ج4 - ف176

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الرابع / القسم الثاني

 

176- (سمعان بطرس في الناصرة. كَرَم مارغزيام)

 

22 / 10 / 1945

 

في وقت متأخّر مِن الصبيحة، وَصَلَ بطرس وحده، وبشكل غير منتَظَر، إلى بيت الناصرة. إنّه كالعتّال يحمل سِلالاً وأكياساً، ولكنّه سعيد للغاية، لدرجة أنّه لا يشعر بالثقل والتعب.

 

يبتسم لمريم، التي مضت لتفتح له، ابتسامة غِبطة يُرفِقها بتحيّة مُفعَمة فرحاً وإجلالاً. ثمّ يَسأَل: «أين المعلّم ومارغزيام؟»

 

«إنّهما على المنحدر، فوق المغارة، إنّما مِن جهة بيت حلفا. أظنُّ أنّ مارغزيام يقطف الزيتون، ويسوع بالتأكيد يتأمّل. سأناديهما.»

 

«أنا سأفعل.»

 

«تخلَّص على الأقلّ مِن كلّ هذه الرُّزَم.»

 

«لا، لا، إنّها مفاجآت للصبيّ. أُحِبّ أن أراه يُحملق ويُفتّش بقلق... إنّها فرحته، وَلَدي المسكين.»

 

يَخرُج إلى الحديقة، يذهب تحت المنحدر، يختبئ جيّداً داخل المغارة، ثمّ ينادي مُغيِّراً صوته قليلاً: «السلام لكَ يا معلّم.» ثمّ بصوت طبيعي: «مارغزيام!...»

 

صوت مارغزيام الناعم الذي كان يملأ الجو الساكن تعجباً، يَصمُت... لحظة سكون، ثمّ يَسأَل الصوت الناعم الشبيه بصوت طفلة: «يا معلّم، ألم يكن أبي هو الذي ناداني؟»

 

قد يكون يسوع آنذاك غارقاً في تفكيره إلى درجة أنّه لم يَسمَع شيئاً، ويعترف بذلك بكلّ بساطة.

 

ينادي بطرس مِن جديد: «مارغزيام!» ثمّ يُطلِق ضحكة كبيرة.

 

«آه! إنّه حقّاً هو! أبي! أبي! أين أنتَ؟»

 

وينحني لِيَنظُر إلى الحديقة، ولكنّه لا يَرى شيئاً... يتقدّم يسوع كذلك ويَنظُر... فيرى مريم تبتسم عند الباب، ويوحنّا وسِنْتيخي يَفعَلان مثلها، وهُما في الغرفة التي في عُمق الحديقة، قرب الفرن.

 

ولكن مارغزيام يُصمِّم ويرمي بنفسه مِن أعلى المنحدر، تماماً قرب المغارة، ويتلقّاه بطرس سريعاً قبل ملامسته الأرض. سلام الاثنين مؤثّر. يسوع ومريم والاثنان اللذان في عمق الحديقة يراقبونهما وهم يبتسمون، ثمّ يقتربون مِن المجموعة الصغيرة الودودة. يتحرّر بطرس مِن معانقة الصبّي، لينحني أمام يسوع ويحيّيه مِن جديد. ويعانقه يسوع، معانقاً كذلك الصبيّ المتشبّث بالرَّسول، والذي يَسأَل: «أين أُمّي؟»

 

أمّا بطرس فإنّه يُجيب يسوع الذي يَسأَله: «لماذا بَكَّرتَ في القدوم؟»

 

«هل كان يبدو لكَ أنّني أستطيع البقاء طويلاً دون رؤيتكَ؟ ثمّ... هه! بورفيرا، ما كانت لتتركني في سلام: "اذهب لترى مارغزيام. خُذ له هذا، احمل له ذاك". يبدو أنّها كانت تظنّ مارغزيام بين لصوص أو هو في صحراء. ثمّ، الليلة الماضية، قامت مُتعمّدة لصنع فطائر العسل، وما كادت تنضج حتّى جَعَلَتني أمضي...»

 

«آه! فطائر العسل!...» يَهتف مارغزيام، ولكنّه بعدئذ يَصمُت.

 

«نعم، إنّها هنا، في الداخل، مع التين المجفّف على الفرن والزيتون والتفّاح الأحمر. ثمّ، لقد صَنَعَت لكَ رغيفاً بالزيت، ولقد بَعَثَت لكَ أقراص الجُّبن الصغيرة، صَنَعَتها مِن حليب نعجاتكَ. وهناك ثوب لا ينفذ منه الماء. ثمّ، ثمّ... لا أدري ماذا هناك أيضاً. كيف؟ ألم تَعُد متلهّفاً؟ أتبكي؟ آه! لماذا؟»

 

«لأنّني كنتُ أُفضّل أن تأتي لي بها هي، عوضاً عن كلّ هذه الأشياء... فأنا أُحبّها كثيراً، هل تَعلَم؟»

 

«آه! يا للرحمة الإلهيّة! ولكن مَن كان ليفكّر بهذا؟ لو كانت هي التي تسمع كلّ هذه الأشياء، لكانت ستذوب كالسَّمن...»

 

«مارغزيام على حقّ. كان يمكنكَ المجيء معها. بالتأكيد هي تتمنّى رؤيته، منذ زمن بعيد. نحن معشر النساء هكذا مع أولادنا...» تقول مريم.

 

«حسناً، ولكنّها ستراه عمّا قريب، أليس كذلك يا معلّم؟»

 

«نعم، بعد عيد الأنوار، عندما نرحل... إنّما وإن يكن... نعم، عندما تعود بعد عيد الأنوار، تعود معها. وستُمضي هي معه بضعة أيّام، ثمّ يعودان معاً إلى بيت صيدا.»

 

«آه! يا للروعة! هنا ومع أُمَّين!» ويعود للصبيّ صفاؤه وسعادته.

 

يَدخُلون جميعاً إلى البيت ويُنـزِل بطرس الرُّزَم عن كاهله.

 

«هذا سمك مجفَّف، مملَّح وطازج. سيكون هذا عمليّاً بالنسبة إلى أُمّكَ. وهذا الجُّبن الطريّ الذي تحبّه كثيراً يا معلّم. وهنا بيض ليوحنّا. آمُل ألّا تكون قد كُسِرَت... لا، لحسن الحظ. ثمّ عنب. أعطتني إيّاه سُوسَنّة في قانا، حيث نمتُ. ثمّ... آه! ثمّ هذا! انظر يا مارغزيام كم هو أشقر. تحسبه شعر مريم...» ويَفتَح قِدراً مليئاً عسلاً سائلاً.

 

«ولكن لماذا كلّ هذا؟ لقد حَمَّلتَ نفسكَ عناء يا سمعان.» تقول مريم وهي ترى الصُّرر الكبيرة والصغيرة والأواني والقُدور التي غطّت الطاولة.

 

«عناء؟ لا. لقد اصطدتُ كثيراً، وبكثير مِن التوفيق. هذا مِن جهة السَّمك. أمّا الباقي: فَمِن إنتاج البيت. هذا لا يكلّف شيئاً، وبالمقابل فإنَّ جَلبها يمنح فرحاً كبيراً. ثمّ... إنّه عيد الأنوار، وهذا موسمها. أليس كذلك؟! ألا تذوق العسل؟»

 

«لا أستطيع.» يقول مارغزيام بشكل جادّ.

 

«لماذا؟ هل تَشعُر بتوعُّك؟»

 

«لا. إنّما لا يمكنني أكله.»

 

«ولكن لماذا؟»

 

يَحمَرّ الصبيّ ولكنّه لا يُجيب. يَنظُر إلى يسوع ويَصمُت. يبتسم يسوع ويَشرَح الأمر: «لقد نَذَرَ مارغزيام نذراً للحصول على نعمة. لا يمكنه تناول العسل لمدّة أربعة أسابيع.»

 

«آه! حسناً! سوف تتناوله فيما بعد... ومع ذلك خُذ الوعاء... ولكن انظر! ما كنتُ أظنُّ أنّه... أنّه...»

 

«إنَّكَ سخيّ جدّاً يا سمعان. ولكن الذي يمارس التّوبة منذ الطفولة، سوف يَسهُل عليه إيجاد سبيل الفضيلة مدى حياته.» يقول يسوع بينما يبتعد الصبيّ والوعاء الصغير بين يديه.

 

يَنظُر إليه بطرس وهو يمضي، مُفعَماً إعجاباً. ثمّ يَسأَل: «والغيور، أليس هنا؟»

 

«إنّه عند مريم التي لحلفى. ولكنّه على وشك العودة. سوف تنامان معاً هذه الليلة. تعال هنا يا سمعان بطرس.»

 

يَخرُجان، بينما مريم وسِنْتيخي تُرتّبان الغرفة المليئة بالرُّزَم.

 

«يا معلّم... لقد أتيتُ لأراكَ، أنتَ والصبيّ. حقّاً. إنّما كذلك لأنّني فكّرتُ كثيراً هذه الأيّام، خاصة منذ قدوم أولئك الثلاثة الذين يَنفُثون السموم... أولئك الذين كذبتُ عليهم أكثر ممّا في البحر مِن سَمَك. وهم الآن في طريقهم إلى جَثْسَيْماني، ظانّين أنّهم سَيَجِدون يوحنّا الذي مِن عين دور، ثمّ سَيَمضون إلى لعازر متوسِّمين إيجاد سِنْتيخي هناك، وكذلك أنتَ. فليمضوا إلى هناك!... ولكنّهم سوف يعودون و... يا معلّم، إنّهم يَبغون أن يُسبِّبوا لكَ المتاعب مِن أجل هذين البائِسَين...»

 

«لقد توقّعتُ كلّ هذا منذ أشهر. وعندما يعودون بحثاً عن هذين الاثنين اللذين يلاحقونهما، لن يجدوهما ولا في أيّ مكان في فلسطين. أترى هذه الصناديق؟ إنّها لهما. أترى كلّ هذه الثياب المطوية قرب النّول؟ إنّها لهما. هل أنتَ مُندَهِش؟»

 

«نعم، يا معلّم. ولكن إلى أين سترسلهم؟»

 

«إلى أنطاكية.»

 

يُطلِق بطرس صافِرة مُعبِّرة، ثمّ يَسأَل: «وإلى بيت مَن؟ وكيف يذهبان؟»

 

«إلى أحد بيوت لعازر. آخر ممتلكات لعازر، حيث كان يحكم أبوه باسم روما. وسيمضيان إلى هناك بحراً...»

 

«آه! هو ذا! إذ لو كان على يوحنّا المضيّ إلى هناك على قدميه...»

 

«بَحراً. يسرني أني أتمكّن مِن محادثتكَ في هذا، كنتُ سأُرسِل سمعان ليقول لكَ: "تعال"، لتهيئة كلّ شيء. اسمع. يومان أو ثلاثة بعد عيد الأنوار، سوف نمضي مِن هنا جماعات صغيرة، كي لا نَلفِت الانتباه. ومِن المجموعة سوف نُشكّل فريقاً، أنا وأنتَ وأخوكَ ويعقوب ويوحنّا وأخواي إضافة إلى يوحنّا وسِنْتيخي. سوف نمضي إلى بتولمايس [عَكّا]! ومِن هناك تُرافِقهُما بالقارب إلى صور. وهناك تَستقلّون سفينة متّجهة إلى أنطاكية. ثمّ تعود لتلاقيني في أَكزِيب. سوف أكون على قمّة الجبل بشكل يوميّ، وفضلاً عن ذلك فإنّ الروح سوف يقودكم...»

 

«كيف؟ ألا تأتي معنا؟»

 

«سأكون لافتاً للانتباه كثيراً. وأنا أريد مَنح السلام لروح يوحنّا.»

 

«وكيف سأعمل، أنا الذي لم أبتعد قطّ عن هنا؟»

 

«أنتَ لستَ وَلَداً... وقريباً سيكون لزاماً عليكَ المضي إلى أبعد مِن أنطاكية كثيراً. إنّي أثق بكَ. ترى أنّني أُقدِّركَ...»

 

«وفليبّس وبرتلماوس؟»

 

«سوف يأتيان لملاقاتنا في يوطابات، ويُبشِّران وهما ينتظراننا. سأكتب لهما ، وتحمل أنتَ الرسالة.»

 

«و... هذان الاثنان هنا، هل يَعرِفان مصيرهما؟»

 

«لا. سأدعهما يُمضيان العيد بسلام...»

 

«آه! يا للمسكينين! انظر إذن إذا ما كان على المرء أن يكون ملاحَقاً مِن مُجرِمين و...»

 

«لا تُلطّخ فمكَ يا سمعان.»

 

«نعم، يا معلّم... اسمع... مع ذلك كيف العمل لحمل هذه الصناديق؟ ولحمل يوحنّا؟ إنّه يبدو لي حقاً إنّه مريض جدّاً.»

 

«سنأخذ حماراً.»

 

«لا. سنأخذ عربة صغيرة.»

 

«ومَن سيقودها؟»

 

«هه! كما تَعلَّم يهوذا بن سمعان استعمال المجذاف، كذلك سيتعلّم سمعان بن يونا القيادة. ثمّ ينبغي ألا يكون أمراً صعباً جَرُّ حمار باللّجام! وعلى العربة نضع الصناديق وهذين الاثنين... ونحن نمضي سيراً على الأقدام. نعم. نعم! يستحسن أن نفعل هكذا، ثق تماماً.»

 

«والعربة، مَن الذي يعطيناها؟ تذكَّر أنّني لا أريد أن يعرف أحد برحيلنا.»

 

يُفكِّر بطرس... يُقرِّر: «هل معكَ نقود؟»

 

«نعم. الكثير، وأيضاً حليّ ميزاس.»

 

«إذن فالأمر كلّه يهون. أعطِني مبلغاً. سوف أتدبّر حماراً وعربة مِن عند أحدهم، و... نعم، نعم... بعد ذلك نَهِب الحمار لأحد البؤساء، والعربة... سننظر في أمرها... حسناً فعلتُ في مجيئي، وهل عليَّ حقّاً العودة مع زوجتي؟»

 

«نعم. يُستحسن.»

 

«وسيكون حسناً. إنّما هذان المسكينان! يؤسفني ألّا يعود يوحنّا فيما بيننا. وقد كان لنا لبعض الوقت... ولكنّ المسكين! كان بإمكانه أن يموت هنا مثل يونا...»

 

«غير مسموح له. فالعالم يَكرَه الذي يُفتدى.»

 

«سوف يؤلمه هذا...»

 

«سأجد مسوّغاً يجعله يمضي دونما كثير أسف.»

 

«أيّ مسوّغ؟»

 

«المسوّغ ذاته الذي استخدمتُه في إرسال يهوذا بن سمعان: مسوّغ العمل مِن أجلي.»

 

«آه! إنّما لدى يوحنّا، القداسة، بينما لدى يهوذا لا شيء سوى الكبرياء.»

 

«سمعان، لا تنمّ.»

 

«إنّ ذلك لهو أصعب مِن جعل سمكة تغنّي. إنّها الحقيقة، يا معلّم، وليست نميمة... ولكن يبدو لي أنّ الغيور قد قَدِم مع إخوتكَ. هيّا بنا.»

 

«هيّا، والزم الصمت مع الجميع.»

 

«أتقول لي هذا؟ لا يمكنني إخفاء الحقيقة عندما أتحدّث، ولكنّني أعرف أن أصمت تماماً عندما أريد. وأنا أريد ذلك. لقد عاهدتُ نفسي على ذلك. أنا أذهب حتّى أنطاكية! إلى آخر العالم! آه! لستُ أرى متى أعود! ولن أنام طالما لم يتمّ كلّ شيء...»

 

يَخرُجان ولا أعود أرى شيئاً.