ج9 - ف12
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: ماري حلمي وفيكتور مصلح.
الجزء التاسع
12- (الخميس السابق للفصح، I- النهار)
03 / 04 / 1947
صباح جديد. صاف جدّاً! مُفرِح جدّاً! لم يعد هناك ولا حتّى السُحُب النادرة الّتي كانت تطوف بالأمس على مهل عبر زرقة السماء. لم تعد هناك كذلك الحرارة الثقيلة الّتي كانت مضنية جدّاً بالأمس. نسمة رقيقة تلفح الوجوه. تحمل شيئاً مِن عطر الزهور، القشّ، الهواء النقيّ. وتُحرِّك ببطء أوراق الزيتون. تحسبها تريد أن تُعرِب عن إعجابها بلون الأوراق الصغيرة الرمحيّة الفضّيّ، وتنثر زهوراً صغيرة، بريئة، عَطِرة، على قدميّ المسيح، على رأسه الأشقر، تُقبّله، تُنعشه، إذ لكلّ كأس زهرة ناعم قطرته الصغيرة مِن الندى، فتُقبّله، تُنعشه ثمّ تموت قبل أن ترى الهول الـمُحدِق. وتميل أعشاب المنحدرات لتحرك التويجات، البراعم، والأوراق العريضة لآلاف الأزهار. نجوم ذوات قلب مِن ذهب، الأقحوانات الكبيرة البرّية تستقيم على سوقها كما لتُقبّل اليد الّتي ستُثقَب، وزهور اللؤلؤ والبابونج تُقبّل القدمين الكريمتين، اللتين لن تتوقّفا عن المشي من أجل خير البشر إلاّ حينما تُسَمّرا كي تمنحا خيراً أسمى بعد، وزهر النسرين يفوح عطره والزعرور الّذي لم تعد له أزهار يُحرّك أوراقه المطرّزة. يبدو وكأنّه يقول: «لا، لا.» لأولئك الّذين سيستخدمونه في تعذيب الفادي. و«لا.» يقولها أيضاً قصب القدرون. هو كذلك لا يريد أن يَضرب، فإرادتها كأشياء صغيرة لا تريد إلحاق الأذى بالربّ. وربما كذلك حجارة المنحدرات تغتبط لكونها خارج المدينة، في بستان الزيتون، كي لا تجرح هكذا الشهيد. ويبكي اللبلاب الرقيق الورديّ، الّذي كان يسوع يحبّه كثيراً، وكذلك الأكاسيا البريئة كعناقيد مِن الفراشات المتجمّعة على ساق. ربما تفكّر: «لن نراه بعد.» وزهر إذن الفأر الرقيق والنقيّ يدع تويجاته تسقط عندما تلمس الثوب القرمزيّ الّذي لبسه يسوع مِن جديد. يُفتَرض أن يكون جميلاً الموت حينما يأتي مِن يسوع الّذي يصدم. كلّ الزهور، حتّى زنبق الوادي التائه، الساقط هنا ربّما عرَضاً وتجذّر بين الجذور البارزة لشجرة الزيتون، هو سعيد لكون توما قد لَحِظه وقطفه وقدّمه للربّ... وسعيدة هي آلاف العصافير على الأغصان لكونها تحيّيه بتغاريد فرح! آه! العصافير الّتي أَحَبّها دائماً لا تلعنه! حتّى قطيع صغير مِن النعاج الّتي تبدو وكأنّها تريد أن تحيّيه رغم بكائها، كونها قد حُرمت مِن صغارها المباعة مِن أجل التضحية الفصحيّة. إنّه عويل أُمّهات يملأ الأجواء، وهي تثغو وتنادي صغارها الّتي لن تعود بعد، وتفرك أجسادها بيسوع وهي ترمقه بنظرتها الوديعة.
رؤية النعاج تُذكّر الرُّسُل بالطقس الفصحيّ ويسألون يسوع عندما يصبحون على مقربة مِن جَثْسَيْماني: «أين سنأكل الفصح؟ أيّ مكان تختار؟ قل، وسوف نذهب لإعداد كلّ شيء.»
ويهوذا الاسخريوطيّ: «أصدر لي الأوامر وسأذهب.»
«بطرس، يوحنّا، اسمعاني.»
الاثنان، اللذان كانا متقدّمين قليلاً، يقتربان مِن يسوع الّذي ناداهما.
«اسبقانا وادخلا المدينة مِن باب الزبل. وبمجرّد دخولكما ستلتقيان برجل عائد مِن عين روجيل حاملاً جرّة ماء مِن مائها الطيّب. اتبعاه حتّى يدخل أحد البيوت. وقولا لِمَن يتواجد فيه: "المعلّم يقول: ’أين هي الغرفة الّتي يمكنني أن آكل فيها الفصح مع تلاميذي؟‘". وهو يريكما علّية كبيرة جاهزة. فأَعِدّا فيها كلّ ما يلزم. امضيا بسرعة ثمّ الحقا بنا إلى الهيكل.»
يمضي الاثنان بسرعة. يسوع، على العكس، يتقدّم ببطء. ما تزال الصبيحة باردة والشوارع الّتي تؤدّي إلى المدينة تُظهِر تماماً أوائل الحجاج. يعبرون القدرون مِن على الجسر الصغير الّذي يسبق جَثْسَيْماني. يَلِجون المدينة. الأبواب لم يعد عليها حراسة مِن الجنود، ربّما على أثر أمر عسكريّ معاكس مِن بيلاطس، المطمئنّ نتيجة غياب المجادلات حول يسوع. بالفعل، يسود هدوء عظيم في كلّ مكان.
آه! لا يمكن القول إنّ اليهود لم يُحسِنوا تمالك أنفسهم! فلا أحد منهم قد ضايق المعلّم ولا تلاميذه. إنّهم يتصرّفون باحترام إن لم يكن بمودّة، وكأناس خَلوقين، فقد حيّوه دائماً، حتّى وإن كان الّذين يحيّونه هم الأكثر كراهية له مِن أعضاء السنهدرين. صبر لا مثيل له رافق حتّى اتّهامات الأمس. وها الآن كذلك بالضبط، ذلك أنّ منـزل قيافا الريفيّ قريب جدّاً مِن هذا الباب، وها الآن بالضبط يمرّ، قادمين مِن ذاك المنزل، جمع غفير مِن الفريسيّين والكَتَبَة، بينهم ابن حنّان، أليشع مع دوراس وصادوق. وبانحناءات شخصيّات بأردية واسعة، يحيّون وسط تموّجات الملابس والأهداب وأغطية الرأس الواسعة جدّاً. يحيّي يسوع ويمرّ، ملوكيّ هو في ثوبه الصوفيّ الأحمر وردائه ذي اللون الداكن، وفي يده غطاء الرأس الّذي مِن سِنْتيخي، الشمس الّتي تجعل مِن شعره الأحمر النحاسيّ إكليلاً مِن ذهب ووشاحاً برّاقاً ينسدل حتّى كتفيه. تستقيم الظهور بعد مروره وتظهر وجوه الضباع المسعورة.
يهوذا الاسخريوطيّ، الّذي لم يكن يكفّ عن النظر حوله بوجهه الخائن، وبحجّة إعادة ربط شريط الحذاء، يبتعد إلى حافّة الطريق، وأراه جيّداً، يشير إلى هؤلاء القوم الّذين كانوا ينتظرونه... يترك مجموعة يسوع والتلاميذ تتقدّم، ويظلّ منشغلاً بربط سير الحذاء ليمنح نفسه فرصة، ثمّ يمرّ بسرعة بجانب أولئك الناس ويهمس: «عند باب الجَمِيلُ [أحد أبواب الهيكل]، حوالي الساعة السادسة. واحد منكم.» ثمّ ينسلّ مسرعاً ليلحق برفاقه. إنّه مجاهر، مجاهر بصفاقة!...
يصعدون إلى الهيكل. ما يزال هناك القليل مِن اليهود، إنّما الكثير مِن الأمميّين. يمضي يسوع ليتعبّد للربّ. ثمّ يعود أدراجه ويأمر سمعان وبرتلماوس أن يشتريا الحَمَل آخذين النقود مِن يهوذا الاسخريوطيّ.
«ولكن أنا كان بإمكاني فِعل ذلك!» يقول هذا الأخير.
«سيكون لكَ عمل آخر، أنتَ تعرفه. هناك تلك الأرملة الّتي يجب إيصال عطيّة مريم أخت لعازر إليها، والقول لها أن تأتي بعد الأعياد إلى منزل لعازر في بيت عنيا. هل تعلم أين هي؟ هل فهمتَ جيّداً؟»
«أعلم، أعلم! زكريّا الّذي يعرفها جيّداً دلّني على المكان.» ويضيف: «أنا مسرور للغاية بذهابي إلى هناك، أكثر مِن الذهاب لأجل الحَمَل. متى أذهب؟»
«لاحقاً. لن أتوقّف كثيراً هنا. اليوم سأستريح لأنّني أريد أن أكون قويّاً هذا المساء ومِن أجل صلاتي ليلاً.»
«حسناً.»
إنّني أتساءل: يسوع، الّذي التزم الصمت حول نواياه في الأيّام السابقة حتّى لا يعطي التفاصيل ليهوذا، لماذا الآن يقول، ويردد ما ينوي القيام به في الليل؟ هل الآلام بدأت بالفعل بالتعامي عن احتراسه، أو لأنّ هذا الاحتراس قد عظم للغاية فقرأ في كتب السماوات أنّ "هذه هي الليلة" وبالتالي يجب أن يُعلِم مَن ينتظر معرفة ذلك كي يسلمه إلى أعدائه، أو لأنّه عرف دوماً أنّ هذه الليلة هي بداية تقدمته كذبيحة؟ لا أستطيع أن أجد إجابة. ويسوع لم يعط لي إجابة. وأبقى مع هذا الكمّ مِن الـ لماذا أثناء مراقبتي يسوع وهو يشفي أواخر مرضاه... الأواخر، فغداً، بعد ساعات قليلة مِن الآن، لن يعود بإمكانه ذلك... ستُحرَم الأرض مِن شافي الأجساد ذي السلطان. والضحيّة، آنئذ، سيبدأ على صليبه السلسلة المتواصلة منذ عشرين قرناً لشفاءاته الروحيّة.
اليوم أتأمّل أكثر ممّا أصف. يجعلني ربّي أوجّه نظري الروحيّ ابتداءً ممّا أراه يحصل، في آخر يوم لحريّة المسيح، حتّى مدى العصور.. اليوم أتأمّل الأحاسيس، أفكار المعلّم أكثر منه الأحداث المحيطة به. الآن أدرك، قلقة، عذابه في جَثْسَيْماني…
يسوع تحصره كالمعتاد الجموع الّتي زاد عددها، والّتي هي الآن في غالبيّتها مِن اليهود، والّذين نسوا الإسراع إلى مكان التضحية بالحملان كي يقتربوا مِن يسوع، حَمَل الله الّذي سيضحّى به. ويطلبون بعد، ويريدون المزيد مِن الشروح. كثيرون هم مِن اليهود الآتين مِن الشتات، والّذين، إذ سمعوا الكلام عن المسيح، النبيّ الجليليّ، رابّي الناصرة، فهم يشعرون بالفضول لسماعه يتكلّم، وهم متلهّفون لأن يزيلوا عنهم كلّ شكّ ممكن. وهؤلاء يَشقّون لهم ممراً متوسّلين هكذا إلى يهود فلسطين: «هو معكم دائماً. أنتم تعرفون مَن يكون. وتحظون بكلامه متى شئتم. نحن أتينا مِن البعيد وسوف نرحل على الفور بعد أن نتمّ الشريعة، دعونا نذهب إليه!»
يتباعد الجمع بصعوبة كي يفسحوا لهم مجالاً. وهؤلاء يتقدّمون نحو يسوع ويرمقونه بفضول. يتكلّمون فيما بينهم، بمجموعات. يسوع يرمقهم كذلك وهو يُنصِت إلى مجموعة أتت مِن البيريه. وبعدما يقدّمون له مالاً مِن أجل فقرائه، كما يفعل كثيرون، ويمرّره كالمعتاد إلى يهوذا، يصرفهم ويبدأ الكلام.
«متّحدين بالدين، ولكن مِن منابت مختلفة، كثير مِن الحاضرين يتساءلون: "مَن يكون ذاك المدعو ناصريّاً؟" وتختلط آمالهم بشكوكهم.
اسمعوا. قيل عنّي: "يَخرج قضيب مِن جذر يسّى، وينمو فرع مِن أصوله ويستقرّ عليه روح الربّ. لا يقضي بحسب الظاهر في العيون ولا يحكم بحسب سماع الأذنين. بل يقضي للمساكين بعدل ويدافع عن المتواضعين. ويكون قضيب أصل يسّي علامة وسط الأمم، وإيّاه تترجّى الشعوب ويكون مثواه مجيداً. وبعد أن يرفع رايته للأمم، يجمع لاجئي إسرائيل، المشتَّتين مِن يهوذا، يجمعهم مِن أربعة أطراف الأرض". وقيل عنّي: "هوذا، السيّد الربّ يأتي بسلطان، وذراعه تنتصر. يحمل معه ثوابه، وعمله قدّام عينيه. وسيرعى قطيعه كالراعي". وقيل عنّي: "هوذا خادمي الّذي سأكون معه، وبه تُسرّ نفسي. قد جعلتُ روحي عليه. فهو سيجلب العدل بين الأمم. هو لن يصيح، قصبة مرضوضة لن يكسر، وفتيلاً مدخّناً لن يطفئ. سيقضي بالعدل بحسب الحقّ. ودون أن يَحزن ويَضطرب، سيتوصّل إلى أن يحقّق العدل في الأرض، والجُزُر ستنتظر شريعته". وقيل عنّي: "أنا، الربّ، دعوتُكَ في العدل، أخذتُ بيدكَ، حفظتُكَ، جعلتُكَ عهداً للشعب ونوراً للأمم كي تفتح العيون العمياء وتُخرِج الأسرى مِن السجن، والقابعين في ظلمات السجن السفليّ". وقيل عنّي: "روح الربّ عليّ، لأنّ الربّ مسحني لأبشّر الودعاء، لأجبر منكسري القلب، لأنادي بالعتق للعبيد، بالتحرير للمأسورين، وأُعلِن سنة نعمة الربّ". وقيل عنّي: "هو القويّ، الّذي سيرعى القطيع بقوّة الربّ، بعظمة اسم الربّ إلهه. إليه يهتدون، لأنّه مِن الآن يتمجّد، إلى أقاصي الأرض". وقيل عنّي: "سأذهب بنفسي أبحث عن خرافي. سأذهب للبحث عن الخراف الضائعة، وأردّ المطرودة منها، وأجبر المكسورة وأقوّي الضعيفة وأحفظ السمينة والقويّة، وأرعاها بعدل". وقيل: "هو أمير السلام ويصبح هو السلام". وقيل: "هو ذا يأتي مَلِككَ، العادل، المخلّص. هو فقير، يركب على أتان. هو سيعلن السلام للأمم. وسيكون سلطانه مِن بحر إلى بحر إلى أقاصي الأرض". وقيل: "إنّ سبعين أسبوعاً حُدّدت لشعبكَ ولمدينة قدسكَ لاجتثاث قلّة الأمانة وإزالة الخطيئة، ومحو الظلم والإتيان بالعدل الأبديّ، وتحقيق الرؤى والنبوءات، ومسح قدّوس القدّيسين. وبعد سبعة إضافة إلى الاثنين والستّين سيأتي المسيح. بعد الاثنين والستّين سيُقتَل. وبعد أسبوع واحد هو سيثبّت العهد، ولكن في منتصف الأسبوع تُبطَل الذبائح والتقادم، وفي الهيكل تقوم رجاسة الخراب، وستستمرّ إلى آخر العصور".
ألن تكون هناك تقدمات إذن في هذه الأيّام؟ ألن يكون للمذبح أضحية؟ ستكون له الضحيّة العظمى. هذا ما رآه النبيّ: "مَن ذا الآتي بثياب مصبوغة بالحُمرة؟ هذا الّذي يتباهى بلباسه ويختال بعظمة قوّته".
وكيف، الفقير، يُصبَغ ثوبه بالأرجوان؟ ها هو النبيّ يقول ذلك: "لقد أسلمتُ جسدي للّذين كانوا يضربونه، وخدّي للذي كان ينتف لحيتي، ولم أستر وجهي عن الّذي كان يُعيّرني. ضاع جمالي وبهائي، لم يعد يحبّني الناس. مزدرى مِن الناس ومعتبر كآخر الكلّ! رجل أوجاع، وجهي يُحجَب ويُحتقر، وسينظرون إليّ كأبرص، بينما مِن أجل الجميع سأصير مُغطّى بالجروح وميتاً. هو ذا الضحيّة! لا تخف يا إسرائيل! لا تخف! لن يُفقَد الحَمَل الفصحيّ! لا تخافي أيّتها الأرض! لا تخافي. ها هو المخلّص. كشاة سوف يساق إلى الذبح لأنّه هو أراد ذلك، ولم يفتح فاه ليلعن قاتليه. وبعد إدانته سيُرفع ويُسحق بالآلام، ستتخلّع أعضاؤه، وتنكشف عظامه، وتُثقب يداه ورجلاه. ولكن بعد الضيق، الّذي به سيبرّر كثيرين، ستكون له أعداد كثيرة لأنّه، بعد أن يكون قد أسلم حياته إلى الموت مِن أجل خلاص العالم، سيقوم ويحكم الأرض، سيروي الناس مِن المياه الّتي رآها حزقيال، الّتي كانت تخرج مِن الهيكل الحقيقيّ الّذي، وإن هُدِم، سيرتفع مجدّداً بقوّته الذاتية، بالخمر الّذي به يُصبَغ بالأرجوان الثوب الأبيض للحَمَل الّذي بلا عيب، وبالخبز النازل مِن السماء."
إن كنتم عطاشاً، تعالوا إلى المياه! جياعاً، فلتأكلوا! متعَبين ومرضى اشربوا خمري! تعالوا، أنتم يا مَن لا تملكون مالاً، أنتم يا مَن لا صحّة لكم، تعالوا! وأنتم يا مَن في الظلمات! وأنتم أيّها الموتى، تعالوا! فأنا الغنى والخلاص. أنا النور والحياة. تعالوا، يا مَن تبحثون عن الطريق! تعالوا يا مَن تبحثون عن الحقّ! فأنا الطريق والحقّ! لا تخافوا مِن ألاّ تتمكّنوا مِن أكل الحَمَل لأنّ هذا المعبد المدنَّس تنقصه الذبيحة المقدَّسة بحقّ. سيكون لجميعكم أن تأكلوا مِن حَمَل الله الآتي ليمحو خطايا العالم، كما قال عنّي آخر أنبياء شعبي.
هذا الشعب الّذي أسأله: "يا شعبي، ماذا فعلتُ لكَ؟ بماذا أحزنتُكَ. ما الّذي كان يمكن أن أمنحكَ إيّاه أكثر ممّا منحتُكَ؟ ثقّفتُ عقولكَ، شفيتُ مرضاكَ، أفضتُ الخير على فقرائكَ، أشبعتُ جموعكَ، أحببتُكَ بأبنائكَ، غفرتُ، صلّيتُ مِن أجلكَ. لقد أحببتُكَ حتّى التضحية. وأنتَ، ماذا تُعدّ لربّكَ؟ ساعة، وهي الأخيرة، أُعطيت لكَ أيا شعبي، أيا مدينتي الـمَلَكيّة والمقدّسة. ارجعي إلى الربّ إلهكِ في هذه الساعة!»
«لقد قال الكلام الحقّ!»
«هو هكذا قيل! هو بحقّ يفعل ما قيل!»
«كمثل راع قد اعتنى بالجميع!»
«كما لو كنّا النعاج المشتّتة، المريضة، في الضباب، وهو أتى كي يقودنا إلى الدرب الصحيح، كي يشفي نفوسنا وأجسادنا، كي ينيرنا.»
«حقّاً إنّ كلّ الشعوب تأتي إليه. انظروا إلى مدى إعجاب أولئك الأمميّين هناك!»
«أَعلَن السلام.»
«مَنَح المحبّة.»
«لستُ أفهم ما الّذي يقصده بالتضحية. يتكلّم كما لو أنّه مِن المفروض أن يُقتَل.»
«الأمر هو هكذا، إن كان هو الإنسان الّذي رآه الأنبياء، المخلّص.»
«ويتكلّم كما لو كان المفروض أن يسيء الشعب كلّه معاملته. وهذا لن يحدث أبداً. الشعب، نحن، ونحن نحبّه.»
«إنّه صديقنا. سندافع عنه.»
«هو جليليّ، ونحن مِن الجليل، سنبذل حياتنا مِن أجله.»
«إنّه مِن نسل داود، ولن نرفع يدنا إلاّ للدفاع عنه، نحن أهل اليهوديّة.»
«ونحن، الّذين أحبّنا كما أحبّكم أنتم، نحن أهل حورانيطس [حوران]، البيريه، المدن العشر، أيمكننا أن ننساه؟ كلّنا، كلّنا سندافع عنه.»
هذه كانت أقوال الجموع الّتي أضحت حاشدة جدّاً. يا لهشاشة النوايا البشريّة! بحسب موقع الشمس أظنّ أن الساعة هي حوالي التاسعة صباحاً. بعد أربع وعشرين ساعة، سيكون هؤلاء قد تجمهروا حول الشهيد منذ ساعات عديدة كي يعذّبوه بالكراهية والضرب، وسيزعقون طالبين موته. قلائل، قلائل جدّاً، أقلّ القليل مِن بين آلاف البشر الّذين يتدافعون مِن كلّ صوب في فلسطين وما وراءها، والّذين نالوا النور، الصحّة، الحكمة، والغفران مِن المسيح، سيكونون هم الّذين ليس فقط لا يعملون على انتزاعه من أعدائه، لأنّ عددهم الضئيل بالنسبة لأعداد الّذين يضربونه الغفيرة يمنعهم مِن ذلك، إنّما كذلك لن يجيدوا مواساته بتقديم الدليل على محبّتهم باتّباعه بوجه صديق.
إنّ التبجيلات، التأييد، تعليقات الإعجاب تنتشر عبر الباحة الكبيرة كالأمواج الآتية مِن عرض البحر، لتموت بعيداً عند الضفّة.
يسعى بعض الكَتَبَة والفرّيسيّين واليهود لتحييد حماسة الشعب، وكذلك هيجانه ضدّ أعداء المسيح، قائلين: «إنّه يهذي. إنّ تعبه شديد لدرجة تقوده إلى الهذيان. فيرى الاضطهاد حيث التبجيل. في كلامه سيل مِن حكمته المعتادة، ولكنّها مختلطة بعبارات مِن الهذيان. لا أحد يريد به شرّاً. لقد أدركنا، أدركنا مَن يكون...»
ولكنّ الناس لا يثقون بتغيّر بالغ في المزاج كهذا، ممّا يدفع أحدهم للثورة قائلاً: «لقد شفى ابني المعتوه. وأنا أعلم ما معنى الجنون. فليس هكذا يتكلّم المجنون!»
وآخر: «دعهم يقولون. فهم أفاعي يخافون مِن أن تُحطِّم عصا الشعب كِلاهم [جمع كُلْية]. إنّهم يغنّون تغريد العندليب العذب لخداعنا، ولكنّكَ لو تنصت جيّداً فهناك فحيح أفعى.»
وآخر أيضاً: «يا حرّاس شعب المسيح، احترسوا! حينما يُلاطِف العدوّ فخنجره مخبّأ في كمّه ويمدّ يده ليضرب. لتكن العينان مفتوحتين والقلب متأهّباً! فلا يمكن لأبناء آوى أن تستحيل حملاناً وديعة.»
«تجيد القول: فالبومة تُفرِح وتسحر العصافير الساذجة بسكون جسمها وبهجة تحيّتها الزائفة. تضحك وتدعو بصيحتها، ولكنّها تكون متأهّبة للافتراس.»
وهكذا مِن مجموعة إلى أخرى.
ولكن هناك أيضاً الأمميّون، أولئك الأمميّون الّذين كان عددهم يتزايد باطّراد ولا يتأخرون عن الاستماع إلى المعلّم في أيّام الأعياد هذه. دائماً هم على هامش الجمع، لأنّ النزعة التفوّقيّة اليهوديّة-الفلسطينيّة شديدة جدّاً وتدفعهم مبتغيةً الأماكن الأوّلى حول المعلّم، ولكنّهم يرغبون في الاقتراب منه والتحدّث إليه. تلمح مجموعة كبيرة منهم فيلبّس الّذي دفعه الجمع إلى ركن. يقتربون منه قائلين: «يا سيّد، نودّ أن نرى عن قرب يسوع، معلّمكَ، ونتحدّث إليه مرّة على الأقلّ.»
يقف فيلبّس على أطراف أصابع قدميه ليرى إن أمكنه رؤية رسول ما أكثر قرباً مِن الربّ. يرى أندراوس ويناديه صائحاً: «هنا أمميّون يودّون تحيّة المعلّم. اسأله إن كان يريد استقبالهم.»
أندراوس الّذي يبعد عن يسوع عدّة أمتار، يزحمه الجمع، يشقّ له ممرّاً دون كثير مراعاة، مستخدماً بوفرة الكوعين وصائحاً: «أَفسِحوا المجال! أَفسِحوا المجال أقول لكم! يجب أن أذهب إلى المعلّم.»
يصل إليه وينقل إليه رغبة الأمميّين.
«قدهم إلى ذاك الركن. وسأذهب إليهم.»
وبينما يحاول يسوع المرور بين الناس، فإنّ يوحنّا، الّذي رجع مع بطرس، بطرس نفسه، يوضاس تدّاوس، يعقوب بن زَبْدي وتوما، الّذي ترك مجموعة أهله المتواجدين وسط الجمع كي يساعد رفاقه، يجهدون لشقّ طريق له.
ها هو يسوع هناك حيث الأمميّون الّذين يحيّونه.
«السلام لكم. ماذا تريدون منّي؟»
«أن نراكَ. أن نحدّثكَ. كلامكَ جعلنا نضطرب. لطالما رغبنا في محادثتكَ منذ زمن بعيد لنقول لكَ إنّ كلامكَ يؤثّر فينا، إنّما كنّا ننتظر اللحظة المناسبة للقيام بذلك. اليوم... أنتَ تتكلّم عن الموت... ونحن نخشى عدم التمكّن مِن التحدّث إليكَ إن لم نستغلّ هذه الساعة. ولكن هل يمكن لليهود أن يقتلوا أفضل ابن لهم؟ نحن أمميّون، ويدكَ لم تفعل لنا خيراً. كلمتكَ كنّا نجهلها. كنّا قد سمعنا عنكَ بشكل مبهم، إنّما لم نكن قد رأيناكَ ولا اقتربنا منكَ. ومع ذلك، كما ترى! نحن نكرّمكَ. والعالم بأكمله يجلّكَ معنا.»
«نعم، أتت الساعة الّتي يُمَجَّد فيها ابن الإنسان مِن الناس والأرواح.»
يعود الجمع مِن جديد الآن ليحيط بيسوع، مع الاختلاف أنّ الأمميّين في الصفّ الأوّل والآخرين إلى الخلف.
«ولكن إذاً، إذا كانت ساعة تمجيدكَ هي هذه، فلن تموت كما تقول أو كما فهمنا. ذلك أنّه ليس الموت بهذه الطريقة تمجيداً. كيف سيمكنكَ أن تجمع العالم تحت رايتكَ إذا ما متّ قبل أن تفعل ذلك؟ إذا ما توقّف ذراعكَ عن الحركة في الموت، فكيف تستطيع أن تنتصر وتجمع الشعوب؟»
«بموتي أمنح الحياة. بموتي أَبني. بموتي أخلق الشعب الجديد. فبالتضحية بلوغ النصر. الحقّ أقول لكم إنّ حبّة الحنطة الواقعة على الأرض إن لم تمت، تبقى عقيمة، ولكن، على العكس، إن ماتت، فهي تأتي بثمر كثير. مَن يحبّ حياته فإنّه يفقدها، ومَن يبغض حياته في هذا العالم، فإنّه سيحفظها للحياة الأبديّة. ومِن ثمّ، عليَّ واجب أن أموت لأمنح هذه الحياة الأبديّة لكلّ مَن يتبعني كي أخدم الحقّ. مَن أراد أن يخدمني فليُقبل: الأمكنة ليست محدّدةً في ملكوتي لهذا الشعب أو ذاك. مَن يريد خدمتي، أيّاً كان، فليأتِ ويتبعني، وحيث أكون أنا، سيكون خادمي. ومَن يخدمني سيكرّمه أبي، الواحد، الله الحقّ، ربّ السماء والأرض، خالق كلّ ما هو موجود، الفِكر، الكلمة، المحبّة، الحياة، الطريق، الحقّ، الّذي هو الآب، الابن، الروح القدس، واحد مع كونه ثالوثاً، وثالوث وهو واحد، الأوحد، الله الحقّ. إنّما الآن نفسي مضطربة. ماذا سأقول؟ ربّما سأقول: "يا أبت نجّني مِن هذه الساعة؟" لا، لأنّني مِن أجل هذا أتيتُ: مِن أجل الوصول إلى هذه الساعة. إذاً سأقول: "يا أبتِ مجّد اسمكَ!"»
يفتح يسوع ذراعيه مثل صليب، صليب أرجوانيّ أمام بياض مرمر الرواق، ويرفع وجهه، مصلّياً، مقدّماً ذاته، مرتفعاً بنفسه إلى الآب.
وصوت، أقوى مِن الرعد، لا ماديّ بمعنى أنّه لا يشبه أيّ صوت بشريّ، ولكنّه مرهف جدّاً لكلّ أذن، يملأ السماء الصافية في نهار نيسان [أبريل] الرائع، يرتجّ، أكثر قوّة مِن ائتلاف أرغن عملاق، جميل جدّاً في نغمته، ويعلن: «وأنا مجّدته وسأمجده أيضاً.»
لقد خاف الناس. هذا الصوت، القويّ للغاية الّذي جعل الأرض وما عليها تهتزّ، هذا الصوت الغامض، المختلف عن أيّ صوت آخر، الّذي يأتي مِن مصدر مجهول، هذا الصوت الّذي يملأ كلّ شيء، مِن الشمال إلى الجنوب، ومِن المشرق إلى المغرب، يُرعِب اليهود ويُذهِل الأمميّين. الأوّلون، حينما يستطيعون إلى ذلك سبيلاً، يرتمون أرضاً، هامسين في رعبهم: «سوف نموت الآن! لقد سمعنا صوت السماء. لقد كَلّمَهُ ملاك!» ويقرعون صدورهم منتظرين الموت. والآخرون يصيحون: «رعد، هدير، فلنهرب! الأرض زأرت، ارتجّت!» ولكن الهروب مستحيل في هذا الحشد الغفير الّذي يتزايد عندما الناس الّذين كانوا ما يزالون خارج أسوار الهيكل، يهرعون إلى الداخل وهم يصيحون: «الرحمة لنا! فلنهرع! هذا هو المكان المقدّس. لن يتصدّع الجبل حيث يرتفع هيكل الله!» وهكذا يبقى الكلّ في مكانه، حيث يثبّتهم الجمع والهلع.
على شرفات الهيكل يجري الكَهَنَة، الكَتَبَة، الفرّيسيّون، الّذين كانوا مشتّتين في تعرّجاته، واللاويّون والقضاة. مضطربين، مذهولين. ولكن مِن كلّ هؤلاء لم ينـزل بين الناس الّذين في الباحات سوى غَمَالائيل مع ابنه. يراه يسوع مارّاً، في لباسه الكتّاني الأبيض بالكامل، والّذي لشدّة بياضه يتألّق تحت الشمس المشرقة الّتي تسطع عليه.
يسوع ينظر إلى غَمَالائيل، إنّما كما لو أنّه كان يكلّم الجميع، يرفع صوته قائلاً: «ليس مِن أجلي، بل مِن أجلكم قد أتى هذا الصوت مِن السماء.»
يتوقّف غَمَالائيل، يلتفت، يخترق بنظرات عينيه العميقتين والسوداوين جدّاً -حيث الاعتياد على تبجيل المعلّم كما شبه إله يجعلها بشكل لا إرادي قاسية مثل نظرات الكواسر- نظرة يسوع السفيريّة، الصافية، الوديعة في جلالها…
ويتابع يسوع: «الآن هي دينونة هذا العالم. الآن سيُلقى أمير الظلام خارجاً. وأنا، عندما سأرتفع، سأجذب إليّ الجميع، لأنّ هكذا يحقّق ابن الإنسان الخلاص.»
«إنّنا قد تعلّمنا مِن كُتُب الشريعة أنّ المسيح يحيا إلى الأبد. وأنتَ تقول إنّكَ المسيح وإنّه ينبغي أن تموت. وتقول أيضاً إنّكَ ابن الإنسان وإنّكَ ستُخلِّص لأنّكَ ستُرفع. مَن أنتَ إذاً؟ ابن الإنسان أم المسيح؟ مَن هو ابن الإنسان؟» يقول الجمع الّذي يستعيد جسارته.
«إنّهما واحد. افتحوا عيونكم للنور. النور معكم زماناً يسيراً بعد، فسيروا صوب الحقّ ما دام النور وسطكم، لئلاّ يدرككم الظلام. لأنّ الّذين يمشون في الظلام لا يدرون إلى أين سوف ينتهي بهم الأمر. ما دام النور معكم، فآمنوا به، لتكونوا أبناء النور.» يصمت.
الجمع حائر ومنقسم. جزء منهم يمضي وهو يهزّ رأسه. وجزء يراقب موقف كبار الشخصيّات: الفرّيسيّين، رؤساء الكَهَنَة، الكَتَبَة... وخاصة غَمَالائيل، ويضبطون سلوكهم على ذلك الموقف. آخرون أيضاً يوافقون بهزّ رؤوسهم وينحنون أمام يسوع بإشارات غاية الوضوح تقول: «نحن نؤمن! ونبجّلكَ لما أنتَ كائنه.» لكنهم لا يجرؤون على اتّخاذ موقف صريح لصالحه. إنّهم يخافون مِن عيون أعداء المسيح المنتبهة، مِن أصحاب السلطة، الّذين يراقبونهم مِن على الشرفات الـمُطلَّة على الأروقة الرائعة المحيطة بحَرَم الهيكل.
غَمَالائيل أيضاً، بعد أن ظلّ مفكّراً بضعة دقائق، وكأنّه يسأل الأرضيّة الرخاميّة لعلّه يجد إجابة عن الأسئلة الّتي يطرحها على نفسه، يتوجّه مِن جديد إلى الـمَخرَج بعد حركة مِن رأسه وكتفيه تترجم خيبته أو ازدراءه... ويمرّ مباشرة أمام يسوع، دون أن ينظر إليه بعد.
يسوع، مِن جانبه، ينظر إليه بشفقة... ويرفع مِن جديد صوته بقوّة -مثل بوق برونزيّ- ليعلو على كلّ الأصوات وليسمعه الكاتب العظيم الّذي مضى خائب الظنّ. يبدو وكأنّه يتكلّم للجميع، ولكن مِن الواضح أنّه يتحدّث إليه وحده. يقول بصوت قويّ جدّاً: «مَن يؤمن بي فليس بي بالحقيقة يؤمن، بل بالّذي أرسلني، ومَن يراني، فإنّه يرى الّذي أرسلني. وهو بحقّ إله إسرائيل! لأنّه ما مِن إله آخر غيره. كذلك أقول لكم: إن لم تتمكّنوا مِن الإيمان بي لأنّني أُدعى ابن يوسف مِن نسل داود، وابن مريم مِن نسل داود، العذراء الّتي رآها النبيّ، المولود في بيت لحم، كما قيل في النبوءات، الّذي تَقدَّمَه المعمدان، كما قيل أيضاً منذ عصور، فآمنوا على الأقل بصوت إلهكم الّذي كلّمكم مِن السماء. آمنوا بي كابن لإله إسرائيل هذا. فإنّكم إذا لم تؤمنوا بمن كلّمكم مِن السماء، فليس أنا مَن تهينون، بل إلهكم الّذي أنا ابنه.
لا تكن إرادتكم أن تمكثوا في الظلمات! أنا أتيتُ إلى العالم نوراً حتّى إنّ كلّ مَن يؤمن بي لا يمكث في الظلام. لا تُسبّبوا لأنفسكم ندماً لن تعودوا تتمكّنون مِن تهدئته حينما أكون قد عدتُ إلى مِن حيث أتيتُ، ويصبح عقاب الله لكم شديداً مِن أجل صلابة رؤوسكم. أنا متأهّب للغفران طالما أنا وسطكم، ومادامت الدينونة لم تَقم، وفيما يخصّني، لي رغبة أن أغفر. ولكنّ فِكر أبي مختلف، ذلك أنّني أنا الرحمة وهو العدل.
الحقّ أقول لكم أنّه إن كان أحد يسمع أقوالي ولا يحفظها، فلستُ أنا مَن يدينه. فأنا لم آتِ إلى العالم لأدينه، بل لأخلّصه. إنّما وإن أنا لم أدِن أحداً، فالحقّ أقول لكم إنّ هناك مَن يدين أعمالكم. إنّ أبي، الّذي أرسلني، يدين الّذين يرفضون كلمته. نعم، مَن يحتقرني ولا يقبل كلمة الله ولا يتقبّل أقوال الكلمة، فهذا سيكون له ليدينه: الكلمة ذاتها الّتي أعلنتُها وهي الّتي ستدينه في اليوم الأخير.
قيل: لا سخرية مِن الله. والله الّذي يُهزأ به يكون رهيباً مع أولئك الّذين يصمونه بالجنون والكذب.
تذكّروا جميعكم أنّ الكلام الّذي سمعتموه منّي هو مِن الله. ذلك أنّي لم أتكلّم مِن نفسي، لكنّ الآب الّذي أرسلني، هو بذاته أوصاني بما عليَّ أن أقول وعن ماذا عليَّ أن أقول. وأنا أطيع وصيّته لأنّني أعلم أنّ وصيّته حقّ. كلّ وصيّة مِن الله هي حياة أبديّة، وأنا، معلّمكم، أعطيكم مثالاً في الطاعة لكلّ وصيّة مِن الله. كونوا إذن على يقين أنّ ما قلتُه لكم وأقوله لكم، قد قلتُه وأقوله كما قال لي الآب أن أقوله لكم. وأبي هو إله إبراهيم، إسحاق ويعقوب؛ إله موسى، الآباء والأنبياء، إله اسرائيل، إلهكم.»
كلمات نور تسقط في الظلمة الّتي تزداد قتامة في القلوب!
غَمَالائيل الّذي كان قد توقّف مِن جديد، حاني الرأس، يعاود المسير.. آخرون يتبعونه وهم يهزّون رؤوسهم أو يسخرون.
يمضي يسوع أيضاً... وقبل ذلك يقول ليهوذا الاسخريوطيّ: «اذهب إلى حيث عليكَ أن تذهب.» وللآخرين: «كلّ منكم حرّ في أن يذهب. حيث ينبغي له أو حيث يرغب. وليمكث معي التلاميذ الرعاة.»
«آه! خذني معكَ أيضاً يا ربّ!» يقول استفانوس.
«تعال...»
يتفرّقون. لا أعرف أين يمضي يسوع. ولكنّي أعلم أين يمضي يهوذا الاسخريوطيّ. يذهب إلى الباب الجميل، مرتقياً الدرجات المؤدّية مِن ردهة الأمميّين إلى ردهة النساء، وبعد أن يجتازه، مرتقياً في نهايته درجات أخرى، يُلقي نظرة على بهو اليهود، وبغضب يضرب الأرض بقدمه لأنّه لم يجد مَن يبحث عنه. يعود أدراجه. يرى أحد حرّاس الهيكل. يناديه. يأمره بعجرفته المعتادة: «اذهب وابحث عن إليعازر بن حنّان. فليأتِ بسرعة إلى الباب الجميل. يهوذا بن سمعان ينتظره لأمور جسيمة.»
يتّكئ على عمود وينتظر. بعد وقت قصير، إليعازر بن حنّان، حِلقِيّا، سمعان، دوراس، كورنيليوس، صادوق، ناحوم وآخرون، يهرعون بملابسهم الّتي تطير في الهواء.
يتكلّم يهوذا بصوت خافت، إنّما مندفع: «هذا المساء! بعد العشاء. في جَثْسَيْماني. تعالوا واقبضوا عليه. أعطوني المال.»
«لا، سنعطيكَ إيّاه حينما تأتي لتأخذنا هذا المساء. نحن لا نثق بكَ! نريدكَ معنا. مَن يعلم!» يتهكّم حِلقِيّا. الآخرون يوافقون جوقةً.
يهوذا يشتعل سخطاً مِن التلميحات. ويُقسِم: «أُقسِم بيهوه أنّني أقول الصدق!»
يجيبه صادوق: «حسناً. ولكن مِن الأفضل فِعل هذا. حينما تحلّ الساعة، أنتَ تأتي، وتأخذ معكَ المنوط بهم إجراء الاعتقال وتذهب معهم، كيلا يحدث ويقوم الحرّاس الحمقى بالقبض على لعازر بالمصادفة ونتسبّب بحدوث كارثة... أنتَ ستحدّد لهم الرجل بإشارة... يجب أن تتفهّم! الليل... سيكون الضوء ضعيفاً والحرّاس متعبين، ويشعرون بالنعاس... ولكن إن قدتَهم!... هو ذا! ما رأيكم؟» ويلتفت صادوق الماكر إلى رفاقه ويقول: «أقترح كإشارة قبلة. قبلة! أفضل إشارة يُحدَّد بها الصديق المغدور به. ها! ها!»
الكلّ يضحك. جوقة مِن الشياطين الساخرة.
يهوذا هائج، ولكنّه لا يتراجع. لن يتراجع أبداً. هو يعاني مِن الاحتقار الّذي يظهرونه له، وليس ممّا سوف يفعله، بحيث إنّه يقول: «تذكّروا أنّني أريد النقود عدّاً ونقداً في كيس قبل أن أخرج مِن هنا مع الحرّاس.»
«ستأخذها! ستأخذها! وسنعطيكَ حتّى الكيس لتتمكّن مِن الحفاظ على النقود، كذخيرة لمحبّتكَ. ها! ها! ها! إلى اللقاء أيّها الثعبان!»
يمتقع لون يهوذا. لقد أصبح ممتقعاً. لن يفقد أبداً هذا اللون وتعبير الذعر اليائس ذاك... وعلى العكس، مع مضيّ الساعات، سيزداد باستمرار حتّى لا يعود بالإمكان النظر إليه عندما سيتدلّى مِن الشجرة... ويهرب…
يلجأ يسوع إلى حديقة منـزل صديق. حديقة ساكنة في طليعة منازل صهيون. محاطة بأسوار مرتفعة وقديمة. هي صامتة ومنعشة، تكسوها أوراق الأشجار العتيقة قليلة الاهتزاز. صوت امرأة مِن بعيد تهدهد هدهدة رقيقة.
يُفتَرض أنّ ساعات قد مرّت، إذ إنّ خدّام لعازر، أثناء عودتهم بعد ذهابهم لا أدري إلى أين، يقولون: «تلاميذكَ هم الآن في المنـزل حيث يُعَدّ العشاء، ويوحنّا، بعد أن جلب معنا الثمار لأطفال يُوَنّا امرأة خُوزي، قد مضى ليُحضِر النسوة كي يصحبهنّ إلى يوسف بن حلفى، الّذي أتى اليوم بمفرده في الوقت الّذي لم تعد أُمّه تتوقّع رؤيته، ثمّ مِن هناك إلى منـزل العليّة لأنّ المساء حلّ.»
«سنذهب نحن أيضاً. حان وقت العشاء.» ينهض يسوع ليرتدي رداءه.
«يا معلّم، في الخارج بعض الأشخاص، أشخاص أثرياء. يودّون التحدّث معكَ دون أن يراهم الفرّيسيّون.» يقول أحد الخدّام.
«أَدخِلهم. لن تعترض إستير. أليس كذلك يا امرأة؟» يقول يسوع وهو يستدير نحو امرأة ناضجة تجري لتحيّيه.
«لا يا معلّم. منـزلي هو منـزلكَ، أنتَ تعرف ذلك. ولم تستخدمه إلاّ قليلاً جدّاً!»
«بما يكفي لأقول لقلبي: قد كان منـزل صديق.» ويأمر الخادم: «قُدْ الّذين ينتظرون.»
يدخل حوالي الثلاثين مِن الأشخاص حَسَني المظهر. يحيّونه. يتكلّم أحدهم باسم الجميع: «يا معلّم، كلماتكَ هزّتنا. سمعنا فيكَ صوت الله. ولكنّهم يعتبروننا مِن المجانين لأنّنا نؤمن بكَ. ما العمل إذن؟»
«مَن يؤمن بي، فليس بي يؤمن، بل بالّذي أرسلني والّذي سمعتم اليوم صوته القدّوس. ومَن يراني فلا يراني أنا، بل يرى الّذي أرسلني، لأنّي أنا وأبي واحد. لأجل هذا أقول لكم يجب أن تؤمِنوا حتى لا تهِينوا الله، الّذي هو أبي وأبوكم، والّذي يحبّكم إلى حدّ أنّه يبذل ابنه الوحيد. وإن كنتم تشكّون في قلوبكم أنّني المسيح، فليس هناك شكّ أنّ الله هو في السماء، وأنّ صوت الله الّذي دعوتُه أبي، اليوم في الهيكل، طالباً منه أن يمجّد اسمه، هو الّذي أجاب الّذي كان يدعوه أبي، ودون أن يقول له: "كاذب أو مجدّف" كما يقول كثيرون. إنّ الله قد أكّد أنّي: نوره. أنا هو النور الآتي إلى العالم حتّى لا يبقى كلّ مَن يؤمن بي في الظلمات. إن كان أحد يسمع أقوالي ولا يعمل بها، فأنا لا أدينه. إنّني لم آتِ لأدين العالم بل لأخلّص العالم. مَن يحتقرني ولا يَقبل أقوالي فإنّ له مَن يدينه. إنّ الكلمة الّتي أعلنتُها هي الّتي ستدينه في اليوم الأخير. فهي بالفعل كانت حكيمة، كاملة، وديعة، بسيطة، كما هو الله. ذلك أنّ هذه الكلمة هي الله. لستُ أنا، يسوع الناصريّ، المدعوّ ابن يوسف النجار مِن نسل داود وابن مريم، الطفلة العبريّة، العذراء مِن نسل داود، المتزوّجة ليوسف، هو الّذي تكلّم. لا. أنا لم أتكلّم مِن نفسي، بل أبي، الّذي في السماوات، والّذي يُدعى يهوه، هو الّذي تكلّم اليوم، الّذي أرسلني، والّذي أوصاني بما أقول وبما ينبغي لي أن أتكلّم. وأنا أعلم أنّ في وصيّته الحياة الأبديّة. وما أتكلّم به إذن أقوله كما قاله لي الآب، وفيه الحياة. ومِن أجل هذا أقول لكم: اسمعوه. اعملوا به فتكون لكم الحياة. ذلك أنّ كلمتي حياة هي، والّذي يقبلها يقبلني في ذات الوقت أنا وأبي السماويّ الّذي أرسلني كي أهبكم الحياة. ومَن يحظى بالله فيه يحظى بالحياة فيه. اذهبوا. فليأتِ السلام إليكم ويمكث فيكم.»
يباركهم ويصرفهم. ويبارك أيضاً التلاميذ. ويستبقي معه فقط إسحاق واستفانوس. يعانق الآخرين ويصرفهم، وعندما يمضون، يَخرج آخراً مع الاثنين ويمضي معهما، عبر الدروب الأكثر عزلة والّتي أضحت مظلمة، إلى منـزل العلّية. وحين يصل إلى هناك، يعانق إسحاق واستفانوس ويباركهما بمحبّة خاصّة، يُقبّلهما ويباركهما مِن جديد، وينظر إليهما يمضيان، ثمّ يقرع ويدخل…
يقول يسوع:
«ستضعين هنا رؤى وداع أُمّي، العلّية، والعشاء. والآن لنحيي معاً، أنا وأنتِ، الذكرى الفصحيّة الحقيقيّة. تعالي...»