ج4 - ف175

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الرابع / القسم الثاني

 

175- (ابن العمّ سمعان يعود إلى يسوع)

 

21 / 10 / 1945

 

يَحُلّون ضيوفاً على بيت فقير، حيث يُحيط بجدّة عجوز مجموعة مِن الأولاد تتراوح أعمارهم بين الثانية والعاشرة، تقريباً. والبيت وسط حقول صغيرة لم تَنَل نصيباً وافراً مِن العناية، وقد تحوَّل بعضها إلى مروج تَظهَر فيها أشجار مُثمِرة، ما تزال على قيد الحياة.

 

«السلام لكِ يا يُوَنّا. هل تجري الأمور بشكل أفضل اليوم؟ هل أتوكِ بالعَون؟»

 

«نعم أيّها المعلّم يسوع. ولقد قالوا لي إنّهم سيعودون مِن أجل البِذار. سيكون الوقت متأخّراً، ولكنّهم قالوا لي إنّها ستنبت أيضاً.»

 

«بكلّ تأكيد سوف تنبت. وما يكون معجزة الأرض والزراعة يُصبِح معجزة الله. وبالتالي معجزة تامة. ستكون حقولكِ أجمل حقول المنطقة، وهذه العصافير التي تحيط بكِ، ستكون لها وفرة مِن الحبوب تملأ بها مناقيرها. لا تعودي تبكين. العام القادم، سيكون الأمر أفضل كثيراً. ولكنّني سوف أمدُّ لكِ يد العَون أيضاً. أو بالأحرى سوف تُعينكِ امرأة تحمل اسمكِ ذاته، وهي لا تَشبَع أبداً مِن أن تكون صالحة باطّراد. انظري: هذا لكِ. وبهذا يمكنكِ أن تُدبِّري نفسكِ حتّى موعد الحصاد.»

 

تأخذ المرأة الإعانة، وفي الوقت ذاته تُمسِك بيد يسوع وتُقبّلها وهي تبكي، ثمّ تَسأَل: «قُل لي مَن تكون تلك المخلوقة الصالحة التي سوف أَذكُر اسمها لدى الربّ.»

 

«إحدى تلميذاتي، وهي أخت لكِ. واسمها أَعرِفه أنا ويعرفه أب السماوات.»

 

«آه! هذا أنتَ!...»

 

«أنا فقير، يا يُوَنّا. أَهِب ما يُعطى لي. لا يمكنني أن أَهِب مِن ذاتي إلّا المعجزة. وآسف لعدم درايتي ببؤسكِ قبل ذلك. أتيتُ مُذ أَخبَرَتني سُوسَنّة. ومع ذلك كان الوقت متأخّراً. إنّما هكذا يتألّق عمل الله أكثر.»

 

«متأخّر هو! نعم. متأخّر! فقد كان الموت سريعاً في حصاده هنا! وقد حَصَدَ الشباب. وليس أنا التي كنتُ غير ذات نفع. ولا هؤلاء القاصرين. إنّما أولئك الذين كانوا صَلبين مِن أجل العمل. مَلعون قمر أيلول (سبتمبر)، الـمُحمَّل بالآثار الشرّيرة!»

 

«لا تلعني الكوكب. فلا دَخل له... هل هؤلاء الصغار طيّبون؟ تعالوا هنا. أَتَرَون؟ هو كذلك طفل بدون أب، ومع ذلك فالله لم يتخلَّ عنه. ولن يتخلّى عنه طالما هو صالح. أليس كذلك يا مارغزيام؟»

 

يوافِق مارغزيام ويتحدّث إلى الصغار الذين يتحلّقون حوله، وهُم أصغر منه سناً، ولكنّ بعضهم أكبر منه ظاهِراً. يقول: «آه! في الحقيقة إنّ الله لا يتخلّى. أنا، يمكنني قول ذلك. جدّي قد صلّى مِن أجلي بالتأكيد، وكذلك أبي وأُمّي مِن الحياة الأخرى. وقد سَمِع الله تلك الصلوات، فهو صالح للغاية، ويَسمَع صلوات البَرَرة على الدوام، أحياء كانوا أم أمواتاً. أمّا بالنسبة إليكم، فحتماً أمواتكم قد صلّوا مِن أجلكم، وكذلك هذه الجدّة الطيّبة. هل تُوفُونها الحبّ الذي تستحقّ؟»

 

يَصمُت يسوع لِيَسمع حِوار تلميذه الصغير واليتامى.

 

«إنّكم على حقّ. يجب ألّا نجعل كبار السنّ يبكون. في كلّ الأحوال علينا ألّا نجعل أحداً يبكي، لأنّ مَن يُسبّب الألم للقريب يُسبّب الألم لله. إنّما كبار السنّ! فالمعلّم يُعامِل جميعهم بالحُسنى، فمع كبار السنّ هو يُصبِح اللُّطف كلّه، وكأنّه يتعامل مع أطفال. ذلك أنّ الأطفال أبرياء، وكبار السنّ متألّمون. لقد بكوا كثيراً! يجب أن يُـحَبّوا ضعفين، ثلاثة أضعاف، عشرة أضعاف، مِن أجل كلّ الذين لم يَعودوا يحبّونهم. يقول يسوع على الدوام إنّ مَن لا يُجِلّ كبير السنّ هو شرّير بشكل مضاعف، كالذي يُسيء معاملة الطفل. هذا لأنّ كبير السنّ والطفل، كلاهما لا يمكنه الدفاع عن نفسه. وبالنتيجة، كونوا أنتم صالحين مع الجدّة.»

 

«أنا، أحياناً لا أساعدها...» يقول واحد مِن أكبرهم سنّاً.

 

«لماذا؟ مع أنّكَ تأكل الخبز الذي تُقدِّمه لكَ رُغم تَعَبها! أفلا تُحِسّ فيه بطعم دموعها عندما تُحزِنها؟ وأنتِ، أيّتها المرأة، هل تساعدينها؟ (المرأة المقصودة لا يتجاوز عمرها العشر سنوات، وهي فتاة هزيلة وشاحبة).»

 

يقول الإخوة الصغار وكأنّهم جوقة: «آه! راحيل طيّبة! إنّها تسهر إلى وقت متأخّر حتّى تَغزِل القليل مِن الصوف والقطن الذي لدينا، وقد أصابَتها الحُمّى وهي في الحقل تهيِّئه للبِذار، بينما كان أبونا مُشرِفاً على الموت.»

 

«سوف يكافئكِ الله على ذلك.» يقول مارغزيام بشكل جادّ.

 

«ها قد كافَأَني بأن فَرَّج عن الجدّة.»

 

يتدخّل يسوع: «ألا تطلبين أكثر مِن هذا؟»

 

«لا يا سيّدي.»

 

«ولكن هل شُفيتِ؟»

 

«لا يا سيّدي. إنّما لا يهم. فلو مُتُّ الآن، فإنّ الجدّة تَجِد مَن يُنجِدها. قبل ذلك كان يسوءني أن أموت لأنّني كنتُ أُساعِدها.»

 

«ولكنّ الموت أمر بَشِع، يا صغيرة...»

 

«كما أنّ الله يساعدني أثناء حياتي، فإنّه سوف يساعدني في موتي، وسأذهب لملاقاة أُمّي... آه! لا تبكي يا جدّتي! أحبّكِ كثيراً يا عزيزتي. لن أعود لأقول هذا إذا كان يجعلكِ تبكين. وحتّى إذا شِئتِ فسأقول للسيّد أن يُشفيني... لا تبكي يا أُمّي الصغيرة...» وتُعانِق العجوز الحزينة.

 

«اشفها يا ربّ. لقد جَعَلتَ جدّي سعيداً بسببي. فاجعل هذه العجوز سعيدة الآن.»

 

«الحصول على النِّعَم يتطلّب تضحية. وأنتَ، أيّة تضحية سَتُقدِّم للحصول عليها؟» يَسأَل يسوع بشكل جادّ.

 

يُفكِّر مارغزيام... يَبحَث عن أمر يَشقّ عليه أكثر التخلّي عنه... ثمّ يبتسم: «لن أذوق العَسَل شَهراً.»

 

«قليل! فلقد مضى قسم كبير مِن هذا الشهر...»

 

«أنا أتحدّث عن شهر، وأعني أربعة أطوار (أسابيع). وأُفكِّر أنّ خلال هذه الأيّام يَقَع عيد الأنوار حيث تُصنع الفطائر بالعسل...»

 

«حقّاً. حسناً، إنّ راحيل سوف تُشفَى بفضلكَ. والآن فلنمض. وداعاً يا يُوَنّا. وقبل رحيلي عن المنطقة سوف أعود أيضاً. وداعاً يا راحيل. وأنتَ يا طوبيّا، كُن طيّباً دائماً. وداعاً لكم جميعاً أيّها الصغار. فلتحلّ عليكم بركتي وفيكم سلامي.»

 

يَخرُجون ترافقهم بركات العجوز والأطفال.

 

مارغزيام، بعد أن لَعِب دوره كـ "رسول وضحيّة"، يبدأ بالقفز كَجَدي، وهو يجري إلى الأمام. يُعلِّق سمعان مبتسماً: «حديثه الأوّل وتضحيته الأولى. ألا يبدو لكَ يا معلّم أنّ هذا يُبشّر بالخير؟»

 

«نعم، ولكنّه كَرَزَ مرّات كثيرة. حتّى ليهوذا بن سمعان...»

 

«...الذي على ما يبدو أن الربّ يتكلّم إليه مِن خلال الأطفال... وقد يكون ذلك لتحاشي انتقاماته.»

 

«انتقامات، لا... لا أظنُّ الأمور تَصِل إلى هذا الحدّ. إنّما ردود فِعل حادّة، نعم. هو لا يحب الحقيقة، وذلك يستأهل اللّوم... ومع ذلك يجب قولها...»

 

يَنظُر إليه سمعان، ثمّ يَسأَل: «يا معلّم، قُل لي الحقيقة. لقد أبعدَته، واتّخذتَ قرار إرسال الجميع إلى بيوتهم مِن أجل عيد الأنوار، لتمنع وجود يهوذا في الجليل في هذه الآونة. لا أسألكَ ولا أبغي أن تقول لي لماذا يَجدُر بالاسخريوطيّ ألّا يكون بيننا. يكفيني أن أعرف إذا ما كنتُ قد حَزَرتُ. الجميع يُخمّنون ذلك، هل تدري؟ توما بالذات. ولقد قال لي: "أمضي دون أيّة ردة فِعل، إذ إنَّني أُدرِك أنّ وراء ذلك سبباً هامّاً". وأضاف: "لقد أَحسَن المعلّم صُنعاً بذلك. فكثيرون أمثال ناحوم وصادوق وأليعازر وجيوقانا هُم ضمن صداقات يهوذا..." وتوما ليس أبلهاً!... وهو ليس سيّئاً رغم مغالاته بالرجولة. وهو صادق جدّاً في محبّته لكَ...»

 

«أَعرِف ذلك. وما جال في خاطركَ صحيح. قريباً سوف تعرفون السبب...»

 

«لسنا نسألكَ عنه.»

 

«ولكنّني سوف أجدني مضطرّاً لطلب مساعدتكم، وسيكون لِزاماً عليَّ أن أقول لكم.»

 

يعود مارغزيام مسرعاً: «يا معلّم، هناك، حيث يتفرّع الـمَسلَك عن الطريق، ابن عمك سمعان، يتصبّب عرقاً وكأنّه رَكَضَ كثيراً. لقد سَأَلَني: "أين يسوع؟" وأجبتُ: "هنا، في الخلف، مع سمعان الغيور". قال لي: "هل يمرّ مِن هنا؟" أجبتُ: "بكلّ تأكيد. لا بد مِن المرور مِن هنا للعودة إلى البيت، أقلّه للتَّشبُّه بالعصافير التي تطير وتذهب في كلّ الاتجاهات لتعود بعد ذلك إلى عشها. هل تريده؟" سألتُهُ. فَلَبث أخوكَ حائِراً. ومع ذلك فهو يريدكَ، أنا متأكّد.»

 

«يا معلّم، لقد رأى زوجته... وهذا ما سوف نفعله. أنا ومارغزيام سنترككَ حُرّاً. وسوف نَعبُر مِن الخلف. على كلّ الأحوال... لسنا مستعجلين على الوصول... وأنتَ تسلك السَّبيل المباشر.»

 

«نعم. شكراً لكَ يا سمعان. وداعاً لكليكما.»

 

يَفتَرِقون، ويحثّ يسوع الخطى صوب الطريق العامّة. ها هو سمعان مُسنِداً ظهره إلى جذع شجرة يَلهَث ويَمسَح عَرَقه. وحين يرى يسوع يَرفَع ذراعيه... ثمّ يتركهما ينـزلان ويَخفض رأسه ذليلاً.

 

يَصِل إليه يسوع، ويَضَع يده على كتفه وهو يَسأَله: «ماذا تريد منّي، يا سمعان؟ أن تُفرِحني بكلمة حُبّ أنتظرها منكَ منذ أيّام كثيرة؟»

 

يَخفض سمعان رأسه أكثر، ويَلزَم الصمت…

 

«تكلّم إذن. ألعلّي غريب عنكَ؟ لا، في الحقيقة إنّكَ ما تزال أخي الطيّب سمعان، وأنا بالنسبة إليكَ، ما زلتُ يسوع الصغير الذي كنتَ تحمله بعناء بين ذراعيكَ، إنّما بحبّ كبير، عندما عُدنا إلى الناصرة.»

 

يُغطّي الرجل وجهه بيديه، ويرتمي على ركبتيه وهو يُتمتِم: «آه يا يسوع! أنا المذنب، ولكنّ العقاب الذي تلقّيتُه كافٍ...»

 

«هيّا انهض! إنّنا أهل. هيّا! ما الذي تريده؟»

 

«وَلَدي! إنّه...» وتَخنقه العَبرات.

 

«وَلَدكَ؟ ما به؟»

 

«في الحقيقة إنّه يحتضر، ومعه يموت حُبّ سالومة... وأبقى أنا مع تبكيت للضمير مُضاعَف: خسارة الولد والزوجة معاً... هذه الليلة ظننتُه مات، وبَدَت لي هي كالضبع. كانت تَصرُخ في وجهي: "قاتل ابنكَ!" فصلّيتُ كي لا يحصل هذا، وأقسمتُ أن آتي إليكَ لو عاد الوَلَد، حتّى ولو اضطرّ الأمر إلى طردي –بالنتيجة أستحقّ هذا- لأُعلمكَ بأنّكَ أنتَ الوحيد القادر على حجب البؤس عنّي. وعند الفجر، بدأ الوَلَد يصحو قليلاً... وهربتُ مِن بيتي قاصداً بيتكَ مِن خلف المدينة، كي لا أُصادِف عوائق... قرعتُ الباب. فَتَحَت لي أُمّكَ مُندَهِشة. كان بإمكانها أن تُسيء استقبالي. ولكنّها قالت لي فقط: "ما بكَ يا سمعان المسكين؟" ولقد لاطَفَتني كما لو كنتُ ما أزال طفلاً... وهذا ما جَعَلَني أبكي كثيراً. وبذلك تبدَّدَ الكبرياء والتردّد. ولا يمكن أن يكون صحيحاً ما قاله لنا رسولكَ يهوذا. لم أقل هذا لمريم، ولكنّني أقوله لنفسي وأنا أقرع صدري وأُطلِق على نفسي كلّ النُّعوت، منذ ذلك الحين. أمّا لها فقد قُلتُ: "هل يسوع هنا؟ مِن أجل حلفى. إنّه مُشرِف على الموت..." وقالت لي مريم: "اركض! إنّه يتّجه صوب قانا مع الصبيّ وأحد الرُّسُل. إنّه على الطريق المؤدّية إلى قانا. إنّما أَسرِع. لقد خَرَجَ منذ الفجر. هو يوشك على العودة. سأصلّي كي تَجِده". بدون أيّة كلمة لوم، ولا كلمة، لي أنا الذي أستحقّ منها الكثير!»

 

«وأنا كذلك لن ألومكَ. ولكنّني أفتح لكَ ذراعيَّ كي...»

 

«آه! كي تقول لي: حلفى مات!...»

 

«لا، بل لأقول لكَ إنّني أحبّكَ كثيراً.»

 

«تعال إذن! بسرعة! بسرعة!...»

 

«لا. لا ضرورة لذلك.»

 

«ألا تأتي؟ آه! ألا تسامحني؟ أَمْ إنَّ حلفى قد مات؟ ولكن حتّى ولو كان كذلك، يا يسوع، يا يسوع، يا يسوع، أنتَ الذي تُقيم الموتى، أَعِد لي ابني! آه! يا يسوع الصالح!... آه! يا يسوع القدّيس!... آه! يا يسوع الذي هَجَرتُهُ!... آه! يا يسوع، يا يسوع، يا يسوع...» ودموع الرَّجُل تملأ الطريق المنعزلة، بينما هو، إذ يجثو مِن جديد، يجمع ثوب يسوع بشكل تشنّجي، ويُقبِّل قدميه، وقد سَحَقَه الألم، وتبكيت الضمير، والحبّ الأبويّ…

 

«ألم تمرّ ببيتكَ قبل مجيئكَ إلى هنا؟»

 

«لا. بل ركضتُ كالمجنون إلى هنا... لماذا؟ أهناك ألم آخر؟ هل هَرَبَت سالومة؟ لقد جُنَّت! كانت قد بَدَت هذه الليلة وكأنّها قد أَصبَحَت كذلك...»

 

«لقد تحدَّثَت سالومة إليَّ. بَكَت. آمَنَت. امضِ إلى بيتكَ يا سمعان. لقد شُفي ابنكَ.»

 

«أنتَ!... أنتَ!... فَعَلتَ هذا لي، أنا الذي أسأتُ إليكَ بتصديقي ذلك الثعبان (يهوذا)؟ آه! سيّدي! لستُ أستحقّ كلّ هذا! سامحني! سامحني! سامحني! قُل لي ماذا تريدني أن أفعل لِأُصلح الأمر، لأقول لكَ إنّي أحبّكَ، لِأُقنعكَ بأنّني كنتُ أتألّم لذاك البُعد، لأقول لكَ مُذ أتيتَ إلى هنا، حتّى قبل أن يَبلغ المرض بحلفى إلى هذه الدرجة، كنتُ أرغَب في الحديث إليكَ!... ولكن... ولكن...»

 

«دعكَ مِن هذا. كلّ ذلك أَصبَحَ مِن الماضي. أنا لم أعد أتذكّره. افعل أنتَ كذلك، وانسَ كلام يهوذا الاسخريوطيّ. إنّه وَلَد. أريد منكَ هذا فقط: ألّا تُكرِّر هذا الكلام لا الآن ولا في أيّ وقت أمام تلاميذي ولا رُسُلي، وبالأخصّ أمام أُمّي. هذا فقط. الآن امضِ إلى بيتكَ يا سمعان. امضِ وكن في سلام... لا تتأخّر عن الفرح الذي يملأ بيتكَ. امضِ.» يُعانِقه ويدفعه بلطف صوب الناصرة.

 

«ألا تأتي معي؟»

 

«أنتظركَ في بيتي ومعكَ سالومة وحلفى. امضِ. وتذكّر أنّكَ بِفَضل زوجتكَ، التي عَرِفَت أن تؤمن فقط بالحقّ، قد نلتَ الفرح الحاليّ. بفضلها هي.»

 

«تريد القول إنّه بالنسبة إليَّ...»

 

«لا. أريد القول إنّني أحسستُ فيكَ بالنَّدم. وندامتكَ أتت مِن لهجتها الـمُتَّهِمة... حقّاً، إنّ الله يهتف بفم الصالحين، ويهدي بِهم ويَنصَح!... ولقد رأيتُ إيمان سالومة المتواضع والقويّ. اذهب، أقول لكَ. لا تتأخّر أكثر عن أن تقول لها "شكراً".»

 

يَدفَعه بشكل يكاد يكون خَشِناً، لِيُقنعه بالذهاب. وعندما يذهب سمعان أخيراً، يُبارِكه... ثمّ، يهزّ رأسه بمناجاة صامتة، وتسيل دموع على وجهه الشاحب ببطء... كلمة واحدة تُعبِّر عن توجُّه تفكيره: «يهوذا!»

 

يَسلك الدرب الضيّق ذاته الذي سَلَكَه الغيور، خلف حدود المدينة، باتّجاه بيته.