ج3 - ف39
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الثالث / القسم الأول
39- (مَثَل الزَّارِع)
04 / 06 / 1945
يقول لي يسوع وهو يُشير إلى مجرى الأردن، أو بالحريّ إلى المكان الذي يَصبُّ فيه في بحيرة طبريّا، حيث تمتدّ مدينة بيت صيدا على الضفة اليمنى للنهر، بالنسبة إلى مَن يواجه الشمال: «لم تَعُد المدينة في الوقت الحاضر تمتد على ضفة البحيرة، بل أصبَحَت إلى الداخل قليلاً مِن اليابسة، وهذا ما يُحيِّر الاختصاصيّين. ينبغي البحث عن التفسير في أنّ البحيرة مِن هذه الجهة قد رُدِمَت على مدى عشرين قرناً مِن الطمي، حَمَلَها النهر، والرُّكام الهابِط مِن تلال بيت صيدا. ولقد كانت المدينة بالضبط عند مَصَبّ النهر في البحيرة، وحتّى إنّ الـمَراكِب الأصغر، في المواسم التي تكون فيها مياه النهر في المستوى الأكثر ارتفاعاً، تعلو على مَمرّ طويل نسبياً يصل حتّى مستوى قورازين، والنهر ذاته الذي كان آنئذ، على الدوام، المرفأ والملجأ لِمَراكِب بيت صيدا، أيّام تَهبّ العواصف على البحيرة. ذلك ليس مِن أجلكِ، لأنّ الأمر لا يهمّكِ كثيراً، بل إنّما مِن أجل العلماء صَعبيّ الـمِراس. والآن امضي إلى الأمام.»
مَراكِب الرُّسُل، بعد قَطع الجزء الصغير مِن البحيرة الذي يَفصِل كفرناحوم عن بيت صيدا، ترسو في تلك المدينة. ولكنّ مَراكِب أخرى لحقت بها، وينـزل منها أناس كثيرون، ينضمّون إلى الذين قَدِموا مِن بيت صيدا لتحيّة المعلّم الذي يدخل بيت بطرس حيث... تتواجد مِن جديد زوجته التي فَضَّلَت العيش وحيدة على أن تَسمَع تَشَكّي أُمّها المستمرّ مِن زوجها.
الناس في الخارج يَستَدعون المعلّم بهتافات مِلء الحناجر. وهذا ما يُضايِق بطرس الذي يَصعَد إلى السطح ويَخطب في مواطنيه، أو على الأقلّ يقول لهم بوجوب التحلّي بقليل مِن الاحترام والتهذيب. وهو الذي حَصَلَ عليه في بيته، يَوَدّ أن يَسعَد بسلام وسُكون أثناء وجود المعلّم. على العكس، ليس لديه الوقت ولا متعة أن يمنحه فقط القليل مِن نبيذ العسل، وهو واحد مِن الأشياء الكثيرة التي طَلَبَ مِن زوجته إحضارها، ويُهمهِم قليلاً.
يَنظر إليه يسوع مبتسماً، ويهزّ رأسه قائلاً: «وكأنّي بكَ لا تراني مطلقاً، أو تَحسَب وجودنا معاً استثنائيّاً!»
«ولكنّه كذلك! عندما نكون في العالم هل يُصادِف وجودنا أنتَ وأنا؟ أبداً! فبيني وبينكَ العالم بِمَرضاه ومَحزونيه، مع السامِعِين والفضوليّين، والساخِرين والأعداء، ولكنّنا لا نكون أبداً أنتَ وأنا. أمّا اليوم فعلى العكس، أنتَ معي في بيتي، وعليهم أن يُدرِكوا ذلك!» إنّه غاضِب بحقّ.
«ولكنّني لا أجد فرقاً، يا سمعان. فحُبّي هو ذاته. كلامي ذاته. إن قُلتُه لكَ على حِدة أو قُلتُه للجميع، أليس الأمر ذاته؟»
حينئذ يَعتَرِف بطرس بألمه الكبير: «ذلك أنّني مُتصَلِّب، وذهني يتشتَّت بسهولة. عندما تتحدّث في مكان ما، على جبل، وسط جمع غفير جدّاً، أنا، لستُ أدري لماذا، أُدرِك كلّ شيء، ولكنّني لا أعود أتذكّر شيئاً. لقد قُلتُ ذلك للرفاق وأعطوني الحقّ. الآخرون، أعني الشعب الذي يُصغي إليكَ، يُدرِك ويتذكّر ما تقول. كم مرّة سَمِعنا مَن يُقرّ: "لم أعد أفعل ذلك لأنّكَ أنتَ قلتَ"، أو أيضاً: "لقد أتيتُ لأنّني سمعتكَ يوماً تقول ذلك الكلام الذي استَحوَذَ على روحي". نحن على العكس... مِثل مجرى مائيّ يَجري دون توقُّف. وذلك الماء الذي مَرَّ لا يعود الشاطئ يَقتَنيه. بل يأتي آخر، ودائماً آخر، وكثير على الدوام. ولكنّه يمرّ ويمرّ ويمرّ... وأنا أُفكِّر بِهَلَع أنّه، إذا كان كما تقول، تأتي اللحظة التي لا تعود فيها هنا لِتَلعَب دور النهر، و... أنا... ماذا سيكون لديَّ لأعطيه للعطشى، إذا لم أحتفظ بنقطة واحدة مما تعطيني؟»
يؤكِّد الآخرون على شكوى بطرس، متذمِّرين مِن عَدَم إيجادهم أيّ شيء ممّا يَسمَعونه عندما يَبغون إيجاده، ليَردّوا على الأشخاص العديدين الذين يَسألونهم.
يبتسم يسوع ويجيب: «ولكن لا يبدو لي ذلك. فالناس مَسرورون للغاية منكم كذلك...»
«آه! نَعم! لأنّنا نَعمَل! فَنُؤمِّن لكَ المكان مُستَخدِمِين مَرافِقنا لأجل ذلك، ونَحمل المرضى، ونتقبَّل الصَّدَقات، ونقول: "نَعم، ذاك هو المعلّم!" وهذه في الحقيقة ميزة!»
«لا تَحطَّ مِن قدركَ كثيراً يا سمعان.»
«لستُ أحطُّ مِن قَدري. أعرِف نفسي.»
«إنّها الأصعب بين سائر أشكال الحكمة. ولكنّني أريد تخليصكَ مِن ذلك الخوف العظيم. عندما أتكلّم ولا تستطيعون فهم كلّ شيء، اسألوني دون خوف مِن أن تَبدوا مُزعِجين، أو مِن أن تُثَبِّطوا عزيمتي. فلدينا دائماً ساعات مِن الأُلفة. افتحوا لي قلبكم. إنّني أُعطي الكثير للكثيرين. وما الذي لا أعطيكموه أنتم يا مَن أُحبّكم كما لا يمكن لله أن يَفعَله أكثر؟ لقد تحدَّثتَ عن المجرى الذي يمرّ دون أن يحتفظ الشاطئ منه بشيء. إنّما سيأتي يوم تُلاحِظ فيه أنّ كلّ موجة أَلقَت فيكَ بذوراً، وأنّ كل بذرة مَنَحَتكَ نبتة. وسوف تجد في متناول يديكَ زهوراً ونباتات لكلّ الحالات، وسوف تُدهَش مِن نفسكَ قائلاً: "ولكن ما الذي فَعَلَه الربّ فيَّ؟" إذ حينذاك ستكون قد افتُديتَ مِن عبوديّة الخطيئة، وستكون فضائلكَ الحاليّة قد ارتَقَت إلى كمال سَام.»
«أنتَ تقول ذلك يا سيّدي، وأنا أعتَمِد على قولكَ هذا.»
«هيّا بنا الآن لملاقاة الذين ينتظروننا. تعالوا. السلام لكِ يا امرأة. سأكون ضيفكِ هذا المساء.»
يَخرُجون، ويتوجّه يسوع صوب البحيرة، لكيلا تَزحَمه الجموع. ويُبعِد بطرس المركب بضعة أمتار عن الشاطئ، بشكل يتمكّن معه الجميع مِن سماع صوت يسوع، إنّما شريطة أن تبقى مسافة قليلة بينه وبين المستَمِعِين.
«مِن كفرناحوم إلى هنا وأنا أُفكِّر بما سأقوله لكم. وقد وَجَدتُ إشارات في هذا الصباح.
رأيتُم ثلاثة رجال يأتون إليَّ. الأوّل تلقائيّاً. الآخر لأنّني كنتُ أطلب منه ذلك. والثالث، وقد أَخَذَه الحماس فجأة. ورأيتم أنّني لم آخذ مِن الثلاثة سوى اثنين. لماذا؟ هل صادَفَ أنْ وَجَدتُ في الثالث خائناً؟ في الحقيقة لا. ولكنّه لَم يكن مهيَّأ. ظاهريّاً كان يبدو الذي إلى جانبي أقلّهم استعداداً، ذاك الذي كان ذاهباً لدفن أبيه. على العكس، فاقلّهم أهليّة كان الثالث. أمّا الثاني فقد كان مهيّأ لدرجة أنّه أَقدَمَ على تضحية بطوليّة حقيقيّة على غير عِلم منه. والبطولة مِن أجل اتّباع الله هي على الدوام الدليل على إعداد روحيّ عظيم. وهذا ما يُفسِّر بعض الأحداث المذهِلة التي حَصَلَت حَولي. فالأكثر استعداداً لاستقبال المسيح، مهما كانت ثقافتهم وطَبَقَتهم الاجتماعيّة، يأتون إليَّ بسرعة وإيمان مُطلَق. الأقلّ استعداداً يَرَونَني إنساناً خارجاً عن المألوف أو يُمحِّصونني بفضول وريبة، أو حتّى أيضاً يهاجمونني ويَذمُّونني باتّهامات مختلفة. وتلك التصرّفات المختلفة هي نسبيّاً نتيجة عدم تهيئة الأرواح.
كان ينبغي، مِن بين الشعب المختار، في كلّ مكان، إيجاد أرواح مستعدّة على الفور لاستقبال مَسيّا، الذي طالما ذاب الأحبار والأنبياء قَلَقَاً في انتظاره، مَسيّا هذا الآتي أخيراً، مسبوقاً ومصحوباً بكلّ الإشارات والدلائل التي أَعلَنَ عنها الأنبياء، مَسيّا هذا الذي تتجلّى ملامحه الروحيّة على الدوام بأكثر وضوحاً مِن خلال المعجزات المرئيّة على الأجساد وعلى العناصر، من خلال المعجزات غير المرئيّة على الضمائر التائبة وعلى الوثنيّين المهتدين إلى الإله الحقّ. ولكنّ الأمر ليس كذلك، على العكس. فالاستعداد الفوريّ لاتِّباع مَسيّا يَلقَى معارضة قويّة تماماً عند أبناء هذا الشعب، وأمر مُحزن قَوله، إنّ هذه المعارضة تزداد كلّما ارتَقَت الطبقة الاجتماعيّة. لستُ أقول هذا لأُسبّب لكم الشكوك، بل إنّما لأحملكم على الصلاة والتفكير. لماذا يحصل هذا؟ لماذا الخَطَأَة والوثنيّون يَسلكون طريقي أكثر؟ لماذا هُم يتقبّلون ما أقول والآخرون لا؟ لأنّ أبناء إسرائيل قد تمركزوا، أو بالحريّ تأصَّلوا كمحار اللؤلؤ على الرصيف حيث وُلِدوا. لأنّهم أُشبِعوا وأُتخِموا وانتَفَخوا مِن حكمتهم، ولا يَعرفون أن يُفسِحوا مجالاً لحكمتي، بِرَمي كلّ ما لا لزوم له، لتَقَبُّل اللازم الضروريّ. بينما الآخرون لا يَخضَعون لتلك العبودية. إنّهم وثنيّون مساكين، أو خَطَأَة بؤساء، لا تُرسيهم أيّة مَرساة في مكان معلوم، يُشبِهون مَراكِب تتلاعب بها الرياح. إنّهم مساكين ليست لهم كنوز شخصيّة، إنّما فقط أحمال مِن الزلّات والخطايا، فيَنعَتِقون منها بسرور، حالما يتوصَّلون إلى إدراك ماهيّة البُشرى الجديدة، ويتذوَّقون منها العسل المقوِّي المختلف كلّيّاً عن مزيج خطاياهم الـمُقرِف.
أَصغُوا، وقد تُدرِكون بشكل أفضل كَم يمكن أن تكون مختلفة ثمار العمل ذاته.
خَرَجَ زارع ليَزرَع. وكانت حقوله كثيرة ومختلفة. بعضها كان إرثاً من أبيه، وقد أَفسَحَ فيها الإهمال المجال للنباتات الشائكة. بعضها الآخر حَصَلَ عليها بنفسه، وقد اشتراها على حالها مِن رجل مُهمِل، وتَرَكَها على ما هي عليه. وأُخرى أيضاً كانت تَجتازها الدُّروب، لأن هذا الرجل كان يحب الرَّخاء، ولم يكن يريد قطع مسافات كثيرة ليَنتَقِل مِن قطعة إلى أخرى. وأخيراً كان البعض منها، وهي الأقرب إلى البيت، وقد أولاها كلّ الاهتمام ليستمتع بمنظر جميل قرب مَسكَنه. هذه الأخيرة كانت مُنَقَّاة مِن الحصى بشكل جيّد، وقد أُزيل منها العليق والعَكرَش وأشياء أخرى أيضاً.
أَخَذَ الرجل كيس البِذار، الأفضل بين الحبوب، وبدأ الزَّرع. فسقط الحَبّ في الأرض الصالحة، ناعمة التربة والمحروثة والنظيفة، والـمُسمَّدَة جيّداً مِن الحقول الأقرب إلى البيت. وسَقَطَ كذلك في الحقول التي تجتازها الدروب والمساِلك مُكثِرة جلب قذارة الغبار الأبيض الـمُجدِب على الأرض الخصيبة. وسَقَطَ جزء آخر على الحقول حيث غباء الرجل جَعَلَ الأشواك تتكاثر. والآن وقد دَفَعَها المحراث بحيث أضحت تبدو وكأنّها غير موجودة، بينما هي كانت هناك على الدوام، ذلك أنّ النار وحدها هي المبيد الرئيسيّ للنباتات السيّئة، وهي التي تمنعها مِن العودة إلى الحياة. وما بقي مِن البِذار سقط على الأرض المشتراة حديثاً، والتي كان قد تَرَكَها على حالها دون استصلاحها بعمق، ودون تخليصها مِن الحجارة المنتَشِرة على الأرض مُشكِّلة رَصفة لا تستطيع الجذور الهشة النفوذ مِن خلالها. ثمّ، وبعد زرعه كلّ شيء، عاد إلى البيت وقال: "آه! حسناً! لم يبق أمامي الآن سوى انتظار موسم الحصاد". وكان يستمتع، لأنّه، في النهاية، كان يَنظُر إلى الحبوب تنمو بكثافة في الحقول القريبة مِن البيت. وكانت تنمو... آه! السجادة الحريريّة، ثمّ السنابل... آه! يا لذاك البحر! ثمّ كانت السنابل تصبح شقراء، وتُرتِّل وهي تتصادم، الواحدة بالأخرى، أوشعنا للشمس. كان الرجل يقول: "ينبغي للحقول كلّها أن تكون مثل هذه! فلنُعدّ المناجل والأهراء. كم مِن الخبز! كم مِن الذهب! وكان يستمتع…
حَصَدَ القمح مِن الحقول القريبة، ثمّ تَحَوَّل إلى تلك التي وَرِثَها عن أبيه، إنما التي بَقِيَت دون عناية، ووقفَ فاغِراً فاه. فالقمح قد نَبَتَ بوفرة، لأن الحقول جيّدة، والأرض الـمُحسَّنَة مِن قِبَل الأب كانت خصبة وزكية. ولكنّ خصوبتها كانت كذلك فاعلة بالنسبة إلى الأشواك المزدحمة والـمُعمِّرة. وكانت قد نَبَتَت ونَمَت وشَكَّلَت سقفاً حقيقيّاً مِن الغصينات الشائكة مِن العليق، لم يستطع القمح النفوذ مِن خلالها إلّا بسنابل قليلة. أمّا الباقي فقد مات مخنوقاً بالكامل تقريباً.
قال الرجل لنفسه: "كنتُ مُهمِلاً في هذا المكان، إنما في غير هذا الموضع لا يوجد علّيق، وسيكون الوضع أفضل". وينتقل إلى الحقول التي حَصَلَ عليها منذ وقت قريب. وزاد ألمه مِن الدهشة. فلقد كانت أوراق القمح نحيلة وجافة، وكانت قد طُرِحَت مثل الكلأ الجافّ المنتشر في كلّ مكان. كلأ جاف، "ولكن كيف؟ ولكن كيف؟" كان الرجل يئنّ وهو يقول ذلك. "ومع أنّ هنا لا توجد أشواك! ومع أن البِذار كان ذاته! ورغم أنّ القمح كان قد نَبَتَ بكثافة وجميلاً! ولقد شوهِدَ بأوراق كثيرة وجيّدة التَّشَكُّل. لماذا إذن مات كلّ شيء، ولم تكتَمِل السنابل؟" وأَخَذَ يَحفر الأرض بألم ليرى ما إذا كانت هناك أوكار خُلْد أو آفات أخرى. لا، لم يكن هناك حشرات ولا قوارض. ولكن كَم مِن الحجارة كانت! كَم مِن الحجارة! رُكام مِن الحجارة. لقد كانت الأرض مرصوفة بها بالكامل، والقليل مِن التراب الذي كان يغطيها لم يكن سوى مَظهَر خَدَّاع. آه! لو حَفَرَ الأرض حينما كان أوان الحفر! آه! لو كان، على الأقلّ، قد تَعِبَ في تحسينها بعد ارتكابه الخطأ بشرائها بالسعر المعروض دون التأكّد مِن نوعيّتها! إنّما حينذاك كان الوقت قد تأخَّر، ولم يَعُد النَّدَم يُجدي نفعاً.
ويَنهَض الرجل مَهيض الجَّناح، ويمضي إلى الحقول التي شَقَّ فيها دروباً صغيرة لراحته... ويُمزِّق ثيابه مِن الألم، فهنا لم يَجِد شيئاً على الإطلاق... تربة الحقل الداكنة كانت مغطاة بطبقة خفيفة مِن الغبار الأبيض... وسقط الرجل على الأرض وهو يئنّ: "ولكن هنا لماذا؟ فهنا لا أشواك ولا حجارة، إنّها حقولنا. جَدّي وأبي وأنا مَلكنَاها على الدوام، وعلى مدى سنوات وسنوات عَمِلنا على جعلها خصبة. شَقَقتُ فيها الدروب، نَقَلتُ بعض التراب مِن الحقول، ولكن ذلك لا يمكن أن يجعلها عقيمة إلى هذه الدرجة"... كان ما يزال يبكي عندما أعطاه الإجابة على نواحه الأليم سرب كثير العدد مِن العصافير، تنتقل مِن الدروب إلى الحقول، ومن الحقول إلى الدروب تبحث وتبحث عن الحبوب، الحبوب... فالحقل، وقد أَصبَحَ شبكة تطريز (كَنَفَا) مِن الدروب التي كان قد سَقَطَ على جوانبها بعض الحَبّ كان قد جَذَبَ مجموعة مِن العصافير التي أَكَلَت الحبوب التي على الدروب ثمّ قمح الحقل حتّى آخر حَبَّة.
وهكذا، فالبِذار، وهو ذاته بالنسبة إلى جميع الحقول، كان قد أعطى هنا بدل الواحد مائة، وفي مكان آخر بدل الواحد ستين، وفي مكان آخر ثلاثين، وفي مكان آخر لا شيء. ومَن له أُذُنان للسماع فليَسمَع. البِذار هو الكلمة: وهي ذاتها للجميع. الأماكن التي سَقَطَت فيها: هي قلوبكم. وليَعمل كلّ منكم على التطبيق ويَفهَم. السلام معكم.»
ثم يلتَفِت إلى بطرس قائلاً له: «اصعَد إلى أعلى ما يمكنكَ بلوغه واربط الـمَركَب في الجهة المقابلة.»
وبينما يتقدّم المركبان قليلاً في النهر، ليَقِفا بعدئذ قرب الشاطئ، يجلس يسوع ويَسأَل التلميذ الجديد: «ومَن بقي الآن في منـزلكَ؟»
«والدتي مع أخي البِكر المتزوّج منذ خمس سنوات. أخواتي مُوَزَّعات في المنطقة. لقد كان أبي صالحاً للغاية، وأُمّي تَبكيه حزينة. يتوقّف الرجل فجأة إذ يَشعُر بِزَفرات تَصعَد مِن قلبه.
يأخذ يسوع بيده ويقول له: «لقد عرفتُ أنا كذلك هذا الألم، ورأيتُ أُمّي تبكي. لذا أفهمكَ جيّداً...»
احتكاك الـمَركَب بالحصى يقطع الحديث، وينـزلون مِن الـمَركَب. لم تعد هناك تلال بيت صيدا قليلة الارتفاع التي تغمس أنفها في البحيرة، إنّما سهلٌ غلالُه وفيرة ويمتدّ على هذا الشاطئ في مقابل بيت صيدا باتّجاه الشمال.
«هل نذهب إلى ميرون؟» يَسأَل بطرس.
«لا. بل نَسلُك هذا الدرب عَبْر الحقول.»
الحقول جميلة ومُعتَنى بها، تَظهَر سنابلها، ما زالت ليّنة، ولكنّها قد تَشكَّلَت. إنّها جميعها على المستوى ذاته، وبالتموّج الخفيف الناجم عن نسيم مُنعِش يَهبّ مِن الشمال، تبدو وكأنّها تُشكِّل بحيرة أخرى صغيرة، تلعب فيها الأشجار التي تَنتَصِب هنا وهناك دَور الأشرعة وقد مَلَأَتها زقزقة العصافير.
«هذه الحقول ليست كتلك التي وَرَدَت في الـمَثَل.» يُعلّق يعقوب ابن العمّ.
«لا، بالتأكيد فالعصافير لم تُتلِفها، وليس فيها شوك ولا حصى. قمح جميل! خلال شهر يصبح ذا لون أشقر... وخلال شهرين يصبح جاهزاً للمِنجَل والأهراء.» يقول يهوذا الاسخريوطيّ.
«يا معلّم... أُذَكِّركَ بما قُلتَه في بيتي. لقد تحدّثتَ بشكل رائع. ولكنّ غيوماً بدأت تَظهَر في رأسي، متداخلة كالتي في الأعلى...» يقول بطرس.
«سأشرح لكَ هذا المساء. فنحن الآن على مشارف قورازين.» يَنظُر يسوع بإمعان إلى التلميذ الجديد ويقول له: «الذي يُعطِي يُعطَى، وما يَعقُب لا يلغي استحقاق المكافأة. خذني إلى قبركم وإلى أُمّكَ.»
يجثو الشاب مُقبِّلاً يد يسوع، ودموعه تَنهَمِر.
«انهَض. هيا بنا. فإن روحي قد أَحَسَّ بحزنكَ. أريد بحبّي أن أقوّيكَ في البطولة.»
«إسحاق كان قد رَوَى لي إلى أيّ حَدّ أنتَ وديع وصالح. إسحاق، أتعرفه؟ ذاك الذي شَفَيتَ له ابنته. لقد كان مُبَشِّري. ولكنّني أرى أنَّ صلاحكَ أعظم كثيراً ممّا رواه لي.»
«سوف نُسلِّم كذلك على إسحاق لشكره على منحي تلميذاً.»
وَصَلوا إلى قورازين، ومنـزل إسحاق هو بالضبط أوّل ما يُصادِفون. العجوز الذي يَدخُل إلى بيته، عندما يرى المجموعة، يسوع وأتباعه، وبينهم شاب قورازين، يرفع ذراعيه، وعصاه بيديه، ونَفَسه مُتقَطِّع، ويبقى فاغِراً فاه. يبتسم يسوع، وبابتسامته يعود النّطق للعجوز.
«بارَكَكَ الله يا معلّم! ولكن مِن أين لي بهذا الشَّرَف؟»
«هذا كي أقول لكَ شكراً.»
«ولكن عَلامَ يا إلهي؟ وأنا مَن ينبغي لي أن أقول لكَ هذه الكلمة. ادخُل، ادخُل. آه! يا للأسى أن تكون ابنتي بعيدة تساعد حماتها! فلقد تَزَوَّجَت، هل تَعلَم؟ كلّ البركات مذ التقيتكَ! فلقد شُفِيَت، وبعدها مباشرة قدم ذاك القريب الغنيّ مِن البعيد، وهو أرمل، مع أطفاله الذين يحتاجون إلى أُمّ... آه! ولكنّني قد قلتُ لكَ هذه الأشياء! لقد شاخ رأسي! اغفر لي.»
«رأسكَ حكيم، فهو ينسى كذلك التَّفاخُر بالخير الذي صَنَعَه لمعلّمه. فنسيان الخير الذي نفعل هو مِن الحكمة. وهو يكشف عن التواضع والثقة بالله.»
«ولكن أنا... لستُ أعرف...»
«وهذا التلميذ، ألم أَحصَل عليه بفضلكَ أنتَ؟»
«آه!... ولكنّني لم أفعل شيئاً، أتعلَم؟ فقط قلتُ له الحقيقة... إنّني مسرور لكون إيلي معكَ.» ويلتَفِت إلى إيلي ويقول له: «والدتكَ، بعد اللحظة الأولى مِن الذهول، مَسَحَت دموعها عندما عَلِمَت أنّكَ كنتَ إلى جانب المعلّم. ومع ذلك فجنازة أبيكَ كانت مُفعَمَة وَجَاهة وكَرَامة. لم يمض عليه وقت طويل في القبر.»
«وأخي؟»
«يصمت... تَعلَم... لقد كان غيابكَ قاسياً بعض الشيء... بسبب البلدة... ما زال يُفكِّر هكذا...»
يلتَفِت الشاب إلى يسوع: «أنتَ قُلتَها. ولكنّني لا أودُّ أن يكون ميتاً... بل أن يصبح حيّاً مثلي وفي خدمتكَ.»
لا يُدرِك الآخرون القصد، ويَنظُرون بتساؤل، ولكنّ يسوع يجيب: «لا تيأس وثابر». ثمّ يُبارِك إسحاق ويمضي رغم إلحاح إسحاق.
في البداية يَمكُثون أمام القبر المغلَق يُصَلُّون. ثم يذهبون عَبرَ كرمة نصف عارية إلى بيت إيلي.
لقد كان لقاء الأخوين مُتحَفِّظاً. فالبِكر يَعتَبِر نفسه أنّه قد أُسيء إليه، ويُبدي ذلك. والأصغر يَشعُر بنفسه بشريّاً مُذنِباً، ولا تَبدُر منه ردّة فِعل. ولكنّ الأُمّ تَصِل، ودون أن تَنبس ببنت شَفة، تجثو وتُقبِّل طرف ثوب يسوع. وقد أعاد وصولها الصفاء للجوّ والنُّفوس لدرجة الرغبة في تكريم المعلّم. ومع ذلك لا يَقبَل يسوع أيّ شيء، بل يقول فقط: «لتكن قلوبكم بارّة ومستقيمة الواحد تجاه الآخر، كما كان الذي تحزنون عليه بارّاً. ولا تُسبِغوا صِفَة بشريّة على ما هو فائق البشر: الموت والدعوة لرسالة. نَفْس البارّ لم تَضطَرِب لرؤيتها عدم تواجد الابن في جنازة الجثّة. ولكن، على العكس، لقد اطمأنَّت لتفكيرها في ضمان مستقبل إيلي. ولا يُكَدِّرَنَّ رأي العالم نعمة الدعوة. ولئن استطاع العالم الدهشة لعدم رؤيته قرب نعش أبيه، فإن الملائكة قد ابتَهَجَت لرؤيته إلى جانب المسيح. كونوا بارّين. وأنتِ أيّتها الأُمّ، فليعزّينَّكِ ابنكِ. لقد ربّيتِهِ بحكمة، والحكمة قد دَعَتهُ. أبارككم جميعاً. السلام معكم، الآن ودائماً.»
يَعودون إلى الدرب الذي يعاودون سلوكه للذهاب إلى النهر، ومنه إلى بيت صيدا. والرجل، إيلي، لم يتخلّف لحظة واحدة عند الأعتاب الوالِديّة. وبعد قُبلة الوداع لوالدته يَتبَع المعلّم ببساطة طفل يتبع أباه.