ج3 - ف61

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الثالث / القسم الثاني

 

61- (أغليّا لدى المعلّم)

 

25 / 06 / 1945

 

يَلِج يسوع بيت الغيور بمفرده. يُوشِك الليل أن يَهبط، ساكناً وصافياً، بعد نهار مُشمِس. يَظهَر يسوع على باب المطبخ، يحيّي ثمّ يَصعَد ليَستَغرِق في التأمّل في الغرفة التي في الطابق العُلويّ، والتي أُعِدَّت مِن أجل العشاء. لا يبدو السيّد مسروراً. يتنهّد كثيراً، ويروح ويجيء في الغرفة. وبين الحين والحين يُلقي نظرة على القرية المجاورة التي يمكن رؤيتها مِن خلال أبواب كثيرة لتلك الغرفة الكبيرة، التي تُشكِّل مُكَعَّباً فوق الطابق الأرضيّ. وأيضاً يَخرُج ليتمشّى على الشُّرفة وهو يدور حول البيت، ويتوقّف في الجهة الخلفيّة ليَنظُر إلى يوحنّا الذي مِن عين دور الذي يَنتَح الماء (يسحبه) مِن البئر بكياسة ليحمله إلى سالومة المنهمكة في العمل. يَنظُر، يهزّ رأسه ويَتنهَّد.

 

قُدرَة نَظرته تلفت انتباه يوحنّا الذي يلتَفِت ليَسأَل: «هل تحتاج إليَّ يا معلّم؟»

 

«لا. كنتُ أنظُر إليكَ فقط.»

 

«طيّب هو يوحنّا. إنّه يساعدني.» تقول سالومة.

 

«سيكافئه الله عن هذه المساعدة كذلك.»

 

يَدخُل يسوع الغرفة بعد تلك الكلمات ويَجلس. إنّه مُستَغرِق لدرجة أنّه لم يُلاحِظ هدير أصوات كثيرة وجَلَبَة خطوات عديدة داخل الممرّ، في المدخل. ثمّ تَصعَد قَدَمان خفيفتان السلّم الخارجيّ، وتدنوان مِن الغرفة. ولم يرفع رأسه إلّا حينما نادته مريم: «بنيّ، لقد وَصَلَت سُوسَنّة إلى أورشليم مع عائلتها، وأَرسَلَت لي أغليّا على الفور. هل تريد الاستماع إليها عندما نكون وحدنا؟»

 

«نعم، يا أمّاه، في الحال، ولا يَصَعَدنَّ أحد حتّى ينتهي كلّ شيء. آمُل إنهاء كلّ الأمور قبل عودة الآخرين. ولكنّني أرجوكِ الانتباه إلى عدم حصول حركات فضوليّة غير رصينة... مِن أيّ كان وخاصّة مِن يهوذا بن سمعان.»

 

«سأنتبه إلى ذلك بكلّ عناية...»

 

تَخرُج مريم لتعود بعد برهة ممسكة بيدها أغليّا التي لم تَعُد تتدثَّر معطفها الرماديّ ووشاحها المتدلّي على وجهها، وكذلك الأحذية الطويلة المعقّدة ذات الأحزمة والحلقات التي كانت تلبسها سابقاً، ولكنّها تُشبِه القرويّة بحذائها المسطَّح والمنخَفِض، البسيط جدّاً مثل حذاء مريم، وثوبها الأزرق القاتم وفوقه المعطف... ووشاحها الأبيض الذي تتوشّح به كما الإسرائيليّات مِن عامّة الناس، أي أنّه موضوع على رأسها بشكل بسيط، مع تدلّي زاوية منه على الكتف، بحيث لا يَحجب الوجه كاملاً. الثوب الشائع لدى السواد الأعظم مِن النساء الأُخريات، وكونها وسط مجموعة مِن الجليليّين قد أَبعَدَا عن أغليّا احتمال التعرّف عليها.

 

تَدخُل خافضة رأسها، مُحمَرَّة كالأرجوان، يتزايد احمرارها مع كلّ خطوة تخطوها، وأعتقد أنّها، لو لم تدفعها مريم بهدوء صوب يسوع، لكانت جَثَت عند العَتَبَة.

 

«هي ذي، يا بنيّ، مَن تبحث عنكَ منذ زمن بعيد. استَمِع إليها.» تقول مريم عندما تصبح قريبة مِن يسوع. تُرخي الستائر على الأبواب المفتوحة، وتُغلِق ذاك الأقرب مِن السلّم.

 

تُنـزِل أغليّا الحقيبة التي كانت على كتفها، ثمّ تجثو عند قدميّ يسوع وتذوب في الدموع. تنـزلق إلى الأرض، وتبكي، مُسنِدة رأسها إلى ذراعيها المتصالِبَتين على الأرض.

 

«لا تبكي هكذا. لَم يَعُد أوانه. كان يجب أن تبكي عندما كنتِ تُبغِضين الله، وليس الآن وقد أحبَبتِهِ وأصبحتِ محبوبة منه.»

 

إلّا أن أغليّا تستمرّ بالبكاء…

 

«ألا تصدّقين بأنّ الأمر قد أَصبَحَ هكذا؟»

 

يشقّ صوته إلى نَفْسها طريقاً عَبْر النحيب. «أُحِبُّه، صحيح، قدر معرفتي وقدر استطاعتي... ولكن رغم عِلمي وإيماني بأنّ الله صَلاح هو، إلّا أنّني لا يمكن أن أتجاسر وأرجو أن يَهِبني حبّه. فلقد أخطأتُ كثيراً... وقد أحصُل عليه يوماً... إنّما لا يزال مفروضاً عليَّ البكاء كثيراً... في هذه الأثناء، أنا وحيدة في حبّي. إنّني وحيدة... ليست وحدة السنين السابقة اليائسة، بل هي وحدة مُفعَمَة رغبة بالله، ولم تَعُد يائسة... ولكنّها حزينة، حزينة للغاية...»

 

«كم معرفتكِ بالرب ما زالت خاطِئة يا أغليّا! فإنّ هذه الرغبة التي لديكِ إنْ هي إلا دليلكِ على أنّ الله يستجيب لحبّكِ، وأنّه صديق لكِ، وهو يناديكِ ويدعوكِ ويريدكِ. لا يمكن لله أن يظلّ غير مبالٍ أمام رغبة الخليقة، فهو مَن أَجَّجَ تلك الرغبة في ذلك القلب، هو خالق وربّ كلّ خليقة. وهو مَن أَضرَمَها، لأنّه أَحَبَّ النَّفْس، التي تَرغَب به الآن، حُبّاً متميّزاً. فرغبة الله تَسبق رغبة المخلوق على الدوام، ذلك أنّه هو الكمال وحبّه أكثر فاعليّة واضطراماً، بل أكثر تأجُّجاً مِن حُبّ المخلوق.»

 

«ولكن كيف لله أن يحبّ الوحل؟»

 

«لا تحاولي الإدراك بعقلكِ. إنّها رحمة لا حدود لها، ولا يمكن للنَّفْس البشريّة أن تُدرِكها. ولكن حيث لا يمكن للذكاء البشريّ أن يَفهَم، ذكاء الحُبّ، حُبّ النَّفس، على العكس، يَفهَم. ذاك الحبّ يُدرِك، وبثقة يَدخُل في السرّ الذي هو الله، وفي سرّ العلاقات بين النَّفْس والله. فادخُلي، أنا مَن أقول لكِ، ادخُلي لأنّ الله يريد ذلك.»

 

«آه! يا مُخلِّصي! ولكن هل قد غُفِر لي إذن؟ هل أنا حقّاً محبوبة؟ هل ينبغي لي الإيمان بذلك؟» 

 

«هل كذبتُ عليكِ يوماً؟»

 

«آه! لا يا سيّدي! كلّ ما قُلتَه لي في الخليل قد تَحَقَّق، لقد خَلَّصتَني كما قُلتَ لي، باسمكَ. لقد بَحَثتَ عنّي، أنا النَّفْس المسكينة التائهة. لقد وَهَبتَني حياة النَّفْس التي كنتُ أحمِلها فيَّ ميتة. قلتَ لي إنّني لو بحثتُ عنكَ فسأجدكَ، وكان هذا صحيحاً. قلتَ لي إنّكَ في كلّ مكان يحتاج فيه إنسان لطبيب وعلاج. وكان حقيقة. كلّ، كلّ ما قُلتَه للمسكينة أغليّا، منذ تلك الكلمات في صبيحة ذلك اليوم مِن حزيران (يونيو) وحتّى تلك التي في منطقة المياه الحلوة...»

 

«إذاً فينبغي لكِ أن تؤمني بهذه أيضاً.»

 

«نعم، أؤمن، أؤمن! إنّما قل لي أنتَ: "أَغفِر لكِ"!»

 

«أَغفِر لكِ باسم الله ويسوع.»

 

«أشكركَ... إنّما الآن... الآن ماذا عليَّ أن أفعل؟ قل لي يا مُخَلِّصي، ماذا عليَّ أن أفعل لأنال الحياة الأبديّة؟ فالرجل، لمجرَّد النَّظر إليَّ يَفسُد... لا يمكنني العيش في خوف دائم مِن أن أُكتَشَف ويُحاط بي... طوال سفري هذا، كنتُ أرتَعِد أمام كلّ نظرة رجل... لا أريد أن أعود إلى الخطيئة، ولا أن أجعل غيري يُخطِئ. دُلَّني على السبيل الواجب سلوكه. ومهما يكن فسأسلُكه. تَرَى أنّني ما زلت قويّة رغم كلّ الحرمان... وحتّى ولو لقيتُ حتفي لكثرة الحرمان، فلستُ بخائفة. سوف أسمّيه "صديقي" لأنّه سينقذني مِن أخطار الأرض، على الدوام. تَكلَّم يا مُخَلِّصي.»

 

«اذهبي إلى مكان قَفر.»

 

«أين يا ربّ؟»

 

«حيث تشائين. إلى حيث يقودكِ روحكِ.»

 

«وهل روحي الذي بالكاد قد تَكَوَّنَ سيكون أهلاً لذلك؟»

 

«نعم، لأنّ الله هو مَن يقودكِ.»

 

«ومَن سيحدّثني آنذاك عن الله؟»

 

«في الوقت الحالي، نفسكِ عادت إلى الحياة...»

 

«ألن أراكَ أبداً؟»

 

«على الأرض، أبداً. إنّما عمّا قليل سأفتديكِ افتداءً كاملاً. حينذاك سآتي إلى روحكِ لأهيّئكِ للصعود إلى الله.»

 

«كيف سيأتي فدائي التامّ إذا لم أعد أراكَ؟ كيف ستمنَحني إيّاه؟»

 

«بالموت مِن أجل جميع الخَطَأَة.»

 

«آه! لا! أنتَ، تموت، لا!»

 

«لكي أَهبكم الحياة، لا بدَّ لي مِن الموت طَوعاً. فأنا مِن أجل هذا أتيتُ بصفة إنسان. لا تبكي... سوف تَلحَقين بي بدون تأخير، حيث سأكون بعد تضحيتي وتضحيتكِ.»

 

«سيّدي، هل سأموت أنا كذلك مِن أجلكَ؟»

 

«نعم ولكن بطريقة أخرى، سوف يموت جسدكِ ساعة إثر ساعة، وبمحض إرادتكِ. وهو منذ حوالي السنة يموت. وعندما سيموت تماماً سأستدعيكِ.»

 

«هل سأحظى بالقوّة الكافية لتدمير جسدي الخاطئ؟»

 

«في الخلوة التي ستكونين فيها، حيث سيهاجمكِ الشيطان بِعُنف حقود، طالما سيزداد انتماؤكِ إلى السماء، سوف تَجِدِين أحد رُسُلي، وقد كان في السابق خاطئاً ثمّ افتُدِيَ.»

 

«إذن، أفليس هو الرَّسول المبارَك الذي كان يحدّثني عنكَ؟ إنّه نزيه لدرجة لا يمكن معها أن يكون خاطئاً سابقاً.»

 

«ليس هذا، بل آخر. سوف يَلحَق بكِ حينما تزفّ الساعة. سوف يقول لكِ ما لم تكوني تعرفينه بعد. اذهبي بسلام. ولتحلّ عليكِ بركة الله.»

 

تنحني أغليّا التي ما زالت جاثية، لتُقبِّل قدميّ السيّد. وهي لا تتجاسر على فعل أيّ شيء آخر. ثمّ تستعيد حقيبتها، فتسقط منها ثياب بسيطة وكيس صغير يطنّ، وكذلك قارورة مِن مَرمَر ناعم ورديّ.

 

تُعيد أغليّا الثياب إلى الحقيبة، تُمسِك الكيس بيدها وتقول: «هذا مِن أجل فقرائكَ، فهو ما تبقّى مِن مجوهراتي. لم أحتفظ بغير نقود طعامي أثناء السفر... إذ، حتّى ولو لم تكن قد قُلتَ لي ذلك، فقد كنتُ عازمة على الذهاب إلى مكان بعيد. الآن، هذا يكون مِن أجلكَ. إنّه أقلّ شذىً مِن عطر قداستكَ. ولكنّه الأفضل في ما يمكن للأرض أن تمنحه. وقد كنتُ أستخدمه لأفعل الأسوأ... هو ذا. وليمنحني الله نَشرَ عِطر أقلّه مساوٍ لهذا، بحضوركَ، في السماء.» ونَزَعَت عن القارورة سدّادتها النفيسة، وسَكَبَت المحتوى على الأرض. وفاحَت، بوفرة، رائحة ورد نافِذَة مِن البلاطات المبلَّلة بالعطر النفيس. وتَلتَقِط أغليّا القارورة الفارغة: «تذكاراً لهذه الساعة.» تقولها وتنحني مرّة أخرى لتُقبِّل قدميّ يسوع، وتَنهَض وتَنسَحِب سائِرة إلى الخلف، وتَخرُج وتُغلِق الباب…

 

يُسمَع وقع خطواتها يبتعد باتّجاه الباب، وكذلك صوتها أثناء تبادل بعض الكلمات مع مريم، ثمّ جَلَبَة الحذاء على درجات السلّم. ثمّ لا شيء.

 

لم يبقَ مِن أَثَر أغليّا سوى الكيس عند قدميّ يسوع، والعِطر النافذ الذي يفوح في الغرفة. يَنهَض يسوع... يَلتَقِط الكيس، يَضَعه على صدره، يَذهَب إلى نافذة تَطلّ على الدرب، يبتسم وهو يَنظُر إلى المرأة التي تبتعد بمفردها بمعطفها كإسرائيليّة باتّجاه بيت لحم. يقوم بإشارة البركة، ثمّ يتوجّه إلى الشُّرفة وينادي «ماما».

 

تَصعَد مريم السلّم مسرعة: «لقد جَعَلتَها سعيدة يا بنيّ. ولقد مَضَت شُجاعة وَوَادِعة.»

 

«نعم يا أُمّي. عندما يعود أندراوس، أَرسِليه إليَّ قبل الآخرين.»

 

تَمرّ فترة، يُسمَع بعدها صوت الرُّسُل الذين يعودون... يَهرَع أندراوس: «أتطلبني يا معلّم؟»

 

«نعم، تعال هنا، ولا يَعلَمنّ أحد بذلك، إنّما مِن العدل أن أقول لكَ: شكراً يا أندراوس باسم الربّ وباسم نَفْس.»

 

«الشكر؟ عَلامَ؟»

 

«ألا تشمّ هذا العطر؟ إنّه ذكرى المرأة المحجّبة. لقد أَتَت، ولقد خُلِّصَت.»

 

يَصطَبِغ أندراوس باللّون الأحمر كالفريز، يجثو على ركبتيه، ولا يعود يجد ما يقوله... أخيراً يقول: «الآن أنا مسرور. وليكن الربّ مباركاً.»

 

«نعم، انهض. لا تقل للآخرين إنّها أتت.»

 

«سوف ألوذ بالصمت يا سيّدي.»

 

«اذهب. اسمع: أما يزال يهوذا بن سمعان هنا؟»

 

«نعم، لقد شاء أن يُرافِقنا... قائلاً... أكاذيب كثيرة. لماذا هو يتصرّف هكذا يا سيّدي؟»

 

«لأنّه وَلَد أَفسَدَه الدَّلال. قل لي الحقيقة: هل تشاجرتم؟»

 

«لا، فأخي كان في منتهى السعادة مع وَلَده، ولا مجال لمثل تلك الرغبة، والآخرون... تَعلَم... هُم أكثر حذراً. إنّما بكلّ تأكيد، ضمنيّاً، كنّا جميعاً مُشمئزّين. ولكنّه يمضي بعد العشاء... أصدقاء آخرون... يقول... آه! ويَحتَقِر البغايا!...»

 

«كُن وديعاً يا أندراوس. فأنتَ أيضاً عليكَ أن تكون سعيداً هذا المساء...»

 

«نعم يا معلّم. أنا كذلك لديَّ أُبوَّتي غير المرئيّة، إنّما العذبة. إنّني ماض.»

 

بَعْدَ برهة، يَصعَد الرُّسُل جماعة مع الصبيّ ويوحنّا الذي مِن عين دور. تتبعهم النساء مع الأطباق والمصابيح، أخيراً يَصِل لعازر وسمعان. وما أن دَخَلوا الغرفة حتّى هَتَفوا: «آه! فهذا كان آتياً مِن هنا!!!» ويَتنشَّقون الهواء الـمُشبَع بعطر الورد، الـمُشبَع رغم أن الأبواب مُشرعة على مصراعيها.

 

«ولكن مَن ذا الذي عَطَّر الغرفة هكذا؟ أتكون مرثا؟» يَسأَل البعض.

 

«أختي لم تغادر البيت اليوم.» يجيب لعازر.

 

«ومَن إذن؟ أيكون أحد الآشوريّين؟» يمزح بطرس.

 

«حبّ إنسانة تمّ افتداؤها.» يقول يسوع بجدّية.

 

«كان بإمكانها توفير ذلك الاستعراض غير المجدي للفداء، وتعطي ما صَرَفَته للفقراء. فهناك منهم الكثير، ويَعلَمون أنّنا نقوم بالتوزيع. وأنا لم يبقَ لديّ أيّة قطعة نقديّة.» يقول الاسخريوطيّ غاضباً. «وينبغي لنا شراء الحَمَل واستئجار غرفة لتناول طعام الفصح و...»

 

«ولكنّني قَدَّمتُ لكم كلّ شيء.» يقول لعازر.

 

«ليس عدلاً. والشعائر تَفقُد روعَتَها. فالشريعة تقول: "تأخذ الحَمَل عنكَ وعن أهل بيتكَ". ولا تقول: "تَتقَبَّل الحَمَل".»

 

يَلتَفِت برتلماوس فجأة، يَفتَح فاه، ثمّ يُغلِقه. أمّا بطرس فيصبح لونه قرمزياً، نتيجة الجهد الذي يبذله ليحافظ على صمته. ولكنّ الغيور، الذي في بيته، يظنّ نفسه مُخَوّلاً بالكلام، فيقول: «كلّ ذلك تَـمَحُّكات رابّيين... أرجوكَ دعكَ منها، وبالمقابل، فلتبقَ على احترامكَ لصديقي لعازر.»

 

«مرحى لكَ يا سمعان!» فبطرس ينفجر إن لم يتكلّم. «مرحى! يبدو لي كذلك أنّنا ننسى بعض الشيء أنّ للمعلّم وحده الحقّ بالتعليم...» يقول بطرس: «ننسى» باذِلاً جهداً بُطوليّاً كي لا يقول: «يهوذا ينسى.»

 

«صحيح... ولكنّني... عصبيّ، هو ذاك. اعذرني يا معلّم.»

 

«نعم. وأجيبكَ كذلك: الإقرار فضيلة عظيمة. أنا مُقرّ بفضل لعازر، كما أَقرَّت تلك الفتاة بجميلي. أنا أسكُب على لعازر عِطر بَرَكَتي، حتّى مِن أجل رُسُلي الذين لا يعرفون فِعل ذلك، أنا رئيسكم كلّكم. والمرأة سَكَبَت عند قدميّ عِطر فَرَحها لكونها خُلِّصَت، لقد تعرَّفَت على الـمَلِك، وأتت إلى الـمَلِك، قبل كثيرين غيرها أَغدَق عليهم الـمَلِك حبّاً أكثر منها. فَدَعوها تفعل دون انتقاد. فلن تستطيع حضور استدعائي ولا مَسحي. وصليبها قد أَصبَحَ على كتفيها. لقد قلتَ يا بطرس إذا ما كان آشوريّ أتى إلى هنا. الحقّ أقول لكَ حتّى بخور المجوس، النقيّ للغاية والنفيس جدّاً، لم يكن أَعذَب وأَنفَس مِن هذا. فلقد انحلَّ العطر بالدموع، لذلك هو نافذ للغاية. التواضع يحمي الحبّ ويجعله كاملاً. فلنجلس إلى الطاولة يا أصدقاء...»

 

وتتوقّف الرؤيا مع تَقدِمة الطعام.