ج3 - ف41
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الثالث / القسم الأول
41- (مَثَل الزَّارِع الجيد والزُّؤان)
08 / 06 / 1945
فَجر مُنير يجعل مياه البحيرة تَسطَع كاللآلئ، ويُغلِّف الهضاب بضباب خفيف مثل وِشاح مِن الـمُوسْلين (نسيج قطني رقيق)، تَظهَر مِن خلاله أشجار الزيتون والجوز مُزيَّنَة، وكذلك بيوت وروابي البلدة المحيطة بالبحيرة. وتنساب الـمَراكِب بسكون وصمت باتّجاه كفرناحوم. ولكن، فجأة يُدير بطرس ساق الدفة بشدّة لدرجة أنّ الـمَركَب قد مال.
«ماذا تفعل؟» يَسأَل أندراوس.
«هناك مركب بُومة (سمعان الفرّيسيّ)! وهو يَخرُج لتوّه مِن كفرناحوم. لديَّ عينان جيّدتان، ومنذ مساء الأمس لديَّ حاسَّة رجل الشرطة. ولا أريد أن يَرَونا. فأعود إلى النهر ونمضي سيراً على الأقدام.»
ويحذو المركب الآخر حذوه، ولكن يعقوب الذي يدير الدَّفَّة يَسأَل بطرس: «لماذا فَعَلتَ هذا؟»
«سوف أقول لكَ، اتبعني.»
يسوع الجالس على مؤخّرة الـمَركَب، يستيقظ عندما أَوشَكَ أن يصبح على مستوى مياه نهر الأردن. ويَسأَل: «ولكن ماذا تفعل يا سمعان؟».
«نهبط هنا. فهناك ابن آوى قريب. ولا يمكننا الذهاب إلى كفرناحوم اليوم. سأذهب أنا أوّلاً لأستَطلِع الأمر. ويأتي سمعان ونثنائيل معي. ثلاثة أشخاص أُباة مقابل ثلاثة أنذال... إذا لم يكن الأنذال مع ذلك أكثر.»
«لا تَرَ الفخاخ في كلّ مكان الآن! ألم يكن مَركَب سمعان الفرّيسيّ؟»
«إنّه هو.»
«لَم يكن موجوداً أثناء القبض على يوحنّا.»
«لا أعرف.»
«إنّه، في نظري، يراعي واجبات الاحترام على الدوام.»
«لا أعرف.»
«تجعلني أبدو جباناً.»
«لا أعرف.»
رغم عدم رغبة يسوع بالضحك، إلّا أنّه يبتسم مُرغَماً لعناد بطرس المقدَّس. «ولكن علينا مع ذلك الذهاب إلى كفرناحوم. إنْ لم يكن اليوم فَلاحِقاً.»
«قلتُ لكَ أَذهَب أنا أوّلاً وأتحقَّق و... عند الاقتضاء... أَفعَل كذلك تلك... سوف تكون شوكة كبيرة في الحَلق... ولكنّني أَفعَلها حبّاً بكَ... سأذهب... سأذهب إلى قائد المائة أطلب منه الحماية...»
«ولكن لا، يجب ألّا تفعل!»
يتوقّف المركب عند شاطئ صغير قاحل، في مقابل بيت صيدا. ويهبط الجميع.
«هيا، أنتما الاثنان. تعال أنتَ أيضاً يا فليبّس. أنتم الشباب امكثوا هنا. سننجز عملنا بسرعة.»
التلميذ الجديد إيلي يتوسّل: «هلمَّ إلى بيتي يا معلّم. سأكون في غاية السعادة باستضافتكَ...»
«إنّني آتٍ. سمعان، ستوافيني إلى بيت إيلي. وداعاً يا سمعان. هيّا. ولكن كن صالحاً ويَقِظاً ورحيماً. تعال أُقبِّلكَ وأبارككَ.»
لا يَعِدُ بطرس بأن يكون وديعاً وصبوراً ورحيماً. بل يَصمُت ويُبادِل المعلّم القبلة. حتّى الغيور وبرتلماوس وفليبّس يُبادِلونه قبلة الوداع، ويَفتَرِق الفريقان، ليمضي كلّ فريق في طريق معاكِسة لطريق الفريق الآخر.
بينما هُم يَدخُلون إلى قورازين، يحلّ ملء النهار محلّ الفجر. فما مِن ساق لا يتلألأ بلآلئ الندى. العصافير تغرّد مِن كلّ صوب. هواء نقيّ ومُنعِش، وهو يبدو وكأنّ له طعم الحليب، حليب نباتيّ أكثر منه حيوانيّ. رائحة القمح الذي يتشكّل داخل السنابل، وأشجار اللوز الـمُثقَلَة بالثمار... رائحة شَمَمتُها في الصباحات المنعِشة في حقول سهل البو الخصيبة.
يَصِلون إلى بيت إيلي بسرعة. ولكنّ أناساً كثيرين مِن قورازين أَصبَحَ لديهم العِلم بأنّ المعلّم قد وَصَل، وفي اللحظة التي كادَت رِجله تطأ فيها العَتَبَة، تركض أُمّ هاتِفة: «يا يسوع، يا ابن داود ارحم ابنتي!» وكانت بين ذراعيها طفلة في حوالي العاشرة، شمعيّة السّحنة وهزيلة جدّاً. بل هي أكثر مِن شمعيّة السّحنة، فَسحنتها كانت صفراء.
«ما بها ابنتكِ؟»
«الحُّمى. لقد أصابَتها عَدواها في مراعي الأردن، ذلك أنّنا رُعاة لدى رجل غنيّ. وقد جَعَلَني الأب أمكُث بقرب المريضة الصغيرة، بينما هو عاد إلى الجبل. وأنتَ تَعلَم أنّه، مع هكذا مرض، لا يمكن الذهاب إلى أماكن مرتفعة. كيف يمكنني البقاء هنا؟ فالمعلّم قد تَرَكَني حتّى الآن. ولكن إنْ كنتُ باقية، فَبِحجّة الصّوف ووضع البهائِم. ولقد آن أوان عَمَلنا، نحن الرُّعاة، وقد نُطرَد أو نُفصَل إذا ما بقيتُ أكثر. وإذا ما ذهبتُ إلى حرمون، فسأرى ابنتي تموت أمام عينيّ.»
«هل تؤمنين بأنّني أستطيع؟»
«لقد تحدَّثتُ إلى دانيال، راعي أليشع، وقال لي: "إنّ ابننا قد شُفِيَ مِن كلّ مرض وسوء. اذهبي وابحثي عن مَسيّا". وقد أتيتُ ممّا وراء بحيرة ميرون للبحث عنكَ، وهي بين ذراعيّ. لقد سرتُ كلّ تلك المسافة حتّى حظيتُ بكَ...»
«لا تسيري بعد إلاّ للعودة إلى بيتكِ، إلى عملكِ مطمئنّة. فابنتكِ قد شُفِيَت، لأنّني أريد ذلك. اذهبي بسلام.»
تَنظُر الأُمّ إلى ابنتها وإلى يسوع. قد تكون تأمل رؤية ابنتها لساعتها بدينة وَوَرديّة. ها هي ذي البنت تُحَملِق بعينيها التَّعِبَتَين اللتين كانتا مغمَضَتين حتّى ذلك الحين، وهي تنظر إلى يسوع وتبتسم.
«لا تخشي شيئاً أيّتها المرأة، فلستُ أخدعكِ. لقد زالت الحمّى نهائيّاً. ومِن يوم لآخر تستردّ مظهرها الجميل. دعيها تذهب، فلن تترنّح ولن تتعب.»
تضع المرأة على الأرض الطفلة التي تنتصب وتبتسم، وهي أكثر سعادة على الدوام. أخيراً زَقزَقَت بصوتها الفضّيّ: «باركي الربّ يا أُمّاه! لقد شُفيتُ تماماً، أشعر بذلك.» وببساطتها، كراعية صغيرة وكطفلة، تقفز إلى عنق يسوع وتُقبِّله. الأُمّ، مُحافِظة، كما يَفرض سنّها، تجثو وتُقبِّل ثوب السيّد مُبارِكة إيّاه.
«هيا اذهبي. تذكّري صنيع الله وكوني صالحة. السلام معكما.»
ولكنّ الجموع تَجَمهَروا في حديقة إيلي الصغيرة، وهُم يُطالِبون بكلمة مِن المعلّم. ورغم عدم رغبة يسوع بالكلام، بسبب حزنه مِن جرّاء إلقاء القبض على المعمدان، ومِن الطريقة التي حَصَلَ بها، فقد لاذ بظلّ الأشجار وبدأ الحديث.
«في هذه الحِقبة الجميلة، حيث القمح يُشكِّل السنابل، أودُّ أن أَسرد لكم مَثَلاً مأخوذاً مِن القمح. اسمعوا.
يُشبِه ملكوت السماوات رَجُل بَذَرَ بذوراً جيّدة في حقله. ولكن بينما كان الرجل وخُدّامه نياماً، جاء عدوّه وبَذَرَ في الأثلام زؤاناً ومَضى. في البداية لم ينتبه أحد لشيء. حلّ الشتاء بأمطاره وصقيعه. وجاءت نهاية شهر طيبت (يقابله شهر كانون الثاني/يناير في الأشهر الميلادية) ونَبَتَ الزَّرع، وبالكاد بَزَغَت الوُريقات باخضرارها اللطيف، وقد كانت تبدو جميعها متساوية ومتشابهة في طفولتها البريئة. وأَقبَلَ شهر شباط (فبراير) وثم آذار (مارس). وتَشَكَّلَت النباتات، وأَخَذَت حبّات السنابل شكلها. حينذاك ظَهَرَ أنّ الاخضرار لم يكن قمحاً كلّه، بل إنما كان هناك الزُّؤان كذلك، الملتفّ بوريقاته الخيطية الدَّبِقَة على سُوق القمح.
ومضى الخُدّام إلى بيت المعلم وقالوا له: "يا سيد، أيّ قمح بَذَرتَ؟ ألم تكن الحَبّات مُنتَقاة، غير مُختَلَطة ببذور أخرى؟"
"بلى، بكلّ تأكيد، ولقد انتَقَيتُ الحبوب بنفسي، وانتقيتُها جميعها بالنوعية ذاتها. وكنتُ قد تفحَّصتُ الحبوب جيّداً، لكيلا يوجد بينها حبوب أخرى".
"ولماذا إذن نَبَتَ كلّ ذاك الزُّؤان بين قمحكَ؟"
فَكَّر المعلّم ثمّ قال: "هذا عدوّ، فَعَلَ بي ذلك ليؤذيني".
حينئذ سَأَلَ الخُدّام: "هل تريدنا أن نمضي بين الأثلام، ونُخلِّص السنابل مِن الزُّؤان، مُقتَلِعين هذا الأخير؟ مُرْنا أنتَ ونحن نُنفِّذ."
ولكنّ المعلّم أجاب: "لا. فأثناء فِعل ذلك يمكن انتزاع الحبوب أيضاً، وبشكل شبه مؤكد يمكن تخريب السنابل التي ما تزال طرية. فدعوها معاً حتى الحصاد. وحينذاك سأقول للحَصَّادين: ”احصدوها معاً؛ ثم، قَبلَ حَزمها، الآن وقد جَعَلَ الجفاف وريقات الزؤان الخيطية هشّة، قابلة للتَّفتُّت، والسنابل المرصوصة أَصبَحَت أكثر قوّة وصلابة، فانزعوا الزُّؤان عن القمح، واجعَلوه حُزَماً مُنفَصِلة. وستَحرقونها فيما بعد وتكون سماداً للأرض. أمّا القمح الجيّد فستحملونه إلى الأهراء، وسيكون صالحاً للخُبز الممتاز، خُزياً للعدو الذي لن يكون قد كسب سوى احتقار الله له بسبب خبثه وشرّه“."
الآن فَكِّروا، كَم مرّة وكَم كان وفيراً بذار العدوّ في قلوبكم. وأَدرِكوا كَم يجب السهر بصبر ودأب للعمل على ألّا يختلط إلّا القليل مِن الزُّؤان بالقمح المختار. مصير الزُّؤان هو الحَرق. فهل تودّون الاحتراق أم أن تُصبِحوا مِن سكّان الملكوت؟ تقولون إنّكم تريدون أن تُصبِحوا مِن سكّان الملكوت. حسناً، اعرفوا كيف تكونون كذلك. فالله قد وَهَبَكم الكلمة. والعدو يعمل على جعلها مؤذية، إذ إنّ طحين القمح الممزوج بطحين الزُّؤان يجعل الخبز مُرّاً ومُضرّاً بالأمعاء. اعرفوا، بإرادتكم الصالحة، إذا كان في نفسكم زؤان، فتضعونه جانباً لرميه، لكيلا تكونوا غير جديرين بالله. امضوا، أيّها الأبناء، وليكن السلام معكم.»
يتفرّق الناس على مهل. ولم يبق في الحديقة سوى الرُّسُل الثمانية، ومعهم إيلي وأخوه وأُمّه وإسحاق العجوز الذي يغذّي روحه بالنَّظَر إلى مُخلِّصه.
«تعالوا حولي واسمعوا: أَشرَح لكم المعنى الكامل للمَثَل الذي له وجهان آخران علاوة عما قُلتُه للجمهور.
في المعنى العام، للمَثَل هذا التفسير: الحقل هو العالم. البِذار الجيد هُم أبناء ملكوت الله، الذين زرعهم الله في العالم، بانتظار الوصول إلى نهايتهم، وقَطعهم بالـمِنجَل، وقيادهم إلى سيّد العالم ليضعهم في أهرائه. أمّا الزُّؤان فهُم أبناء الشرّير الخبيث، المنتَشِرين بدورهم في حقل الله بِنيّة الإساءة إلى سيّد العالم وأذيّة سنابل الله. فعدوّ الله، وبسحر مؤذ، قد زَرَعَهم مُتعمّداً، إذ، في الحقيقة، يعمل الشيطان على أن يُفقِد الإنسان هويّته، ليجعل منه تابعاً له، ويَبذره ليُفسد الآخرين الذين لم يستطع استعبادهم بطريقة أخرى. وأمّا الحصاد، أو بالحريّ تشكيل الحِزَم ونقلهم إلى الأهراء، فهي نهاية العالم. والملائكة هُم المكلّفون بذلك. فلقد أُمِروا بجمع الخلائق بعد الحصاد، وفصل القمح عن الزُّؤان، وكما في الـمَثَل، يُحرَق الزُّؤان، كذلك يُحرَق المدانون في النار الأزليّة، في الدينونة الأخيرة.
سوف يُرسِلهم ابن الإنسان لانتزاع كلّ مُسبّبي الشكّ والظُّلم في مملكته. فحينئذ سيكون الملكوت على الأرض وفي السماء، وسيختلط بأبناء الملكوت أبناء كثيرون للعدوّ الذين سيبلغون، كما قيل كذلك بالأنبياء، كمال الشكّ والكراهية في كلّ نشاطاتهم الأرضيّة، ويُسبِّبون متاعب رهيبة لأبناء الروح. أمّا في ملكوت الله، في السماوات، فسيكون الذين أُفسِدوا قد أُبعِدوا، لأنّ الفَسَاد لا يلج السماء. إذن، فإنّ ملائكة الربّ، وهم يُعمِلون الـمِنجَل في صفوف الحصاد الأخير، سيَحصدون ويَفصلون القمح عن الزُّؤان، ويَرمون هذا الأخير في الأتون المتأجّج، حيث ليس هناك سوى البكاء وصريف الأسنان. وعلى عكس ذلك، يقودون المستقيمين، القمح الممتاز، إلى أورشليم السماويّة، حيث يشعُّون كشموس في ملكوت مَن هو أبي وأبوكم.
ذاك هو المعنى العامّ. أمّا بالنسبة إليكم، فهناك معنى آخر يجيب على أسئلة تطرحونها على ذواتكم مرّات عديدة، وخاصّة منذ مساء الأمس. فإنّكم تتساءلون: "ولكن ضمن مجموعة التلاميذ، هل يمكن إذاً أن يكون خونة؟" وتَرتَجِفون في قلوبكم هَلَعاً وخوفاً. إنّما يمكن أن يوجد، وبالفعل يوجد. فالزَّارِع يَزرع قمحاً جيّداً. وفي هذه الحال، أكثر مِن يَزرَع، بل يمكن القول: "يَختار"، إذ إنّ المعلّم، إنْ أَكُن أنا أَم المعمدان، قد اختارَ تلاميذه. فكيف انحَرَفوا إذن؟ لا، ليس هذا ما يجب قوله، ففي حديثي عن "البِذار"، لا يفي التعبير بالغرض عندما يُقصَد بذلك التلاميذ. ويمكنكم بذلك إساءة الفَهم. سأقول إذن: "الحقل". فَبِقَدر وجود تلاميذ هناك حقول، اختارها المعلّم ليَعمَل منها نطاق ملكوت الله، خيرات الله. ويَبذل المعلّم مِن أجلهم كلّ جهد لتثقيفهم، لكي يعطوا المائة بالمائة. كلّ الاهتمام. كلّه. بصبر وحبّ وحكمة وتعب ودَأب. ويرى كذلك ميولهم السيّئة وجَدبهم ونَهَمهم. يرى عنادهم وضعفهم. ولكنّه يتأمّل، يرجو على الدوام، ويقوّي رجاءه بالصلاة والتكفير، لأنّه يريد أن يقودهم إلى الكمال.
ولكن الحقول مفتوحة، فهي ليست حدائق مُغلَقَة، مُسَوَّرة بأسوار سميكة، حيث المعلّم هو المالك الوحيد، وحيث يمكنه دخولها بمفرده فقط. إنّها مفتوحة وهي في مركز العالم، وسط العالم. آه! فليس الزُّؤان وحده هو البِذار السيّئ! الزُّؤان: يمكنه أن يكون رمز خفّة عقل العالم الـمُرَّة. ولكن ها هي ذي كلّ البذور الأخرى تنمو، وقد رماها العدوّ. القرّاص والعَكرَش واللبلاب، والكسكوت وكذلك الشوكران والسموم. لماذا؟ لماذا؟ ماذا تكون؟
القرّاص: هو النُّفوس الشائكة، لا يمكن ترويضها، وهي التي تَجرَح، ويَطفَح السمّ، والتي تُسبّب الكثير مِن المتاعب. والعَكرَش: هو الطفيليّات التي تُنهِك المعلّم والتي لا تعرف سوى التنكيد والامتصاص، بالاستفادة مِن عمله، والإساءة إلى ذوي الإرادة الصالحة التي تؤتي بالحقيقة أفضل الثمار، إذا لم يكن المعلّم مضطرباً ومنـزعجاً بالاهتمامات التي يفرضها العَكرَش. اللبلاب: الخامل الذي لا يرتفع عن الأرض إلّا بالاعتماد على الآخرين. الكسكوت: عذاب على الطريق التي أَصبَحَت شاقّة بالنسبة إلى المعلّم والتلاميذ الأوفياء الذين يتبعونه. إنّها تَعْلَق وتَختَرِق وتُمزّق وتَخمُش وتُسبِّب الألم والرِّيبة. أَمّا السموم: فهُم الجُّناة وسط التلاميذ، أولئك الذين يتوصّلون للخيانة وإخماد جَذوة الحياة مثل الشوكران والنباتات السامّة الأخرى. هل رأيتموها كم هي جميلة، بأزهارها الصغيرة التي تُصبح كُرات صغيرة بيضاء وحمراء وزرقاء وبنفسجيّة؟ مَن يمكنه القول إنّ تويج الزهرة ذاك الممتلئ بالنجوم، البيضاء أو المائلة إلى اللون الورديّ، بقلبه الذهبيّ الصغير، مَن يمكنه القول إنّ تلك المرجانات متعدّدة الألوان، المشابهة تماماً للثمار العِنَبية الأخرى التي تُشكِّل مصادر لذّة ومتعة للعصافير والأطفال، يمكنها أن تُسبِّب الموت عند نضوجها؟ والأبرياء يرتمون عليها، يَظنّونها صالحة مثلهم... يقطفونها ويموتون بسببها.
يظنّونهم جميعاً صالحين مثلهم! آه! يا للحقيقة التي تسمو بالمعلّم وتدين الذي يخونه! كيف؟ أفلا يُليِّن الصلاح؟ أفلا يجعل سيّئ النيّة غير مؤذ؟ لا. هو لا يجعله كذلك، إذ إنّ الإنسان الساقط الذي أَصبَحَ فريسة للعدوّ يكون لا مبالياً لكلّ ما هو أسمى. فكلّ ما هو أسمى منه يتبدّل مظهره في عينيه. فالصَّلاح يُصبح ضَعفاً مسموحاً الدَوْس عليه، وهو يزيد مِن حدّة سوء نيّته كما تزداد إرادة القتل لدى الحيوان المفتَرِس برائحة الدم. ويبقى المعلّم بريئاً على الدوام... ويَترك الخائن يدسّ له السمّ، لأنّه لا يمكنه أن يُفكِّر أنّ إنساناً يستطيع أن يكون قاتِلَ مَن هو بريء.
إلى التلاميذ، حقول المعلّم، يأتي الأعداء. إنّهم كثيرو العدد. وفي المقدّمة الشيطان. أمّا الآخرون فهم خُدّامه، هُم الناس والميول والعالم والجسد. هو ذا، هو ذا التلميذ، ينالون منه بسهولة لأنّه لا يمكث قرب المعلّم، مُلازِماً له، بل يبقى متأرجحاً بين المعلّم والعالم. لا يدري، لا يريد الانفصال عن كلّ ما هو عَالَم، جسد، مَيل وشيطان، ليكون بكلّيّته للذي يُوصِله إلى الله. عليه يَنثرون بذورهم التي هي العالم والجسد والميول والشيطان، الذَّهَب والسُّلطة والـمَرأة والكبرياء والخوف مِن حكم العالم الخاطئ وروح المنفعة. "العظماء هُم الأقوى. ها أنذا أخدمهم لأكسبهم كأصدقاء". ونصبح جُناة ونُدان مِن أجل تلك الأشياء البائسة!...
لماذا لا يرى المعلّم نَقيصة التلميذ، حتّى ولو لم يكن يريد القبول بِفِكرة: "هذا يَجلب لي الموت"، ولا يُقصيه فوراً عن أتباعه؟ هكذا تتساءلون. لأنّ فِعله هذا لا جدوى له. فلو قام بذلك لما حالَ دون جعله عدوّاً، عدوّاً مُضاعَفاً وأكثر ضَراوة، بسبب الغَيظ أو ألم اكتشافه وطرده. الألم، نعم، لأنّ التلميذ السيّئ لا يتنبّه إلى كونه كذلك. فَعَمَل الشيطان حاذِق لدرجة أن يجعله لا يلاحظه، فيصبح شيطاناً دونما ارتياب بأنّه يَخضَع لهذا التحوّل. الغيظ مِن أنّه عُرِفَ على ما هو عليه، بينما هو غافل عن عمل الشيطان وأنصاره: الناس الذين يُجرِّبون الضعيف بضعفه، ليُجرِّدوا العالم مِن القدّيس الذي يُسيء إليهم، بسبب شرّهم الذي يقارنونه بصلاحه. حينئذ يصلّي القدّيس ويُسلِّم ذاته لله قائلاً: "فليكن ما تَسمح أن يُفعَل"، ويضيف هذا الشرط فقط: "شرط أن يَخدُم هذا غايتكَ". يَعرف القدّيس أنّها ستأتي الساعة التي يُفصَل فيها الزُّؤان مِن حصاده. مِن قِبَل مَن؟ مِن الله ذاته الذي لا يدعه يَفعَل أكثر مما هو مفيد لانتصار إرادة حبّه.»
«إذا سَلَّمتَ بأنّ الشيطان وأنصاره على الدوام هم المذنبون فيبدو لي أنّ مسؤوليّة التلميذ تتضاءل.» يقول متّى.
«لا تُفكِّر في ذلك. فإذا وُجِدَ الشرّ، فالخير أيضاً موجود، ولدى الإنسان البصيرة والتمييز، ولديه الحرّية.»
«تقول إنّ الله لا يَدَع يَحدُث أكثر ممّا هو مفيد لانتصار إرادة حبّه. إذن، فهذا الخطأ مفيد إذا ما سَمَحَ به، ويفيد في انتصار الإرادة الإلهيّة.» يضيف الاسخريوطيّ.
«وتستنتج، مثل متّى، أنّ هذا يُبرِّر جريمة التلميذ. إنّ الله كان قد خَلَقَ الليث دونما وحشيّة، والحيّة دونما سمّ. والآن الواحد وحش والأخرى سامّة. ولكنّ الله فَصَلَهُما عن الإنسان وأَبعَدَهُما لهذا السبب. تأمّل في ذلك وطَبِّقه. فلنَعُد. الشمس أَصبَحَت شديدة الحرّ، قويّة جدّاً كما لبداية عاصفة، وأنتم تَعِبون، بعد ليلة دون نوم.»
يقول إيلي: «في البيت غرفة كبيرة ومُنعِشَة في الطابق العُلْويّ. يمكنكم الاستراحة فيها.»
يَصعَدون السلّم الخارجيّ. إنّما يتمدّد التلاميذ فقط على الحصيرة ليرتاحوا. أمّا يسوع فَيَخرُج إلى الشُّرفة، في ركن منها تظلّله بلّوطة عالية، ويستَغرِق في أفكاره.