ج2 - ف102
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الثاني / القسم الثاني
102- (في بيت عنيا، في بيت سمعان الغيور)
21 / 03 / 1945
عندما يَصِل يسوع إلى الهضبة، بعد اجتيازه الـمُرتَقى الأخير، يَرى بيت عنيا ضاحكة، تحت أشعة شمس كانون الأوّل (ديسمبر) التي تُخفّف مِن حزن الريف العاري، وتجعل أقلّ ظُلمة بُقَع السرو الخضراء وشجيرات السنديان والخرنوب التي تنمو هنا وهناك، وهي تُشبِه رِجالات البلاط المتزاحمة إلى جانب بعض شجيرات النخيل الشاهقة، ذات المظهر الـمَلَكي بحقّ، والتي تنتصب فقط في أجمل الحدائق.
هذا وفي بيت عنيا لا يوجد فقط بيت لعازر الجميل، إنّما هناك أيضاً بيوت أخرى لأغنياء، قد يكونون مِن سكان أورشليم، ويُفَضِّلون العيش هنا، قريبين مِن أرزاقهم، وهُم يَنهَضون بكتل فيلّاتهم الضخمة والرائعة، ذات الحدائق المرتبة بعناية، وسط بيوت الريفيّين الصغيرة. إنّه لَمَنظر غير عاديّ، على تلك الروابي التي تُذكِّر بالشرق، منظر أشجار النخل تلك، النامية، والتي تُكلِّلها باقة أوراق قاسية وذات حفيف. وخلف هذا الزبرجد الأخضر، يمتدّ رمل الصحراء الأصفر الذي لا حدود له. هنا، على العكس، أرضيّة زيتون بلونها الأخضر الفضّيّ، الحقول مزروعة ولكنّها الآن عارية، لا خُضرة فيها، وبساتين، أشجارها كالهيكل العظميّ، جذوعها تميل إلى السَّواد، وأغصانها تتشابك وهي تُـمَثّل نفوساً تتلوّى مِن عذاب جهنميّ.
وفجأة يرى يسوع أيضاً أحد خدّام لعازر يترصَّد. يُلقي تحيّة بالِغة، ويستأذنه إعلام ربّ العمل بقدومه. ويَمضي بعدئذ مسرعاً.
في تلك الأثناء يَهرَع فلّاحون ومَدَنيّون لتحيّة الرابّي، وعَبرَ سياج مِن غار، يُحيط بخُضرة عَطِرَة لبيت جميل، تتقدّم فتاة، وهي بالتأكيد ليست إسرائيليّة. جلبابها طويل، له ذَيل خفيف، وهو فضفاض مِن صوف ناعم ناصع البَياض. لِتَوشيته، جَعَلَت له طرّة مزيّنة بألوان زاهية، تلمع فيها خيوط الذهب. وقد حَصَرَته عند الخصر بحزام يشبه الطرّة. وهي تُحافِظ على تسريحتها بِشَبكة شعر ذهبيّة مُعقَّدة جدّاً، حَلَقات مِن الأمام وملساء مِن الخلف، وتنتهي بِعَقصة عند الرَّقَبة. وهذا يجعلني أعتقد أنّها رومانيّة أو يونانيّة. وهي تُراقِب بِفُضول، حيث أصوات النساء الحادّة والأوشعنا الصادرة عن حناجر الرجال تجعلها مُتنبّهة. ثمّ تبتسم ابتسامة سُخرية، لدى رؤيتها إيّاهم يُوَجِّهون ذلك كلّه لرجل فقير ليس لديه ولا حتّى بَغل يُسافِر عليه، وهو يسير وسط جَمع مِن الناس يُماثِلونه، وجميعهم حتّى أقلّ جاذبيّة منه. تَرفَع كَتِفَيها وتَبتَعِد مع عَبسة احتقار، يتبعها، بَدَل الكِلاب، مجموعة مِن طِوَال الساق مُتعدّدي الألوان، بينهم طيور أبو منجل بيضاء، ونحامات، بالإضافة إلى طَيَري مالك الحزين بلون النار، مع أبي قردان، يهتز على رؤوسها الفضّية بَياض فريد متميّز عن ريشها الرائع الذي بِلَون الشعلة الذهبيّة.
يَنظُر إليها يسوع للحظة ثمّ يلتَفِت للاستماع إلى عجوز... كان يريد التخلّص مِن وَهن ساقيه. يُلاطِفه يسوع ويُشجّعه على الصبر، فقريباً سيأتي الربيع، ومع شمس نيسان (أبريل) الجميلة سوف يَشعُر بأنّه أقوى.
يَصِل مكسيميان الذي يَسبق لعازر بأمتار قليلة. «يا معلّم... قال لي سمعان إنَّ... إنّكَ ستذهب إلى بيته... وهذا يُؤلِم لعازر... ولكنّه مفهوم...»
«سنتحدّث في هذا فيما بعد. آه! يا صديقي!» ويَدنو يسوع بِتَشَوُّق مِن لعازر الذي يبدو مُرتَبِكاً، ويُقَبِّل له الخدّ. لقد وَصَلوا، في تلك الأثناء، إلى بيت صغير واقع بين بستان لعازر وبساتين أخرى.
«إذن فأنتَ بحقّ تريد الذهاب إلى بيت سمعان؟»
«نعم يا صديقي، فتلاميذي جميعهم معي، وأرى أنّ هذا أفضل...»
يتأسّف لعازر لهذا القرار ولكنّه لا يَعتَرِض. يستدير فقط إلى الجمع الذي يتبعه ويقول لهم: «اذهبوا، فالمعلّم في حاجة إلى الراحة.»
مِن خلال هذا أرى ما للعازر مِن تأثير، إذ يَنحَني الجميع، لدى سماع كلامه، ويَنسَحِبون، بينما يُوجّه لهم يسوع تحيّته العَذبة: «السلام لكم. سوف أُعلِمكم عن الموعد الذي سَأَعِظ فيه.»
«يا معلّم.» يقول له لعازر، الآن وقد أَصبَحَا وحدهما؛ والتلاميذ يتبعونهما على بُعد بضعة أمتار وهم يتحدّثون إلى مكسيميانوس. «يا معلّم... مرثا تبكي كثيراً. لذلك هي لم تأتِ. ولكنّها سوف تأتي فيما بعد. أمّا أنا فلستُ أبكي إلّا في أعماق قلبي. ولكنّنا نقول: صحيح. لو كنّا فَكّرنا بأنّها ستأتي... ولكنّها أبداً لا تأتي مِن أجل الأعياد... ولكن... متى أتتَ؟... أنا أقول: إنّ الشيطان هو الذي دَفَعَها لتأتي اليوم إلى هنا.»
«الشيطان؟ ولماذا لا يكون ملاكها وبأمر مِن الله؟ ولكن يجب أن تصدّقني، لأنّه حتّى ولو لم تكن، كنتُ سأذهب إلى بيت سمعان.»
«لماذا ربّي؟ ألم تجد السلام في بيتي؟»
«بل وَجَدتُ سلاماً عظيماً حتّى غدا المكان الأعزّ على قلبي بعد الناصرة. إنّما أَجِبني: لماذا قُلتَ لي: "اترك منطقة المياه الحلوة"؟ مِن أجل الفخّ الذي ينصبونه هناك، أليس كذلك؟ وحينئذ أَذهَب إلى أرض لعازر، ولكنّني لا أَضَع لعازر في ظروف يُهان فيها في بيته. أتظنّهم كانوا سيُقيمون لكَ اعتباراً؟ فَلِكي يَسحَقوني بأقدامهم، تراهم على استعداد لأن يدوسوا حتّى على التابوت المقدّس... دعني أتصرّف. أقلّه في الوقت الحاضر. أمّا بعد ذلك فسوف أرى. وفيما عدا ذلك، لا شيء يمنع مِن تناولي الطعام عندكَ، ومجيئكَ إليَّ. ولكن فلتفعل بالشكل الذي يُقال فيه: "إنّه في بيت أحد تلاميذه".»
«وأنا ألستُ مِن تلاميذكَ؟»
«نظراً لعاطفتكَ، فأنتَ أكثر مِن تلميذ، إنّكَ صديق. إنّما الأمر ليس كذلك بالنسبة إلى الأشرار. دعني أتصرّف يا لعازر: هذا البيت مِلك لكَ... ولكنّه ليس منـزلكَ، منـزل ابن ثيوفيلوس الجميل والثريّ. والمتحذلقون يُولون هذا أهميّة كبيرة.»
«تقول ذلك... ولكن لأنّ... بسببها، هكذا. لقد كُنتُ مُزمِعاً أن أسامحها... ولكنّها لو أَبعَدَتكَ فسأكرهها والله...»
«وتخسرني تماماً. دعكَ مِن هذه الفِكرة، وفوراً. وإلّا فستخسرني في الحال... هي ذي مرثا. السلام لكِ يا مُضيفتي اللطيفة.»
«آه! يا ربّ!» تبكي مرثا وهي جاثية. لقد أنزَلَت الوشاح الموضوع على رأسها بشكل تاج، لكي لا تُظهِر للأغراب دموعها. ولكنّها لا تُفكّر في إخفائها عن يسوع.
«لماذا هذه الدموع؟ في الحقيقة إنّكِ تفسدينها! هناك أسباب كثيرة للبكاء، ولتحويل الدموع إلى حَبّات ثمينة. ولكنّ البكاء لذاك السبب! آه! مرثا! يبدو لي أنّكِ لم تَعودي تَعلَمين مَن أكون! فأنا ليس لي مِن الإنسان سوى الثوب. أمّا القلب فإلهيّ هو وخفقاته إلهيّة. هيّا، انهضي، ولنمضِ إلى البيت... وهي... دعيها تفعل ما تشاء. حتّى ولو كانت قد أتت للسخرية: دعيها تفعل، أقول لكِ. ليست هي، إنّما الذي يتسلّط عليها هو الذي يجعل منها أداة للبَلبَلة. ولكن يوجد هنا مَن هو أقوى مِن معلّمها. والمعركة الآن بيني وبينه بشكل مباشر. أمّا أنتم فَصَلّوا واصفَحوا واصبِروا وآمِنوا. ولا شيء أكثر مِن ذلك.»
يَدخُلون البيت الصغير: إنّه بيت صغير على شكل مربع، يُحيط به رِواق يجعله يبدو أكبر. في الداخل هناك أربع غرف يفصلها ممرّ على شكل صليب. دَرَج خارجيّ كالعادة يؤدّي إلى سطح الرِّواق الذي يتحوّل آنئذ إلى شرفة يُنفَذ منها إلى غرفة واسعة جدّاً، أَطوَالها أَطوَال البيت، تُستَخدَم في بعض الأوقات للمؤونة، ولكنّها الآن مُفرَغة تماماً ونظيفة، ولا شيء فيها على الإطلاق.
سمعان إلى جانب الخادم العجوز الذي أَسمَعه يناديه يوسف. وهو مسؤول عن تشريفات المنـزل، ويقول: «هنا يمكنكَ التحدّث إلى الناس وتَناوُل الطعام... كما تشاء.»
«سنُفكّر بذلك في الحال. وريثما يحين ذلك، اذهب وأَخبِر الآخرين أنّ الناس سيأتون بعد الطعام، ولن أُخيّب أمل الناس الطيّبين هنا.»
«أين ينبغي لي أن أقول لهم بأن يَذهَبوا؟»
«هنا، فاليوم دافئ، والمكان محميّ مِن الرياح. ولن يَلحَق الأذى بالبستان العاري، لو أتى إليه الناس. وهنا سوف أتحدّث مِن فوق الشُّرفة. هيّا إذن.»
ويَبقى لعازر بمفرده مع يسوع. بينما مرثا، كونها مُضطَرّة للاهتمام بأناس كثيرين، فقد أَضحَت ”الـمُضيفة الصالحة“ وهي تعمل في الطابق السفلي مع الخدّام والتلاميذ أنفسهم في تحضير الطاولات والـمَراقِد.
يضع يسوع ذراعه على كتفيّ لعازر ويَخرُج معه خارج الغرفة، يتمشّيان على الشُّرفة المحيطة بالبيت، تحت الشمس الممتعة التي تُدفئ الطقس. يَلحَظ مِن الأعلى عَمَل الخدّام والتلاميذ. يبتسم لمرثا التي تَروح وتَجيء، وجهها جادّ ولكنّه أَصبَحَ أقل اضطراباً. ويَنظُر كذلك إلى المشهد الجميل الذي يحيط بالمكان، ويُسمّي مع لعازر سائر الأمكنة ومُختَلَف الأشخاص، ويَسأَل فجأة: «إذن فَمَوت دوراس جاء كالعصى المتحرّكة في وَكر الأفاعي؟»
«آه! يا معلّم! لقد قال لي نيقوديموس إنّ جلسة السنهدرين كانت في جَوّ مِن العنف لم يُعرَف قبلاً!»
«ماذا فَعَلتُ أنا للسنهدرين لأُقلِقه؟ دوراس مات بشكل طبيعيّ، على مرأى مِن جمع غَفير، لقد قَتَلَه الغضب. ومع ذلك، لم أسمح بالتقصير في احترام الميت...»
«أنتَ على حقّ. أمّا هُم، فلقد جَنّوا مِن الخوف. و... لو تدري ماذا قالوا عن وجوب إيجاد خطيئة فيكَ للتمكّن مِن قتلكَ!»
«آه! إذن، كن مطمئنّاً! فينبغي لهم الانتظار حتّى تحين ساعة الله!»
«ولكن يا يسوع، هل تَعلَم عمّن نتحدّث؟ هل تعرف ماذا يمكن للفرّيسيّين والكَتَبَة أن يفعلوا؟ هل تعرف مشاعر حنّان؟ هل تعرف مَن هو نائبه؟ هل تعرفه؟... ولكن ما عَساي أقول؟ أنتَ تَعلَم! فلا يُجدي قولي إنّهم يَختَرِعون خطيئة ليدينوكَ.»
«لقد وَجَدوها. فأنا عَمِلتُ أكثر مِن اللّازِم. فلقد تَحَدَّثتُ إلى الرومانيّين، وتَحَدَّثتُ إلى خاطِئات... نعم، إلى خاطِئات، يا لعازر. لا تَنظُر إليَّ بِهَلَع... فإحداهنّ تأتي باستمرار لتستمع إليَّ. إنّها تَقطن في إسطبل قَدَّمَه لها وكيلكَ بناء على طلب منّي، إذ لكي تبقى قريبة منّي فقد كانت تُقيم في مَلاذ للخنازير...»
وغدا لعازر تمثال الذُّهول، بلا حَراك، يَنظُر إلى يسوع كَإِلى مَن تجعله غَرابَته غير قابل للإدراك. يهزّه يسوع مبتسماً «هل رأيتَ الشيطان؟»
«لا... بل هي الرحمة التي رأيتُ. ولكن... ولكنّني أنا أُدرِك. أمّا هُم، جماعة المجلس، فلا. ويقولون إنّها خطيئة. هذا إذن صحيح! كنتُ أظنُّ... آه! ماذا فَعَلتَ؟»
«إنّه واجِبي، وحَقّي، ورغبتي: البحث عن نَفْس زَلَّت لافتدائها. تَرى إذن أن أختكَ لن تكون الحَمأة الأولى التي أَقتَرِب منها وأحنو عليها. ولن تكون الأخيرة. فإنّني، على الوحل، أودُّ أن أَبذُر الزهور وأجعلها تنمو: زهور الخير.»
«آه! يا الله! يا إلهي!... آه! يا معلّمي. إنّكَ على حقّ، وهو حقّكَ وواجبكَ وهي رغبتكَ. ولكن الضِّباع لا تُدرِك ذلك. إنّهم جِيَف نَتِنة جدّاً لا تُحِسّ، بل لا يمكنهم استنشاق رائحة الزنابق. وحتّى حيث تُزهِر الزنابق، هم، الـجِّيَف ذوات السُّلطة، يَشُمّون رائحة الخطيئة. لا يُدرِكون أنّ تلك الرائحة تَصدُر مِن بُؤَرِهم... أرجوكَ، لا تَعُد تُطيل الإقامة في مكان واحد. اذهب. تَجَوَّل ولا تُتِح لهم الفرصة لإدراككَ. كُن مثل ضوء وَهميّ يَرقُص على سُوق الزهور، سريع، لا يمكن الإمساك به، مُحيِّر في خَطّ سَيره. افعل ذلك. ليس عن جُبن، ولكن بِدَافِع حُبّ العالم الذي هو في أَمَسّ الحاجة لأن تكون حيّاً ليتقدَّس. إنّ الفساد يتفاقم، فَقَابِل الفساد بالتقديس... هل رأيتَ ساكِنة بيت عنيا الجديدة؟ إنّها رومانيّة متزوّجة مِن يهوديّ. هو مؤمن بالشريعة، أمّا هي فوثنيّة. لم تكن تستطيع أن تحيا كما تبغي في أورشليم، إذ كانت على أَخذ وَرَدّ مع جيرانها بسبب حيواناتها. فجاءت هنا. وبيتها يغصّ بالحيوانات التي هي بالنسبة لنا نَجِسَة. و... والأكثر نَجاسَة، هي، التي تَسخَر منّا وتَسمَح لنفسها بأشياء... أنا لا أستطيع توجيه اللّوم لها الآن... ولكنّني أقول بأنَّ لا أحد يَطَأ بيتي بسبب مريم التي تتحمّل العائلة كلّها وِزر خطيئتها، أمّا بيت تلك المرأة، فيَذهَبون إليه دونما حَرَج. ذلك أنّ لها حُظوة لدى بيلاطس البنطي، وهي تعيش منفصلة عن زوجها. هو في أورشليم وهي هنا. وهُم يتظاهرون بعدم التَّدَنُّس، بمجيئهم إليها وعدم ملاحظة رِجسهم. رِياء! إنّهم يَحيَون غائِصين حتّى آذانهم في النِّفاق والرِّياء! ولم يبقَ إلّا القليل حتّى يَغرَقوا فيه. السبت هو يوم الوليمة... ويُوجَد حتّى أعضاء مِن المجلس! وإنّ أحد أبناء حنّان هو الأكثر مُواظَبة.»
«رأيتُها، نعم، دعها تَفعَل. دعهم يَفعَلون. عندما يُحضِّر طبيب دواء، فإنّه يَمزج المواد، ويبدو الماء فاسداً حتّى يُحرّكها، ثم يبدو عَكِراً. إنّما بعد ذلك تترسّب الفضلات، ويعود الماء صافياً رغم كونه مُشبَعاً بالعُصارات والعناصر المفيدة. هكذا هي الحال الآن. يَمتَزِج الجميع، وأنا أعمل مع الجميع. ويترسّب المائت فيما بعد ويُرمى، ويبقى الحيّ فاعِلاً في محيط شعب يسوع المسيح الكبير. فلنهبط. إنهم ينادوننا...»…
...وتُعاوِد الرؤيا عندما يعود يسوع إلى الشُّرفة ليتحدّث إلى الناس الآتين لسماعه مِن بيت عنيا وما يحيط بها.
«السلام لكم:
حتّى حينما أَصمُت، فإنّ رياح الله تَحمِل إليكم كلمات حُبّي وكلام حقد الآخرين. أَعلَم أنّكم في حالة غَلَيان، إذ إنّ سبب وجودي بينكم لا يُخفَى على أحد. ولكن لا يكن وجودي هذا لغير الفرح. وبَارِكوا معي الربّ الذي يَستَخدِم الشرّ ليُسعِد أبناءه، مُوَجِّهاً حَمَله بِـمِنخَس الشرّ إلى ما بين الحِملان، ليَضَعه في مَأمَن مِن الذئاب.
انظروا كم الربّ صالح. إلى المكان الذي كُنتُ فيه، وَصَلَ، كما تَصِل المياه إلى البحر، نهر وساقية، نهر مِن العذوبة والحنان، وساقية مِن المرارة الـمُلتَهِبة. الأوّل كان حبّكم، مِن لعازر ومرثا حتّى آخر البلدة. والساقية كانت الـمَكيدة الجائِرة مِن أُناس يَتَّهِمون الخير بأنه جريمة، بسبب عدم تَـمَكُّنهم مِن التوجّه صَوب الخير الذي يدعوهم. وكان النهر يقول: "هلمّ، عُد فيما بيننا. مياهنا تحيط بكَ وتعزلكَ وتُدافِع عنكَ. وهي تعطيكَ كلّ ما يَأباه لكَ العالم". أمّا الساقية السامّة، فكانت تتوعَّد وتَبغي القتل بسُمّها. ولكن، ماذا تُشكِّل الساقية في مُقابِل النهر؟ وماذا تكون في مُقابِل البحر؟ لا شيء. ولقد تَلاشَى سُمّ الساقية، لأنّ نهر حبّكم قد مَحَقَه. ولم يَصُبّ في بحر حبّي سوى عذوبة حبّكم، حتّى إنّه جَعَلَ خيراً يُولَد. لقد أتى بي إليكم. فلنُبارك، في ذلك، الربّ الأسمى.»
يتردّد صوت يسوع جبّاراً في الجو الهادئ الصامت. فيسوع فائق الجمال في ضوء الشمس، يبتسم، وحركاته ساكنة وهو فوق الشُّرفة. والناس في الأسفل يُنصِتون إليه مُفعَمين فرحاً: وكأنّي بإزاء إِزهار وجوه مُرتَفِعة صَوبه، وتتفتّح لدى سماعها صوته الـمُتناغِم. لعازر قريب مِن يسوع، وكذلك سمعان ويوحنّا. بينما تَفَرَّق الآخرون بين الجمع. وتَصعَد مرثا كذلك إلى الشُّرفة وتجلس أرضاً، عند قدمي يسوع. تنظر صوب بيتها الذي يُرى بعد البستان.
«العالم مِلك للأشرار. والجنّة مِلك الصالحين. إنّها الحقيقة والوعد. وعلى هذا تستند قوّتكم الهادئة. العالم يَمضي ويَزول أمّا الجنّة فلا. ومَن يَكسَبها بصلاحه يَغتَبِط ويَسعَد بها للأبد. وإذن؟ لماذا الاضطراب والقلق لما يفعله الأشرار؟ أتتذكّرون تَفَجُّعات أيوب؟ لقد غَدَت تَفَجُّعات الصالحين والمضطَهَدين الأبديّة، إذ إن الجسد يئنّ، ولكن ينبغي له ألّا يئن، وكلّما سُحِق بالأرجل، كلّما ارتَفَعَت أجنحة النَّفْس في فرح الربّ.
هل تظنّونهم سعداء، أولئك الذين يَبدون كذلك، لأنّ لديهم، بشكل مشروع أو غير مشروع، أكواماً مِن القمح، وأقبية ممتلئة، وزقاقهم مليئة زيتاً؟ لا. فإنّهم يَذوقون طعم دم ودموع الآخرين في غذائهم كلّه، ويبدو لهم سريرهم وقد ملأته أشواك العلّيق الذي طالما التَهَمَهُم بتأنيب الضمير. يسرقون الفقراء المساكين ويُعرُّون الأيتام ويَنهَبون القريب ليُكدِّسوا لأنفسهم على الدوام، فيَجُورون ويَطغون على مَن هُم دونهم سُلطة وانحرافاً. لا يهمّ. دعوهم يفعلون. فإنّ مملكتهم مِن هذا العالم هي. وعند الموت ماذا يبقى لهم؟ لا شيء. اللهمّ إلّا إذا ما أرادوا تسمية حِمْل الخطايا الذي يحملون معهم والذي يَمْثُلون به أمام الله كنـزاً. دعوهم يفعلون. إنّهم أبناء الظُّلمات، مُتمرّدون على النور، ولا يمكنهم إتّباع طُرُقه النيّرة. وعندما يجعل الله نجمة الصباح تشعّ، يُسمّونها ظلّاً مميتاً، ويَعتَبِرونها فاسِدة. إنّهم يُفضِّلون اتّباع هَدي بريق ذهبهم المظلم وحقدهم اللذين لا يَلمَعان إلّا لأنّ الحقائق الجهنّمية لها وميض بُحيرات الهلاك الفوسفوريّ البرّاق...»
«أختي، يا يسوع... آه!» يَكتَشِف لعازر أن مريم تتسلّل خلف سياج بستان لعازر لتَصِل إلى أقرب مكان ممكن. إنّها تسير منحنية، ولكن شعرها الأشقر يلمع مثل الذهب على البقس الداكن.
تَهمّ مرثا بالنهوض، ولكنّ يسوع يضع يده على رأسها إذ ينبغي لها أن تَظَلَّ حيث هي. ويَرفَع صوته أكثر.
«ماذا أقول عن هؤلاء البؤساء؟ لقد مَنَحَهم الله الوقت للتوبة، وهم يُفرِطون في استعماله للخطيئة. ولكنّ الله لا يَحيد نظره عنهم، حتّى حينما يبدو كذلك. بل تأتي لحظة كالصاعقة التي تُحطّم حتّى الصخر، يُحطّم حبّ الله فيها قلبهم القاسي، أو حتّى إنّ ركام خطاياهم يُصَعِّد مَدَّ حمأتهم، حتّى تَصِل أفواههم وأنوفهم. ويُحِسّون -آه! نعم، وأخيراً يُحِسّون بالتقزُّز مِن ذلك الطَّعم وتلك النتانة التي تثير اشمئزاز الآخرين وتملأ قلوبهم- أنّ لحظة تأتي، يصيبهم فيها الغَثَيان، وتتصاعد فيهم بِداية رغبة في الخير. فتصرخ النَّفْس آنئذ: "ومَن ذا الذي يساعدني على العودة إلى زمن الفُتوّة، عندما كانت نفسي في حالة الصداقة مع الله؟ عندما كان يُشرِق نوره في قلبي وكنتُ أسير في إشعاعه؟ عندما كان العالم يَصمت أمام بِرّي وعَدلي وهو مُفعَم إعجاباً، وكلّ مَن كان يراني كان يُعلِن سعادتي؟ كان العالم يَنهَل ابتسامتي ويتقبّل كلامي مثل كلام ملاك، وكان القلب يرتعش زَهواً في صدر الـمُقرَّبين إليَّ. وما الذي صُرتُ إليه الآن؟ مصدر سخرية الشباب ومقت الشيوخ. إنّهم يَهجونني ويَبصقون احتقارهم في وجهي".
نعم، هكذا تتكلّم نَفْس الخاطئين، في بعض الأحيان، وكلّهم أيّوب حقيقيّ. إذ ما مِن شقاء أعظم من ذاك، شقاء مَن فَقَدَ صداقة الله وملكوته نهائيّاً. على تلك النُّفوس أن تَصنَع رحمة، فقط الرحمة. فهي قد فَقَدَت العروس الأبديّ بسبب البطالة أو الطيش. "أثناء الليل، وفي سريري، كُنتُ أبحث عن حُبّ نفسي، ولم أكن أجده". بالفعل، لا يمكن تمييز العروس في الظُّلمات، والنَّفْس تبحث وتسعى لإيجاد ما يُخفّف عذابها، يَنخَسها الحبّ، وهي غير واعية لأنّها مُحاطَة بالظلام الروحيّ، فتظنّ أنّها تَجِده في أيّ نوع مِن الحبّ. لا. فليس هناك سوى حبّ واحد للنَّفْس: الله. تمضي تلك النُّفوس التي يَـحُثُّها حبّ الله باحثة عن الحبّ. ويكفي أن تبغي النور في داخلها وتحظى بالحبّ كعروس. تمضي كالمرضى، باحِثة عن الحبّ على غير هُدى، وتُصادِف كلّ أنواع الحبّ، كلّ الأمور الـمُنَفِّرة التي يُلصِق الإنسان بها هذا الاسم، ولكنّها لا تَجِد الحبّ؛ إذ إنّ الحبّ هو الله، وليس الذهب ولا الـمُتعة ولا السُّلطان.
يا للمساكين! يا للنُّفوس المسكينة! فهي لو كانت أقلّ كَسَلاً، لكانت هَبَّت لدى سماعها أوّل نداء مِن العروس الأبديّ، لتنطلق إلى الله الذي يقول: ”اتبعني“. إلى الله الذي يقول: ”افتح لي“. ولم تكن لِتَفتَح الباب باندفاع حبّها الـمُتيقِّظ، عندما يكون العروس الذي خابت آماله قد أَصبَحَ بعيداً، مُختفياً... ولم تكن لتُفسِد هذا الاندفاع المقدّس بِتَوق إلى الحبّ وسط وَحل يُقزِّز الحيوان النَّجِس، بقدر ما هو عديم الجدوى ومُغَلَّف بالعلّيق الذي لم يكن يوماً زَهراً، بل إنّما هو أشواك وَاخِزات فقط تُـمَزِّقها بدل تتويجها. ولم تكن لتُحتَقر مِن قِبَل القائمين على الخدمة الدينيّة، مِن قِبَل كلّ الناس الذين، على مِثال الله، إنّما لأسباب مُناقِضة، لا يَحيدون النَّظَر عن الخاطئ، ويُشيرون إليه بالبَنان لكي يَسخَروا منه ويُندّدوا به.
يا للنُّفوس المسكينة التي يَضربها ويُعرّيها ويَجرحها الجميع! وحده الله الذي لا يَنضَمّ إلى ذلك الرَّجم بالاحتقار دون شفقة. ولكنّه يَجعَل دموعها تنهَمِر لشفاء جِراحها، ويُعيد إلباس خليقته ثَوباً يَسطع كالماس. فهي ما تزال خَليقته... الله وحده... ومع الآب، أبناء الله. فلنُبارِك الربّ. فَمِن أجل الخَطَأَة أَرادَ أن أعود إلى هنا لأقول لكم: "سامِحوا، سامِحوا على الدوام. استَخرِجوا مِن كلّ شرّ خيراً، ومِن كلّ إساءة نِعمة". وأنا لا أقول لكم فقط: "افعلوا". بل أقول لكم: كَرِّروا ما أقوم به. إنّني أُحِبّ وأُبارِك أعدائي، لأنّه، بفضلهم، تمكّنتُ مِن العودة إليكم يا أصدقائي.
السلام لكم جميعاً.»
يَهزّ الناس الأَوشِحة والنخيل إكراماً ليسوع، ثمّ يبتعدون بكلّ هدوء.
«أتُراهم رأوا تلك الوَقِحة؟»
«لا، يا لعازر، لقد كانت خلف السياج، ومتخفّية تماماً. كنّا نستطيع رؤيتها مِن هنا، مِن على الشُّرفة. أمّا الآخرون فلا.»
«كانت قد وَعَدَتنا بأن...»
«لماذا كان عليها ألّا تأتي؟ أليست هي أيضاً إحدى بنات إبراهيم؟ أريد منكم، أُخوة وتلاميذ، أن تُقسِموا بألّا تُشعِروها بأيّة رَدَّة فِعل. دعوها تَفعَل. هل سَتَسخَر مني؟ دعوها تفعل. هل ستبكي؟ دعوها تفعل. هل سَتَودّ الفرار؟ دعوها تفعل. إنّه سرّ الفادي والسَّاعِين إلى الفِداء: مَلَكَة الصبر والصلاح والمثابرة والصلاة. ولا شيء أكثر: أيّة حركة قد تكون زائدة، لا داعي لها في كثير مِن الأمراض... وداعاً أيّها الأصدقاء. إنّني أَنفَرِد للصلاة. أمّا أنتم فامضوا كلّ إلى عمله. وليرافقكم الله.
وينتهي كلّ شيء.