ج3 - ف27
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الثالث / القسم الأول
27- (في بيت يُوَنّا امرأة خُوزي. يسوع والرومانيّات)
19 / 05 / 1945
بفضل مَراكِبيّ رَحَّبَ به على مَركَبه الصغير، ينـزل يسوع على رصيف حديقة خُوزي. ويراه بستانيّ فَيهرَع ليفتح له البوّابة التي تصدّ الغرباء عن دخول الممتلكات مِن جهة البحيرة، بوّابة كبيرة وصُلبة، ولكنّها مُستَتِرة خلف سياج شاهق وكثيف مِن الغار والشمشاد، مِن الجهة الخارجية، صوب البحيرة، والورود مِن كلّ الألوان مِن الجهة الداخليّة، صوب المنـزل. الورود الرائعة تزيّن أوراق الغار والشمشاد البرونزيّة، وتتسلّل بين العساليج إلى الجهة الأخرى، أو بالحريّ فوق الحاجز الأخضر لتعود فتسدل شعرها الـمُزهِر فيما بعد. في موضع واحد فقط، على مستوى عرقوب، البوّابة مكشوفة وتُفتَح ليمرّ عبرها الآتون مِن البحيرة أو العائدون إليها.
«السلام لهذا البيت ولكَ يا حنّان. أين معلّمتكَ؟»
«هناك مع صديقاتها. سأناديها. إنّهن ينتظرنكَ منذ ثلاثة أيّام، خشية التأخّر في الوصول.»
يبتسم يسوع. يمضي الخادم مسرعاً لينادي يُوَنّا. في انتظار ذلك يتمشّى يسوع على مهل صوب المكان الذي أشار إليه الخادم. يُعجَب بالحديقة الخلّابة، بل يمكن تسميتها حديقة الورد الرائعة التي أنشَأَها خُوزي لزوجته. ورود مِن كلّ الألوان والأحجام والأشكال، في ذلك الجون (الخليج) الصغير مِن البحيرة، وهي تضحك الآن بديعة ومبكّرة. هناك أيضاً نباتات أخرى مُزهِرة، ولكنّ الأزهار لم تتفتّح بعد، وهي تشغل مكاناً صغيراً بالمقارنة مع الورود.
تَهرع يُوَنّا. حتّى إنّها لم تضع مِن يدها سلّتها نصف الممتلئة بالورود، ولا المقصّ الذي كان معها لتقطف به، وتركض هكذا، الذراعان ممدودتان، رشيقة وأنيقة في ثوبها الفاخر مِن الصوف الناعم ذي اللون الورديّ الفاتح؛ الثنيات مُثبَّتة بمشابك ودبابيس موشّاة بأسلاك فضّة تلمع عليها أحجار كريمة شاحبة. وعلى الشعر الأسود المتموّج تاج على شكل قلنسوة، وهو كذلك مِن الفضّة مع أحجار كريمة، وهو يحبس وشاحاً خفيفاً جدّاً، ورديّ اللون كذلك، ينسدل إلى الخلف تاركاً الأذنين مكشوفتين، وقد أثقَلَهُما قرطان يشبهان التاج. وجهها ضاحك، وعند قاعدة العنق النحيل جدّاً عقد مِن صناعة بقيّة الزينة الثمينة ذاتها.
ترمي سلّتها عند قدمي يسوع، وتجثو وسط الورود المبعثَرَة، لتُقبِّل ثوبه.
«السلام لكِ يا يُوَنّا، لقد أتيتُ.»
«وأنا سعيدة لذلك. وَهُنَّ كذلك قد أتين. آه! الآن يبدو لي أنّني كنتُ مخطئة بتدبير هذا اللقاء. ماذا ستفعل ليسمعنكَ؟ إنّهن وثنيّات، وثنيّات!» يُوَنّا مضطربة قليلاً.
يَبتَسم يسوع ويضع يده على رأسها: «لا تخافي، سوف نتفاهم جيّداً. وحسناً فعلتِ. سوف يُثمر اللقاء خيراً كما تُثمر حديقتكِ وروداً. لُمّي الآن هذه الورود التي تركتِها تسقط، وهيّا لملاقاة صديقاتكِ.»
«آه! ورود، هناك منها الكثير! كنتُ أقوم بذلك ليمرّ الوقت، ثمّ صديقاتي مُحِبّات للاستماع جدّاً... جدّاً... جدّاً... وهنَّ يحببن الورود كما لو أنّ ذلك... لستُ أدري...»
«ولكنّني أحبّها أنا أيضاً! أترين أنّنا وجدنا ما نتفاهم عليه هُنَّ وأنا؟ هيّا بنا! ولنلتَقِط هذه الورود البديعة...» وينحني يسوع ليعطي الـمَثَل.
«ليس أنتَ! ليس أنتَ، سيّدي! إذا كان هذا ما تريد، هاكَ... لقد أُنجِزَ.»
يتوجّهان إلى عريشة شُكِّلَت مِن تَشابُك شجيرات ورد مِن كلّ الألوان. على المدخل، تترصّد الرومانيّات الثلاث. بلوتينا وفاليريا وليديا. الأولى والأخيرة تبقيان في مكانهما متردِّدَتَين. أمّا فاليريا فتركض إلى الخارج وتنحني قائلة: «السلام يا مُنقِذ فوستينا!»
«السلام والنور لكِ ولصديقتيكِ.»
تنحني الصديقتان دون كلام.
بلوتينا، أَصبَحنا نعرفها: كبيرة ووَقورة، عيناها سوداوان رائعتان ومتغطرستان قليلاً، تحت جبهة مستوية وبيضاء ناصعة، والأنف مستقيم، مرسوم بدقّة؛ أمّا الفم، فالشفتان فيه سميكتان قليلاً، ولكنّهما مزيّنتان بعناية؛ والذقن سمين وناتئ. إجمالاً هي تُذكِّرني ببعض المنحوتات الجميلة جدّاً لإمبراطورات رومانيّات. وفي يديها الجميلتين للغاية تلمع خواتم ثقيلة، وأساور عريضة مِن الذهب تزيّن ذراعيها، ذراعيّ تمثال بحقّ، عند المعصم وفوق المرفق الذي يبدو بياضه مائلاً إلى اللون الورديّ، وهو أملس وكامل الأوصاف خارج الكُمّ القصير.
ليديا على العكس، إنّها شقراء وأنحف وأكثر شباباً. جمالها لا يوازي جمال بلوتينا الوَقور، إلّا أنّها تتمتّع بكلّ مواصفات الجمال الأنثويّ، إضافة إلى ذلك هي شابّة. ولأنّنا في الجوّ الوَثَنيّ، فيمكنني القول إنّه إذا كانت بلوتينا تمثال إمبراطورة، فيمكن لليديا أن تكون ديانا (آلهة الصيد والقمر والولادة في الميثولوجيا الرومانية) أو حوريّة ذات مَظهَر مُحَبَّب وعفيف.
لم تَعُد فاليريا يائسة كما رأيناها في القيصريّة، وهي تَظهَر في جمالها كأُمّ شابّة، بمظهرها الممتلئ، إنّما أيضاً الشبابيّ جدّاً. وفي عينيها نظرة هادئة لأُمّ سعيدة بتغذية طفلها، ورؤيته ينمو بفضل حليبها. السحنة ورديّة، الشعر كستنائيّ، ابتسامتها وادعة ولكنّها لطيفة جدّاً.
لديّ انطباع بأنّهما امرأتان مِن طبقة أدنى مِن طبقة بلوتينا، وأنّهما، حتّى بنظراتهما، تُبَجِّلانها كَمَلِكة.
«أتعتنين بالورود؟ تابِعن، تابِعن. يمكننا التحدّث أثناء قطف صنيعة الخالق الرائعة هذه، التي هي الزهور، وحتّى حينما ترتّبنها، بالبراعة التي اشتَهَرَت بها روما، في تلك الكؤوس الثمينة لإطالة أَمَد وجودها الذي هو في الأصل قصير جدّاً... إن كُنّا نُعجَب ببرعم الورد هذا الذي يكاد يرسم الخطوط الأولى لابتسامة بتلاته التي لورود صفراء، فكيف لا يمكننا أن نأسف لرؤيتها تموت؟ آه! كم سيُدهَش اليهود لسماعهم إيّاي أقول هذا! ولكن بما أنّ حياة تَكمُن في هذه الخليقة التي تتفتَّح، فرؤية الموت فيها يؤلمنا. ومع ذلك فالنبتة أَعقَل مِنّا. إنّها تَعلَم أنّ على كلّ جرح مِن الساق الذي نَقطَع، فإنَّ برعماً جديداً سوف ينمو ليعطي وردة جديدة. وها هي ذي إذن نَفْسنا التي ينبغي لها أن تتقبّل التعليم، وأن تجعل مِن هذا القليل مِن الحبّ الحسّيّ الذي لنا تجاه الزهرة، دعوة إلى فِكرة أكثر سموّاً.»
«أيّة فِكرة يا معلّم؟» تَسأَل بلوتينا التي تُنصِت بانتباه، والتي أَغوَتها فِكرة المعلّم اليهوديّ الأنيقة.
«هذه، مثلها مثل نبتة، طالما جذورها تَضرب في الأرض وتتغذّى منها، فهي لا تموت، وموت ساق منها لا يودي بها إلى الموت. هكذا هي الإنسانيّة، فهي لا تموت عندما تتوقّف الحياة الأرضيّة لكائن، ولكنّها تُنمي بلا توقّف أزهاراً جديدة. هي ذي فِكرة أكثر سموّاً قادرة على جَعلنا نُبارِك الخالِق: في الوقت الذي لا تعود تحيا الوردة مِن جديد بعد أن تموت، وهذا مُحزِن، فإنّ الإنسان الذي يرقد رقاده الأخير، هو ليس بمائِت، ولكنّه يعيش حياة أكثر تألّقاً بتلقّيه ما هو الأفضل لديه: حياة أبديّة وتألّقاً كاملاً للخالِق الذي كَوَّنَها. كذلك يا فاليريا، لو كانت ابنتكِ ماتت، فما كنتِ ستفقدين ملاطفاتها، فقد كانت ستستقرّ دائماً على نفسكِ قُبلات صغيرتكِ الـمُنفَصِلة عنكِ، ولكنها غير ناسية حبّكِ. أترين كم الإيمان بالحياة الأبديّة ممتع؟ أين هي صغيرتكِ الآن؟»
«إنّها في ذاك المهد الـمُغطّى. لم أكن لأنفصل عنها في السابق قطّ، ذلك أنّ حبّ زوجي وحبّ ابنتي كانا هدف حياتي. أمّا الآن وقد خَبِرتُ معنى أن أراها تموت، فإنّني لا أتركها لحظة واحدة.»
يتوجه يسوع صوب مَقعَد وُضِع عليه مهد خشبيّ مغطّى بغطاء فاخر. يكشفه، وينظر إلى الطفلة التي تنام، وقد أَيقَظَها الهواء المنعش. تُفتَح عيناها الصغيرتان، وبدهشة وابتسامة ملاك تَفتح فمها، بينما يداها المغلقتان تُفتحان راغبتين في الوصول إلى شعر يسوع المتموّج، بينما صداح بلبل يشير إلى حوار يجري في تفكيره. أخيراً تهتف بالكلمة العظيمة، الكلمة الكونيّة: «ماما!»
«خذيها، خذيها.» يقول يسوع الذي يتنحّى ليفسح المجال لفاليريا لتنحني على المهد.
«ولكنّها سوف تزعجكَ!... سأنادي على خادمة تذهب بها إلى الحديقة.»
«تُزعِجني؟ آه! لا! مُطلَقاً. الأطفال لا يزعجونني، إنّهم أصدقائي على الدوام.»
«هل لديكَ أولاد أو أولاد أخ، أيّها المعلّم؟» تَسأَل بلوتينا التي تُلاحِظ بأيّة ابتسامات يُحاوِل جعل الصغيرة تضحك.
«ليس لي أولاد ولا حتّى أولاد أخ. ولكنّني أحبّ الأطفال كما أحبّ الزهور، لأنّهم أنقياء ولا مَكْرَ لديهم. وحتّى، يا امرأة، أعطيني صغيرتكِ. فإنّه لَمِن الممتع أن أضمّ ملاكاً إلى قلبي.» ويَجلس مع الصغيرة التي تُراقِبه وتُشعِّث له لحيته، ثمّ تجد أن اللعب بأهداب المعطف وشريط الثوب أكثر أهمّية بالنسبة إليها، وهي تُحاوِرها حواراً طويلاً وسرياً.
تقول بلوتينا: «صديقتنا، الصالحة والحكيمة، وهي واحدة مِن القليلات جدّاً اللواتي لا يحتَقِرننا ولا تفسد في معاشرتنا، قالت لكَ إنّنا رَغِبنا في رؤيتكَ والاستماع إليكَ للحكم عليكَ بحسب ما أنتَ كائنه. ذلك أنّ روما لا تؤمن بالخرافات... لماذا تبتسم يا معلّم؟»
«سوف أقول لكِ فيما بعد، تابعي.»
«إنّ روما لا تؤمن بالخرافات، وتريد أن تحكم بِعِلم ووعي قبل الإدانة أو الإشادة. شعبكَ يشيد بكَ ويفتري عليكَ بالطريقة ذاتها. أعمالكَ تحمل على الإشادة بكَ، كَلِمات يهود كثيرين تحمل على الاعتقاد بأنّكَ أقلّ قليلاً مِن مجرم. كلماتكَ جليلة وحكيمة كتلك التي لفيلسوف، وروما تحبّ مَذاهِب الفلاسفة، و... ينبغي لي القول إنّ الفلاسفة العصريّين ليس لهم مَذهَب يُقنِعنا ويُرضينا، خاصّة وأنّ نمط حياتهم لا يتماشى وتعاليمهم.»
«لا يمكن أن يكون لهم نمط حياة يتناسب ومذهبهم.»
«لأنّهم وثنيّون ، أليس كذلك؟»
«لا. بل لأنّهم مُلحِدون.»
«مُلحِدون؟ لديهم آلهتهم.»
«حتّى تلك، لم تَعُد لديهم، يا امرأة. أذكّركِ بالفلاسفة القدامى، وهُم الأعظَم. لقد كانوا وثنيّين، هُم كذلك. ولكن انظري كم كانت حياتهم سامية! ولو إنّها ممزوجة بالخطأ، لأنّ الإنسان محمول على ارتكاب الخطأ. وعندما وُجِدوا في مواجهة الأسرار الأعظم: الحياة والموت، عندما واجَهوا المأزق: النـزاهة أو عدم النـزاهة، الفضيلة أو الرذيلة، البطولة أو الجُّبن، عندما فَكَّروا أن التوجّه صوب الشرّ يَنجم عنه شرّ وإساءة للوطن والمواطنين، فإذا بهم حينذاك، بإرادتهم العملاقة، قد رَموا بعيداً عنهم مِجسّات الأورام السيّئة الخبيثة؛ وأحراراً وقدّيسين، أرادوا الخير بأيّ ثمن، ذلك الخير الذي ليس سوى الله.»
«يُقال إنّكَ الله، هل هذا صحيح؟»
«أنا ابن الله الحقّ، صرتُ جَسَداً، وأنا ما زلتُ الله.»
«ولكن ما هو الله؟ نظنّه الأعظم بين المعلِّمين، إذا ما قارنّاه بكَ.»
«الله أعظم كثيراً مِن معلّم. لا تقلّلي مِن شأن الفِكرة السامية عن الألوهة بأن تجعلي الحكمة حدوداً لها.»
«الحكمة ألوهة. فَهَا إنّ لدينا منيرفا، وهي آلهة الـمَعرِفة.»
«لديكم كذلك فينوس آلهة الشهوة. فهل يمكنكم تَقَبُّل أن يكون لدى الإله الذي هو أسمى مِن كلّ ما هو مائت، وهو الميّال إلى الكمال، أن يكون لديه كلّ القُبح والبشاعة التي لدى المائتين؟ هل يمكنكم التفكير أن تكون لدى كائن أزليّ، وبشكل أزليّ، الشهوات الصغيرة والدنيئة والـمُنحَطَّة التي لدى مَن لا يتمتّع إلّا بزمن محدود؟ وأن يجعل منها هدف حياته؟ ألا تُفكِّرون أيّة سماء مُقزِّزَة ومُقرِفة هي تلك التي تُسمّونها أولمب، حيث تتخمَّر الميول الإنسانيّة الأكثر سوءاً؟ وإذا نظرتم إلى سمائكم فماذا تَرَون؟ فِسقاً وجرائم، حقداً وحروباً وسرقات وشراهة ومكائد وانتقاماً. وإذا أردتم الاحتفال بأعياد آلهتكم فماذا تفعلون؟ حفلات مُجون وانهماك في الشرب. أيّة عبادة تؤدّونها لهم؟ أين العفّة الحقيقيّة لأولئك اللواتي تَكرَّسن لفيستا (إلهة رومانية عذراء، وهي إلهة الـمَوقِد والبيت والعائلة)؟ على أيّ قانون أو شريعة إلهيّة يستَنِد أحباركم في إصدار الأحكام. أيّة كلمات يمكن لعرّافيكم قراءتها في طَيَران العصافير أو في دويّ الرعد؟ وأحشاء حيوانات الذبيحة الـمُدَمّاة، أيّة إجابات يمكنها أن تُعطِي للعرّافين؟ لقد قُلتِ: "روما لا تؤمن بالخرافات". وإذاً لماذا تؤمن بأنّ اثني عشر رجلاً مسكيناً، بجعلهم خنـزيراً ونعجة وثوراً تدور حول الحقول، ويَنحَرون تلك الحيوانات بعد ذلك، يمكنهم أن يُصبِحوا مناسبين لسيريس (إلهة الزراعة والمحاصيل الزراعية والخصوبة والأمومة والعلاقات العاطفية في الميثولوجيا الرومانية)؟ وإذا كان لديكم عدد لا نهائي مِن الآلهة تتباغض فيما بينها، فبانتقامات مَن منها تعتقدون؟ لا. فالله غير ذلك تماماً. إنّه أزليّ، واحد، روحانيّ.»
«ولكنّكَ تقول إنّكَ الله وأنتَ جَسَد.»
«في موطن الآلهة هيكل غير مُكَرَّس لأحد منهم. الحكمة البشريّة كرَّسَته للإله المجهول. لأنّ الحكماء، الفلاسفة الحقيقيّون، كان لديهم حَدْس بوجود شيء خارج هذه القصص الـمُختَرَعة لاستخدام الأطفال الأزليّين الذين هُم البشر، الذين أُغلقَت أرواحهم ضمن عُصابات الخطأ. ولو أنّ هؤلاء الحكماء -الذين كان لديهم الحَدْس بوجود شيء خارج هذه التمثيليّات الكاذبة، شيء سامٍ وإلهيّ حقيقيّ، وقد صَنَعَ ما هو موجود، ومنه يَنبَثِق كلّ خير في العالم- لو أرادوا إقامة هيكل الآن للإله المجهول، حيث كان إحساسهم بأنّه كان الإله الحقيقيّ، فكيف يمكنكم إعطاء اسم الإله لما ليس بإله، والقول إنّكم تعرفون ما لا تعرفونه في الحقيقة؟ اعرفوا إذن ما هو الله لتتمكّنوا مِن التعرّف إليه وعبادته. فالله هو الذي صَنَعَ بفِكره كلّ شيء مِن العدم. هل يمكن لخرافة الحجارة التي تحوّلت إلى بشر أن تقنعكم وترضيكم؟ في الحقيقة يوجد أناس أقسى وأسوأ مِن الحجارة، كما توجد حجارة أكثر فائدة مِن الإنسان. أليس أكثر متعة التفكير وأنتِ تنظرين إلى صغيرتكِ، يا فاليريا، "إنّها إرادة لله حيّة، فهو خَلَقَها وهو مَنَحَها الشكل وهو الذي خَصَّها بحياة ثانية لا تعرف الموت، بحيث إنّني سوف أحصل عليها ثانية، صغيرتي فوستا، وللأبد، إذا ما آمَنَت بالله الحقيقيّ"؛ بدل القول: "هل هذا الجسد الورديّ وهذا الشعر الأنعم مِن خيوط العنكبوت وهاتان العينان الصافيتان هي مِن حجر"؟ وأيضاً القول: "إنّني أُشبِه الذئبة أو الفرس في كلّ شيء، فأتزوَّج كالبهيمة وأَلِد كالدابّة وكالحيوان أربّيها، وهذه الطفلة هي ثمرة شهوتي البهيميّة، وهي بهيمة تشبهني، وغداً عندما ستموت وأموت أنا، سنصبح جيفتين تذوبان في النتانة، ولا تعودان تَرَيان بعضهما أبداً"؟ فقولي لي، قلبكِ كأُمّ، أيّ هذين التفسيرين يريد؟
«الثاني، حتماً لا، يا سيّدي! فلو كنتُ أعرف أنّ فوستا لم تكن شيئاً يمكنه أن يتحلّل نهائيّاً، لكان ألمي أثناء نزاعها أقلّ فظاعة، إذ كنتُ سأقول لنفسي: "لقد فَقَدتُ جوهرة ولكنّها ما زالت موجودة وسوف أجدها ثانية".»
«أنتِ قُلتِها. عندما أتيتُ إليكنّ، قالت لي صديقتكنّ إنّها كانت تُذهَل مِن ميلكنّ وحبّكنّ للزهور. وكانت تخشى أن يصدمني ذلك، ولكنّني طَمأنتُها قائلاً: "أنا كذلك أحبّها، وإذن فإنّنا في الحقيقة نتفاهم جيّداً." ولكنّني أريد أن أصل بكنّ إلى حبّ الزهور، كما أصل بفاليريا إلى حبّ لابنتها التي، أنا متأكّد مِن ذلك، سوف تحظى بعناية أكبر، الآن وقد عَلِمَت أنّ لديها نَفْساً هي جزء مِن الله مُحتَجَز في جَسَد مولود منها، هي الأُمّ؛ جزء صغير لا يموت، وتعود الأُمّ لتجده ثانية في السماء، إذا آمَنَت بالله الحقّ. وهكذا هو الحال معكما. انظرا إلى تلك الوردة الرائعة. الأرجوان الذي يزيّن الثوب الإمبراطوريّ أقلّ روعة مِن تلك البتلة التي ليست هي فقط متعة للعين بألوانها، بل إنّما فرحة للمسّ بنعومتها والشمّ بعطرها. انظرا إلى تلك أيضاً وتلك الأخرى. الأولى مِن الدم الذي سال مِن أحد القلوب، والثانية هي ثلج انهَمَر حديثاً، أمّا الثالثة فهي ذهب خالص، والأخيرة تبدو كوجه الطفلة التي تبتسم في حضني. وأيضاً: الأولى متماسكة على ساق ضخمة تكاد تخلو مِن الأشواك، مع أوراق حمراء، كما لو كانت قد نَضَحَت دماً؛ الثانية فيها بعض الأشواك مع أوراق شاحبة وباهتة على طول الساق؛ الثالثة ليّنة مثل الخيزران مع أوراق صغيرة ولامعة كشمعة خضراء؛ والأخيرة تبدو وكأنّها تقطع الطريق في وجه كلّ محاولة للوصول إلى تويج زهرتها الورديّة، لكثرة ما هي مليئة بالأشواك. إنّها تبدو مثل مِبرد أطرافه دقيقة جدّاً. الآن فَكِّرنَ، مَن الذي صَنَعَ كلّ هذا؟ كيف؟ متى؟ وأين؟ وماذا كان هذا المكان في ليل الأزمنة؟
لم يكن سوى عناصر تتخبّط دون شكل. واحد فقط، هو الله، قال: "أريد" وتَفَرَّقَت العناصر لتتجَمَّع في فصائل. "أريد" أخرى دَوَت فترتَّبَت الواحد في الآخر: الماء وسط الأراضي؛ الواحد فوق الآخر: الهواء والنور في الكوكب المنظّم. و"أريد" ثالثة وكانت النباتات، وبعد ذلك كانت النجوم ثمّ الحيوانات وثمّ الإنسان. ولكي يستمتع الإنسان، مَنَحَ الله للمفضَّل لديه، مثل لُعَب رائعة، الزهور والكواكب، وكَعَطيّة أخيرة مَنَحَه فرح إنجاب ليس ما يموت، إنما الذي يتجاوز الموت بنعمة الله: النَّفْس. فهذه الورود هي بإرادة الآب. وقدرتها اللانهائيّة تتبدّى في جمالات لانهائيّة.
تفسيراتي عَصيّة، لأنّها تصطدم بمعتقداتكنّ الـمُقاوِمة بصلابتها. ولكنّني آمل أنّنا تفاهَمنا قليلاً في لقائنا الأوّل. فلتعمل نفوسكنّ على ما قُلتُه. هل لديكنّ أسئلة تطرحنَها؟ اطرحنَها. فأنا هنا لإنارتكنّ. الجهل ليس مُخجِلاً. الـمُخجِل هو الاستمرار في الجهل عندما يتواجد مَن هو جاهز تماماً لتسليط الأضواء على كلّ سبب للشكوك.» ويسوع، كما لو أنّه الأكثر كياسة بين الآباء، يَخرُج مِن تحت العريشة ممسكاً بالصغيرة التي تخطو خطواتها الأولى، والتي تريد الذهاب إلى نافورة ماء تتموّج تحت الشمس.
تبقى النساء في مكانهنّ، يتحادثن فيما بينهنّ. ويُوَنّا، تتنازعها رغبتان، تبقى عند مدخل العريشة…
أخيراً تتَّخِذ ليديا قرارها، وبعدها الأخريان، وتمضي إلى يسوع الذي يضحك لأنّ الطفلة تريد التقاط طيف الشمس الناتج عن نافورة الماء، فلا تلتقط سوى النور، وتُصرّ، تُصرّ، وتزقزق مثل صوص بشفتيها الورديّتين.
«يا معلّم... لم أَفهَم لماذا قُلتَ أنّ لا يمكن أن تكون لدى معلِّمينا طريقة صالحة للعيش، لأنّهم مُلحِدون. وهُم يؤمنون بأولمب، ولكنّهم يؤمنون...»
«لم يَعُد لهم مِن الإيمان سوى الظَّاهِر، فبقدر ما آمنوا حقيقة كالحكماء الحقيقيّين بهذا المجهول الذي حدّثتُكنَّ عنه، بهذا الإله الذي يشفي غليل نفوسهم، حتّى ولو لم يكن له اسم، حتّى دون إرادة منهم بذلك، بقدر ذلك وَجَّهوا فِكرهم صوب هذا الكائن الفائق السموّ، الذي يسمو كثيراً على آلهتهم المسكينة الـمُفعَمَة إنسانيّة، وإنسانيّة دنيا، مَنَحَتهُم إيّاها الوثنيّة، وبالضرورة عَكَسوا الله قليلاً. فالنَّفْس مرآة تعكس النور وصدى يُرَجِّع الكلمات.»
«ماذا يا معلّم؟»
«الله.»
«إنّها كلمة عظيمة.»
«إنّها حقيقة عظمى.»
وفاليريا التي أغوتها فِكرة عدم الموت تَسأَل: «يا معلّم، اشرح لي أين نَفْس صغيرتي. وسَأُقبّل هذا الموضع كقدس أقداس، وأعبده لأنّه جزء مِن الله.»
«النَّفْس هي كهذا النور الذي تبغي فوستا الصغيرة التقاطه، ولا تستطيع، لأنّه غير متجسِّد. ولكنّه موجود. أنا، أنتِ، صديقاتكِ، الكلّ يراه. والنَّفْس تُرى كذلك في كلّ ما يميز الإنسان عن البهيمة. عندما تقول لكِ ابنتكِ أولى أفكارها، ففكِّري بأنّ هذا الذكاء هو نفسها. عندما تحبّكِ، ليس بشكل غريزي بل بتعقُّل، فَكِّري بأنّ هذا الحبّ هو نفسها. عندما تكبر إلى جانبكِ، جميلة ليس فقط بجسدها بل بفضيلتها، فَكِّري بأنّ هذا الجمال هو نَفْسها. لا تعبدي النَّفْس، بل الله الذي خَلَقَها، الله الذي يريد أن يجعل مِن كلّ نَفْس صالحة عرشاً له.»
«ولكن أين هذا الشيء السامي ولا جسد له؟ أفي القلب هو؟ في المخّ؟»
«النَّفْس في كيان الإنسان كلّه. إنّها تحويكنّ ومُحتواة فيكنّ. عندما تغادركنَّ تُصبِحن جِيَفاً. وعندما تُقتَل بفعل جريمة يرتكبها الإنسان بحقّ ذاته، فإنكنَّ تَهلَكن، مُنفَصِلات عن الله على الدوام.»
«أتُقِرّ إذاً بأنّ الفيلسوف الذي أَعلَنَ أنّنا "غير مائتين" كان على حقّ، رغم كونه وثنيّاً؟» تَسأَل بلوتينا.
«لستُ أوافِق عليه. إنّني أفعل أكثر. أقول إنّه موضوع إيمان. عدم موت النَّفْس يعني عدم موت الجزء الأسمى مِن الإنسان، وهو السرّ الأكثر وُثوقاً والأكثر عزاء في الإيمان. وهذا ما يمنحنا التأكيد على أصلنا، وهو هدفنا، على ما نحن عليه، ويُزيل عنّا مرارة كلّ فراق.»
تُفكِّر بلوتينا بعمق. يُلاحِظ يسوع ويصمت. وأخيراً تَسأَل: «وأنتَ هل لكَ نَفْس؟»
يجيب يسوع: «بكلّ تأكيد.»
«ولكن هل أنتَ الله أم لا؟»
«أنا الله. قُلتُ لكِ ذلك. ولكنّني الآن قد اتَّخَذتُ طبيعة بشريّة. هل تعرفين ما الدافع؟ لأنّه بهذه التضحية فقط كان يمكنني حلّ مشكلة الصعوبات التي تفوق مستوى عقلكِ. وبعد القضاء على الخطأ، بتحرير الفِكر، يمكنني تحرير النَّفْس مِن عبوديّة لا أستطيع شرحها لكِ الآن. لأجل هذا أَقفَلتُ على الحكمة في جسد، على القداسة في جسد. أَنثُر الحكمة كالبِذار على الأرض، مثل غُبار الطلع في الهواء. وستسيل القداسة على العالم ساعة حلول النعمة كما مِن جرَّة ثمينة كُسِرَت، فتُكَرِّس البشر وتقدّسهم. حينئذ يصبح الله المجهول معروفاً.»
«ولكنّكَ الآن معروف، والذين يُشكِّكون بقدرتكَ وحكمتكَ سيّئون أو كاذبون.»
«إنّني معروف، ولكنّه الفجر. أمّا الظُّهر فسيمتلئ معرفة بي.»
«ماذا سيكون ظُهرُكَ؟ انتصاراً؟ هل سأراه أنا؟»
«في الحقيقة سيكون انتصاراً. وسوف تكونين فيه. إذ إنّكِ مصابة بالغثيان ممّا تعرفين والرغبة بما تَجهَلين. إنّ نفسكِ جائعة.»
«صحيح إنّني جائعة إلى الحقّ.»
«أنا هو الحقّ.»
«هَب ذاتكَ إذاً لي أنا الجائعة.»
«ما عليكِ سوى القدوم إلى مائدتي. فكلامي هو خبز الحقّ.»
«ولكن ما الذي ستقوله آلهتنا لو نحن تركناها؟ ألا تنتقم منّا؟» تَسأَل ليديا خائفة.
«يا امرأة، هل رأيتِ يوماً ضباب الصباح؟ تغيب الحقول تحت بخار يخفيها. وتأتي الشمس فيتبخر الضباب. وتتلألأ الحقول أكثر جمالاً. آلهتكم هي هذا، ضباب فِكر إنسانيّ مسكين، يَجهَل الله ويحتاج إلى الإيمان، إذ إنّ الإيمان هو الحالة الدائمة والضروريّة للإنسان. لذلك خَلَقَت الخرافة الحقيقيّة الخَدَّاعَة هذا الأولمب. وهكذا حال آلهتكم عند شروق الشمس: الله الحقّ، سوف تتبدّد في قلوبكم دون التمكّن مِن أذيّتكم، إذ لا وجود لها.»
«يجب الاستماع إليكَ أيضاً وأيضاً... كثيراً... إنّنا حتماً أمام المجهول. فكلّ ما تقوله جديد.»
«ولكن هل هذا مُنَفِّر لكِ؟ ألا تستطيعين تَقَبُّله؟»
تجيب بلوتينا بكلّ ثقة: «لا، بل أَجِدني أكثر فخراً بهذا القليل الذي أعرفه الآن، ولا يعرفه القيصر.»
«إذاً ثابري. أترككنّ مع سلامي.»
«ولكن كيف؟ ألا تبقى يا سيّدي؟» تقول يُوَنّا حزينة.
«لن أبقى. فلديَّ عمل كثير ينبغي لي إنجازه...»
«آه! أنا التي كنتُ أريد البوح لكَ بهمّي!»
ويسوع الذي أَصبَحَ على الطريق بعد تحيّة الرومانيّات، يلتَفِت ويقول: «تعالي إلى الـمَركَب، وستخبرينني بمتاعبكِ.»
تمضي يُوَنّا إليه وتقول: «يريد خُوزي إرسالي إلى أورشليم لبعض الوقت، وأنا حزينة لذلك. يفعل ذلك لأنّه لا يريد أن أكون بعيدة بعد، الآن وقد تَحَسَّنَت صحّتي...»
«أنتِ كذلك تخلقين لنفسكِ سُحُباً خَدَّاعة!» يَضَع يسوع الآن رِجلاً في الـمَركَب. «لو كنتِ تفكّرين أنّكِ هكذا ستتمكّنين مِن استضافتي واتِّباعي بشكل أسهل، لكنتِ الآن سعيدة ولقُلتِ: "الصَّلاح فَكَّر في ذلك".»
«آه! صحيح يا سيّدي! لم أكن قد فَكَّرتُ في ذلك!»
«تَرَين إذاً! أطيعي كزوجة صالحة. فالطاعة تمنحكِ مكافأة أن أكون عندكِ في الفصح القادم، وشَرَف مساعدتي في تبشير صديقاتكِ. ليكن السلام معكِ على الدوام!»
ويَحلّ عقدة رباط الـمَركَب، وينتهي كلّ شيء.