ج5 - ف49
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الخامس/ القسم الثاني
49- (فيما بعد يابيش جلعاد في بيت ماتياس)
13 / 12 / 1945
الوادي العميق والـمُحَرَّج حيث تقوم يابيش جلعاد يُرجّع صدى صخب سيل صغير ممتلئ يمضي مزبداً إلى الأردن القريب جدّاً. غسق مظلم يُنهي يوماً مكفهرّاً يزيد ظلمة الغابات، وتبدو القرية، منذ مطلعها، حزينة وغير مضيافة.
توما، بمرحه المعهود، ورغم أنّ ثيابه تبدو وكأنّها خرجت للتوّ مِن طبق الغسيل، والوحل يسيل مِن الرأس وحتّى الحزام، ومِن الحزام حتّى القدمين، يقول: «هوم! لستُ أودُّ أن تنتقم هذه البلدة، بعد قرون، منّا لأجل المفاجأة السخيفة التي أتتها مِن إسرائيل! إنّما! هيّا بنا نتألّم مِن أجل السيّد.»
لم يضربهم الناس، هذا لا. ولكنّهم طردوهم وكأنّهم لصوص، بل أسوأ، وكان على فليبّس ومتّى إطلاق سيقانهما للريح للنجاة مِن كلب ضخم أطلَقَه أحد الرعيان خلفهما، ذلك أنّهما قَرَعا باب حظيرة طلباً لمأوى خلال الليل "أقلّه تحت سقف الحيوانات."
«والآن ماذا سنفعل؟»
«ليس لدينا ما نقتات به.»
«ولا نقود. وبغير النقود لن نجد زاداً ولا مأوى!»
«ونحن مبلّلون ونشعر بالبرد والجوع.»
«والليل يهبط. وسنكون على ما يرام غداً صباحاً، بعد ليلة نمضيها في الغابة!»
مِن أصل الاثني عشر، سبعة يتذمّرون علناً، ثلاثة منهم الاستياء بادٍ على وجوههم، ورغم صمتهم، فإنّهم يبدون وكأنّهم يتكلّمون. سمعان الغيور يَسير خافضاً رأسه، وعلى وجه تَرتَسِم تعابير غير قابلة للتفسير. أمّا يوحنّا فيبدو وكأنّه على جمر متّقد، ورأسه يتحوّل سريعاً مِن المتأفّفين إلى يسوع، ومنه إليهم. ألمه بادٍ على وجهه. ويسوع يمضي بنفسه، بسبب رفض أو خشية الرُّسُل، لِيَقرع الأبواب، الواحد تلو الآخر، قاطِعاً بصبر الدروب التي تحوّلت إلى مستنقعات زَلِقة وكريهة. ولكنّهم يَلقون الرَّفض أينما ذهبوا.
لقد بَلَغوا طرف القرية، حيث يتوسّع الوادي لِيَفسح المجال لمراعي سهل الأردن. ما تزال هناك بيوت قليلة... ولكنّها خيبة الأمل في كلّ مكان…
«فلنبحث في الحقول. يوحنّا، هل يمكنكَ الصعود إلى شجرة الدردار تلك؟ مِن الأعلى يمكنكَ أن ترى.»
«نعم، يا ربّي.»
«المطر يَجعَل الشجرة زَلِقة. ولن ينجح الصبيّ وسيؤذي نفسه. وهكذا سيزيد العبء مع رفيق جريح.» يُهمهِم بطرس.
ويسوع، بِلُطف: «أنا سأصعد.»
«هذا، لا!» يَهتفون معاً وكأنّهم جوقة. والصيّادون هتفوا بأقوى مِن الجميع، مُضيفين: «إذا كان ذلك خطراً علينا، نحن الصيّادين، فماذا يمكنكَ أن تفعل أنتَ، ولم تتسلّق يوماً سارية ولا حبالاً؟»
«كنتُ لأفعل ذلك مِن أجلكم. كي أبحث لكم عن مأوى. بالنسبة إليَّ، هذا لا يهمّ. فليس الماء هو الذي يؤرّقني...»
يا له مِن حزن! يا له مِن تذكير بالإشفاق عليه، في صوته! تنبَّه البعض وصَمَتوا. آخرون، أعني برتلماوس ومتّى، يقولان: «الآن فات أوان التفادي. كان علينا التفكير في ذلك مسبقاً.»
«نعم، وعدم اتّباع النـزوة بالمضي مِن بيللا رغم المطر. كنتَ عنيداً ومتهوّراً، والآن ندفع الثمن بالنتائج. ما الذي يمكنكَ تدبيره الآن؟ لو كان لدينا مبلغاً معتبراً مِن المال، لكنتَ رأيتَ كلّ البيوت وقد فتحت أبوابها! إنّما أنتَ!... لماذا لا تجترح معجزة، معجزة على الأقلّ مِن أجل رُسُلكَ؟ أنتَ تفعل ذلك حتّى مِن أجل غير المستحقّين!» يقول يهوذا الاسخريوطيّ وهو يشوّر كالمجنون، مُشاكساً لدرجة أنّ الآخرين، رغم اتّفاقهم معه جزئياً، يَختَبِرون الحاجة إلى تذكيره بوجوب الاحترام.
يبدو يسوع وكأنّه أضحى الـمُدان الذي يَنظُر بوداعة إلى جلّاديه. ويصمت. وهذا الصمت، الذي أَصبَحَ مُلازِماً ليسوع منذ بعض الوقت، تمهيداً «للصمت العظيم» أمام السنهدرين، أمام بيلاطس وهيرودس، وقد آلمني كثيراً. تحسبها محطّات صمت في نزاع مُدنِف (مُقبِل)، وهي ليست سكينة وسط الآلام، بل هي مقدّمة للموت. تبدو لي وكأنّها تصرخ، محطّات صمت يسوع، في وجه عدم فهم الناس وقلّة حبّهم. ووداعته دون ردّات فِعل، مظهره الذي يبدو فيه ورأسه منخفض قليلاً، تجعله يبدو لي مُكبَّلاً، وقد أُسلِم إلى حقد الناس.
«لماذا لا تتكلّم؟» يَسأَلونه.
«لأنّني أقول كلاماً لا يُدرِكه قلبكم، في هذه الساعة... هيّا بنا. سنسير كي لا نتجلّد... وسامحوني...»
يَدور بسرعة ليصبح على رأس الجماعة التي تختبر قليلاً مِن الشفقة تجاهه، مع لومه قليلاً بإعطاء الحقّ للرفاق.
يُبطئ يوحنّا السير، ويبقى في المؤخّرة، إنّما بشكل لا يلفت انتباه أحد. ثمّ يتوجّه إلى شجرة عالية، يبدو لي أنّها شجرة حور أو دردار، يَنـزع معطفه وثوبه، ونصف عار، يَشرع بالتسلّق ولكن ليس دونما صعوبة، إلى أن بَلَغَ الأغصان الأُوَل التي سهّلت له الصعود. ويَصعد، ويَصعد مثل قطّة. أحياناً كذلك ينـزلق، ولكنّه يتمالك نفسه، وها هو يكاد يبلغ القمّة. يتفحّص الأُفُق المضاء بآخر أنوار النهار. بالفعل، بما أنّ الغيوم قد أُنيرت قليلاً، فالسهل أقلّ ظلمة مِن الوادي. يتفحّص في كلّ الاتّجاهات، وأخيراً تَظهَر حركة تنمّ عن فرح. فينـزلق بسرعة إلى الأرض، يرتدي ثيابه ويبدأ بالركض حتّى يبلغ رفاقه، بل يتجاوزهم. وها هو قد أَصبَحَ إلى جانب المعلّم. ويقول له وهو يلهث مِن جرّاء الركض: «كوخ، يا سيّد... كوخ في جهة الشرق... ولكن يجب العودة إلى الوراء... لقد تسلّقتُ شجرة... تعال، تعال...»
«أنا، ماضٍ مع يوحنّا في هذا الاتّجاه. إذا شئتم المجيء، تعالوا، وإلّا فأكملوا طريقكم بمحاذاة النهر حتّى القرية التالية. سنلتقي هناك.» يقول يسوع جادّاً ومصمماً.
يَتبعه الجميع عَبْر الحقول الغارقة.
«ولكنّنا نعود صوب يابيش!»
«أنا لا أرى منازل...»
«مَن يدري ماذا رأى الولد!»
«قد تكون مِتبَنة.»
«أو كوخ أحد البرص.»
«هكذا سوف نُبلِّل أنفسنا. تبدو هذه الحقول وكأنّها إسفنج.» يقول الرُّسُل متأفّفين.
ولكنّه ليس ملجأً لأبرص ولا مِتبَنة، ما يُرى خلف سِتار مِن الأشجار. هو كوخ، نعم. هو عريض ومنخفض، يشبه حظيرة فقيرة، نصف مغطى بالقشّ، مع جدران مِن طين بالكاد تثبّت في الزوايا دعامات مِن الحجر الخام. نِطاق مِن أوتاد الأساس يحيط بالمنزل الصغير، وفي الداخل خضار مبلّلة.
يوحنّا ينادي. فيُقبِل رجل عجوز: «مَن؟»
«مسافرون إلى أورشليم. نطلب ملجأ، باسم الله!» يقول يسوع.
«على الدوام. فهذا واجب. ولكنّكم أخطأتم الاختيار. فأمكنتي قليلة، وليس لديَّ أَسِرّة.»
«لا يهمّ. ستكون لديكَ نار، على الأقلّ.»
يُحرِّك الرجل المزلاج ويَفتح الباب. «ادخلوا وليكن السلام معكم.»
يَدخُلون إلى الحديقة الصغيرة ويَعبُرون إلى الغرفة الوحيدة المستخدمة كمطبخ وغرفة نوم. نار تتأجّج في الموقد. المكان فقير ولكنّه جيّد الترتيب. أمّا العُدَد فهناك فقط الضروريّ منها.
«انظروا! أنا، ليس لديَّ سوى القلب كبيراً ومتأهّباً! ولكن إذا لم تكونوا متطلّبين... هل لديكم خبز؟»
«لا. بل حفنة مِن زيتون...»
«لا أملك الخبز للجميع. ولكنّني سوف أُحَضِّر لكم طبقاً بالحليب. لديّ نعجتان. وهما تكفيانني. سأحلبهما. هل تسمحون لي بمعاطفكم؟ سأنشرها في الحظيرة، في الخلف. ستجف قليلاً، وغداً نكمل تجفيفها قرب النار.»
يَخرُج الرجل محمّلاً بالأقمشة المبلّلة. والجميع يلتفّون حول النار للتمتّع بحرارتها.
يَعود الرجل حاملاً حصيرة ريفيّة. يَفردها. اخلعوا نعالكم، سوف أنظّفها مِن الوحل وأُعلّقها لتجفّ. سأقدّم لكم الماء الحارّ لغسل أقدامكم. الحصيرة ريفيّة، ولكنّها نظيفة وسميكة. وهذا أفضل لكم مِن الأرض الرطبة والباردة.
يأتي بِقِدر صغير مليء بماء يميل إلى الاخضرار، ذلك أنّه كان يطهو فيه بعضاً مِن الخضار، وأَفرَغَ نصف المحتوى في طست والنصف الآخر في جاط. يُضيف إليها الماء البارد ويقول: «هذا كي تعودوا على ما يُرام. اغتسلوا. هذا شرشف نظيف.»
وبينما هو يتكلّم، يهتمّ بالنار فيؤجّجها مجدّداً. يَسكُب الحليب في قِدر، ويضعه على النار. وما أن يَغلي، حتّى يُضيف إليه بعض الحبوب التي تبدو لي وكأنّها شعير مسحوق أو ذُرة مهروسة. ثمّ يُحرّك المغليّ.
يسوع الذي كان بين أوائل المغتسلين، يدنو منه: « فليمنحكَ الله نعمته، مِن أجل محبّتكَ.»
«أنا لا أفعل سوى ردّ بعض مما حصلتُ عليه منه. لقد كنتُ مجذوماً. مِن السابعة والثلاثين وحتّى الواحدة والخمسين كنتُ أبرصاً. ثمّ شُفيتُ. ولكنّني وجدتُ أهلي في القرية وقد ماتوا جميعهم، وكذلك زوجتي، وبيتي مُدمَّراً. ثمّ كنتُ أنا "الأبرص"... فجئتُ إلى هنا، وبنيتُ لي عُشّاً. بوسائلي الخاصّة ومعونة الله. في البدء بنيتُ كوخاً مِن الخيزران، ثمّ مِن الخشب، ثمّ بنيتُ الجدران... ففي كلّ سنة أضيف شيئاً جديداً. في العام الماضي بنيتُ مقرّ النّعاج. اشتريتها مِن صنع الحُصر والأواني الخشبيّة وبيعها. لديَّ شجرة تفّاح، شجرة أجاص، شجرة تين، وكَرمة. في الخلف لديَّ حقل شعير صغير، في الأمام خضار. أربعة أزواج مِن الحَمَام ونعجتان. وسيكون لديَّ حِملان قريباً. آمل أن تكون إناثاً هذه المرّة. أُبارِك الربّ ولا أطلب المزيد. وأنتَ مَن تكون؟»
«جليليّ. هل لديكَ انحيازات؟»
«مطلقاً. رغم أنّي مِن أصل يهوديّ. لو رُزقتُ أولاداً، لكان لديَّ واحد مثلكَ... أقوم بدور الأب لطيور الحَمَام... لقد تعوّدتُ على البقاء وحيداً.»
«وفي الأعياد؟»
«أملأ المعالِف وأمضي. أستأجر حماراً. أجري، أقوم بما عليَّ فعله، وأعود. لم أفقد يوماً ورقة. صالح هو الله.»
«نعم، مع الصالحين، ومع الأقلّ صلاحاً. ولكنّ الصالحين هُم تحت جناحه.»
«نعم، هذا ما يقوله إشَعياء... أنا قد حَفظني وحماني.»
«كنتَ أبرصاً.» يُعلّق توما.
«وأَصبَحتُ فقيراً ووحيداً. ولكن هي ذي نعمة مِن الله أن أعود إنساناً مِن جديد ويكون لي سَقف وقُوت. شكلي في البؤس، أيّوب. وأتأمّل أن أحظى مثله ببركة الله، ليس في الثروات، بل بالنعمة.»
«ستحصل عليها، فأنتَ بارّ. ما اسمكَ؟»
«ماتياس.» ويُنـزِل القِدر، يَحمله إلى الطاولة، يُضيف إليه السمن والعسل، يُحرّكه، ويُعيده إلى النار ويقول: «ليس لديَّ سوى ستّ أوان بين صحن وقَصعة. تتداولونها فيما بينكم.»
«وأنتَ؟»
«المضيف يبقى إلى الآخر. في الأوّل، الإخوة الذين يرسلهم الله. ها قد أَصبَحَ جاهزاً. وهذا يفيد.» ويَسكب مِن هذا الحساء الساخن في الصحون الأربعة والقَصعتين. هناك ملاعق مِن خشب.
يدعو يسوع الأصغر سناً ليأكلوا.
«لا. بل أنتَ، يا معلّم.» يقول يوحنّا.
«لا، لا. يَحسُن أن يَشبع يهوذا ويرى أنّ هناك على الدوام قوتاً للأبناء.»
يمتقع لون يهوذا، ولكنّه يأكل.
«هل أنتَ رابّي؟»
«نعم. وهؤلاء هُم تلاميذي.»
«أنا كنتُ أذهب إلى يوحنّا عندما كان في بيت عَبرة. هل تعرف شيئاً عن مَسيّا؟ يُقال إنّه جاء وإنّ يوحنّا قد أشار إليه. وعندما أذهب إلى أورشليم، آمُل دائماً أن أراه، ولكنّني لم أنجح في ذلك. أُنهي الطقس وأمضي. وبسبب ذلك لا أراه. وهنا، أنا منعزل، ثمّ... الناس في بيريه ليسوا طيّبين. لقد تحدّثتُ إلى رُعاة. هُم يأتون إلى هنا مِن أجل المراعي. هُم كانوا يَعلمون. تحدّثوا إليَّ. يا له مِن كلام! ثمّ هو مَن قاله!...»
يسوع لا يُعرِّف عن نفسه. جاء دوره في الأكل، ويأكل بسكون قرب العجوز الطيّب.
«والآن؟ كيف سنتدبّر أمر النوم؟ أتنازل لكم عن سريري، إنّما لستُ أملك سوى سرير واحد... وأنا سأمضي مع النّعاج.»
«لا، بل نحن نمضي إلى هناك. فالقشّ مفيد للمُتعَب.»
انتهى العشاء، ويُفكِّرون بالنوم للرحيل عند الفجر. ولكنّ العجوز يصرّ، ومتّى المصاب بزكام شديد ينام في سريره...
...ولكن في الفجر طوفان. كيف الرحيل تحت هذا الشّلال؟ يَسمَعون للعجوز ويَمكثون. في تلك الأثناء، يتمّ تنظيف الثياب بالفرشاة، تجفيفها، ودَهن النّعال، ويأخذون قسطاً مِن الراحة. والعجوز يعود إلى طهي الشعير في الحليب للجميع، ثم يضع التفّاح في الرماد. تلك هي الوجبة. وبينما هُم يتناولونها يُسمَع صوت في الخارج.
«أهو مسافر آخر؟ كيف سنتدبّر الأمر؟» يقول العجوز. ولكنّه يَخرُج، وقد التَحَفَ بغطاء غير نَفوذ. في المطبخ يتمّ الاصطلاء (الاستدفاء)، إنّما دون مَرَح. يسوع يصمت.
يعود العجوز، مُحملقاً. يَنظُر إلى يسوع، ويَنظُر إلى الآخرين. يبدو وكأنّه خائف... يبدو متردّداً وفاحصاً. أخيراً يقول: «هل مَسيّا هو واحد منكم؟ قولوا. أهل بيللا يبحثون عنه ليُكرّموه، بسبب معجزة عظيمة اجترحها. لقد قرعوا أبواب البيوت جميعها منذ مساء الأمس، وصولاً إلى النهر، إلى أوّل قرية... والآن، وفي طريق العودة، فَكَّروا فيَّ. لقد دَلَّهم أحدهم على بيتي. إنّهم في الخارج مع العربات. حشد مِن الناس!»
يَنهَض يسوع. يقول الاثنا عشر: «لا تذهب إليهم. فأنتَ قلتَ إنّه كان مِن قَبيل الحيطة والحذر عدم التوقّف في بيللا، لا فائدة مِن إظهار نفسكَ الآن.»
«ولكن إذن!... آه! مبارك أنتَ! مبارك أنتَ ومَن أرسلكَ! وأنا الذي استقبلتُكَ! أنتَ الرابّي يسوع، هو... آه!» يجثو الرجل، وجبهته إلى الأرض.
«نعم. ولكن دعني أمضي إلى الذين يبحثون عنّي. ثم آتي إليكَ، أيّها الرجل الطيّب.» يُحرِّر كاحليه مِن يديّ مضيفه الذي يمسك بهما بشدّة، ويَخرُج إلى الجنينة المغمورة بالمياه.
«ها هو! ها هو! أوشعنا!»
ويَقفزون مِن العربات. هناك رجال ونساء وأعمى الأمس الصغير وأُمّه وهناك الجراسانيّة. وبغير اكتراث بالوحل، يجثون ويتوسّلون إليه: «عُد، عُد إلى الخلف! إلينا! إلى بيللا.»
«لا، إلى يابيش.» يَصيح آخرون، هُم بالتأكيد مِن يابيش. «نحن نريدكَ! ونادِمون على طردِنا إيّاكَ!» يَهتف الذين مِن يابيش.
«لا، عندنا. في بيللا، حيث ما تزال معجزتكَ حيّة. لهم العيون ولنا نور النَّفْس.»
«لا أستطيع. أنا ماضٍ إلى أورشليم. تجدونني هناك.»
«هل أنتَ غاضب منّا لأنّنا طردناكَ؟»
«أنتَ مشمئزّ لعلمكَ بأنّنا صَدَّقنا وشايات خاطئ.»
تُغطّي أُمّ مرقس وجهها وهي تبكي.
«قل أنتَ، يا جايا، لِمَن أَحَبّكَ، أن يعود.»
«ستجدونني في أورشليم. اذهبوا وثابروا. لا تكونوا شبيهين بالرياح التي تعصف في كلّ الاتجاهات. وداعاً.»
«لا. تعال. سنأخذكَ بالقوّة، إن لم تأتِ.»
«لن ترفعوا يداً عليَّ. فذلك يكون مِن قَبيل الوثنيّة، لا مِن الإيمان الحقّ. فالإيمان يَثِق حتّى وإن لم يَرَ. يَثبُت حتّى ولو تمّت محاربته. ينمو حتّى بدون معجزات. أنا باقٍ عند ماتياس الذي عَرف أن يؤمن دون أن يرى شيئاً، وهو بارّ.»
«على الأقل اقبَل تقادمنا: مالاً وخبزاً. لقد قيل لنا إنّكَ أعطيتَ كل ما لديكَ لجايا وأُمّه. خُذ عربة. ستستخدمها في ذهابكَ. وتتركها في أريحا لدى تيمون صاحب الفندق. خذها. إنّها تُمطِر الآن وسوف تمطر. وستحميكَ. وستُنجِز العمل بسرعة أكبر. برهن لنا أنّكَ لا تمقتنا.»
هُم في جهة مِن السياج، ويسوع في الجهة الأخرى، يتبادلون النَّظَرات، وأولئك في حالة جَيَشان. خلف يسوع، يجثو ماتياس، فاغراً فاه، ثمّ الرُّسُل وقوفاً.
يمدّ يسوع يده، ويقول: «أَقبَل مِن أجل الفقراء، ولكنّني لا أريد عربة. أنا الفقير بين الفقراء. لا تُصرّوا. جايا وأُمّه، وأنتَ التي مِن جيراسا، تعالوا لأبارككم بشكل خاصّ.»
عندما اقتَرَبوا منه، ذلك أن ماتياس قد فَتَحَ لهم حاجز السُّور، يُلاطِفهم، يباركهم ويَصرفهم. ثمّ يُبارِك الآخرين المجتمعين عند العَتَبَة، مُعطين الرُّسُل مالاً وقوتاً، ويصرفهم. يعود إلى البيت…
«لماذا لم تتحدّث إليهم؟»
«معجزة الأعمَيَين تتحدّث.»
«لماذا لم تأخذ العربة؟»
«لأنّه حَسَن لنا أن نمضي سيراً على الأقدام.»
ويلتفت إلى ماتياس: «كنتُ سأكافئكَ ببركتي. أمّا الآن فيمكنني إضافة بعض المال مِن أجل المصاريف التي بَذَلتَها...»
«لا، يا سيّدي يسوع... لا أريد. لقد فعلتُ ذلك عن طِيب خاطر. والآن، الآن، أَفعَل ذلك لأخدم السيّد. والسيّد لا يدفع. إنّه غير مُلزَم. فأنا مَن تلقّيتُ وليس أنتَ! آه! هذا اليوم! فذكراه سترافقني إلى الحياة الأخرى!»
«أَحسَنتَ القول. رحمتُكَ تجاه المسافرين، سوف تلقاها مكتوبة في السماء، وكذلك سرعة إيمانكَ... سوف أترككَ حالما ينقشع النهار قليلاً. قد يعودون. مُلِحّين طالما تهزّهم المعجزة، ثمّ... متراخين كما في السابق، أو أعداء. أنا ماضٍ. لقد مكثتُ حتّى الآن في محاولة لهدايتهم. الآن آتي وأَعبُر دون توقّف. أنا ماض إلى مصيري الذي يستعجلني. الله والإنسان يحثّانني، ولا يمكنني التوقّف. الحبّ يَخِزني والحقد يَخِزني. مَن يحبّني يمكنه أن يتبعني. ولكنّ المعلّم لم يَعُد يجري خلف النّعاج المتمرّدة.»
«ألا يحبّونكَ، أيّها المعلّم الإلهيّ؟»
«لا يفهمونني.»
«أشرار.»
«بل هم مُثقَلون بالشهوات.»
لم يَعُد الرجل يجرؤ على أن يكون كالسابق. فيبدو وكأنّه أمام هيكل. يسوع، على العكس، الآن وهو لم يَعُد المجهول، فهو أقلّ تحفّظاً، ويتحدّث إلى العجوز كما لو كان واحداً مِن أهله.
وتمرّ الساعات، وكذلك بداية فترة ما بعد الظّهر. الغيمة التي انقشعت تُعلِن توقّف المطر. يأمر يسوع بالرحيل. وبينما يَجلب العجوز المعاطف التي جفّت، يضع بعض النقود في درج، وبعض الخبز والجبن في مِعجَن.
يعود العجوز، ويباركه يسوع. ثمّ يُعاوِد السير، ويلتفت مِن جديد لينظر إلى الرأس الذي يعلوه المشيب والذي خَرَجَ مِن السياج العاتم.