ج3 - ف33

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الثالث / القسم الأول

 

33- (العِظَة على الجبل: "التطويبات IV")

 

27 / 05 / 1945

 

يوماً إثرَ يوم يتعاظَم عدد الجمهور. فهناك رجال ونساء وشيوخ وأطفال، أغنياء وفقراء. وكذلك استفانوس وهَرْماس ما يزالان هناك، رغم عدم انضمامهما بعد إلى التلاميذ القُدامَى، وعلى رأسهم إسحاق. وهناك كذلك الزَّوجيّ الجديد المتشكِّل أمس مِن العجوز والمرأة. إنّهما في المقدّمة، بالقرب مِن مُعزِّيهِما، ويبدوان في حال أفضل مِن حال الأمس. العجوز، كما للتعويض عن الأشهر الطويلة أو السنوات التي تَرَكَته فيها ابنته، يَضَع يده الخَشِنَة على رُكبَتيّ المرأة التي تُلاطِفها، بتلك الحاجة الفطريّة، لدى المرأة سَليمَة الطَّويّة، إلى ممارسة أمومتها.

 

يمرّ يسوع بجانبهما ليَصعَد إلى مَجلِسه. وأثناء مروره يُلامِس بِلُطف رأس العجوز الذي أَصبَحَ يَنظُر إليه كما إلى إله. يَهمس بطرس بشيء ما إلى يسوع الذي يشير كما ليقول: «لا يهمّ.» ولكنّني لا أُدرِك ماذا قال الرسول الذي بَقِيَ، مع ذلك، إلى جانب يسوع، وقد لَحق به بعدئذ يوضاس تدّاوس ومتّى. أمّا الآخرون فتائهون وسط الجمهور.

 

«السلام لكم جميعاً!

 

في الأمس تحدّثتُ عن الصلاة والقَسَم والصوم. واليوم أريد أن أحدّثكم عن كمالات أخرى. وهي كذلك: صلاة وثقة وصدق وحبّ وَدِين.

 

الأولى التي سأتحدّث عنها هي: الاستخدام الصحيح العادل للثروات، كي تتحوّل، بحسن إرادة الخادم الأمين إلى ثروات سماويّة جَمَّة. فكنوز الأرض لا تدوم، أمّا كنوز السماء فتدوم إلى الأبد. هل لديكم الحبّ لما تملكون؟ هل عدم استطاعتكم الاهتمام بخيراتكم، ووجوب تركها يسبِّب لكم الألم حتّى الموت؟ إذاً فانقلوها إلى السماء! تقولون: "ما هو أرضيّ لا يَلِج السماء، وأنتَ تَعلَم أنّ الفضّة فيها أكثر أشياء الأرض مَبعَثاً للاشمئزاز. فكيف نستطيع إذن نقلها إلى السماء؟" لا، لا يمكنكم نقل القطع النقديّة المادّيّة إلى المملكة التي هي بأكملها روحيّة، إنّما يمكنكم نقل ثَمَرَة تلك النقود. فأنتم حينما تُعطون ذهبكم إلى مَصرفيّ، فلماذا تعطونه إيّاه؟ لكي يَستَثمره. ولستم تَحرمون أنفسكم منه بالتأكيد، حتّى ولو مؤقّتاً، لكي يُعيده إليكم كما هو. ولكنّكم تريدونه أن يُعيد إليكم العشر وزنات زائدة واحدة أو أكثر أيضاً. حينذاك تكونون سعداء وتمتَدِحون المصرفيّ. أمّا غير ذلك فتقولون: "إنّه نزيه ولكنَّه أحمق". ثمّ إذا ما أعطاكم بَدَل العشر وزنات زائدة واحدة، لم يَردّ سوى تسع قائلاً: "خَسِرتُ الباقي". فإنّكم تشتكونه وتَرمونه في السجن.

 

ما هي ثَمَرَة الفضّة؟ هل مثلاً يَبْذُر المصرفيّ دوانقكم ويسقيها حتّى يجعلها تنمو؟ لا. فالثَمَرَة تُعطى بالاستخدام البارع للأشياء، بشكل أنّ، مع الرهونات والقروض التي بفائدة، ينمو المال مِن الفائدة الـمُستَوجِبة للذهب الذي تمّ اقتراضه.. أليس كذلك؟ إذن فاسمَعوا: يمنحكم الله الثروات الأرضيّة، يَمنَح البعض كثيراً، وآخرين بشكل يكاد يكفي الضروريّ لِقُوت يومهم، ويقول لكلّ منكم: "الآن جاء دوركَ. لقد مَنَحتُكَ إيّاها أنا، فاصنَع أنتَ بتلك الوسائل نهاية يشتهيها حبّي لخيركَ. أَئتَمِنكَ عليها، ولكن ليس لتجعَل الشرّ يَصدر عنها. ولكن، بسبب التقدير الذي أُكِنّهُ لكَ، وعرفاناً بجميل نِعَمي، اجعَل خيراتكَ تُثمر بما يتناسب مع هذا الموطن الحقيقيّ.

 

وهاكم الطريقة لبلوغ تلك النهاية.

 

لا تَرغَبوا في تكديس كنوزكم على الأرض وتحيوا لأجلها، مُظهِرين أنفسكم قساة بسببها، جالِبين بذلك لأنفسكم اللَّعنات مِن القريب ومِن الله. فهي لا تستحقّ كل ذلك. ليس لها أيّ ضمان في هذه الدنيا، إذ يمكن للصوص على الدوام أن يسرقوها منكم، كما يمكن للنيران أن تلتَهِم البيوت، ولأمراض النبات والقطعان أن تقضي على الثمار أو الحيوانات. كَم مِن الأخطار تتربّص بالخيرات! إن تكن عقارات كالبيوت أو تكن غير قابلة للفساد كالذهب؛ إن تكن بطبيعتها قابلة للهلاك مثل كلّ ما يحيا، كما هي الحال بالنسبة للنبات والحيوان؛ وإن تكن أخيراً أقمشة نفيسة يمكنها أن تتلف. الصاعقة على البيوت أو الحريق أو الفيضانات؛ واللصوص والصدأ والجفاف والقوارض والحشرات في الحقول؛ دُوار الغَنَم والحمّى والكساح والأوبئة التي تصيب الحيوانات؛ العثّة للأقمشة النفيسة والجرذان للأثاث الثمين؛ الكَسر للأواني والتأكسد للثّريّات والحواجز الـمُشَبَّكة الفنية؛ كلّ شيء، كلّ شيء يمكنه أن يَفسُد.

 

إنّما لو صنعتم مِن كلّ هذا الخير الأرضيّ خيراً فائق الطبيعة، حينئذ يَسلَم مِن كلّ إتلاف الزمن والناس والأحوال الجويّة السيّئة. اكنـزوا لكم كنوزاً في السماء حيث لا يصل اللصوص وحيث لا يحصل أيّ سوء. أَتِمّوا عملكم برحمة تجاه كلّ شقاء الأرض. دَاعِبوها، نَعَم، قَبِّلوا قطعكم النقديّة إن أردتم، اسعَدوا بالمواسم الـمُزدَهِرة والكروم كثيرة العناقيد وشجر الزيتون الذي ينحني تحت ثِقل حبّات الزيتون التي لا تُحصى، والنِّعاج ذات الأحشاء الخصيبة والضروع المنتَفِخة. قُوموا بكلّ ذلك، إنّما ليس بطريقة عقيمة، بشريّة. قوموا بذلك بحبّ وإجلال، بفرح وبحساب فائق الطبيعة.

 

"شكراً يا إلهي على هذا المال، وهذه الغِلال، وهذه الأشجار وهذه النِّعاج وعلى هذه المتاجرات! شكراً لكِ أيّتها النِّعاج والأشجار والحقول والمتاجرات التي كنتِ لي مفيدة! مبارَكة أنتِ جميعاً، إذ بصلاحكَ أيّها الأزليّ، وبصلاحكِ أيّتها الأشياء، ها أنذا أتمكّن مِن فِعل الكثير مِن الخير للجِّياع والعُراة والمشرَّدين والمرضى والوحيدين... العام الماضي فَعَلتُ ذلك لعشرة. وهذا العام -رغم أنّي أَعطَيتُ الكثير كَصَدَقات، ما زال معي الكثير، فالغِلال أَوفَر والقطعان أكثر عدداً- ها أنذا أَمنَح ضِعفيّ أو ثلاثة أضعاف ما قَدَّمتُه العام الماضي، ليَسعَد معي الجميع حتّى الذين لا يملكون شيئاً لهم شخصيّاً، وليبارِكوك معي، أنتَ الربّ الأزليّ". تلك هي صلاة البار. تلك الصلاة التي، إذا ما اقتَرَنَت بالعمل، تَنقُل خيراتكم إلى السماء، وليس فقط لتحفظها لكم إلى الأبد، وإنما لتجعلها تزداد وتنمو بثمار الحبّ المقدَّسة.

 

فليكن كنـزكم في السماء ليكون هناك قلبكم، أعلى وأبعد مِن أن يطاله الخطر، كي لا تلحق الويلات، ليس فقط بالذهب والبيوت والحقول والقطعان، ولكن كي لا يُصاب قلبكم، يُنـزَع، يَفسُد، يُحرَق ويُقتَل بروح العالم. إذا ما تصرّفتم هكذا، فسوف يكون كنـزكم في قلبكم، لأنّ الله سيكون فيكم حتّى اليوم المغبوط الذي تصبحون أنتم فيه.

 

فَكِّروا إذاً، لِكَيلا تَقلَّ ثمار المحبّة، أن تكون فيكم المحبّة بروح فائق الطبيعة. وكما قُلتُ عن الصلاة والصوم، أقول كذلك عن فِعل الخير وكلّ الأعمال الصالحة التي يمكنكم القيام بها.

 

حافِظوا على الخير الذي تَعمَلون في مأمن مِن انتهاكات شهوانيّة العالم. حافِظوا عليه غير مَشوب بالمديح البشريّ. لا تُدنِّسوا الوردة العَطِرة؛ الـمَبخَرة الحقيقيّة للعطور المقبولة لدى الربّ، الوردة العَطِرة لمحبّتكم وأفعالكم الصالحة. ما يُدنِّس الخير هو روح الكبرياء، الرغبة في الظهور عند فعل الخير والبحث عن المديح. حينئذ تُصبِح وردة المحبّة ملوَّثة وفاسِدة في القواقِع الدَّبِقة للكبرياء الـمُشبَع، وتسقط على الـمَبخَرة القشّات النَّتِنة التي لِفراش الدَّواب الذي يُسَرّ عليه المتكبّر مثل حيوان شبعان.

 

آه! أفعال الخير تلك التي صُنِعَت لأجل الحديث عنكم! إنّما يُفَضَّل، بل أفضل كثيراً، ألا تُفعَل! فَمَن لا يَفعَلها يَقتَرِف خطيئة القَسوة. أمّا مَن يفعلها مُعلِناً القيمة الممنوحة واسم المستفيد، مستجدياً المديح، فيقترف خطيئة الكبرياء بإعلامه عن التَّقدِمة، فهو كَمَن كان يقول: "أَتَرون ما يمكنني فِعله؟" وهو يَقتَرِف خطيئة ضدّ المحبّة، إذ يُذِلّ المستفيد بالتعريف باسمه، خطيئة البُخل الروحيّ برغبته في تراكم المديح البشريّ... إنّه القَشّ، القَشّ ليس إلّا. فاعمَلوا بشكل يكون فيه الله وملائكته هم الذين يمدحونكم.

 

أنتم، عندما تؤدّون الصَّدَقَة، فلا تنفخوا في البوق لتلفتوا انتباه المارّة، وتُكَرَّموا مثل المنافقين الذين يبحثون عن تصفيق الناس لهم، ولذلك فهم لا يؤدّون الصَّدَقَة إلّا حيث يشاهدهم العدد الأكبر مِن الناس. فهم، بذلك، قد نالوا أجرهم، ولن يكون لهم أجر آخر مِن الله. أمّا أنتم فلا تقعوا في تلك الخطيئة ذاتها، وفي ذلك الغرور. ولكن عندما تُؤدُّون الصَّدَقَة، فلا تدعوا يدكم اليسرى تعلم ما فَعَلَتهُ يدكم اليمنى، ولتكن صدقتكم خفيّة وعفيفة، وبعد ذلك انسوها. ولا تظلّوا تفتخرون بالعمل الذي قمتم به، نافِخين ذواتكم مثل الضفدع الذي يتفاخر وعيناه مغشيّتان في المستنقع، والذي، حينما يَرى في المياه الساكنة صورة السحاب والأشجار والعربة المتوقّفة قرب الشاطئ، والذي حين يرى نفسه صغيراً، بالمقارنة مع تلك الأشياء، يَنفُخ نفسه بالهواء حتّى ينفجر. محبّتكم أنتم لا شيء إذا ما قيست بمحبة الله اللانهائيّة، وإذا أردتم أن تصبحوا شبيهين به، وأن تجعلوا محبّتكم الصغيرة كبيرة كبيرة، كبيرة لِتُعادل محبّته، فستمتلئون برياح الكبرياء وتنتهون بالهلاك.

 

انسوه. انسوا الفعل ذاته. وسيبقى لكم حاضراً على الدوام نورٌ، كلمة لذيذة كالعسل، وهذا يجعل يومكم مشرقاً، لطيفاً وسعيداً. إذ إن ذلك النور هو ابتسامة الله، وذاك العسل هو السلام الروحي الذي هو أيضاً الله، وذلك الصوت صوت الله-الآب الذي يقول لكم: "شكراً". وهو يرى الشرّ الخفيّ والخير الذي يتخفّى ويكافئكم عنه...»

 

«يا معلم، أنتَ تُناقِض كلامكَ!»

 

هذه الإهانة الماكرة وغير المتوقّعة تأتي مِن وسط الجمهور. يلتفت الجميع صوب ذلك الصوت. تَحدُث بَلبَلة. ويقول بطرس: «كنتُ قد قُلتُ لكَ ذلك! هه! عندما يكون واحد مِن أولئكَ... فلا يعود يسير شيء على ما يرام!»

 

مِن الجمهور مَن يُقاطِع الـمُهين بالصفير، ومَن يَصرخ في وجهه. يسوع هو الوحيد الذي يظلّ هادئاً. يُصالِب ذراعيه على صدره، ويَنتَصِب، تُنير الشمس جبهته، مُنتَصِباً على صخرته بثوبه الأزرق القاتم.

 

يُتابِع الـمُهين دونما اكتراث بردّة فِعل الجمهور: «أنتَ معلّم سيئ، تُعلِّم ما لا تَعمَل، و...»

 

«اصمُت! ارحَل! عار عليكَ!» يهتف الجمهور. وأيضاً: «اذهَب إلى كَتَبَتِكَ! نحن يكفينا المعلّم. فالمنافقون مع المنافقين! والمعلّمين المزيّفين! والمرابين!...» ويستمرّون، غير أنّ يسوع يقول بصوت كالرعد: «صمتاً، دعوه يتكلّم.» ويكفّ الناس عن الصراخ، إنّما يُتمتِمون تقريعاتهم مترافقة بنظرات غاضبة.

 

«نَعم، أنتَ تُعَلِّم ما لا تَعمَل. تقول إنّه ينبغي لنا أن نؤدّي الصَّدَقَة دون أن يرانا أحد. وأمس، بحضور كلّ الناس قُلتَ لِفَقيرَين: "ابقيا وسأُشبِعكُما".»

 

«ما قُلتُه هو: "ليَبْقَ الفقيران. وسيكونان ضَيفَين مُبارَكَين ويَمنَحان قُوْتَنا طعماً لذيذاً". ليس أكثر. لم أقل شيئاً عن إرادتي إشباعهما. مَن هو الفقير الذي لا يملك رغيفاً على الأقل؟ أمّا نحن فقد كان فرحنا في أن نمنحهما صداقتنا الصَّالحة.»

 

«هه! نَعم! إنّكَ مُراوِغ، وتجيد لعب دور الحَمَل!...»

 

يَنهَض العجوز، يَلتَفِت رافعاً عصاه، ويَصرُخ: «أيّها اللِّسان الجهنّميّ، أنتَ يا مَن تتّهم القدّيس، أتعتقد أنّكَ تعرف كلّ شيء وبإمكانكَ الاتّهام بما تَعرِف؟ كَم تَجهَل مَن هو الله، ومَن هو ذاك الذي تُهينه، وبذلك تَجهَل أفعاله. لا أحد يَعلَمَها إلّا الملائكة وقلبي الذي تملؤه الغِبطة. اسمعوا أيّها الناس، اسمعوا جميعاً وتنبّهوا إذا ما كان يسوع هو الكاذِب المتكبّر الذي يعنيه قذارة الهيكل هذا. إنّه...»

 

«اصمُت يا إسماعيل! اصمُت حُبّاً بي! إذا ما جَعَلتُكَ سعيداً، فاجعلني أنتَ سعيداً بصَمْتكَ.» يقول له يسوع ذلك على شكل رجاء.

 

«أطيعكَ أيّها الابن القدّيس. ولكن دعني أقول هذا فقط: "بَرَكَة الإسرائيليّ العجوز عليه، وهو الذي نلتُ على يديه الخير الذي مِن قِبَل الله. هذه البَرَكَة وَضَعَها الله على شفتيّ مِن أجلي ومِن أجل سارة، ابنتي الجديدة. إنّما لن تكون على رأسكَ بَرَكَة. لستُ ألعنكَ، ولا أُوسِّخ باللَّعنة فمي الذي ينبغي له أن يقول لله: "تَقَبَّلني". وأنا لم ألعن حتّى تلك التي أَنكَرَتني، وها إنّ الله يكافئني. ولكن سيكون هناك مَن يدافع عن البريء الذي يتّهمون وعن إسماعيل صديق الله الذي يباركه.»

 

تَبِعَ حديث العجوز الذي عاد ليجلس مِن جديد صِياح، ورَجُل يَنسَلّ ويَبتَعِد، وقد انهالت عليه الملامات. ثمّ يهتف الجمهور ليسوع: «تابع، تابع أيّها المعلّم القدّيس! نحن لا نستمع لسواكَ، وأنتَ استَمِع لنا. لا تستمع لأولئك الغربان الملعونين! إنّهم يغارون لأنّنا نحبّكَ أكثر منهم! ولكنّكَ قِدّيس وهم منحرفون. تحدّث، تحدّث! فأنتَ ترى أنّ لا رغبة لنا بغير كلامكَ. بيوت، متاجرات؟ كلّ ذلك لا شيء لِمَن يريد الاستماع إليكَ.»

 

«نعم، سأتكلّم. ولكن لا تَجلبوا لأنفسكم المتاعب. صَلّوا مِن أجل ذلك البائس. اغفروا كما أغفر أنا، لأنّكم إذا غفرتم للناس أخطاءهم يَغفر لكم أبوكم السماويّ كذلك خطاياكم. إنّما إذا ما كنتم تُضمِرون الحقد ولا تغفرون للناس، فأبوكم كذلك لن يَغفر لكم أخطاءكم. والجميع في حاجة إلى المغفرة.

 

كنتُ أقول إنّ الله سيكافئكم، حتى ولو لم تَطلبوا منه الثواب على الخير الذي فَعَلتُموه. إنّما أنتم فلا تفعلوا الخير مِن أجل الثواب، للحصول على ضمان مِن أجل الغد. لا تفعلوا الخير وأنتم تحسبونه وقد تملّككم الخوف: "ثمّ، بالنسبة إليَّ، فهل أحصل على المزيد؟ وإذا لم يَعُد لديَّ شيء، فَمَن سيمدّ لي يد العَون؟ هل سأجد مَن يَفعَل معي ما فَعَلتُه مع الآخرين؟ وعندما لا يعود بإمكاني إعطاء أيّ شيء فهل سأظلّ محبوباً؟

 

انظروا: لي أصدقاء مُقتَدِرون مِن الأغنياء، وأصدقاء مِن البائسين. والحقّ أقول لكم: ليس الـمُقتَدِرون هُم الذين أحبّهم أكثر. أَذهَب إليهم، ليس للبحث عن ذاتي أو عن مصالحي، ولكن لأنّني أستطيع الحصول منهم على الكثير مِن أجل الذين لا يملكون شيئاً. أنا فقير. لا أملك شيئاً. وأودُّ لو أمتَلِك كلّ كنوز العالم لأُحوِّلها إلى خبز مِن أجل الجّياع، بيوتاً للمشرَّدين، وثياباً للعُراة، وأدوية للمرضى. ستقولون: "أنتَ تستطيع الشفاء". نعم، أستطيع ذلك وأشياء أخرى. ولكن لا يتوفّر الإيمان لدى الآخرين، وأنا لا يمكنني فِعل ما أفعَل وما أريد أن أفعَل إلّا إذا وُجِد في القلوب الإيمان بي. أودُّ أن أفعَل الخير حتّى للذين لا إيمان لديهم، ولأنّهم لا يَطلبون المعجزة مِن ابن الإنسان، فأبغي نجدتهم مِن رَجُل لِرَجُل. ولكن لا شيء لديَّ. لذلك أمدُّ اليد للذين يملكون وأطلب إليهم: "قُم معي بفعل محبّة باسم الله". هاكُم لماذا لديَّ أصدقاء مِن مقام رفيع. غداً، عندما لا أعود على الأرض، سيكون هناك أيضاً فقراء، وأنا لن أكون لا لاجتراح المعجزات للذين لديهم الإيمان، ولا للتصدُّق بُغية الاستمالة إلى الإيمان. إنّما سيكون الأغنياء آنئذ قد تَعَلَّموا، باحتكاكهم بي، كيف العمل لأداء فِعل الخير، ورُسُلي، باحتكاكهم بي كذلك، سيكونون قد تَعَلَّموا كيفيّة التصدُّق حبّاً بالإخوة. وسوف ينال الفقراء المعونة على الدوام.

 

حسناً، أمس تلقّيتُ مِن إنسان، لا يملك شيئاً، أكثر مِن كلّ ما أعطانيه الذين يملكون الكثير. إنّه صديق أكثر فقراً منّي، ولكنّه مَنَحَني ما لا يمكن شراؤه بالمال، وما جَعَلَني سعيداً بتذكيري بساعات صفاء كثيرة لطفولتي وشبابي، وذلك عندما كانت يدا صِدّيق تُوضَعان على رأسي كلّ مساء، وكنتُ أَخلُد إلى الراحة مصحوباً ببركته لحماية نومي. وأمس جَعَلَني هذا الصديق الفقير مَلِكاً ببركته. تَرَون أنّ ما أعطانيه هو، لا أحد مِن أصحابي الأغنياء قد مَنَحنيه قطّ. فلا تخافوا إذن. حتّى ولو لم يكن لديكم ما تتصدَّقون به، يكفي أن يملأ قلبكم الحبّ والقداسة. سوف تتمكّنون مِن فِعل الخير لِمَن هو فقير ومُنْهَك أو محزون.

 

مِن أجل ذلك أقول لكم: لا تقلقوا كثيراً خوفاً مِن امتلاك القليل. فسيكون لكم الضروريّ على الدوام. لا تَنشَغِلوا كثيراً في التفكير بالمستقبل، فلا أحد يَعلَم المستقبل الذي ينتظره. لا تفكّروا بما تأكلون لتحافظوا على حياتكم، ولا بما تلبسون لتُدفِّئوا أجسادكم، فحياة أرواحكم أثمن مِن بطنكم وأعضائكم، إنّها أثمن كثيراً مِن الغذاء والكِساء، كما الحياة المادّيّة أثمن مِن الغذاء، والجسم أثمن مِن الكِساء. وأبوكم يَعلَم ذلك. فاعلَموا إذاً أنتم كذلك. انظروا إلى الطيور، إنّها لا تَبذُر ولا تَحصُد ولا تُخزّن في الأَهرَاء، ومع ذلك فهي لا تَنفُق جوعاً لأنّ الأب السماويّ يَرزقها. وأنتم أيّها الناس، المخلوقات المفضّلة لدى الآب، إنّكم أهمّ منها كثيراً.

 

لا تكونوا قليلي الإيمان. لا تَقلَقوا مِن أجل مستقبل غير واضح الـمَعالِم بقولكم: "عندما سأصبح عجوزاً كيف سأتدبّر طعامي؟ ماذا سأشرب؟ وكيف ألبس؟" دعوا تلك الاهتمامات كلّها للوثنيّين الذين لا يملكون اليقين الـمُنير مِن الأبوّة الإلهيّة. أمّا أنتم فلديكم ذلك، وتعرفون أنّ أباكم يَعلَم أنّكم تحتاجون إلى هذا كلّه وأنّه يحبّكم. ثِقوا به إذاً. اطلبوا أوّلاً الأمور الضروريّة حقّاً: الإيمان والصّلاح والمحبّة والتواضع والرحمة والعفاف والبرّ والوداعة، الفضائل الرئيسيّة الثلاث أو الأربع، وكلّ الأخريات أيضاً، بشكل تكونون فيه أصدقاء الله، وأن يكون لكم الحقّ في ملكوته. وأؤكّد لكم أنّ كلّ ما زاد على ذلك يُمنَح لكم حتّى دون أن تطلبوه. فليس غنيّ أكثر غِنى مِن القدّيس وأكثر ثقة منه. الله مع القدّيس. والقدّيس مع الله. وهو لا يَطلب شيئاً لجسده، والله يمنحه الضروريّ. ولكنّه يَعمَل مِن أجل روحه، الروح الذي يَهِبه الله ذاته في هذه الدنيا، والفردوس بعد الحياة.

 

لا تتحمّلوا عناء ما لا يستحقّ عناءكم. احزَنوا لكونكم غير كاملين، وليس لأنّكم محرومون مِن الخيرات الأرضيّة. لا يهمّكم أمر الغد، فالغد يهتمّ بنفسه، وستهتمّون به عندما تعيشونه. فلماذا الاهتمام به منذ الآن؟ أليست الحياة مليئة بذكريات الأمس الـمُضنية واهتمامات اليوم المؤلمة، حتّى تَختَبِروا الحاجة إلى زيادة كوابيس "ماذا سيكون" غداً؟ دعوا لكلّ يوم معاناته! فلكلّ يوم مِن العناء ما يكفيه! قولوا دائماً مقولة الله العظيمة: "اليوم". كونوا أبناءه الـمَخلوقِين على مثاله. فقولوا إذن معه: "اليوم".

 

واليوم أمنحكم بركتي. ولتصحبكم حتّى بداية اليوم الجديد: غداً، أي حينما سأمنحكم، مِن جديد، السلام باسم الله.»