ج3 - ف47

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الثالث / القسم الثاني

 

47- (الـمَمسوسان الجراسيّان)

 

11 / 06 / 1945

 

بعد اجتياز يسوع البحيرة مِن الشمال الغربيّ إلى الجنوب الشرقيّ، يأمر بطرس بأن يرسو، ويطيع بطرس دون مناقشة. ينحَدِر بالمركب حتّى مصبّ نهر صغير، جَعَلَته أمطار الربيع وعاصفة سابقة يمتلئ ويصبح هادراً، وهو يصبّ في البحيرة مِن خلال مصبّ ضيّق وصخريّ، مثل كلّ الشاطئ في تلك المنطقة. يحرس الصبيان الـمَراكِب -إذ يوجد واحد في كلّ مَركَب- ويتلقّون الأوامر بالانتظار حتّى المساء للعودة إلى كفرناحوم.

 

«كونوا بُكماً كالأسماك، إذا ما سُئِلتم.» ينصحهم بطرس. «إذا ما سَأَلَكم أحد أين المعلّم؟ أجيبوه بكلّ ثقة "لا أعرف". والأمر ذاته إذا ما أراد أحدهم معرفة الوجهة التي قَصَدَها. إنّها الحقيقة. فأنتم لا تعرفونها.

 

يَفتَرِقون، ويَسلك يسوع الدرب الصّاعد، شديد الانحدار، وهو يتسلّق الصخور بشكل شبه عاموديّ. يتبعه الرُّسُل على الدرب الصعب حتّى قمّة الصخرة التي تصبح أكثر سهولة بوجود مُسطَّح مزروع بأشجار البلّوط والسنديان التي ترعى تحتها خنازير كثيرة.

 

«يا للحيوانات القَذِرة!» يقول برتلماوس. «إنّها تعيق مرورنا...»

 

«لا. إنّها لا تعيق مرورنا. فالمجال مُتَّسِع للجميع.» يجيب يسوع بهدوء.

 

أمّا الرُّعاة، فلدى رؤيتهم إسرائيليّين، يُحاوِلون جمع الخنازير تحت البلّوط والسنديان لتحرير الدرب. ويمرّ الرُّسُل وهُم يَعبسون ألف عبسة، وقد تَرَكَت الحيوانات الأقذار في الوسط، وهي، رغم ضخامتها، تعمل على أن تصبح أكثر ضخامة بنبشها الأرض بِخَطمها.

 

يمرّ يسوع دون مشاكل وهو يقول للرُّعاة: «فليكافئكم الله على لطفكم.»

 

الرُّعاة أناس مساكين، وبالكاد هُم أقلّ اتّساخاً مِن الخنازير، ولكنّهم بالمقابل أنحف منهم كثيراً جداً، وهُم يَنظُرون إليه مُندَهِشين، ثمّ يُثرثرون فيما بينهم، فيقول أحدهم: «ولكن أليس إسرائيليّاً؟» ويجيبه الآخرون على ذلك: «ولكن ألا ترى أهداب ثوبه؟»

 

تَلتَئِم المجموعة الرسوليّة، الآن وقد أَصبَحَ بإمكانهم السير جماعة على الدرب العريض بما فيه الكفاية.

 

بالإجمال، المشهد جميل جدّاً. إنّه مُرتَفِع عشرات الأمتار عن سطح البحيرة، ومع ذلك فهو يسمح بالإشراف على مرآة الماء كلّها مع المدن المنتشرة على الشواطئ. طبريّا رائعة بأبنيتها الجميلة قُبالَة المكان الذي يتواجد فيه الرُّسُل. وهناك، في الأسفل، عند أسفل الصخرة البازلتيّة، يبدو الشاطئ الضيّق وِسادة مِن الخُضرة، بينما على الشاطئ المقابل لطبريّا، عند مصبّ الأردن، سهل واسع تجعله مياه النهر سبخاً. فيبدو النهر وكأنّه يتريّث فيه قبل معاودة جريانه، بعد تباطئه في البحيرة الساكنة. ذلك السهل زاخِر بكلّ أنواع النباتات والأدغال الخاصّة بالمستنقعات. تُرى فيها طائفة مِن الطيور المائيّة بألوانها الـمُزَركَشَة، كما لو أنّها مغطّاة بالجواهر. وذلك المكان وكأنّي به حديقة. ترتفع الطيور مِن بين طاقات العشب والقَصَب، تطير فوق البحيرة، تغوص فيها لتلتقط سمكة، ترتفع مِن جديد أكثر روعة وبهاء، بسبب الماء الذي جَعَلَ ألوان ريشها أكثر نضارة، وتعود إلى السهل الـمُزهِر حيث يتسلّى الهواء بتبديل أماكن الألوان. أمّا هنا، فعلى العكس، غابات البلّوط والسنديان الضخم جدّاً والعشب تحته ناعم وأخضر بلون الزمرّد. وبعد ذلك هناك سلسلة مُشَجَّرة، ويعود الجبل ليرتفع ويَشمخ بعد وادٍ صغير، مُشَكِّلاً أَكَمَة شديدة الانحدار وخصبة، تترسّخ عليها بيوت مبنيّة على مسطّحات صخريّة. أظنُّ الجبل والأبنية واحد، فهو يَهِب كهوفه للسكن، فتختلط مدن ساكني الكهوف بالمدن العاديّة.

 

إنّها نموذجيّة، مع ذلك المنحدر ذي المسطّحات، الذي بفضله أضحَت أسطح المنازل السفلى على مستوى الطابق الأرضيّ لمساكن المسطّح الأعلى. أمّا الجوانب، حيث الجبل أشدّ انحداراً، فهي شديدة الانحدار لدرجة يَتَعذَّر معها البناء. هناك كهوف وحُفَر عميقة ودروب سريعة تنحَدِر صوب الوادي. أثناء موسم الأمطار، تصبح هذه الدروب سيولاً صغيرة غير مألوفة. كُتَل مِن كلّ الأنواع جَرَفَتها المياه إلى الوادي لتُشكِّل قواعد عشوائيّة لذلك الجبل الصغير الشديد الانحدار والوعورة، الـمُحدَودِب والوَقِح، مثل نبيل ريفيّ يبغي فرض احترامه بأيّ ثمّن.

 

«أليست جَمَلا؟» يَسأَل الغيور.

 

«نعم. هي جَمَلا. أتعرفها؟» يقول يسوع.

 

«لجأتُ إليها هارباً، ذات ليلة بعيدة، بعد ذلك أُصِبتُ بالبرص ولم أعد أخرُج مِن بين القبور.»

 

«وهل لَحِقوا بكَ إلى هنا؟» يَسأَل بطرس.

 

«كنتُ قادماً مِن سوريّا، حيث طلبتُ اللّجوء، ولكنّهم اكتشفوني، ووحده الفِرار إلى هذه الأرض حال دون إلقاء القبض عليَّ. بعد ذلك انحَدَرتُ على مهل، وقد كنتُ مهدّداً على الدوام، وكنت حينذاك مصاباً بالبرص، إلى وادي الأموات. فالبرص أنقَذَني مِن أعدائي...»

 

«أولئك القوم وثنيّون، أليس كذلك؟» يَسأَل الاسخريوطيّ.

 

«جميعهم تقريباً. بعض اليهود مِن أجل المرور، ومِن ثمّ فمزيج مِن مؤمنين وغير مؤمنين على الإطلاق. ومع ذلك لم يكونوا سيّئين معي، أنا الذي كنتُ فارّاً.»

 

«بَلَد لصوص!» يقول كثيرون.

 

«نعم. إنّما ثِقوا بأنّ في الطرف الآخر لصوصاً أكثر.» يقول يوحنّا الذي ما يزال متأثّراً مِن إلقاء القبض على المعمدان.

 

«في الجهة الأخرى لصوص، حتّى بين الذين نَدعوهم أبراراً.» يضيف أخوه.

 

وهنا يَستَهِلّ يسوع الكلام: «ومع ذلك نتقرّب منهم مِن غير اشمئزاز، بينما أنتم تَعبسون هنا لدى مروركم بجانب الحيوانات.»

 

«إنّها قَذِرة...»

 

«الخاطئ يفوقها قذارة. تلك الحيوانات خُلِقَت كذلك، وهذا ليس خطأها. بينما الإنسان على العكس هو المسؤول عن قذارته نتيجة ارتكابه الخطيئة.»

 

«ولكن لماذا صَنَّفناها قَذِرة؟» يَسأَل فليبّس.

 

«لقد ألـمَحتُ لذلك مرّة. فلذلك التصنيف هناك مبرّر فائق الطبيعة ومبرّر طبيعيّ. الأوّل هو تعليم الشعب المختار كيفيّة العيش وتَذَكُّره المستمرّ أنّه مختار، وكذلك قيمة الإنسان، حتّى في الفعل الـمُشتَرَك كالأكل. الحيوان البرّيّ يتغذّى على كلّ شيء، يكتفي بأن يملأ بطنه. والوثنيّ، حتّى ولو لم يكن متوحّشاً، فهو يأكل كذلك كلّ شيء، دون التفكير بأنّ الإفراط في الأكل يُثير الرذائل والميول التي تحطّ مِن قَدر الإنسان. فالوثنيّون يحاولون حتّى التوصّل إلى ذلك الجموح بالملذّات الذي يُعتبر بالنسبة إليهم التزاماً دينيّاً. المثقّفون منكم على دراية بالاحتفالات الفاحشة التي يحتفون بها بآلهتهم، والتي تتحوّل إلى انغماس في الفِسق والدعارة. بينما ينبغي لابن شعب الله أن يَعلَم كيفيّة السيطرة على الذات، والسعي إلى الكمال بالطاعة والفطنة وبتفكيره بأصله ونهايته: الله والسماء. أمّا المبرّر الطبيعي، فيُلزِم بعدم استثارة الدم بالأطعمة التي تؤدّي إلى نزوات عاطفيّة لا تليق بالإنسان. فالحبّ، حتّى الجسديّ منه، ليس مُحرَّماً عليه، إنّما ينبغي له على الدوام أن يُلطِّفه بطهارة النَّفْس التي تتوق إلى السماء. فينبغي أن يكون الحبّ وليس الميل الحسّيّ هو ما يوحّد الإنسان بشريكته التي يرى فيها مثيلاً له، وليس مجرّد أنثى. ولكنّ الحيوانات المسكينة فليست مذنبة، لا في كونها خنازير، ولا في الآثار التي يمكن أن يُحدِثها لحم الخنزير في الدم مع الزمن. وأقلّ ذنباً هُم الناس المكلّفون برعايتها. فإذا كانوا نزيهين، فأيّ فرق سيكون في الحياة الأخرى بينهم وبين الكَتَبَة الـمُنكَبِّين على الكُتُب، والذين، بكلّ أسف، لا يتعلّمون منها المحبّة؟ الحقّ أقول لكم إنّنا سوف نرى رُعاة خنازير وسط الأبرار، بينما نرى كَتَبَة وسط الظالمين. ولكن ما تراه يكون ذلك الصَّخَب؟»

 

يبتَعِد الجميع عن حَرف الجبل لأنّ حجارة وتراباً تتدحرج وتقفز على المنحدر، ويَنظُرون مُندَهِشين.

 

«ها هما! ها هما! هناك! رَجُلان عاريان تماماً... إنّهما مُقبِلان نحونا وهُما يُومِيَان. إنّهما مجنونان...»

 

«أو مَمسوسان»، يجيب يهوذا الاسخريوطيّ الذي كان أوّل مَن رأى الممسوسَين مُقبِلَين صوب يسوع.

 

قد يكونان خَرَجا مِن أحد الكهوف في الجبل. إنّهما يصيحان. والأسرع في الجري يَندَفِع نحو يسوع. إنّه يبدو كطائر ضخم غريب منتوف الريش، لسرعته الهائلة. يحرك ذراعيه وكأنّهما جناحان، ويتهاوى عند قدميّ يسوع وهو يصيح: «أأنتَ هنا يا سيّد العالم؟ ما لي ولكَ يا يسوع ابن الله العليّ؟ هل أتت ساعة عقابنا؟ لماذا أتيتَ تُعذِّبنا قبل الأوان؟» أمّا الممسوس الآخر، فسواء كان لسانه معقوداً، أم كان الشيطان قد شَلَّه، فهو لم يفعل سوى أن انبَطَحَ على بطنه أرضاً، وبكى، ثمّ، حين جَلَسَ بَقِيَ بلا حراك، يلهو بالحَصَى وبِرِجليه العاريتين. ويستمرّ الشيطان يتكلمّ بفم الأوّل الذي يتلوّى على الأرض في ذروة الهَلَع. تحسبه يريد أن يتفاعل، ولكنّه لا يستطيع سوى العبادة، مجذوباً ومدفوعاً، في الآن ذاته، بقُدرة يسوع وسلطانه. ويصيح: «أستحلفكَ بالله كُفَّ عن تعذيبي. دعني أَرحَل.»

 

«نعم. إنما خارج هذا. أيّها الروح النَّجِس اخرج مِن هذين الرَّجُلَين واذكُر اسمكَ.»

 

«اسمي جحفل، لأنّنا كثيرون. لقد استَحوَذنا عليهما منذ سنوات. وبواسِطَتهُما نقطع حبالاً وسلاسل لا يمكن لقوّة بشريّة أن تقاومها. وبسببنا أَصبَحَا مصدر رعب، وكنّا نستَخدِمهُما ليُجدِّف الناس عليكَ. إنّنا ننتقم بهما مِن لعنتكَ. إنّنا ننحدر بالإنسان إلى مستوى أدنى مِن الحيوان المتوحّش، لِنَسخَر منكَ. فما مِن ذئب ولا ابن آوى ولا ضبع ولا نسر ولا مصّاص دماء يُشبِهون مَن استَحوَذنا عليهما. ولكن لا تطردنا، فالجحيم مُروِّع جدّاً!...»

 

«اخرُجوا، باسم يسوع اخرُجوا!» صوت يسوع كالرَّعد وعيناه تَقدَحان شَرَراً.

 

وبِصَرخَة بَهيميّة، يَترك الشياطين الرَّجُلَين، وعَبْر زوبعة مِن الريح تهزّ شجر البلّوط كالعشب، ينقضّ الشياطين على الخنازير كثيرة العدد، فتمضي الحيوانات تجري كالممسوسين عَبْر البلوط بصرخات شيطانيّة حقّاً. ترتَطِم ببعضها، تَجرَح بعضها بعضاً، تعض بعضها بعضاً، وفي النهاية تُلقي بنفسها في البحيرة، حينما تَصِل إلى أعلى قمّة مِن الجّرف، فلا تجد لها ملاذاً سوى الماء الذي تطلّ عليه. وفيما الرُّعاة مُضطَرِبون ومَحزونون يَصرخون رُعباً، فالحيوانات بالمئات، وهي، بأصوات هائِلة، تُلقي بنفسها في المياه الساكنة، حيث تُحدِث دوامات مِن الزَّبَد، تغطس ثمّ تعود إلى السطح، تدور مُظهِرَة بطونها المكورة أو خطومها المدبّبة مع عيون هَلِعَة، وفي النهاية تَغرَق.

 

يَهرَع الرُّعاة إلى المدينة مُسرِعين وهُم يَصرخون. والرُّسُل، لدى وصولهم إلى مكان الكارثة، يعودون قائلين: «لم ينجُ خنـزير واحد! لقد قَدَّمتَ لهم خدمة سيّئة للغاية!»

 

يُجيب يسوع بهدوء: «أن يَنفُق ألف خنـزير خير مِن أن يَهلَك إنسان واحد. قَدِّموا لهما ثوباً. لا يمكنهما البقاء هكذا.»

 

يَفتَح الغيور كيساً ويُقدِّم واحداً مِن ثيابه. وتوما يُقدِّم الآخر. وما زال الرَّجُلان مَذهُولَين، كما لو كانا خارِجَين مِن حلم ثقيل زَاخِر بالكوابيس.

 

«أعطوهما طعاماً. وليُعاوِدا حياتهما كبشر.»

 

بينما يأكل الاثنان ما قُدِّم لهما مِن خبز وزيتون، ويشربان مِن مَطَرة بطرس، يراقبهما يسوع.

 

في النهاية يَنطقان: «مَن أنتَ؟» قال أحدهما.

 

«يسوع الناصري.»

 

«نحن لا نعرفكَ.» قال الآخر.

 

«نفسكما قد عَرَفَتني. انهضا وعودا إلى ذويكما.»

 

«أظنّنا تألّمنا كثيراً، ولكنّني لا أذكر جيّداً. مَن هذا؟» يَسأَل مَن كان الشيطان يتكلّم مِن خلاله، مشيراً إلى رفيقه.

 

«لا أدري. لقد كان معكَ.»

 

«مَن أنتَ؟ ولماذا أنتَ هنا؟» يَسأَل رفيقه.

 

ذاك الذي كان أبكماً والذي ما زال بلا حراك يقول: «أنا ديمتريوس. هل هنا صيدون؟»

 

«صيدون على شاطئ البحر أيّها الرجل. أمّا هنا فأنتَ فيما وراء بحيرة الجليل.»

 

«ولماذا أنا هنا؟»

 

لا يمكن لأحد الإجابة. فها هُم الناس قد وَصَلوا، يتبعهم الرُّعاة. يبدون مَذعورين وفضوليّين. وعندما يَرَون الممسوسين بعدئذ، وقد ارتديا الثياب، يتعاظم ذهولهم.

 

«هذا مرقس بن يسّا!... وذاك ابن التاجر الوثنيّ!...»

 

«وذاك الآخر هو الذي شفاهما وأفنى خنازيرنا، حيث إنّ الشياطين التي دَخَلَت فيها جَعَلَتها تصاب بالجنون.» يقول الرُّعاة.

 

«سيّدي، إنّكَ قَدير، وهذا نعرفه. ولكنّكَ آذيتَنا كثيراً! خسارتنا كبيرة. فنرجوكَ أن ترحل عنّا، ولا يكن سلطانكَ سبباً في سقوط الجبل في البحيرة. ارحل...»

 

«أَرحَل. فأنا لا أفرض نفسي على أحد.» ويعود يسوع إلى البحيرة مِن ذات الطريق دون نقاش. وخلف الرُّسُل يأتي الممسوس الذي كان يتكلّم. وعلى مسافة منه بعض سكّان المدينة لِيَروا ما إذا رَحَلَ فعلاً.

 

يَسلكون مِن جديد الطريق المختصر، ويعودون إلى مصبّ السيل الصغير، إلى الـمَراكِب. يمكث الأهالي على الجرف يَنظُرون. ويَنحَدِر الممسوس الـمُحرَّر خلف يسوع.

 

في الـمَراكِب، الأولاد خائفون. لقد رأوا الخنازير التي كانت تسقط في البحيرة كالـمَطَر، وهُم الآن يَرَون الأجسام الكثيرة التي تطفو، وقد انتَفَخَت، ببطونها المكوَّرَة إلى الأعلى، وأقدامها القصيرة المتيبّسة كالأوتاد على كوم مِن الشحم.

 

«ولكن ما الذي جرى؟» يَسأَلون.

 

«سوف نَروي لكم. فُكّوا الآن المراسي، ولنمضِ... إلى أين يا سيّدي؟» يقول بطرس.

 

«إلى خليج تريشة.»

 

الآن وقد رآهم الرجل الذي تَبِعَهم يَصعَدون إلى الـمَراكِب، يقول متوسّلاً: «سيّدي، خذني معكَ.»

 

«لا، بل عُد إلى ذويكَ. فلأهلكَ الحقّ بأن تكون لهم. حَدِّثهم عما آتاكَ الربّ مِن العظائم، وعن رحمته تجاهكَ. فهذه المنطقة في أَمَسّ الحاجة إلى الإيمان. أَضرِم نيران الإيمان، عِرفاناً بجميل ربّكَ. اذهب. وداعاً.»

 

«على الأقلّ، شَدِّد عزيمتي ببركتكَ، فلا يعود الشيطان ليستحوذ عليَّ.»

 

«لا تخف. إذا لم تكن أنتَ تريد ذلك، فلن يعود. ولكنّني أبارككَ. اذهب بسلام.»

 

تبتعد الـمَراكِب عن الشاطئ باتّجاه الغرب. حينئذ فقط، وبينما هُم يَختَرِقون جثث الخنازير الطافية، يُغادِر الجرف سكان المدينة التي لم تَقبَل الربّ، ويَمضون.