ج10 - ف30
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء العاشر
30- (محاكمة ورجم استفانوس)
07 / 08 / 1944
قاعة السنهدرين، مشابهة في التنظيم والأشخاص لما كانت عليه في ليلة ما بين الخميس والجمعة، خلال محاكمة يسوع. الكاهن الأعظم والآخرون يجلسون على كراسيهم. في الوسط، وأمام الكاهن الأعظم، في الفسحة الفارغة حيث كان يسوع خلال المحاكمة، يتواجد الآن استفانوس. لا بدّ أنّه كان قد تكلّم، معترفاً بإيمانه، ومقدّماً شهادته عن الطبيعة الحقيقيّة للمسيح وكنيسته، ذلك أنّ الضوضاء على أشدّها في العنف وفي كلّ شيء هي تشبه تلك الّتي ثارت ضدّ المسيح في الليلة المشؤومة للخيانة وقتل الله.
لكمات، لعنات، تجديفات فظيعة وُجّهت للشمّاس استفانوس، الّذي يترنّح ويتهاوى تحت الضربات الوحشيّة، فيما يتجاذبونه بعنف هنا وهناك.
لكنّه يحتفظ بهدوئه ووقاره. لا بل أكثر بعد. فهو ليس هادئاً وشامخاً فقط، بل حتّى إنّه مغتبط، ويكاد يكون مُنتَشياً. ودون اكتراث بالبصاق الّذي يسيل على وجهه، ولا الدم الّذي ينزف مِن أنفه المضروب بشراسة، يرفع، في لحظة معيّنة، وجهه الـمُلهَم ونظره الـمُنير والباسم، ليحدّق في رؤيا يراها هو وحده. ثمّ يفتح ذراعيه بشكل صليب، يرفعهما كما لاحتضان ما يراه. بعد ذلك يسقط على ركبتيه صارخاً: «ها أنا أرى السماوات مفتوحة، وابن الإنسان، يسوع، مسيح الله، الّذي قتلتموه أنتم، الجالس على يمين الله.»
حينذاك الغوغائية تفقد القلّة القليلة المتبقّية مِن الإنسانيّة والشرعيّة اللتين كانت لا تزال تحتفظ بهما، وبهيجان شرذمةٍ مِن الذئاب، أبناء آوى، وحوش مسعورة، ينقضّون كلّهم على الشمّاس، يعضّونه، يدوسونه، يُمسِكون به، يُنهِضونه رافعينه مِن شعره، يجرّونه، جاعلينه يقع ثانيةً، هياج مقابل سعير، إذ في ذلك الشجار، الّذين يحاولون جرّ الشهيد إلى الخارج، يتصادمون مع أولئك الّذين يسحبونه في اتّجاه آخر لضربه ودَوسه مجدّداً.
وسط الهائجين الأكثر سعيراً، هناك شاب قصير القامة وقبيح، يدعونه شاول. لا يمكن وصف شراسة وجهه.
في زاوية مِن القاعة هناك غَمَالائيل. لم يشارك أبداً في ذلك الشجار، ولم يوجّه كلاماً أبداً لاستفانوس ولا أيّاً مِن الأشخاص النافذين. إنّ اشمئزازه أمام ذلك المشهد الجائر والبربريّ واضح جدّاً. في زاوية أخرى يقف نيقوديموس، الّذي هو أيضاً مشمئزّ، ولا يشارك في الحكم والمعمعة، وهو ينظر إلى غَمَالائيل الّذي لوجهه تعبير أوضح مِن أيّ كلام. إنّما فجأة، وتحديداً عندما يرى أنّ استفانوس يُرفَع مِن شعره للمرّة الثالثة، فإنّ غَمَالائيل يلتفّ بردائه الفضفاض، ويتوجّه نحو مخرج في الجهة المقابلة للمخرج الّذي يجرّون الشمّاس نحوه.
تصرّفه هذا لا يفوت شاول، الّذي يصرخ: «أتمضي يا رابّي؟»
غَمَالائيل لا يجيب. شاول الّذي خشي ألاّ يكون غَمَالائيل قد انتبه إلى أنّ السؤال كان موجّهاً إليه، يكرّر السؤال ويحدّده: «أيّها الرابّي غَمَالائيل، أتنسحب مِن هذه المحاكمة؟»
غَمَالائيل يستدير بكلّيته، وبنظرة رهيبة مِن فرط ما هي مشمئزّة، متعالية وجليديّة، يجيب فقط بـــ: «نعم.» لكنّها "نعم" ذات قيمة أكبر مِن خطاب طويل.
شاول يفهم كلّ ما تحويه هذه الـــ "نعم" ويترك الشرذمة المتوحّشة، يهرع نحو غَمَالائيل. يدركه، يوقفه ويقول له: «أنتَ لا تريد أن تقول لي، أيا أيّها الرابّي، إنّكَ غير موافق على حكمنا.»
غَمَالائيل لا ينظر إليه ولا يجيبه. شاول يتابع: «هذا الرجل مذنب بشكل مضاعف، لأنّه كفر بالشريعة باتّباعه لسامريّ ممسوس مِن بعلزبول، ولأنّه فعل ذلك بعدما كان تلميذكَ.»
غَمَالائيل يستمرّ بعدم النظر إليه والتزام الصمت. حينئذ يسأله شاول: «لكن، أربّما تكون أنتَ أيضاً تابعاً لذلك المجرم المدعو يسوع؟»
الآن يتكلّم غَمَالائيل ويقول: «لستُ كذلك بعد. إنّما إذا كان هو ما كان يقوله عن نفسه، وفي الحقيقة أنّ هناك أموراً كثيرة تُثبِت أنَّه كان كذلك، فسوف أصلّي إلى الله لأن أصبح كذلك.»
«فظاعة؟» يصرخ شاول.
«ما مِن فظاعة. كلّ إنسان لديه ذكاء يستخدمه وحريّة يمارسها. إذن، ليستفد منه كلّ إنسان استناداً إلى تلك الحرّية الّتي منحها الله لكلّ إنسان، وذاك النور الّذي وضعه في قلب كلّ إنسان. فالأبرار، عاجلاً أم آجلاً، سوف يستخدمون هبتي الله هاتين في الخير، والأشرار في الشرّ.» ويمضي، متوجّها نحو الباحة حيث خزانة الهيكل، ويذهب ليستند إلى العمود نفسه حيث تكلّم يسوع عن الأرملة الفقيرة الّتي أعطت خزانة الهيكل كلّ ما تملك: قطعتي نقود لا قيمة تُذكَر لهما. [ج9 - ف10]. بالكاد أمضى هناك بعض الوقت حتّى أدركه شاول مجدّداً وانغرس أمامه.
التباين بين الاثنين كبير جداً. غَمَالائيل طويل القامة، ذو مظهر نبيل، وسيم بملامحه الساميّة البارزة، الجبهة العالية، العينان شديدتا السواد، ذكيّتان، نافذتان، طويلتان وغارقتان عميقاً تحت الحاجبين الغليظين والمستقيمين، على جانبيّ أنفه المستقيم، الطويل والنحيل، الّذي يُذكِّر قليلاً بأنف يسوع. أيضاً لون البشرة، الفم ذو الشفتين الدقيقتين، يُذكِّران بشفتيّ المسيح. فقط شاربيّ غَمَالائيل ولحيته، اللذين كانا شديديّ السواد في ما مضى، هما الآن شائبان وأكثر طولاً.
شاول على العكس قصير القامة، ممتلئ، يكاد يكون كسيحاً، بساقين قصيرتين وغليظتين، متباعدتين قليلاً عند الركبتين، يمكن رؤيتهما جيّداً لأنّه خلع رداءه ويرتدي فقط جلباباً رماديّاً قصيراً. ذراعاه قصيرتان بعضلات مثل ساقيه، رقبته قصيرة وغليظة، تحمل رأساً ضخماً، أسمراً، بشعر قصير وخشن، الأذنان بارزتان إلى حدّ ما، أنف أفطس، شفتان غليظتان، الوجنتان عاليتان وضخمتان، الجبهة محدّبة، العينان داكنتان، جاحظتان بعض الشيء، بلا وداعة، إنّما ذكيّتان جداً تحت حاجبين مُقوَّسَين جدّاً، سميكين ومنفوشين. الخدّان مكسوّان بلحية خشنة مثل شعره تماماً وكثيفة جدّاً، إنّما قصيرة. ربّما، بسبب رقبته القصيرة جدّاً، يبدو أنّه أحدب قليلاً أو أنّ كتفيه مُقَوَّسَان جدّاً.
يلبث صامتاً لبرهة، محدّقاً بغَمَالائيل. ثمّ يقول له شيئاً بصوت خافت. غَمَالائيل يجيبه بصوت واضح وقويّ: «لا أؤيّد العنف. أيّاً كان السبب. لن تحصل أبداً على موافقتي على أي قصد عنيف. حتّى إنّي قلتُ ذلك علانية، لكلّ السنهدرين، حين قُبِضَ على بطرس والرُّسُل الآخرين للمرّة الثانية واقتيدوا إلى أمام السنهدرين ليُحاكَموا. وأكرّر نفس الشيء: "إذا كان ذلك مُخَطَّطاً وعملاً مِن صُنع البشر، فسوف يتلاشى مِن تلقاء ذاته. وإذا كان آتياً مِن الله، فلن يستطيع البشر تدميره، بل على العكس سيكونون عرضة لأن يضربهم الله." لا تنسَ ذلك.»
«هل أنتَ الحامي لهؤلاء المجدّفين، أتباع الناصريّ، أنتَ، أعظم رابّي في إسرائيل؟»
«أنا أحمي العدالة. والعدالة تُعلّمنا أن نكون محترسين وعادلين في الأحكام. أكرّر لكَ ذلك: إذا كان أمراً آتياً مِن الله، فسوف يصمد، وإلاّ فسوف يسقط مِن تلقاء ذاته. وأنا لا أريد أن ألطّخ يديّ بدم لا أعلم إذا ما كان يستحقّ الموت.»
«أأنتَ، أنتَ، الفرّيسيّ والحَبْر، تتكلّم هكذا؟ ألا تخشى العليّ؟»
«أكثر ممّا تخشاه أنتَ. إنّما أفكّر. وأتذكّر... أنتَ لم تكن سوى طفل، ولم تكن بعد ابناً للشريعة، وأنا كنتُ منذئذ أُعَلِّم في هذا الهيكل مع الرابّي الأكثر حكمة لهذا الزمن... ومع آخرين، كانوا حكماء إنّما غير عادلين. كان لحكمتنا، بين هذه الجدران، درس جعلنا نفكّر مليّاً لبقيّة حياتنا. إنّ عينيّ الشخص الأكثر حكمة والأكثر عدلاً في زمننا قد أُغمِضتا على ذكرى تلك الساعة، وعقله مع دراسة تلك الحقائق، الّتي سُمِعَت مِن شفتيّ طفل كان يكشف عن نفسه للبشر، وخصوصاً للعادلين منهم. عيناي تابعتا السهر، وعقلي استمرّ بالتفكير، مُنَسِّقاً الأحداث والأمور... كان لي شرف سماع العليّ يتكلّم بفم طفل أصبح بعد ذلك رجلاً بارّاً، حكيماً، مُقتَدِراً، مقدّساً، والّذي اقتيد إلى الموت تحديداً بسبب صفاته تلك. إنّ كلماته الّتي قالها آنذاك أمكن تأكيدها بوقائع حصلت بعدها بعدّة أعوام، في الزمان الّذي أشار إليه دانيال... يا لتعاستي لأنّني لم أفهم قبلاً! لانتظاري العلامة الرهيبة الأخيرة لأؤمن، لأفهم! يا لتعاسة شعب إسرائيل الّذي لم يفهم آنذاك، والّذي لا يفهم الآن أيضاً! إنّ نبوءة دانيال ونبوءات الأنبياء الآخرين وكلمة الله سوف تستمرّ، وسوف تتحقّق لإسرائيل العنيد، الأعمى، الأصمّ، الظالم، الّذي يتابع اضطهاد المسيح في خدّامه!»
«اللعنة! أنتَ تجدّف! حقّاً لن يكون هناك بعد خلاص لشعب الله إذا جدّف الرابّيون، ناكرين يهوه، الله الحقّ، ليُمجِّدوا ويؤمنوا بمسيح كاذب!»
«لستُ أنا مَن أجدّف، بل كلّ أولئك الّذين أهانوا الناصريّ ويستمرّون في احتقاره باحتقار المؤمنين به. أنتَ، نعم، تشتمه لأنّكَ تكرهه، في ذاته، وفي أتباعه. ولكنّكَ أجدتَ القول عندما قلتَ بأنّه لم يعد خلاص لإسرائيل. إنّما ليس لأنّ هناك إسرائيليّين ينتقلون إلى قطيعه، بل لأنّ إسرائيل ضربه حتّى الموت.»
«أنتَ ترعبني! أنتَ تخون الشريعة، الهيكل!»
«إذاً أبلغ عنّي السنهدرين، لأنال المصير نفسه لذاك الّذي على وشك أن يُرجَم. ستكون تلك البداية والنهاية السعيدة لمهمّتكَ. وأنا، بسبب تضحيتي، سوف يُغفَر لي عدم تعرّفي وفهمي لله الّذي كان يَعبُر، مخلّصاً ومعلّماً، وسطنا نحن أبناءه وشعبه.»
شاول، بحركة غضب، يبتعد بوقاحة، ليعود إلى الساحة المؤدّية لقاعة السنهدرين، الساحة حيث يتواصل صياح الجمع الغاضب على استفانوس. شاول يلحق بالجلادين المتواجدين في تلك الساحة، ينضمّ إليهم، حيث كانوا بانتظاره، ويخرج مع الآخرين مِن الهيكل، ثمّ مِن أسوار المدينة. شتائم، سخرية، ضرب تتواصل بحقّ الشمّاس الّذي يتقدّم مُنهَكاً، جريحاً، مترنّحاً نحو مكان التنفيذ.
خارج الأسوار، هناك فسحة بائرة ومغطّاة بالحجارة، أرض قاحلة تماماً. بوصولهم إليها، الجلاّدون يتوزّعون بشكل دائرة، تاركين المحكوم بمفرده في الوسط، بثياب ممزّقة وينزف مِن عدّة مواضع في الجسد بسبب الجروح الّتي أُلحِقت به. ينزعون ثيابه عنه قبل أن يبتعدوا. استفانوس يبقى بجلباب قصير جدّاً. كلّهم يخلعون ثيابهم الطويلة ليبقوا فقط بجلاليبهم القصيرة كالّذي لشاول، الّذي يعهدون إليه بثيابهم، كونه لن يشارك في الرّجم، إمّا لأنّه تأثّر بكلمات غَمَالائيل، أو لأنّه يعلم أنّه ليس ماهراً بالتسديد.
الجلاّدون يلتقطون الحجارة الكبيرة وحجارة الصوّان الحادّة الّتي تتوفّر بكثرة في ذلك المكان، ويشرعون بالرّجم.
استفانوس يتلقّى الرشقات الأولى وهو واقف، بابتسامة غفران على فمه الجريح، قبل بدء الرجم بلحظة صاح بشاول، المنشغل بجمع ثياب الجلاّدين: «يا صديقي، سوف أنتَظِركَ على درب المسيح.»
والّذي أجابه شاول: «خنزير ممسوس.» مُلحِقاً بالشتيمة ركلة قوية على ساقيّ الشمّاس الّذي كان على وشك السقوط بسبب الضربة والألم.
وبعد عدّة رشقات مِن الحجارة الّتي تصيبه مِن كلّ الجهات، يسقط استفانوس على ركبتيه، مستنداً على يديه الجريحتين، ومتذكّراً بالتأكيد واقعة بعيدة [ج5 - ف44]، يهمس، لامساً صدغيه وجبهته الجريحة: «كما هو تنبّأ لي بذلك! الإكليل... الياقوت... آه يا ربّي، معلّمي، يسوع، تقبّل روحي!»
وابل آخر مِن الضربات على رأسه الجريح ترديه تماماً على الأرض الّتي تتشبّع مِن دمه. وفيما هو ممدّد وسط الحجارة، وتحت وابل آخر مِن الحجارة الّتي تتساقط فوقه، يهمس وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة: «يا ربّ... أيّها الآب... اغفر لهم... لا تحمل تجاههم أيّة ضغينة لخطيئتهم هذه... إنّهم لا يعلمون ما...» الموت يقطع الجملة على شفتيه. انتفاضة أخيرة تجعله يتكوّر حول نفسه، ويلبث هكذا. ميّتاً.
يقترب الجلاّدون، يرمون عليه وابلاً آخر مِن الحجارة، يكادون يدفنونه تحتها. ثمّ يرتدون ثيابهم، ويرحلون عائدين إلى الهيكل، ثملين بحماسة شيطانيّة، ليبلّغوا عمّا فعلوه.
فيما يتكلّمون مع الكاهن الأعظم وأشخاص نافذين آخرين، شاول يذهب باحثاً عن غَمَالائيل. لا يجده على الفور. يعود، مشتعلاً بالكراهية ضدّ المسيحيّين، إلى الكَهَنَة، يتكلّم معهم، يجعلهم يعطونه لُفافة ممهورة بختم الهيكل تُجيز له اضطّهاد المسيحيّين. لا بدّ أنّ دم استفانوس قد جعله حانقاً مثل ثور رأى لوناً أحمر، أو خمر أعطي بسخاء لمدمن سكّير.
وفيما كان على وشك الخروج مِن الهيكل، يرى غَمَالائيل تحت رواق الوثنيّين. يذهب إليه. ربّما يريد بدء نقاش أو تبرير نفسه. لكنّ غَمَالائيل يجتاز الباحة، يدخل إلى قاعة ويُغلِق الباب في وجه شاول، الّذي يخرج راكضاً مِن الهيكل، مهاناً وحانقاً، ليضطّهد المسيحيّين.