ج9 - ف19

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: ماري حلمي وفيكتور مصلح.

 

الجزء التاسع

 

19- (يهوذا الاسخريوطيّ بعد خيانته)

 

31 / 03 / 1944 يوم جمعة الآلام، الساعة 2 صباحاً.

 

ها هي رؤياي الأكثر إيلاماً لهذه الساعات الأولى ليوم جمعة الآلام. إنّها تحضرني فيما كنتُ أسرد ساعات أسى مريم: كنتُ أفكّر أنّ تمضية الليلة الّتي تسبق الشهادة برفقة عذراء الآلام السبعة هي أفضل تحضير للشهادة.

 

أرى يهوذا. إنّه بمفرده. في لباس أصفر فاتح وشريط أحمر عند الوسط. محذّري الداخليّ ينبّهني أنّه قد تمّ القبض على يسوع منذ وقت قصير، وأنّ يهوذا الّذي هرب مباشرة بعد ذلك، هو الآن فريسة أفكار متناقضة. بالفعل يبدو الاسخريوطيّ كوحش هائج تهاجمه مجموعة مِن كلاب الحراسة. كلّ هبّة ريح في الأوراق، أيّ صوت على الطريق، انسياب ماء عين، تدفعه إلى الارتجاف والانعطاف بارتياب وخوف، كما لو كان حسيب قد أدركه. يلتفت برأسه وهو منخفض، يلوي عنقه، يدير عينيه كمن يريد أن يرى ويهاب مِن الرؤية، وإذا ما تلاعب ضوء القمر بالظلّ مُشكّلاً أشكالاً بشريّة، تجحظ عيناه، يقفز إلى الوراء، يمتقع أكثر ممّا هو ممتقع، يتوقّف لحظة ثمّ يهرب جرياً عائداً على أعقابه، متحوّلاً إلى دروب أخرى، إلى أن توقفه ضجّة أخرى، تلاعب آخر بالضوء فيهرب إلى اتّجاه آخر.

 

في مسيره الجنونيّ يمضي هكذا صوب داخل المدينة، ولكنّ صياحاً مِن الشعب ينبّهه أنّه بالقرب مِن منزل قيافا، وحينئذ، واضعاً يديه على رأسه، ومنحنياً كما لو كانت هذه الصيحات حجارة ترجمه، يهرب، يهرب. وفي هروبه يسلك درباً تقوده مباشرة إلى البيت الّذي فيه كان العشاء الأخير. فينتبه حينما يصبح في مواجهته، بسبب عين تسيل في هذا المكان مِن الدرب. دموع الماء الّتي تسقط قطرة قطرة في حوض حجري صغير، وصفير واهن للريح المتسلّل في الدرب الضيّق مُحدِثاً نحيباً مخنوقاً، لا بدّ أنّهما ظهرا له كدموع مَن خانه وظلامة الـمُعذَّب. يسدّ أذنيه حتّى لا يسمع، ويفرّ، مغلقاً عينيه كي لا يرى هذا الباب الّذي منذ ساعات قليلة دخل منه مع المعلّم، ومِن خلاله هو خرج كي يجلب الرجال المسلّحين ليقبضوا عليه.

 

في ذلك الجري الأعمى يوشك على الاصطدام بكلب شارد، أوّل كلب أراه منذ بداية الرؤى، كلب ضخم رماديّ أشعث الوبر، الّذي يتراجع وهو يهرّ، مستعدّاً للانقضاض على مَن ضايقه. يفتح يهوذا عينيه ليواجه بؤبؤين فسفوريّين يحدّقان به، ويرى بياض أنياب مُكَشِّرة وكأنّها تُشكّل ضحكة شيطانيّة. يُطلِق صيحة هلع. والكلب الّذي يمكن أن يكون قد اعتبرها صرخة مُهدِّدة، ينقضّ عليه، ويتدحرج الاثنان في التراب: يهوذا مِن أسفل مشلول مِن الخوف، والكلب فوقه. وعندما يترك الكلب فريسته، ربما معتبراً إيّاه غير كفء لهذه المعركة، كان يهوذا ينـزف بسبب عضّتين أو ثلاث، وفي ردائه تمزّقات كبيرة.

 

إحدى العضّات كانت بحقّ في خدّه، في الموضع ذاته الّذي قَبَّل فيه يسوع. خدّه ينـزف والدم يُلوّث ثوب يهوذا الأصفر عند الرقبة. فصار الدم كشبه ياقة، مبلّلاً الشريط الأحمر الّذي يضمّ الملابس عند الرقبة جاعلاً إيّاه أكثر احمراراً. يضع يهوذا يده على خدّه، ينظر إلى الكلب الّذي يبتعد، إنّما يراقبه مِن فتحة أحد الأبواب، ويدمدم: «بعلزبول!» ومطلقاً صيحة مِن جديد، يفرّ ويتبعه الكلب لبعض الوقت. يهرب حتّى الجسر الصغير القريب مِن جَثْسَيْماني. هناك، يبتعد الكلب عن فريسته إمّا لأنّه تعب مِن ملاحقته، وإمّا مِن الماء لأنّه مصاب بالكَلَب، فيتراجع وهو يهرّ. يهوذا، الّذي كان قد ألقى بنفسه في السيل كي يأخذ حجارة يلقيها على الكلب، إذ يراه مبتعداً، ينظر حوله ويتبيّن أنّ الماء وصل إلى منتصف الربلة (بطّة الساق). وبدون الاهتمام بثوبه الّذي تبلّل أكثر فأكثر، ينحني فوق الماء ويشرب كما لو كان يحترق مِن الحمّى، ويغسل خدّه الّذي ينـزف ويؤلمه. ومع أوّل استفاقة للفجر يصعد ثانية إلى الضفّة، مِن الجهة الأخرى كما لو كان ما يزال خائفاً مِن الكلب ولم يكن يجرؤ على الرجوع إلى المدينة.

 

يسير بضعة أمتار ويجد نفسه عند مدخل بستان الزيتون. فيصيح: «لا! لا!» متعرّفاً على المكان. إنّما بعد ذلك، لستُ أدري بأيّة قوّة لا تُقاوَم أو بأيّة ساديّة شيطانيّة ومجرمة، يتقدّم في ذلك المكان. يبحث عن المكان الّذي حصل فيه إلقاء القبض. إنّ أرض الدرب، وقد داستها أقدام كثيرة، والعشب المداس في إحدى المواضع والدم على الأرض، قد يكون دم مَلْخُسَ [عبد رئيس الكَهَنَة الذي قطع بطرس أذنه]، يُظهِران له أنّ هذا هو المكان الّذي حدّد فيه البريء للجلاّدين.

 

يَنظر، ويَنظر... ثمّ يُطلِق صيحة خشنة، ويقفز إلى الخلف. يصيح: «هذا الدم! هذا الدم!...» ويشير إليه... لِمَن؟! يحدّده بذراعه الممدودة وسبّابته. في النور المتزايد يَظهَر وجهه المرتعب والشبحيّ. يبدو مجنوناً. عيناه جاحظتان وتلمعان كأنّه كان يهذي؛ شعره أشعث مِن الجري والهَلَع وكأنّه منتصب على رأسه؛ خدّه المتورّم يلوي فمه في تكشيرة. ثوبه ممزّق، مُغَطّى بالدم، مبلّل، مُوحِل، ذلك أنّ التراب الّذي تبلّل صار وحلاً، ويجعله شبيهاً بمتسوّل. ردائه ممزَّق أيضاً ومُوحِل، يتدلّى مِن أحد كتفيه كالأسمال، ويرتبك به إذ يستمرّ بالصياح: «هذا الدم! هذا الدم!» يتقهقر كما لو أنّ هذا الدم استحال بحراً يرتفع ويفيض. ينقلب يهوذا إلى الخلف فيصطدم رأسه مِن الخلف بحجر يجرحه. يئنّ مِن الألم والخوف: «مَن هنا؟» يصيح. يُفتَرَض أنّه ظنّ أن هناك مَن أوقعه ليضربه. يلتفت بهلع. لا أحد! ينهض. الآن يقطر الدم عند مؤخّرة عنقه. وتتّسع الدائرة الحمراء على ثوبه. لا يتساقط على الأرض لأنّه قليل، يتشرّبه الثوب. الآن أصبح الحبل يتبدّى على رقبته.

 

يسير. يرى أثر النار الّتي أوقدها بطرس تحت إحدى أشجار الزيتون، ولكنّه لا يعلم أنّ بطرس هو الّذي أشعلها، ويعتقد أن يسوع كان هنا. يصيح: «اذهبوا! اذهبوا!» وبيديه الممدودتين إلى الأمام، يبدو وكأنّه يدفع شبحاً يعذّبه. يهرب لينتهي تماماً عند صخرة الاحتضار.

 

الآن، أصبح الفجر جليّاً ويسمح بالرؤية جيّداً وعلى الفور. يرى يهوذا رداء يسوع المطويّ على الصخرة، يتعرّف عليه. يودّ أن يلمسه. يخاف. يمدّ يده ويسحبها ثانية. يريد. لا يريد. ولكنّ هذا الرداء يفتنه. ينوح: «لا! لا!» ثمّ يقول: «نعم، بحقّ الشيطان! نعم، أريد أن ألمسه. لا أخاف! لا أخاف!» يقول إنّه لا يخاف، ولكن الرعب يجعل أسنانه تصطكّ، والصوت الّذي أحدثه غصن زيتون فوق رأسه إذ حرّكه الهواء صادماً جذعاً قريباً، يجعله يصرخ مِن جديد. ومع ذلك يبذل جهداً ويمسك بالرداء. ويضحك. ضحكة مجنون، ضحكة شيطان. ضحكة هيستيرية، متقطّعة، حزينة، لا تنتهي أبداً، لأنّه انتصر على خوفه، ويقول ذلك: «أنتَ لا تخيفني يا مسيح. لا خوف بعد. كان خوفي منكَ عظيماً إذ كنتُ أظنّكُ إلهاً وقويّاً. الآن لم تعد تخيفني، فأنتَ لستَ الله. أنتَ مجنون مسكين، ضعيف. لم تستطع الدفاع عن نفسكَ. ولم تحوّلني إلى رماد، كما لم تقرأ الخيانة في قلبي. مخاوفي!... يا لبلاهتي! عندما كنتَ تتكلّم، حتّى مساء أمس، كنتُ أظنُّكَ تعرف. إنّكَ لم تكن تعرف شيئاً. كان خوفي هو الّذي يضفي الإحساس بالنبوءة على كلّ كلماتكَ العاديّة. أنتَ لا شيء. تركتَ نفسكَ للبيع، للتعرّف عليكَ، لأخذكَ كالفأر مِن جحره. سلطانكَ! أصلكَ! آه! آه! آه! بهلول! القويّ هو الشيطان! إنّه أقوى منكَ. لقد انتصر عليكَ! آه! آه! آه! النبيّ! مَسيّا! مَلِك إسرائيل! وقد أخضعتَني ثلاث سنوات! بخوف دائم في قلبي! كان عليّ أن أكذب لأخدعكَ بحذق عندما كنتُ أريد أن أتمتّع بالحياة! ولكن حتّى وإن كنتُ قد سرقتُ وزنيتُ بلا كلّ هذا الدهاء الّذي كنتُ أمارسه، فما كنتَ لتفعل بي شيئاً. خَوّاف! مجنون! جبان! خذ! خذ! خذ! لقد أخطأتُ بعدم فعلي بكَ ما أفعل بردائكَ هذا انتقاماً للوقت الّذي استعبدتَني فيه بسبب الخوف. خوف أرنب!... خذ! خذ! خذ!»

 

ومع كلّ "خذ". يهوذا يعضّ ويسعى لتمزيق نسيج الرداء. يجعّده بين يديه. وفيما هو يفعل ذلك يَفرده وتظهر البقع الّتي تبلّله. يتوقّف هيجان يهوذا. يحدّق بتلك البقع. يلمسها، يشمّها. إنّه دم... يفرد الرداء. واضحة جدّاً الآثار الّتي تركتها اليدان المبقّعتان بالدم حينما كان يضغط النسيج على وجهه.

 

«آه!...دم! دم!... دمه... لا!» يترك يهوذا الرداء يسقط وينظر حوله. إلى الصخرة نفسها، حيث أسند يسوع ظهره حينما كان الملاك يشدّد عزيمته، هناك بقعة دم داكنة جافّة. «هناك!... هناك!... دم! دم!...» يخفض عينيه كي لا يرى، فيرى العشب المحمرّ مِن الدم الساقط عليه. وهو، بفعل الندى الّذي أبقاه رطباً، بدا وكأنّه سقط منذ قليل. إنّه أحمر ويلمع تحت أوّل شعاع مِن الشمس. «لا! لا! لا أريد أن أرى! لا أستطيع أن أنظر إلى هذا الدم! أنقذوني!» ويحمل يديه إلى عنقه ويفقد كلّ تحكّم كما لو كان يغرق في بحر مِن الدم. «ارجع! ارجع! اتركني! اتركني! ملعون! ولكن هذا الدم بحر! إنّه يغطّي الأرض! الأرض! الأرض! وعلى الأرض لا مكان لي، لأنّني لا أقدر أن أرى هذا الدم الّذي يغطّيها. إنّني قايين للبريء!» أظنّ أنّ فكرة الانتحار قد حلّت في قلبه في تلك اللحظة.

 

وجه يهوذا يخيف. يلقي بنفسه على المنحدر ويهرب عبر بستان الزيتون، دون الرجوع مِن نفس الطريق الّتي سلكها مِن قبل. يبدو وكأنّ ضواري تلاحقه. يعود إلى المدينة. يلتفّ بردائه محاولاً تغطية جرحه ووجهه قدر المستطاع. يتّجه نحو الهيكل. ولكن بينما هو يمضي في هذا الاتّجاه، في تقاطع إحدى الطرق، يجد نفسه في مواجهة أوباش يـَجرّون يسوع إلى بيلاطس. لم يكن باستطاعته الانسحاب لأنّ مجموعة أخرى تدفعه مِن الخلف وهي تجري كي ترى. ولأنّه طويل القامة، يشرف حتماً ويرى. يلاقي نظرة المسيح…

 

تتقاطع النظرتان لبرهة. ثمّ يمرّ المسيح، مقيّداً مضروباً، ويسقط يهوذا على ظهره، كأنّه أصيب بإغماء. فتدوسه الجموع بلا رحمة، وهو لم يُبدِ ردّة فعل. المفروض أنّه يفضّل أن تدوسه أقدام عالم بأكمله على أن يقابل تلك النظرة.

 

بعد مرور رهط قتلة الله مع الشهيد وخلوّ الطريق، يعاود النهوض ويهرع نحو الهيكل. يزاحم ويكاد يرمي أحد الحرّاس الواقف على باب السور. يصل حرّاس آخرون كي يمنعوا المسعور مِن الدخول، ولكنّه، مثل ثور هائج، يبعدهم جميعاً. أحدهم يتشبّث به لكي يمنعه مِن الدخول إلى قاعة السنهدرين حيث ما يزالون جميعاً مجتمعين للتداول، فيمسكه مِن عنقه ويخنقه، يلقيه إلى أسفل الدرجات الثلاث، وإن لم يكن ميتاً فهو أكيد على وشك الاحتضار.

 

«لا أريد نقودكم أيّها الملعونون.» يصيح وهو واقف في وسط القاعة، في المكان حيث كان يسوع سابقاً. تحسبه شيطاناً خرج مِن جهنم. مُدمى، أشعث الشعر، يتأجّج مِن الهذيان، اللُّعاب على فمه، يداه كالمخالب، يصيح وكأنّه يعوي بقدر ما كان صوته حادّاً، هادراً، خشناً. «لا أريد نقودكم أيّها الملعونون. لقد أهلكتموني. جعلتموني أرتكب أعظم خطيئة. إنّني مثلكم، مثلكم أنا ملعون! خنتُ الدم البريء. فليقع عليكم هذا الدم وموتي. عليكم... لا! آه!...» يرى يهوذا الأرضية ملطّخة بالدم. «حتّى هنا، حتّى هنا دم؟ في كلّ مكان! في كلّ مكان دمه! إنّما كم مِن دم لدى حَمَل الله كي يغطّي الأرض هكذا ولا يموت؟ وأنا الّذي سفكتُه! بسبب تحريضكم. ملاعين! ملاعين! ملاعين إلى الأبد! اللعنة على هذه الجدران! اللعنة على هذا الهيكل الدَّنِس! اللعنة على رئيس الكَهَنَة قاتل الله! اللعنة على الكَهَنَة غير المستحقّين، العلماء المزيّفين، الفرّيسيّين الماكرين، اليهود المتوحّشين! الكَتَبَة المراوغين! عليّ اللعنة! عليّ اللعنة! عليّ أنا! خذوا نقودكم ولتخنق نفوسكم في حلوقكم، كما الحبل لي.» ويلقي الكيس في وجه قيافا ويمضي وهو يصرخ، بينما ترنّ القطع وهي تتدحرج على الأرض بعد أن ضَربت وجرحت فم قيافا.

 

لم يجرؤ أحد على منعه. يخرج. يجري عبر الدروب. وبشكل حتميّ يجد نفسه مرتين أخريين في مواجهة يسوع عند ذهابه عند هيرودس وإيابه مِن عنده. يبتعد عن مركز المدينة كي يسلك بطريق الصدفة الدروب الضيّقة الأكثر بؤساً وينتهي مِن جديد أمام منـزل العلّية. إنّه مغلق بالكامل، وكأنّه مهجور.

 

يتوقّف، ينظر إليه. «الأُمّ!» يتمتم. «الأُمّ!...» يبقى متردّداً... «أنا أيضاً لي أُمّ! وقد قتلتُ ابناً لأُمّ!... ومع ذلك... أريد الدخول... أريد أن أرى مِن جديد تلك الغرفة. فهناك لا دماء...» يطرق الباب مرّة... وأخرى… وأخرى... تأتي سيدة المنـزل وتفتح مُواربة الباب، فرجة... وحينما ترى هذا الانسان المضطرب، غير ممكن التعرّف عليه، تصرخ مُحاوِلة إغلاق الباب. ولكن يهوذا، بضربة مِن كتفه، يفتحه على مصراعيه، ويلقي المرأة الخائفة، ويتجاوزها.

 

يَجري باتّجاه الباب الصغير المؤدّي إلى قاعة العشاء. يفتحه. يدخل. شمس جميلة تلج مِن النوافذ المفتوحة على آخرها. يُطلِق يهوذا تنهيدة تسكين. يدخل. هنا، كلّ شيء في سكون وصمت. الأواني مازالت كما تُرِكت. يمكن إدراك أنّ لا أحد يهتمّ بهذا في الوقت الحاضر. بل يمكن الاعتقاد أنّ الاستعداد جار للجلوس إلى المائدة.

 

يمضي يهوذا نحو المائدة. ينظر إذا ما كان مِن نبيذ في الجرار. يوجد. يشرب بنهم مِن الجرّة نفسها الّتي يرفعها بكلتا يديه. ثمّ يخرّ جالساً ويسند رأسه على ذراعيه المتقاطعين على المائدة. لم يتبيّن أنّه يجلس مكان يسوع ذاته وأنّ أمامه الكأس الّتي استخدمت للافخارستيا. يتوقّف برهة إلى أن يهدأ لهاثه الّذي سبّبه جريه الطويل. ثمّ يرفع رأسه ويرى الكأس، ويدرك أين جلس.

 

يقف كالممسوس. ولكنّ الكأس يفتنه. مازال في قاعه قليل مِن النبيذ الأحمر، والشمس الّتي تضرب المعدن (الّذي يبدو مِن الفضة) تجعل السائل يلمع. «دم! دم! دم هنا أيضاً! دمه! دمه!... "افعلوا هذا لذكري!... خذوا اشربوا. هذا هو دمي... دم العهد الجديد الّذي سيراق مِن أجلكم…" آه! ملعون أنا! لا يمكن أن يُسكَب مِن أجلي بعد لمغفرة خطيئتي. لا أطلب الغفران إذ لا يمكنه أن يسامحني. أَخرج مِن هنا! أَخرج مِن هنا! فلا مكان يمكن لقايين الله أن يجد فيه الراحة. إلى الموت! الموت!...»

 

يَخرج. يجد نفسه بمواجهة مريم، واقفة عند باب الغرفة الّتي منها غادرها يسوع. وهي، إذ تسمع الضجة، تَظهر آملة رؤية يوحنّا الغائب منذ عدّة ساعات. إنّها شاحبة وكأنّها فقدت دمها. عيناها جعلهما الألم تشبهان عينيّ ابنها. يقابل يهوذا تلك النظرة الّتي تنظر إليه بالمعرفة الحزينة الواعية نفسها الّتي نظر بها يسوع إليه في الطريق. وبكلمة «آه!» مرتعبة يسند ظهره إلى الجدار.

 

«يهوذا!» تقول مريم «يهوذا، ماذا جئتَ تفعل؟» كلمات يسوع ذاتها، قيلت بمحبّة حزينة. يتذكّرها يهوذا ويُطلِق صرخة.

 

«يهوذا.» تُكرّر مريم «ماذا فعلتَ؟ قابلت المحبّة الكثيرة بالخيانة؟» صوت مريم ملاطفة مرتعشة.

 

يوشك يهوذا على الهرب. تناديه مريم بصوت كان يمكنه هداية شيطان: «يهوذا! يهوذا! توقّف! توقّف! اسمع! أقول لكَ باسمه: تب يا يهوذا، هو يغفر...» يهوذا يهرب. كان صوت مريم، هيئتها، دفقة مِن النِّعم أو على الأرجح زوال النعم إذ إنّه يقاوم.

 

يمضي سريعاً. يقابل يوحنّا الّذي يهرع إلى المنـزل ليأخذ مريم. لقد تمّ النطق بالحكم. يسوع ماض إلى الجلجلة. حان الوقت لأخذ الأُمّ إلى ابنها. يتعرّف يوحنّا على يهوذا، رغم أنّه لم يتبقَّ سوى القليل مِن وسامة يهوذا الّتي كان عليها منذ وقت قصير. «أنتَ هنا؟» يقول له يوحنّا باشمئزاز واضح. أنتَ هنا؟ عليكَ اللعنة. يا قاتل ابن الله! المعلّم قد دين. ابتهج، إن كنتَ تستطيع، ولكن أفسح الطريق. سوف آخذ الأُمّ. ولا أودّ أن تقابلكَ ضحيّتكَ الثانية، أيّها السافل.»

 

يفرّ يهوذا، يلفّ رأسه في مزقات ردائه تاركاً فقط فتحة لعينيه. الناس، القليل مِن الناس الّذين لم يتوجّهوا إلى المحكمة، يتجنّبونه كأنّهم يرون مجنوناً، وهو يبدو كذلك.

 

يضلّ عبر الريف. الريح تحمل مِن وقت لآخر صدى الجلبة الآتية مِن الجموع الّتي تتبع يسوع وتوجّه له اللعنات. وفي كلّ مرّة يصل هذا الصدى إلى يهوذا، فإنّه يعوي مثل ابن آوى.

 

أظنّه قد أصبح حقّاً مجنوناً لأنّه يصدم رأسه بإيقاع على الجدران الحجريّة. أو ربّما أصبحت لديه فوبيا مِن السوائل، لأنّه كلّما رأى سائلاً أيّاً كان: ماء، حليباً يحمله طفل في وعاء، زيتاً يسيل مِن قربة، فإنّه يعوي، ويعوي ويصيح: «دم! دم! دمه!».

 

يودّ الشرب مِن الجداول ومِن الينابيع. لا يستطيع لأنّ الماء يبدو له دماً، ويقول ذلك: «إنّه دم! إنّه دم! يغرقني! يحرقني! بي النار! دمه، الّذي أعطاه لي بالأمس قد صار ناراً فيّ! اللعنة لي ولكَ!»

 

يتسلّق ويهبط التلال المحيطة بأورشليم. نظره يتّجه بشكل لا يُقاوَم إلى الجلجلة، ولمرّتين يرى مِن بعيد الموكب الّذي يزحف صعوداً على المنحدر، فينظر ويصيح.

 

ها هو الموكب عند القمّة. ويهوذا أيضاً على قمّة تلّ صغير مغطّى بأشجار الزيتون. يدخله، فاتحاً بوّابة ريفيّة وكأنّه سيّد ذاك المكان أو على الأقلّ معتاد عليه. لديّ انطباع بأنّ يهوذا لم يكن يهتمّ كثيراً بأملاك الغير. إنّه واقف تحت أحد أشجار الزيتون على طرف منحدر، ينظر إلى الجلجلة. يرى رفع الصلبان ويدرك أنّ يسوع قد صُلِب. لا يستطيع أن يرى أو يسمع، ولكنّ هذيان أو سحر الشيطان يدفعه لأن يرى ويسمع كما لو كان على قمّة الجلجلة.

 

ينظر، ينظر كما في هلوسة. ينتفض: «لا! لا! لا تنظر إليّ، لا تتكلم معي! فأنا لا أتحمّل. فلتمت، فلتمت يا ملعون! فليغلق الموت هاتين العينين اللتين ترعبانني، ذلك الفم الّذي يلعنني. ولكن أنا أيضاً ألعنكَ لأنّكَ لم تخلّصني.»

 

وجهه مذعور للغاية، حتّى لا يمكن النظر إليه، خَيطان مِن اللُّعاب يسيلان مِن فمه العاوي. الخدّ المعضوض داكن ومنتفخ ويجعل وجهه يبدو مشوّهاً. شعره ملتصق، ذقنه السوداء الّتي نمت خلال تلك الساعات على خدّيه، تضع كمّامة محزنة على خدّيه وذقنه. عيناه، مِن ثمّ! العينان... تدوران، تنحرفان، إنّهما فوسفوريّتان. عينا شيطان. ينـزع مِن وسطه الشريط المصنوع مِن الصوف الخشن الأحمر الّذي يزنّره بثلاث لفّات. يختبر صلابته ويلفّه حول شجرة الزيتون ويشدّه بكلّ قوته. إنّه متين، قويّ. يختار شجرة زيتون تتحمّل ما يريد فِعله، ها هي. تلك الّتي تميل على المنحدر، بأغصانها غير المرتّبة، تصلح. يتسلّق الشجرة. يثبّت بشدّة العقدة في أحد الغصون الأكثر صلابة والّذي يبرز إلى الفراغ. يهيّئ الأنشوطة. ينظر لآخر مرّة باتّجاه الجلجلة، ثمّ يُدخِل رأسه في الأنشوطة. الآن يبدو وكأنّ له ياقتين حمراوين على قاعدة الرقبة. يجلس على الحافة ودفعة واحدة ينـزلق في الفراغ.

 

العقدة تخنقه. يتخبّط بضعة دقائق، تنقلب عيناه، يحيله الاختناق إلى أسود، يفتح فمه، أوردة رقبته تنتفخ وتصبح سوداء. أربع أو خمس انتفاضات مِن قدميه في الهواء، في تشنّجات أخيرة. ثمّ ينفتح فمه ويتدلّى لسان أسود مبلل باللعاب، المقلتان تخرجان مِن الرأس فيظهر بياض العين محتقناً بالدم، قزحية العين تختفي إلى أعلى. لقد مات. الريح القويّة، الّتي هبّت قبل العاصفة الوشيكة الحدوث، تهزّ المتدلّي المريع وتجعله يستدير مثل عنكبوت مرعب يتدلّى بخيط مِن نسيجه.

 

تنتهي الرؤيا. وآمل أن أتوصّل قريباً إلى نسيان كلّ شيء عنها لأنّني أؤكد لكم أنّها رؤيا مروّعة.

***

(لو كان يهوذا قد ارتمى عند قدميّ الأُمّ قائلاً: "الرحمة"، لكانت تلقّته بإشفاق كأنّه جريح.)

 

يقول يسوع:

 

«مُروّعة، ولكن ليست عبثاً. كثيرون يعتقدون أنّ يهوذا ارتكب أمراً قليل الأهمّية. والبعض يصل حتّى إلى حدّ القول إنّ له فضلاً، إذ بدونه لم يكن ليتمّ الخلاص، وبالتالي فهو مبرَّر أمام الله.

 

الحقّ أقول لكم أنّه إن لم تكن جهنّم موجودة بالفعل، بل ومكتملة بعذاباتها، لكانت خُلِقت مِن أجل يهوذا بأكثر رهبة وأبديّة، لأنّه مِن بين كلّ الخطأة والمذنبين هو الأكثر إدانة وخطيئة، ولا تخفيف لإدانته إلى الأبد.

 

كان يمكن لتأنيب الضمير أيضاً أن ينقذه لو كان جعل مِن تأنيب الضمير توبة. ولكنّه لم يرد التوبة. وإلى جريمته الأولى الّتي هي الخيانة، تلك الّتي كان يمكن أن تُغفَر بعد بسبب الرحمة العظيمة الّتي هي ضعفي الـمُحِبّ، أضاف التجديف، مقاومة أصوات النعمة الّتي كانت تريد أن تكلّمه مراراً عن طريق الذكريات، المخاوف، دمي وردائي، مِن خلال نظرتي، آثار إقامة الافخارستيا وكلمات أُمّي. لقد قاوم كلّ شيء. أراد أن يقاوم كما كان يريد أن يخون. كما أراد أن يلعن. كما أراد أن ينتحر. المهمّ في الأمور هي الإرادة، في الخير كما في الشرّ.

 

حينما يسقط أحد ما دون أن يقصد السقوط، أَغفر. ترين بطرس. لقد أنكرني. لماذا؟ حتّى هو لم يكن يعرف لماذا فعل هذا بالضبط. هل بطرس جبان؟ لا. بطرسي لم يكن جباناً. أمام الكتيبة وحرّاس الهيكل كان قد تجاسر على ضرب مَلْخُسَ كي يدافع عنّي ويعرّض نفسه للقتل بسبب ذلك. ثمّ هرب، دون أن ينوي الهرب. ثمّ، أنكر، دون أن ينوي ذلك. ثمّ عرف جيّداً أن يبقى ويتقدّم على درب الصليب الدامي، على دربي، وصولاً إلى موت الصليب. وبالتالي فقد عرف أن يعطي عنّي شهادة رائعة لدرجة أنّه قُتِل بسبب إيمانه الجريء. أنا أدافع عن بطرسي. عجزه كان الأخير في بشريّته، إنّما إرادته الروحيّة لم تكن حاضرة في تلك اللحظة. كانت نائمة، كليلة مِن ثقل بشريّته. وعندما استيقظت، لم ترغب أن تبقى في الخطيئة وأرادت أن تكون كاملة. لقد غفرتُ له على الفور.

 

يهوذا لم يرد. تقولين إنّه كان يبدو مجنوناً ومغتاظاً. لقد كان غضباً شيطانيّاً. رعبه مِن رؤية الكلب، وهو حيوان نادر، خاصة في أورشليم، ناتج عن أنّهم كانوا ينسبون للشيطان، منذ عهد قديم، الظهور بهذا الشكل للهالكين. وقد جاء في كتب السحر أيضاً أن الشكل المفضّل للشيطان في الظهور هو شكل كلب غامض أو قطّة أو تيس. إنّ يهوذا، الّذي أصبح بالفعل فريسة الرعب نتيجة جريمته، مقتنعاً أنّه كان ينتمي إلى الشيطان بسبب هذه الجريمة، قد رأى الشيطان في هذا الحيوان الضالّ.

 

إنّ المذنب يرى في كلّ شيء ظلال الخوف. ضميره هو الّذي يخلقها. ثمّ يهيّج الشيطان هذه الظلال، الّتي قد تؤدّي بالقلب بعد إلى التوبة، ويجعل منها أشباحاً مرعبة تقود إلى اليأس. واليأس يقود إلى آخر جريمة: إلى الانتحار. ما فائدة إلقاء ثمن الخيانة، إن كان التخلّي عنها هذا لم يكن سوى ثمرة للغضب وليس مدعّماً بإرادة مستقيمة للتوبة؟ في هذه الحال يصبح التجرّد مِن ثمار الشرّ مستحقّاً للتقدير، أمّا كما فعل هو، فلا. إنّها تضحية لا فائدة منها.

 

أُمّي، وقد كانت النعمة الّتي تتكلّم والمؤتَمنة الّتي كانت تمنح المغفرة باسمي، قالت له: "تب يا يهوذا. وهو يغفر..." آه! بلى كنتُ لأغفر له! لو كان ارتمى عند قدميّ الأُمّ قائلاً: "الرحمة!"، وكانت، وهي، الرحومة، لكانت قد قبلته كمجروح، وعلى جراحه الشيطانيّة، الّتي لقّحها العدو بالجريمة، سكبت دموعها الـمُخَلِّصة، وكانت ستقوده إليّ عند أقدام الصليب، وهي تمسكه مِن يده كي لا يقبض عليه الشيطان أو يضربه التلاميذ، تقوده كي يسقط دمي عليه أوّلاً، هو أعظم الخطأة. ولوقفت هي، الكاهنة الرائعة على مذبحها، بين الطهر والخطيئة، لأنّها أُمّ العذارى والقدّيسين، ولكنّها أيضاً أُمّ الخطأة.

 

ولكنّه لم يرد ذلك. تأمّلوا قدرة الإرادة الّتي أنتم متحكّمين بها بالمطلق. بها تستطيعون بلوغ السماء أو جهنّم. تأمّلوا ما معنى الإصرار على الخطأ.

 

المصلوب، الّذي يُبقي ذراعيه مفتوحتين ومسمّرتين ليقول لكم إنّه يحبّكم، وهو لا يريد، هو لا يمكنه أن يضربكم لأنّه يحبّكم، ويفضّل أن يمتنع عن احتضانكم، ألمه الوحيد الناتج عن وضعه كمصلوب، على أن يكون حرّاً كي يعاقبكم. إنّ المصلوب، الّذي هو باعث رجاء إلهيّ بالنسبة للذين يتوبون ويريدون ترك الخطأ، يصبح بالنسبة لغير النادمين باعث رعب شديد يجعلهم يجدّفون ويتجاسرون على العنف تجاه أنفسهم. قتلة لأرواحهم وأجسادهم بسبب إصرارهم على الخطأ. ومظهر ذاك الوديع، الّذي ترك نفسه للذبح أملاً في خلاصهم، يتّخذ مظهر طيف مرعب.

 

ماري، لقد تذمّرتِ مِن هذه الرؤيا. ولكنّها جمعة الآلام يا ابنتي. عليكِ أن تتألّمي، وللآلام الّتي تقاسينها بسبب آلامي وآلام مريم، تضمّي آلامكِ بسبب مرارة رؤية الخطأة يستمرّون في الخطأ. كانت هذه آلامنا. ويجب أن تكون آلامكِ. إنّ مريم تألّمت وما زالت تتألّم مِن ذلك، كما تتألّم مِن عذابي. عليكِ إذن أن تتألّمي مِن هذا. الآن، ارتاحي. بعد ثلاث ساعات ستكونين كلّكِ لي ولمريم. أبارككِ، يا بنفسجة آلامي ويا زهرة آلام مريم.