ج5 - ف53
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الخامس/ القسم الثاني
53- (في راما. عدد المختارين)
17 / 12 / 1945
توما، الذي كان في مؤخّرة جماعة الرُّسُل، والذي كان يتحدّث إلى مَنَاين وبرتلماوس، يترك رفيقيه ليلحق بالمعلّم الكائن إلى جانب مارغزيام وإسحاق. «يا معلّم، لقد أصبحنا على مقربة مِن راما. ألا تريد أن تُبارك ابن أختي؟ هي ترغب بشدّة أن تراكَ! وبإمكاننا الإقامة هناك، حيث الأماكن متوفّرة للجميع. تَكَرَّم عليَّ بهذا يا سيّدي!»
«نعم، بكلّ سرور! وسندخل غداً إلى أورشليم ونحن مرتاحون.»
«آه! إذن سأمضي وأتقدّمكم لأخطرهم! هل تدعني أمضي؟»
«امضِ. ولكن تذكّر أنّني لستُ صديقاً مِن العالم. لا تجعل ذويكَ يبذلون الكثير مِن المصاريف. عاملني على أنّني "معلّم". هل فهمتني؟»
«نعم يا سيّدي. سوف أقول هذا للأهل. هل تأتي معي يا مارغزيام.»
«إذا كان يسوع يريد ذلك...»
«اذهب، اذهب يا بنيّ.»
الآخرون، الذين رأوا توما ومارغزيام يمضيان باتّجاه راما، الواقعة على يسار الطريق التي أظنّها تصل السامرة بأورشليم، يحثّون الخطى ليَسأَلوا عمّا يجري.
«نحن ذاهبون إلى بيت أخت توما. لقد أقمتُ في بيوت أهلكم جميعاً. ومِن العدل كذلك أن أذهب إلى بيته، لذلك أَرسَلتُه أمامنا.»
«إذن، إن سمحتَ لي، فاليوم أنا كذلك سأمضي أمامكم كي أرى إذا ما كان هناك مِن مستجدّات. ولدى دخولكَ مِن بوابة دمشق سأكون هناك إذا ما حَصَلَت مضايقات. وإلا فسأراكَ... أين، يا سيّدي؟» يقول مَنَاين.
«في بيت عنيا، يا مَنَاين. سأمضي مباشرة إلى بيت لعازر. أمّا النساء فسأتركهنّ في أورشليم. أَذهَب وحدي، وأرجوكَ، بعد توقُّف هذا اليوم، رافِق النساء إلى بيوتهنّ.»
«كما تريد يا سيّدي.»
«أَبلِغ السائق أن يتبعنا إلى راما.»
بالفعل، العربة تسير في الخلف على مهل، في إثر جماعة الرُّسُل. إسحاق والغيور يتوقّفان في انتظارها، بينما الآخرون يسلكون الطريق الفرعيّة المنحدرة قليلاً، والتي تقودهم إلى الرابية الصغيرة المنخفضة جدّاً حيث تجثم راما.
توما، لا تَسَعه الفرحة، ويبدو أكثر احمراراً بسبب الـمَسَرّة التي تتفجّر على وجهه. ينتظرهم عند مدخل القرية. يَهرَع إلى ملاقاة يسوع: «يا للسعادة، يا معلّم! عائلتي كلّها هنا! أبي الذي كم رَغِبَ في رؤيتكَ، أُمّي، إخوتي! يا لفرحتي!» ويأخذ مكانه إلى جانب يسوع، متباهياً كفاتح ساعة إعلان انتصاره.
منـزل أخت توما يقع على تقاطع طرق شرق البلدة. إنّه بيت نموذجيّ للإسرائيليّين الميسورين، بواجهته الخالية مِن النوافذ، والبوّابة الحديديّة بالخصاص (ثقب في الباب على قَدْر العين يَستَرِق منه المرء النَّظَر دون أن يُرى)، والشُّرفة المستخدمة كسطح، وأسوار الحديقة المرتفعة والداكنة، الممتدّة خلف البيت، وقد تجاوزتها أوراق الشجر المثمر.
إنّما اليوم، فلا حاجة للخادمة لتنظر مِن الخصاص. فالبوّابة مفتوحة على آخرها، وكلّ سكان البيت مجتمعون في الردهة. الكبار منهم منشغلون بكبح جماح الأولاد، صبياناً وبنات، بحيث أنّ جمعهم المتزاحم، الهائج، المتحمّس بالخبر، لا يكفّ عن كسر التنظيم التراتبي، ويلعبون أمام البالغين المتصدّرين مكان الشرف حيث في الصفّ الأوّل هناك أهل توما وأخته وزوجها.
ولكن عندما أَصبَحَ يسوع عند العَتَبَة، مَن عاد باستطاعته ضبط تلك الزمرة مِن الأولاد؟ إنّها تشبه الفراخ الخارجة مِن العشّ بعد استراحة ليل. ويتلقّى يسوع صدمة هذا السَّرب الصاخب واللطيف الذي يصطدم بركبتيه ويزحمه، رافعاً الوجوه الصغيرة سعياً إلى قبلات، وهو لا يمكنه البقاء هادئاً رغم تحذيرات الآباء والأُمّهات، أو حتّى بعض الصفعات التي يوزّعها توما لفرض النظام.
«دعهم يفعلون! دعهم يفعلون! ليت الجميع يمكنهم أن يكونوا مثلهم!» يهتف يسوع الذي ينحني لإرضاء كلّ تلك الثلّة المبتهجة.
أخيراً يصبح بإمكانه الدخول، وسط تحيّات الكبار الأكثر إجلالاً. ولكنّني قد أُعجِبتُ بشكل خاصّ بتحيّة والد توما، وهو يهوديّ عجوز نموذجيّ، وقد أَنهَضَه يسوع لأنّه يبغي عناقه "عرفاناً بجميل جوده الذي مَنَحَه أحد الرُّسُل."
«آه! لقد أحبّني الله أكثر مِن أيّ آخر في إسرائيل. فبينما بِكر كلّ يهوديّ مكرّس للربّ، أنا لديَّ اثنان مكرّسان: الأوّل والأخير؛ والأخير هو أكثر تقدّساً، ذلك أنّه، مِن غير أن يكون لاويّاً أو كاهناً، يقوم بما لا يستطيع عظيم الكَهَنَة نفسه أن يقوم به: إنّه يرى الله باستمرار ويتلقّى وصاياه!» يقولها بصوت العجوز المتهدّج قليلاً، وقد زاده التأثّر تهدّجاً. وفي الختام يقول: «قل لي شيئاً واحداً فقط لتُفرِّح نفسي. أنتَ، يا مَن لا تعرف الكذب، قل لي: ابني، بالشكل الذي يتبعكَ به، هل هو أهل لخدمتكَ وليستحقّ الحياة الأبديّة؟»
«فلتبق في سلام، أيّها الأب. ابنكَ توما حظي بمكانة عظيمة في قلب الله للطريقة التي يسلك بها؛ وسوف يكون له مكانة عظيمة في السماء للأسلوب الذي سيكون قد خَدَمَ الله به حتّى آخر نسمة مِن حياته.»
ويَنهَج توما مثل سمكة خارج الماء، بسبب التأثّر الذي أحدثه ما سَمِعَه يقال عنه. ويرفع العجوز يديه المرتجفتين، بينما تنهمر دمعتان لتسيلا في تجاعيده العميقة وتضيعا في لحيته المهيبة، ويقول: «لتحلّ عليكَ بَرَكَة يعقوب؛ بَرَكَة الحَبر على البارّ بين الأبناء: فليباركك الكلّيّ القُدرة ببركات السماء التي فوقنا، ببركات ما لا يُسبَر غوره تحت، بركات الأثداء والصدر. ولتتجاوز بركاتَ أبيكَ تلك التي نالها هو مِن أبيه، ولتستقرّ على رأس توما إلى أن تأتي رغبة الروابي الأزليّة، على رأس الناصريّ بين إخوته!»
ويجيب الجميع: «ليكن كذلك (آمين).»
«والآن، أنتَ، أيّها السيّد، بارِك هذا البيت، وخاصّة مَن هُم دم دمي.» يقول العجوز مشيراً إلى الأولاد.
يسوع، فاتحاً ذراعيه، يُنشِد البركة الموسويّة ويضيف عليها: «فليبارك الله، الذي سار آباؤكم أمام وجهه، الله الذي منحني الغذاء منذ صباي حتّى هذا اليوم، والملاك الذي أعتقني مِن كلّ شرّ، هؤلاء الصغار، وليحملوا اسمي وكذلك أسماء آبائي وليكثروا ويملأوا الأرض.» ويختم بأن يأخذ أصغرهم مِن بين ذراعيّ أمّه ليطبع قبلة على جبهته قائلاً: «ولتحلّ فيكَ، كالسمن والعسل، فضائل النخبة التي سَكَنَت البارّ الذي حَمَلتَ اسمه، جاعلة إيّاه ممتلئاً حياة للسماوات ومزداناً كما النخيل بثمار البلح الشقراء، وكما الأرز بإيراقه الـمَلَكيّ.»
تأثّر الحاضرون جميعهم وأخذتهم النشوة، إنّما انفجرت بعد ذلك الفرحة مِن الأفواه كلّها، ورافقت يسوع الذي دخل البيت ولم يتوقّف إلّا في الدار حيث قَدَّمَ لمضيفيه والدته والنساء التلميذات والرُّسُل والتلاميذ...
...لم يعد الوقت صباحاً، كذلك لم يَعُد ظهراً. بصعوبة تخترق أشعّة الشمس الضعيفة الغيوم المنتفشة لذلك الوقت الذي يجد صعوبة في استعادة توازنه. لقد اقترب وقت غياب الشمس. إنّه الأُفول.
لم تعد النساء هناك، ولا إسحاق ولا مَنَاين، بينما بقي مارغزيام وهو سعيد للغاية إلى جانب يسوع. يخرج معه مِن البيت الرُّسُل والذُّكور مِن أهل توما لرؤية الكُروم ذات النوعيّات الخاصّة. والد توما وصهره يشيدان بتوجّه وندرة الكُروم التي ليس فيها الآن سوى أوراق جديدة وطريّة للغاية.
يسوع يستمع بعناية إلى تلك الشروح الهامّة حول التشذيب والعَزق، كما لو أنّها الأمور الأكثر أهميّة في العالم. في النهاية يقول لتوما مبتسماً: «هل عليَّ أن أُبارك مَهر أختكَ التوأم هذا؟»
«آه! سيّدي! أنا لستُ دوراس ولا إسماعيل. أعرف أن تنفّسكَ، وجودكَ في مكان هما بركة لهذا المكان. ولكن إن شئتَ أن ترفع يمينكَ على هذه الكُروم، فافعل، وبالتأكيد تصبح ثمارها مقدّسة.»
«ووافرة، أليس كذلك؟ ما قولكَ، أيّها الأب؟»
«يكفي أن يكون مقدّساً. وهذا يكفي! وأنا سوف أعصره وأُرسله لكَ مِن أجل الفصح القادم، وسوف تستخدمه في كأس الشعائر.»
«فليكن. وأنا أعتمد على هذا. أريد في الفصح القادم أن أشرب خمر إسرائيليّ لا غشّ فيه.»
يُغادِرون الكُروم ليعودوا إلى القرية.
انتشر خبر وجود يسوع الناصريّ في البلدة، وأهل راما جميعاً أصبحوا على الطرقات وكلّهم رغبة في التقرّب منه.
يراهم يسوع ويقول لتوما: «لماذا لا يأتون؟ هل يمكن أن يكونوا خائفين منّي؟ قل لهم إنّني أحبّهم.»
آه! توما لا يدع القول يتكرّر! ويمضي إلى الجماعات، واحدة فواحدة، مسرعاً وكأنّه الفراشة تطير مِن زهرة إلى زهرة. والناس الذين سمعوا الدعوة لا يدعونها تتكرّر. يهرعون جميعاً، ممرّرين الكلمة، حول يسوع كذلك، بحيث عندما يَصِلون إلى مفترق الطرق حيث بيت توما، هناك جماعة رزينة تتحدّث باحترام إلى الرُّسُل وإلى أهل توما، للاستعلام عن أشياء وأشياء.
يُثير انتباهي أنّ توما قد عمل كثيراً خلال أشهر الشتاء، وأن جزءاً لا يستهان به مِن التعاليم الإنجيليّة أضحت معروفة في البلدة، ولكنّهم يرغبون في الحصول على شروح خاصّة مِن يسوع. أحدهم، وقد كان متأثّراً بالبَرَكَة التي مَنَحَها يسوع لأطفال البيت المضيف وبما قاله عن توما، يَسأَل: «هل سيصبحون جميعهم أبراراً بسبب بركتكَ؟»
«ليس بسببها، بل إنّما بسبب تصرفاتهم. أنا منحتُهم قوّة بركتي لأشدّ مِن عزيمتهم في تصرّفاتهم. ولكن عليهم هُم أن يقوموا بالأفعال وأن يفعلوا فقط أفعال البرّ لينالوا السماء. أنا أبارك الجميع... ولكن لن يَخلص جميع مَن في إسرائيل.»
«بل حتّى قليلون هم الذين سيخلصون، إذا ما استمرّوا على ما هُم فاعلوه الآن.» يُتمتم توما.
«ماذا تقول؟»
«الحقيقة. الذي يضطهد المسيح ويفتري عليه، الذي لا يمارس تعاليمه، لن يكون له نصيب في ملكوته.» يقول توما بصوته الخشن.
يشدّه أحدهم مِن كمّه ويَسأَله وهو يشير إلى يسوع: «هل هو صارم جدّاً؟»
«لا. بل على العكس هو طيّب جدّاً.»
«ما هو قولكَ فيَّ أنا، هل سأخلُص؟ أنا لستُ مِن التلاميذ. ولكنّكَ تَعلَم ما أنا عليه، وكم آمنتُ على الدوام بما كنتَ تقوله لي. ولكنّني لا أعرف أن أفعل أكثر. فماذا عليَّ أن أفعل بالضبط أكثر ممّا أفعله الآن لأخلص؟»
«اسأله هو. وستكون يده وحكمه ألطف وأكثر عدلاً منّي.»
يتقدّم الرجل ويقول: «يا معلّم، أنا أمين للشريعة، ومنذ أن ردَّدَ توما كلامكَ على مسامعي، أحاول أن أكون أكثر أمانة. ولكنّني قليل الكَرَم. أفعل ما ينبغي لي أن أفعل بالضبط. أُحجِم عن فعل ما لا يحسن فعله خوفاً مِن الجحيم. إنّما رغم ذلك أحبّ رفاهيتي... وأعترف أنّني أحاول أن أتصرّف بشكل لا أرتكب فيه الخطيئة، إنّما على ألّا أنزعج مع ذلك. فهل سأخلص وأنا أتصرّف على هذا النحو؟»
«سوف تخلص. ولكن لماذا تكون بخيلاً مع الله الكريم للغاية معكَ؟ لماذا لا يصبو المرء إلّا إلى خلاص لذاته، يُنال بصعوبة، ولا يصبو إلى قداسة عظيمة تَمنَح في الحال سلاماً أبديّاً؟ هيّا أيّها الرجل! كن كريماً مع نفسكَ!»
يقول الرجل بتواضع: «سوف أُفكِّر في ذلك يا سيّدي. سوف أُفكِّر في ذلك. أعرف أنّكَ على حقّ وأنّي أسيء إلى نفسي بأن أفرض عليها تطهيراً طويلاً قبل الحصول على السلام.»
«أحسنتَ! هذه الفكرة هي بداية مسيرة الكمال.»
إنسان آخر مِن راما يَسأَل: «سيّدي، هل الـمُخَلَّصون قليلون؟»
«لو كان الإنسان يعرف أن يتصرّف باحترام تجاه نفسه، وبحبّ يراعي واجبات الإجلال تجاه الله، لخلص جميع الناس، بحسب رغبة الله. ولكنّ الإنسان لا يتصرّف على هذا النحو. وكالأبله يتسلّى بالمجوهرات التقليديّة البراقة بدل أخذه الذهب الحقيقيّ. كُونوا أسخياء في بحثكم عن الخير. هذا يكلّفكم؟ ففي ذلك يكمن الاستحقاق. ادخلوا مِن الباب الضيّق. الآخر واسع وجذّاب، إغواء هو مِن الشيطان كي يُضلّكم. باب السماء ضيّق، منخفض، بدون زخارف وكَالِـح. للعبور منه، على المرء أن يكون رشيقاً، خفيفاً، بدون بذخ وغير مادّيّ. عليه أن يكون روحانيّاً كي يتمكّن مِن القيام بذلك. وإلّا فحينما تأتي ساعة الموت لا تستطيعون اجتيازه. في الحقيقة، كثيرون سوف يحاولون الدخول فلا يُفلِحون، لشدّة ما أكسبتهم المادّيّة مِن البدانة، لشدّة ما جعلتهم الفخفخات العالميّة معقَّدين، ولشدّة ما صَلَّبَتهم قشرة الخطيئة، وكبرياؤهم، الذي هو هيكلهم العظميّ، يجعلهم عاجزين عن الانحناء. حينذاك يُقبِل سيّد الملكوت ليُغلِق الباب، والذين في الخارج، الذين لم يستطيعوا الدخول في الوقت المناسب، وقد ظلّوا خارجاً، يصيحون وهُم يقرعون الباب: "يا ربّ افتح لنا! فنحن هنا كذلك." أمّا هو فيقول: "الحقّ أقول لكم، إنّي لا أعرفكم، ولا أعرف مِن أين أتيتم". وهُم: "ولكن كيف؟ ألا تذكرنا؟ لقد أكلنا وشربنا معكَ، واستمعنا إليكَ عندما كنتَ تُعلِّم في ساحاتنا". ولكنّه يُجيب: "الحقّ أقول لكم، إني لا أتعرّف عليكم. كلّما نظرتُ إليكم تبدون لي وكأنّكم شبعتُم مما أَعلَنتُ لكم أنّه طعام نَجِس. الحقّ أقول لكم، كلّما أمعنتُ النَّظَر في وجوهكم أرى أنّكم لستم مِن عائلتي. الحقّ أقول لكم، الآن أرى أبناء مَن ورعيّة مَن أنتم: الآخَر. فأبوكم هو الشيطان، وأُمّكم الجسد، مرضعتكم الكبرياء، خادمكم الحقد، وكنـزكم الخطيئة، والرذائل أحجاركم الكريمة. وعلى قلبكم كُتِبَ ’أنانية‘. أيديكم ملطّخة بسرقة إخوتكم. اخرجوا مِن هنا! بعيداً عنّي، جميعكم، يا صانعي الإثم". وحينذاك، بينما تأتي أعماق السماء متلألئة بالمجد، إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وجميع الأنبياء وأبرار ملكوت الله، يُطرَد أولئك الذين لم تكن لديهم المحبّة، بل الأنانية، لم تكن التضحية، بل التراخي، يُطرَدون إلى البعيد، يُطرَحون حيث البكاء أبديّ وحيث لا يوجد سوى الهَلَع. والذين يقومون ممجَّدين، قادمين مِن الشرق والغرب، مِن الشمال والجنوب، يجتمعون على مائدة عرس الحَمَل، مَلِك مملكة الله. وسوف يُرى حينذاك أنّ كثيرين ممّن كانوا يبدون "الأصغر" في جيش الأرض، سيكونون الأوّلين في أهل الملكوت. وكذلك سوف يُرى أنّ ذَوي السلطان في إسرائيل لن يكونوا جميعاً ذَوي سلطان في السماء، والذين اختارهم المسيح ليكونوا خُدّامه لم يُحسِنوا استحقاق أن يكونوا المختارين لمائدة العرس. وكذلك سوف يُرى أنّ كثيرين ممّن كان يُعتَقَد أنّهم "الأوّلون" لن يكونوا فقط الآخِرين، بل لن يكونوا حتّى الآخِرين. ذلك أنّ المدعوين كثيرون، ولكن قليلين هُم الذين عَرفوا أن يجعلوا لهم مِن اختيارهم مجداً حقيقيّاً.»
وبينما يتحدّث يسوع إلى حجيج ذاهب إلى أورشليم أو قادم منها سعياً وراء الإقامة، يَصِل بعض الفرّيسيّين. يَرَون التجمّع ويقتربون ليروا. ويتعرّفون بسرعة على رأس يسوع الأشقر إلى جانب جدار بيت توما الداكن.
«دعونا نمرّ، فإنّنا نبغي أن نقول كلمة للناصريّ.» يَصِيحون بسلطان.
ودونما حماس يَفسَح الجمع المجال، ويَرَى الرُّسُل جماعة الفرّيسيّين تصل إليهم.
«يا معلّم، السلام لكَ!»
«ولكم السلام. ماذا تريدون؟»
«هل أنتَ ماضٍ إلى أورشليم؟»
«ككلّ إسرائيليّ مؤمن.»
«لا تذهب إلى هناك! لأنّ خطراً ينتظركَ فيها. نحن نَعلَم ذلك لأنّنا قادمون منها لنمضي إلى عائلاتنا، وقد أتينا نحذّركَ لعِلمنا بأنّكَ كنتَ في راما.»
«ممَّن، لو كان مسموحاً أن نَسأَل؟» يَسأَل بطرس المرتاب والجاهز لافتعال مشاجرة.
«هذا لا يعنيكَ، أيّها الرجل. اعلم فقط، أنتَ يا مَن تدعونا حيّات، أنّ الحيّات حول المعلّم كثير عددها، وحسناً تفعل لو تحترس مِن تلاميذ كثيرين وتلاميذ ذَوي سلطان عظيم.»
«هيه! لا أخالكَ تريد التلميح إلى أنّ مَنَاين أو...»
«اصمت يا بطرس. وأنتَ، أيّها الفرّيسيّ، اعلم أنّه لا يمكن لأيّ خطر أن يجعل مؤمناً يحيد عن أداء واجبه. إن خَسِر المرء حياته، لا يهمّ. أمّا ما هو جسيم، فهو أن يخسر المرء نفسه بمخالفته الشريعة. ولكنّكَ تعرف ذلك، وتعرف أنّي أعرف، فلماذا إذن تجرّبني؟ قد لا تعلم أنّي أنا أعرف لماذا تفعل هذا؟»
«أنا لا أجرّبكَ. إنّها الحقيقة. قد يكون الكثيرون منّا أعداء لكَ، إنّما ليس الجميع. فنحن، لسنا نبغضكَ. نحن نَعلَم أنّ هيرودس يطلبكَ، ونقول لكَ: ارحل. امض مِن هنا، لأنّ هيرودس لو تمكّن منكَ، فسيقتلكَ، وهذا ما يبغيه.»
«هذا ما يبغيه، ولكنّه لن يفعل. هذا أعرفه، أنا. فيما عدا ذلك، فاذهب وقُل لذاك الثعلب العجوز إنّ الذي يبحث عنه هو في أورشليم. بالفعل، أنا ماضٍ إلى هناك، طارداً الشياطين، شافياً المرضى، دونما اختباء. أنا أفعل ذلك، وسأفعل، اليوم وغداً وبعد غد، إلى أن ينتهي أجلي. ولكن عليَّ أن أسير قُدُماً طالما لم أصل بعد إلى نهاية المطاف. ويجب، اليوم ثمّ مرّة أخرى فمرّة أخرى فمرّة أخرى أيضاً، أن أدخل إلى أورشليم، ذلك أنّه مِن غير الممكن أن يتوقّف دربي قبل ذلك. ويجب أن يتم كما هو بالضبط، أي في أورشليم.»
«المعمدان مات في مكان آخر.»
«لقد مات بقداسة، والقداسة تعني: "أورشليم". وإذا كانت أورشليم تعني الآن "خطيئة"، فهذا فقط للذي لا يعدو كونه أرضيّاً وبعد قليل لن يكون. أمّا أنا فأتحدّث عما هو أبديّ وروحيّ، أي أورشليم السماوات. ففيها، بقداستها يموت جميع الأبرار والأنبياء. وفيها أموت أنا. وعبثاً تبغون جرّي إلى الخطيئة. وسوف أموت كذلك على روابي أورشليم، ليس على يد هيرودس، إنما بإرادة الذين يبغضونني بأكثر دهاء منه، لأنّهم يَرَون فيَّ مُغتَصِب الكهنوت الذي هُم طامِعون فيه، ومُطهِّر إسرائيل مِن كلّ العلل التي تفسدها. فلا تضعوا على كاهل هيرودس كلّ الرغبة في القتل، إنّما فليحمل كلّ منكم نصيبه، ذلك أنّ الحَمَل، في الحقيقة، هو على جبل تتسلّقه مِن كلّ جانب الذئاب وأبناء آوى لتذبحه و...»
ويفرّ الفرّيسيّون تحت وابل الحقائق الـمُحرِقة…
ينظر إليهم يسوع يفرّون. ويلتفت بعد ذلك إلى جهة الجنوب، حيث بقعة ضوء أكثر إشراقاً، والتي قد تكون منطقة أورشليم، ويقول بأسى: «أورشليم، أورشليم، يا قاتلة الأنبياء وراجمة الـمُرسَلين إليها، كم مرّة أردتُ أن أجمع أبناءكِ، كما تَجمع الدجاجة فِراخها تحت جناحيها! فَلَم تريدوا! إنّ بيت معلّمكم الحقيقيّ سَيُترَك لكم خراباً. فهو سوف يأتي، سوف يفعل، كما الطقوس، كما ينبغي أن يفعل الأوّل والأخير في إسرائيل، ثمّ يمضي. لن يُقيم بين جدرانكم كي يُطهِّرها بوجوده، وأؤكّد أنكِ وسكّانكِ لن تروني، بوجهي الحقيقيّ، إلى اليوم الذي تقولون فيه: "تَبَارَك الآتي باسم الرب"... وأنتم يا أهل راما، تذكّروا هذا الكلام وكلّ الكلام الآخر، كي لا يشملكم عقاب الله. كونوا مؤمنين أوفياء... اذهبوا. وليكن السلام معكم.»
ويدخل يسوع إلى بيت توما مع أفراد العائلة جميعاً ورُسُله.