا مقاعد ونقّالات، قد يأتي مرضى... وهذا سوف يكون ذا فائدة.»

 

«إنّكَ تفكر بالآخرين دائماً أيّها المعلّم الصالح!» يقول يوحنّا ويُقَبِّل له يده.

 

يَذهَب يسوع، وقد ارتَسَمَت على وجهه ابتسامة حزينة قليلاً، إلى الجمع، ويذهب معه التلاميذ.

 

بطرس، الذي هو بجانب يسوع مباشرة، يجعله ينحني صوبه، ويهمس بهدوء: «إنّ المرأة المحجّبة إيّاها، خلف الجدار هي. لقد رأيتُها. إنّها هنا منذ الصباح. ولقد تَبِعَتنا مِن بيت عنيا. هل علينا طردها أم تركها؟»

 

«دعها. لقد قُلتُ لكم ذلك.»

 

«ولكن لو كانت جاسوسة، كما يقول الاسخريوطيّ؟»

 

«لا، هي ليست كذلك. ثِق بما أقول. دعها وشأنها، ولا تقل شيئاً للآخرين. واحترم سِرّها.»

 

«لقد صَمَتُّ لأنّني فَكَّرتُ بأنّ هذا كان أفضل...»

 

«سلام لكم يا مَن تبحثون عن الكلمة.» يبدأ يسوع. يذهب إلى آخر الرِّواق، وخلفه جدار البيت. يتحدّث ببطء إلى حوالي العشرين شخصاً وهم جلوس على الأرض، أو مُسنِدين ظهورهم إلى العواميد في دفء شمس تشرين الثاني (نوفمبر).

 

«يقع الإنسان في الخطأ عندما يتأمّل في الحياة والموت، وحين يضع هاتين العِبارتين موضع التطبيق. فيُطلِق اسم "حياة" على الزمن الذي يُولَد فيه مِن أُمّ، ويبدأ بالتنفّس والتغذية والحركة والتفكير والعمل؛ ويُطلِق اسم "موت" على اللحظة التي يتوقّف فيها عن التنفّس والأكل والحركة والتفكير والعمل، عندما يصبح مجرّداً وبارداً وعديم الإحساس، وجاهزاً للولوج إلى جوف القبر. ولكنّ هذا ليس صحيحاً. أريد أن أجعلكم تُدرِكون ما هي "الحياة"، وأدلّكم على الأعمال التي تُناسِب هذه الحياة.

 

الحياة ليست الوجود. كما أنّ الوجود ليس الحياة. الكَرمة الـمُوثَقة إلى هذا العامود موجودة، إنّما هي لا تملك الحياة التي أتّحدث عنها. تلك النّعجة التي تثغو، والمربوطة إلى تلك الشجرة في البعيد، موجودة أيضاً، ولكنّها لا تملك الحياة التي أتّحدث عنها. فالحياة التي أتّحدث عنها لا تبدأ مع الوجود، كما أنّها لا تنتهي مع نهاية الجسد. الحياة التي أتّحدث عنها لا تبدأ في رحم أُمّ. إنّها تبدأ حينما فَكَّر الله أن يَخلق بذاته نَفْساً جُعِلَت لِتَسكُن جسداً. وتنتهي عندما تقتلها الخطيئة.

 

في البداية، ليس الإنسان سوى بِذرة تنمو، بِذرة جسد بدلاً مِن "غلوتين" أو لُبّ كما هي الحال في القمح والفاكهة. بادئ ذي بدء، هو ليس سوى حيوان يتشكّل، جنين حيوان لا يختلف عن الذي ينمو الآن في رحم تلك النّعجة. ولكن منذ اللحظة التي يَدخُل فيها الجزء اللامادّيّ في الحَبَل الإنسانيّ، والذي هو، آنذاك، الأقوى في لا مادّيّته التي تسمو به، منذ ذلك الحين، لا يعود الجنين الحيوانيّ موجوداً مع نبضات قلبه وحسب، ولكنّه "يحيا" حسب الفِكر الخالق، ويصبح إنساناً، مخلوقاً على صورة الله كمثاله، ابناً لله، ومِن سكّان السماء مستقبلاً. ولكن هذا يحصل بالفعل إذا ما دامت الحياة. يمكن للإنسان أن يُوجَد مُحتَفِظاً بكيانه كإنسان، ولكن، عندما لا يعود إنساناً، إنّما يصبح قبراً تتفسّخ فيه الحياة.

 

هاكُم لماذا أقول: "لا تبدأ الحياة مع الوجود، كما لا تنتهي مع انتهاء الجسد". ذلك أنّ الحياة تبدأ قبل الولادة. وبعدئذ لا نهاية للحياة. فالنَّفْس لا تموت، يعني أنّها لا تَؤول إلى عَدَم. هي تموت لمصيرها السماويّ، ولكنّها تحيا للعقاب. فهي تموت لهذا المصير الـمَغبوط، عندما تموت للنعمة. هذه الحياة المصابة بالغنغرينا، التي هي الموت للمصير، تمتدّ أبد الدهر في الهلاك الأبديّ والعذاب. هذه الحياة، على العكس، إذا ما تَمّت المحافظة عليها كما خُلِقَت، تَبلغ كمال الحياة بأن تصبح أبديّة كاملة، ومغبوطة مثل خالقها.

 

هل علينا واجبات تجاه الحياة؟ نعم، فهي عطيّة مِن الله. وينبغي لنا استخدام كلّ عطيّة مِن الله والمحافظة عليها بعناية، لأنّ قداستها مُستَمَدّة مِن قداسة مُعطِيها. هل تسيئون استخدام هديّة مِن مَلِك؟ لا. بل هي تنتقل إلى الورثة وإلى ورثة الورثة، كَمَجد للعائلة. وإذن لماذا إساءة استخدام عطيّة الله؟ ولكن كيف ينبغي استخدامها والمحافظة على هذه الهديّة مِن الله؟ كيف المحافظة على الوردة الفردوسيّة للنَّفْس حيّة كي تُحفَظ للسماء؟ كيف التوصّل إلى "الحياة" مِن أجل الأعالي، وإلى ما بعد هذا الوجود؟

 

لدى إسرائيل شَرائِع واضحة بهذا الخصوص، وليس لها سوى التقيّد بها. لدى إسرائيل أنبياء وأبرار يُعطونها الـمَثَل والكلمة لممارسة الشرائع. وكذلك لدى إسرائيل الآن قدّيسون. لا يمكن لإسرائيل، بل لا ينبغي لها أن تُخطئ. إنّي أرى عيوباً في القلوب وأرواحاً ميتة تتكاثر في كلّ مكان. فأقول لكم إذن: توبوا؛ افتحوا نفوسكم للكلمة ومَارسِوا الشريعة غير القابلة للتبدّل، قَوّوا "الحياة" الـمُنهَكَة التي تَفتر فيكم؛ وإذا كانت قد ماتت فأَقبِلوا إلى الحياة الحقيقيّة: إلى الله. ابكوا خطاياكم. اهتفوا: "الرحمة". إنّما انهَضوا. لا تكونوا أمواتاً في الحياة كي لا تُسلَّموا غداً إلى العذاب الأبديّ. لن أُحدّثكم عن أمر آخر سوى طريقة إعادة إيجاد أو المحافظة على الحياة. إنسان آخر قال لكم: "توبوا. تَطَهَّروا مِن نار دَنَس الفُجور ومِن حَمأة خطاياكم". وأنا أقول لكم: أيّها الأصدقاء المساكين، فلنَدرس الشريعة معاً. ولنستمع فيها، مِن جديد، إلى صوت الله الحقّ الأبويّ. وثمّ، فلنُصَلِّ معاً إلى الأزليّ قائلين: "لتنـزل رحمتكَ على قلوبنا".

 

الآن، هو الشتاء الـمُظلِم، إنّما قريباً يأتي الربيع. والروح الميتة هي أكثر كآبة مِن شجرة عَرَّاها الصقيع. ولكن إذا ما وَلَجَ التواضع والإرادة والتوبة والإيمان إلى داخل ذواتكم، كما إلى الشجرة في الربيع، تعود إليكم الحياة، وتُزهِرون لله لتُثمِروا بعدئذ في الغد، في غد دَهر الدهور، الثَّمَرة الأزليّة للحياة الحَقّة.

 

أَقبِلوا إلى الحياة! كُفّوا عن الوجود فقط، وابدأوا "الحياة". حينئذ لا يعود الموت هو "النهاية"، إنّما البداية، بداية يوم لا غروب له، بداية فرح بلا تعب وبلا قياس. ويصبح الموت انتصاراً لِمَن يحيا قبل الجسد، وانتصار الجسد الذي يصبح مدعوّاً للقيامة والأزليّة للمشاركة في هذه الحياة التي أَعِدُ بها، باسم الإله الحقّ، جميع الذين "أرادوا" "الحياة" لنفوسهم، وهم يَدوسون بأقدامهم الأحاسيس والشهوات ليَنعَموا بحريّة أبناء الله.

 

امضوا. وفي كلّ يوم، في مثل هذه الساعة، سوف أُحدّثكم عن الحقيقة الأزليّة. ليكن الربّ معكم.»

 

يمضي الناس على مهل مع الكثير مِن التعليقات. ويعود يسوع إلى البيت وحيداً.

 

وينتهي كلّ شيء.