ج5 - ف32

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الخامس/ القسم الأول

 

32- (في قيصريّة فليبّس)

 

28 / 11 / 1945

 

لا بدّ أن تكون المدينة حديثة البناء كما طبريّا وأشقلون. إنّها مبنيّة على سطح مائل تعلوها قلعة وتكتَنِفها الأبراج، وتحيط بها الأسوار الضخمة، وتحميها حُفَر عميقة تصبّ فيها مياه نهرين، بعد أن يكادا يجتمعان مُشكِّلَين زاوية، يعودان ليتباعدا وهما يسيلان، الواحد خارج المدينة والآخر صوب الداخل. شوارع جميلة، ساحات، ينابيع، عَرض أبنية على النمط الرومانيّ، كلّها تنمّ عن أنّ هنا أيضاً الطاعة العمياء للأرباع تَظهَر في الدَّوس على كلّ احترام لأعراف الوطن.

 

والمدينة، بما أنّها بدون شك عُقدة الطرق العامّة الرئيسيّة التي تسلكها القوافل المتوجّهة إلى دمشق، صور، صفد أو طبريّا، كما تشير على كلّ الأبواب اللّوحات الطرقيّة، وهي تعجّ بالناس في حركة دائمة. مُشاة، فرسان، قوافل حمير وجِمال تتقابل في الطرقات الواسعة والمنظّمة، وجماعات مِن التجّار أو العاطلين تقف في الساحات، تحت الأروقة، قرب الأبنية الفخمة، وقد توجد كذلك حمّامات عموميّة، للتحدّث في الأعمال أو لقضاء الوقت في ثرثرة لا أهميّة لها.

 

«هل تَعلَم أين يمكننا أن نجدهم؟» يسوع يَسأَل بطرس.

 

«نعم. الذين سألتُهم قالوا لي إنّ مِن عادة تلاميذ الرابّي أن يجتمعوا على الطعام في بيت لمؤمنين إسرائيليّين قرب الحُصن. وقد وصفوه لي. لا يمكنني أن أُخطئ: بيت إسرائيليّ حتّى في مظهره الخارجيّ، واجهته لا نوافذ خارجيّة لها، وله باب كبير مصحوب بفتحة، وعلى طرف الجدار ينبوع صغير، وأسوار الحديقة تمتدّ في أزقّة صغيرة، وشُرفة مرتفعة على سطح مملوء طيور حمام.»

 

«حسناً. إذن، هيّا بنا»…

 

يَجتازون المدينة كلّها حتّى الحصن. يَبلغون البيت الذي يبحثون عنه ويَقرعون. ولدى فتح الباب يَظهَر وجه امرأة عجوز مجعّد.

 

يتقدّم يسوع، يُحيّي: «السلام معكِ، يا امرأة. هل عاد تلاميذ الرابّي؟»

 

«لا أيّها الرَّجُل. إنّهم إلى جانب "الينبوع الكبير" مع آخرين، قادِمين مِن بلدات عدّة مِن الضفّة الأخرى بحثاً عن الرابّي بالتحديد. وكلّهم ينتظرون. هل أنتَ مِن هؤلاء؟»

 

«لا. بل كنتُ أبحث عن التلاميذ.»

 

«إذاً، انظر: هل ترى هذه الطريق التي تكاد تواجه الينبوع؟ اسلكها، واصعَد إلى أن تَبلغ سوراً شاهقاً مِن الحجر، يَخرُج منه الماء في ما يشبه الفسقيّة، ليُشكِّل فيما بعد ساقية. تجدهم بالقرب منه. ولكن هل أنتَ قادم مِن بعيد؟ هل تريد أن تغتسل؟ فادخل هنا وانتظرهم، إذا شئتَ، وسوف أنادي معلّميّ. إنّهم إسرائيليّون صالحون، أَتعلَم؟ ويؤمنون بمَسيّا. تلاميذ هُم فقط لأنّهم رأوه مرّة في أورشليم، في الهيكل. إنّما الآن فقد أَخبَرَهم عنه تلاميذ مَسيّا، وقد اجترحوا معجزات هنا، لأنّ...»

 

«حسناً أيّتها المرأة الطيّبة. سأعود فيما بعد مع التلاميذ. السلام لكِ. عودي إلى عملكِ.» يقول يسوع برقّة، إنّما كذلك بِسُلطة ليوقف هذا السيل مِن الكلام.

 

يُعاوِدون المسير، والتلاميذ الأكثر شباباً يَضحَكون مِن قلوبهم لمشهد المرأة، حتّى إنّهم يجعلون يسوع يبتسم.

 

«يا معلّم» يقول يوحنّا «كانت وكأنّها هي "الينبوع الكبير"، ألا يبدو لكَ ذلك؟ كانت كلماتها تَخرُج بتدفّق دائم، لقد جَعَلَت منّا أكثر مِن فسقيّات تفيض إلى أنهار مِن الكلام...»

 

«نعم. آمُل ألّا يكون التلاميذ قد اجتَرَحوا معجزة على لسانها... ففي هذه الحال يُقال: لقد أكثرتم مِن المعجزات» يقول تدّاوس الذي يضحك مِن كلّ قلبه، على خلاف عادته.

 

«الأجمل هو عندما سترانا عائدين، وترى أنّه كان المعلّم! مَن سيستطيع أن يُسكِتها؟» يَسأَل يعقوب بن زَبْدي.

 

«لا، بل على العكس سوف تَخرَس مِن الذهول» يقول متّى مشاركاً الشباب حديثهم.

 

«سوف أُمجِّده تعالى إذا ما شَلَّ الذُّهول لسانها. وذلك بدون شكّ لأنّني أكاد أكون صائماً، إنّما ما هو مؤكّد، هو أن زوبعة كلامها جَعَلَتني أشعُر بالدُّوار.» يقول بطرس.

 

«وكم كانت تصرخ! هل يمكن أن تكون صمّاء؟» يَسأَل توما.

 

«لا. بل كانت تَظنّنا صُمّاً» يقول الاسخريوطيّ.

 

«دعوا العجوز المسكينة وشأنها! لقد كانت طيّبة ومؤمنة. قلبها كريم كلسانها» يقول يسوع شِبه جادّ.

 

«آه! إذن! يا معلّمي، هذه العجوز هي بَطَلَة بقدر ما هي كريمة» يقول يوحنّا وهو يضحك مِن قلبه.

 

الجدار الصخريّ والجيري أَصبَحَ الآن يُرى، كما أَصبَحَ خرير الماء الساقط في الحوض مسموعاً.

 

«ها هو الجدول. فلنتبعه... هو ذا الينبوع... وهناك... بنيامين! دانيال! هابيل! فليبّس! هرمست! نحن هنا! المعلّم هنا!» يَصيح يوحنّا لمجموعة كبيرة مِن الرجال المتجمهرين حول أحدهم لا يمكن رؤيته.

 

«اسكُت أيّها الصبيّ، أو إنّكَ ستُشبه أنتَ كذلك تلك الدجاجة العجوز» يَنصَح بطرس.

 

يلتفت التلاميذ. يَرَون. الرؤية والاندفاع بالقفز إلى أسفل الشُّرفة سيّان. أرى الآن أنّ المجموعة تتفرّق، وقد اختَلَطَ الآن التلاميذ القدامى، وقد أصبحوا كُثُراً، بسكّان قادس وكذلك بسكّان قرية الأصمّ الأبكم. يُفتَرض أنّهم اتّخذوا طُرُقاً أقصر، ذلك أنّهم وَصَلوا قبل المعلّم. الفرحة عظيمة. كذلك أسئلة وأجوبة كثيرة. فيسوع يَسمَع ويُجيب بأناة، إلى أن وَصَلَ إسحاق النحيل والمبتسم، يحمل المؤونة، يصحبه اثنان آخران.

 

«هيّا بنا إلى البيت الـمُضيف، يا سيّدي، وهناك تقول لنا ما لم نستطع قوله نحن، لأنّنا لم نكن نعرفه حتّى. هؤلاء الذين وصلوا أخيراً -وهم معنا منذ بضعة ساعات- يُريدون معرفة ما هي علامة يونان التي وَعَدتَ بأن تعطيها للجيل الفاسق الذي يضطهدكَ» يقول إسحاق.

 

«سأشرحها أثناء المسير...»

 

المضيّ! ليس سهلاً! كما لو أنّ عبير زهرة كان قد فاح في الجوّ فهَرَعَت إليها أعداد كبيرة مِن النحل، كذلك هَرَعَ الناس مِن كلّ صوب لينضمّوا إلى أولئك الذين هُم حول يسوع.

 

«إنّهم أصدقاؤنا» يشرح إسحاق. «أناس آمَنوا وكانوا ينتظرونكَ...»

 

«أناس حَصَلوا على نِعَم مِن هؤلاء، وبشكل خاصّ منه» يهتف واحد مِن الجمع مشيراً إلى إسحاق.

 

يَعتَري إسحاق احمرار، وكما ليعتذر، يقول: «أنا خادم، وهو المعلّم. أنتم يا مَن تنتظرون، ها هو ذا المعلّم يسوع!»

 

وتلك كانت القَشَّة الأخيرة! فركن القيصريّة الهادئ، المتطرّف قليلاً، كما هو في المحيط، يصبح مضطرباً أكثر مِن سوق، وأكثر صَخَباً. أوشعنا! هُتافات! توسُّلات! يوجد مِن كلّ هذا. يسير يسوع ببطء شديد، محاصَراً بكمّاشة الحبّ هذه. ولكنّه يبتسم ويبارك. ببطء يَصِل إلى حدّ أن يتمكّن الكثيرون مِن الابتعاد بحيويّة لينشروا الخبر ويعودوا بصحبة أصدقاء أو أقارب، ممسكين بأيدي أطفال لِيَصِلوا سالمين إلى يسوع الذي يلاطفهم ويباركهم.

 

هكذا يَصِلون إلى البيت الذي كانوا قد أتوا منه، ويَقرَعون. الخادمة العجوز الآنفة الذكر تَسمَع الأصوات وتفتح بلا تردّد. ولكنّها... ترى يسوع وسط الجموع الذين يَهتِفون، وتُدرِك... فتسقط أرضاً وهي تئنّ: «الرحمة يا ربّ. خادمتكَ لم تتعرّف إليكَ ولم تُكرِمكَ!»

 

«لا عليكِ يا امرأة. لم تكوني تعرفين الرجل، ولكنّكِ كنتِ تؤمنين به. هذا هو المطلوب لتكوني محبوبة مِن الله. انهضي وخُذيني إلى معلّميكِ.»

 

تطيع العجوز، وهي ترتجف احتراماً. ولكنّها ترى المعلّمين يتلاشون احتراماً، وقد التصقوا بالجدار في عمق المدخل المظلم قليلاً. وتشير إليهم: «ها هُم.»

 

«السلام لكم ولهذا البيت. ليبارككم الربّ لإيمانكم بالمسيح ولمحبّتكم لتلاميذه» يقول يسوع وهو ماض إلى لقاء الأخوين العجوزين، أخ وأخت.

 

يُكرّمانه، يُرافِقانه إلى الشُّرفة الواسعة، حيث تمّت تهيئة طاولات عِدّة تحت خيمة ثقيلة. هنا تمتدّ الرؤية إلى القيصريّة كلّها والجبال التي خلفها وإلى جوانبها. تطير الحَمَامات مِن الشُّرفة إلى الحديقة التي تكسوها النباتات والزهور، وبالعكس.

 

وبينما خادم عجوز يُضيف مقاعد أخرى، يُقدِّم إسحاق شرحاً: «بنيامين وحنّة لا يستقبلاننا، نحن فقط، بل أيضاً أولئك الذين يأتون بحثاً عنكَ. ويفعلان ذلك باسمكَ.»

 

«فلتباركهم السماء كلّ مرّة.»

 

«آه! نحن لدينا الوسائل، وليس لنا ورثة. في آخر حياتنا، تبنّينا مساكين الربّ كورثة لنا» تقول المرأة العجوز بكلّ بساطة.

 

ويضع يسوع يده على رأسها الشايب وهو يقول: «وهذا يجعلكِ أُمّاً كما لو أنّكِ وضعتِ سَبعاً وسَبع مرّات. إنّما الآن اسمحوا لي أن أشرح ما كانوا يرغبون معرفته، ليصبح بالإمكان صرف السكّان والجلوس إلى الطاولة.»

 

اجتاح الناس الشُّرفة وما يزالون يَدخُلون ليتراصّوا في الأمكنة الخالية. جَلَسَ يسوع وسط حلقة مِن الأطفال ينظرون إليه بعيونهم البريئة مغتبطين. يدير ظهره إلى الطاولة ويبتسم لهؤلاء الأطفال، حتّى وهو يتناول ذلك الموضوع الجادّ. يبدو وكأنّه يقرأ في تلك الوجوه البريئة كلمات الحقيقة التي طُلِب منه تفسيرها.

 

«اسمعوا. علامة يونا التي وعدتُ بها الأشرار، والتي أعدكم أنتم أيضاً بها، لستُ أقصد أنّكم أشرار، بل على العكس، لكي تتمكّنوا مِن بلوغ كمال الإيمان عندما سترونها تتحقّق، هي هذه. كما أنّ يونا أقام ثلاثة أيّام في بطن الوحش البحريّ ثمّ أعيد إلى الأرض ليهدي ويُخلِّص أهل نينوى، كذلك سيكون الأمر بالنسبة إلى ابن الإنسان. لتهدئة أمواج العاصفة الشيطانيّة العظيمة، سيظنّ عظماء إسرائيل أنّ التضحية بالبريء تنفع. ولن يفعلوا بذلك سوى تنامي مسؤولياتهم، لأنّه بالإضافة إلى الشيطان الذي يجعلهم يضطربون، سيكون هناك الله ليعاقبهم على جريمتهم. يمكنهم التغلّب على العاصفة الشيطانيّة بالإيمان بي، ولكنّهم لن يفعلوا، لأنّهم يَرَون فيَّ سبب اضطرابهم، ومخاوفهم، وأخطارهم، وكذب قداستهم غير الصادقة. ولكن، عندما تزفّ الساعة، فإنّ الوحش النَّهِم الذي هو بطن الأرض الذي يبتلع كلّ إنسان يموت، سيُفتح مِن جديد ليُعيد النور إلى العالم الذي أَنكَرَه.

 

هاكم إذن: فكما أنّ يونا كان بالنسبة إلى أهل نينوى علامة سلطان الربّ ورحمته، كذلك سيكون ابن الإنسان بالنسبة إلى هذا الجيل. بفارق أنّ نينوى اهتدت، أمّا أورشليم فلن تهتدي، ذلك أنّها ممتلئة مِن الجيل الفاسد الذي تحدّثتُ عنه. وكذلك ستقوم مَلِكة الجنوب يوم الدين مع هذا الجيل وتَحكُم عليه، لأنّها أتت في زمنه مِن أقاصي الأرض لتسمع حكمة سليمان، في الوقت الذي حَصَلَ هذا الجيل عليَّ في وسطه وهو لا يريد الاستماع إليَّ، ويلاحقني ويطردني كأبرص وخاطئ، أنا الأعظم مِن سليمان. وكذلك سيقوم أهل نينوى يوم الدين ضدّ هذا الجيل الفاسد الذي لا يهتدي مِن الربّ إلهه، وهم الذين اهتدوا مِن تبشير إنسان. وأنا أعظم مِن إنسان، وإن يكن هذا الإنسان يونا أو أحد الأنبياء.

 

سوف أُعطي علامة يونا إذاً لِمَن يطلب علامة دون التباس ممكن. إنّها علامة واحدة فقط، وهي علامة سأعطيها للذين لا يريدون أن يحنوا جباههم المتغطرسة أمام الأدلّة المعطاة حول الحيوات التي عادت بمشيئتي. سوف أُعطي كلّ العلامات. إنّ الجسد المتحلل يعود حيّاً وسليماً، وإنّ الجسد يقوم مِن ذاته لأنّ لروحه أُعطي كلّ سلطان. ولكنّها لن تكون نِعَماً. ولن تجعل الوضع أخفّ وطأة، لا هنا ولا في الكُتُب الأبديّة. ما كُتِب قد كُتِب. وكالحجارة مِن أجل الرجم المستقبليّ، سوف تتكدّس الأدلّة. لِمَن هُم ضدّي، كي يؤذوني دون أن يتمكّنوا مِن ذلك. مِن أجل أولئك، كي يعبروا إلى الأبديّة تحت دينونة الله المعدّة لغير المؤمنين الفاسدين.

 

تلك هي علامة يونا التي تحدّثتُ عنها. هل لديكم شيء آخر تَسأَلون عنه؟»

 

«لا، يا معلّم. سوف ننقل ذلك لرئيس معبدنا الذي كان قريباً جدّاً مِن الحقيقة في تقديره للعلامة الموعودة.»

 

«متّى رجل بارّ. والحقيقة تُكشَف للأبرار، كما تُكشَف لهؤلاء الأبرياء الذين يعرفون أفضل مِن أيّ آخر مَن أكون. وقبل أن تنصَرِفوا، اسمحوا لي أن أسمع التسبيح لرحمة الله مِن ملائكة الأرض. تعالوا أيّها الأولاد.»

 

والأولاد، الذين كانوا قد مَكَثوا بصعوبة هادئين، يَهرَعون إليه.

 

«قولوا لي، دون مكر، ما هي علامتي بالنسبة إليكم؟»

 

«هي أنّكَ صالح.»

 

«هي أنّكَ شَفيتَ أُمّي باسمكَ.»

 

«هي أنّكَ تحبّ الجميع حبّاً جمّاً.»

 

«هي أنّكَ جميل، ليس كما يمكن لإنسان أن يكون.»

 

«هي أنّكَ تُعيد إلى الصلاح، حتّى الذي كان سيّئاً كأبي.»

 

كلّ فم صغير يتفوّه بخاصّيّة ليسوع لطيفة، ويُذكِّر بآلام حوَّلَها يسوع إلى ابتسامات.

 

ولكنّ الأكثر لطفاً كان صغيراً في حوالي الأربع سنوات تسلَّقَ على ركبتي يسوع، ويُعانق رقبة يسوع بشدّة وهو يقول: «علامتكَ هي أنّكَ تحبّ الأطفال كثيراً، ويحبّكَ الأطفال كثيراً. يحبّونكَ بهذا القدر...» ويفتح ذراعيه الربيلتين (مُعَجْعِجَتَين)، ويضحك، ليعود إلى معانقة يسوع بشدّة وهو يفرك خدّه الطفوليّ بخدّ يسوع الذي يُعانِقه وهو يَسأَل: «ولكن لماذا تحبّونني كثيراً إذا كنتم لم تَروني مِن قبل؟»

 

«لأنّكَ تبدو ملاك الربّ.»

 

«أنتَ لم تَرَه قط، يا صغيري...» يقول يسوع مبتسماً ليختبره.

 

يبقى الولد للحظة حائراً، إنّما بعدئذ يضحك حتّى تظهر أسنانه الصغيرة، ويقول: «ولكنّ نفسي رأته! أُمّي تقول إنّها فيَّ، هي هنا، والله يراها، والنَّفْس رأت الله والملائكة وتراهم. ونفسي تعرفك لأنّكَ السيّد.»

 

يُقبِّله يسوع مِن جبهته قائلاً: «فلينمو النور في ذهنكَ بهذه القُبلة.» ويضعه على الأرض، ويركض الولد صوب أبيه وهو يقفز واضعاً يده على جبهته، في الموضع الذي تلقّى فيه القبلة، ويهتف: «إلى أُمّي، إلى أُمّي! فلتطبع قُبلتها في الموضع ذاته الذي طَبَعَها فيه السيّد، ولِيُعِد لها صوتها فلا تعود تبكي.»

 

ويُقَدَّم تفسير ليسوع: إنّها زوجة تَشكو مِن حنجرتها، وترغب في معجزة، وهي لم يبرئها التلاميذ الذين لم يتمكّنوا مِن بلوغ موضع هذا المرض لعمقه.

 

«سوف يُشفيها أصغر تلميذ، ابنها الصغير. امض بسلام أيّها الرجل. وليكن لكَ إيمان ابنكَ» يقول يسوع وهو يَصرف أبا الطفل.

 

يُعانِق بقيّة الأطفال الذين مَكَثوا، وهُم يريدون تلقّي القُبلة ذاتها على الجبهة، ويَصرِف السكّان. ويبقى معه التلاميذ وأهل قادس وأهل المناطق الأخرى.

 

بينما يتمّ الاهتمام بتوضيب المؤونة، يأمر يسوع بمغادرة كلّ التلاميذ في الغد، فيسبقونه إلى كفرناحوم للانضمام إلى آخرين قادمين مِن أمكنة أُخرى. «بعد ذلك تأخذون معكم سالومة وزوجة نثنائيل وفليبّس وبناتهما ويُوَنّا وسُوسَنّة طالما أنتم ماضون إلى الناصرة. وهناك تأخذون أُمّي وأُمّ إخوتي لتصحبوهنّ إلى بيت عنيا، إلى البيت الذي ينـزل يوسف فيه، على أملاك لعازر. وسنعود عن طريق المدن العشر.»

 

«ومارغزيام؟» يَسأَل بطرس.

 

«لقد قُلتُ: "اسبقوني إلى كفرناحوم". ولم أقل: "اذهبوا". لأنّ مِن كفرناحوم، يمكن إعلام النساء عن وصولنا، بشكل أن تكنّ جاهزات ساعة ذهابنا إلى أورشليم عَبْر المدن العشر. ومارغزيام الذي أضحى شاباً، سيمضي مع التلاميذ مرافقاً النساء...»

 

«هذا لأنّني... كنتُ أريد أخذ زوجتي المسكينة أيضاً إلى أورشليم. إنّها رغبتها الدائمة... ولم تأتها أبداً، ذلك أنّني لم أكن أريد المتاعب... ولكنّي أودُّ لو أُرضيها، هذه السنة. إنّها طيّبة جدّاً!»

 

«ولكن نعم، يا سمعان. سبب آخر كي يذهب مارغزيام معها. سوف نسافر على مهل وسنلتقي هناك...»

 

صاحب البيت العجوز يقول: «أهكذا وقت قصير عندي؟»

 

«أيّها الأب، ما زال لديَّ الكثير لأعمله، وأريد أن أكون في أورشليم على الأقلّ قبل الفصح بثمانية أيّام. وليكن بعلمكَ أنّ طور قَمر آذار (مارس) الأوّل قد انتهى...»

 

«صحيح. ولكنّني كم تمنّيتكَ! أن أحظى بكَ، يبدو لي وكأنّني في نور السماء... وسينطفئ النور لدى رحيلكَ.»

 

«لا، أيّها الأب. سوف أُبقيه لكَ في القلب، أنتَ وزوجتكَ. لكلّ هذا البيت المضيف.»

 

يَجلسون إلى الطاولة، ويصلّي يسوع صلاة التقدمة، ويبارك الطعام الذي يوزّعه بعدئذ الخادم على مختلف الطاولات.