ج2 - ف99
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الثاني / القسم الثاني
99- (يسوع في منطقة المياه الحلوة. خطبة ختاميّة. تعقيب على: مِن الأعماق. وارحمني يا الله)
17 / 03 / 1945
«أبنائي في الربّ، عيد التطهير أَصبَحَ وشيكاً، وأنا، نور العالم، أُرسِلكم هناك مُهيَّأين بالحد الأدنى الضروريّ للاحتفال به بشكل لائق. إنّه نور العيد الأعلى والأسمى الذي ستحصلون منه على نور لكلّ الأعياد الأخرى. إنّه لَأبله عظيم ذاك الذي ينوي إضاءة مجموعة مِن المصابيح دون أن تكون لديه إمكانيّة إضاءة الأوّل. وأكثر بَلَهاً هو الذي ينوي بدء تقديس ذاته بأشياء عَويصة جدّاً وهو يُهمِل ما هو في أساس التكوين لا بديل عنه لبلوغ الكمال: الوصايا العشر.
نقرأ في سِفر المكابيّين أن يهوذا، ومعه أتباعه، بفضل حماية الربّ، قد استَردَّ الهيكل والمدينة، وحَطَّمَ مذابح الآلهة الغريبة ومقدّساتها، وطَهَّرَ الهيكل. ثمّ بنى مذبحاً آخر، وحَصَلَ على نار مع الصّوان، وقَدَّمَ الذبائح، وأَحرَقَ البخور، ووَضَعَ المصابيح وخُبز التقدمة. ثمّ سَجَدَ الجميع إلى الأرض، وتَضَرَّعوا إلى الربّ أن يتصرّف بشكل يجعلهم لا يَعودون يُخطِئون، أو بالحريّ، إذا ما وَقَعوا في الخطيئة مِن جديد، لضعف منهم، أن يُعامِلهم برحمة إلهيّة. وقد حَصَلَ ذلك في الخامس والعشرين مِن شهر كانون الأول (ديسمبر).
فلنُفكّر ونُطبّق هذا النصّ على أنفسنا، إذ إنّ كلّ كلمة مِن تاريخ إسرائيل، لها معنى روحيّ. فالحياة عِبَر على الدوام. وحياة إسرائيل هي عِبرَة، ليس فقط للحياة الأرضيّة، إنّما أيضاً لاكتساب الحياة الأبديّة.
”لقد حَطَّموا المذابح والمقدّسات الوثنيّة“.
إنّها العمليّة الأولى، وهي التي أَشَرتُ عليكم القيام بها، بينما أنا أروي لكم عن الآلهة الشخصيّة التي تحلّ محل الإله الحقيقيّ: عِبادة الحَواسّ، والذهب، والكبرياء، والرذائل الرئيسيّة التي تؤدّي إلى تدنيس المقدّسات، وإلى مَوت النَّفْس والجسد، وإلى عقاب الله. لم أسحَنكُم تحت وَطأة الصِّيَغ التي لا تُحصى، والتي تَجور الآن على المؤمنين، وتُشكّل عبئاً على الشريعة الحقّ، الـمُثقَلَة والمختفية تحت أكوام وأكوام مِن التحصينات الخارجيّة. وبأَثقالها يُقاد المؤمن إلى فقدان صوت الربّ المكتوب والواضح والمقدّس الذي يقول: "لا تُجدِّف. لا تَعبد آلهة أوثان. لا تَنتَهِك قدسيّة الأعياد. لا تُلحِق العار بوالديكَ. لا تقتل. لا تزنِ. لا تسرق. لا تكذب. لا تشتهِ مُقتنى غيركَ. لا تَشتَهِ امرأة قريبكَ". عَشر "لاءات" لا تزيد واحدة، وهي أعمدة هيكل النَّفْس العشرة. وفوقها يَتَألّق ذهب الوصيّة الأكثر قَداسة بين الكل: "أَحبِب الربّ إلهكَ. أَحبِب قريبكَ". وهي تاج الهيكل. هي حماية الأساسات. وهي مَجد وفَخر البَاني.
بدون الحبّ، لا يستطيع أحد الخضوع للوصايا العشر، وتَنهار الأعمدة: كلّها أو بعضها، وينهار الهيكل كلّيّاً أو جزئيّاً. إنّما على كلّ حال، لا يَعود سوى أطلال، ولا يعود بإمكانه استقبال الكلّيّ قُدسه. اعملوا حسبما قُلتُ لكم: بالقضاء على الشّهوات الثلاث. أعطوا اسماً صريحاً لرذيلتكم، كما يَستَخدِم الله الصّراحة ليقول لكم:"لا تَفعلوا هذا أو ذاك". عَبَثاً يَجري التمحيص في العبارات. فَمَن يحبّ أي كائن، مهما يكن، حبّاً أقوى مِن حبّه لله، أيّاً كان هذا الحبّ، فهو عابِد وَثَن. ومَن يَذكر اسم الله مُجاهِراً بأنّه يَخدمه، ثمّ يُخالِف أوامره، فهو عَاصٍ عَاق. والذي يَعمَل يوم السبت بدافع مِن الجَّشَع، فهو مُنتَهِك للمقدّسات وهو قليل الثقة، مغرور. مَن يرفض مَدّ يد العون لوالديه، مُتذرّعاً بالحجج، حتّى ولو أَكَّدَ أنّها تَقادِم لله، فهو ممقوت مِن الله الذي أَبدَعَ أباً وأُمّاً على صورته ومثاله على الأرض. مَن يَقتل هو دائماً مجرم قاتل. مَن يقترف الزنى هو دائماً فاجِر. مَن يختلس هو دائماً لصّ. مَن يَكذب هو دائماً حقير. والذي يريد ما ليس له هو دائماً شَرِه، وجوعه هو الأكثر إفراطاً. والذي يَنتَهِك حُرمة خِدر الزوجية هو دائماً كائن نَجِس.
هكذا تجري الأمور. وأُذكرّكم أنَّ بَعد نَصب تمثال العِجل الذهبي حلَّ غضب الربّ؛ وبعد عبادة سليمان للأصنام حَصَلَ الانشقاق الذي بَدَّدَ وأضعَفَ إسرائيل؛ وبعد قبول الهلّينية، حتّى بعد تَقُبّلها جيّداً بِتَدَخُّل ووساطة اليهود الوَضيعين تحت حُكم أنطيوخوس أبيفاني رأينا ظهور مآسينا الحاليّة الروحيّة والاقتصاديّة والوطنيّة. أُذكّركم بأنّ ناداب وأبيّا خادِمَي الله الـمُزيَّفَين، ضَرَبَهما يهوه. وأُذكّركم بأنّ الـمَنّ السّاقط يوم السبت لم يكن مُقدَّساً. وأُذكّركم بكام وأبشلوم. وأُذكرّكم بخطيئة داود الـمُتسبِّبة بالضرر والأذى لأوريّا، وخطيئة أبشلوم الـمُتسبِّبة بأذيّة أمنون. أُذكّركم بنهاية أبشلوم ونهاية أمنون. أُذكّركم بمصير اللصّ هليودور وسمعان ومنيلاوس. أُذكّركم بالنهاية الـمُخزِية للمُفتَرِيَّيْن اللذين شَهِدا شهادة زُور ضدّ سُوسَنّة. ويمكنني الاستمرار في سَرد أمثلة مشابهة إلى ما لا نهاية. ولكن فلنعد إلى المكابيّين.
”وطَهَّروا الهيكل“.
فلا يكفي القول: "أُحَطِّم". بل يجب القول: "أُطهِّر". لقد قُلتُ لكم كيف يتطهّر الإنسان: بتوبة مُتَواضِعة وصريحة. فلا توجد خطيئة لا يغفرها الله إذا كانت توبة الخاطئ حقيقيّة. آمِنوا وثِقوا بالصلاح الإلهيّ. إذا استطعتم التوصل إلى إدراك ماهيّة هذا الصلاح، حتّى ولو كنتم قد اقترفتم كلّ خطايا العالم، فلا تَفرّوا بعيداً عن الله، بل بالحريّ أَسرِعوا وخرّوا عند قدميه، فإنّه هو وحده، الكلّيّ الصلاح، يستطيع أن يغفر ما لا يغفره الإنسان.
”ونَصَبوا مذبحاً آخر“.
آه! لا تُحاوِلوا أن تَخدعوا الربّ. ولا تكن أفعالكم مُزيّفة. لا تَخلطوا بين الله والشيطان. فيكون مذبحكم خاوياً: ذاك الذي لله. إذ لا جدوى مِن إقامة مذبح جديد إذا كان لاستبدال بقايا الآخر. فإمّا الله وإمّا الصَّنَم. اختاروا.
”وأَوقَدوا النار بالحجر والصّوفان“.
الحجر هو الإرادة الصلبة بالانتماء إلى الله. والصّوفان هو الرغبة بالتلاشي بقيّة حياتكم كلّها، حتّى ذكرى خطيئتكم في قلب الله. حينذاك تَضطَرِم النار: الحبّ. إذ إنّ الابن الذي يُحاوِل، بحياة شريفة كاملة، مُواساة أب كان قد أساء إليه، ماذا تراه يفعل غير حبّ الأب مع الرغبة بأن يُفرِحه الابن الذي كان ذات مرّة سبب دموعه فأَصبَحَ الآن سبب فرحه؟
والآن وقد صرتم إلى هذه الحال، فيمكنكم تقديم الأضحيات، وإحراق البخور، وجلب المصابيح والخبز. ولن تكون الذبائح مَمقوتة مِن الله، وكذا الصلوات، بل على العكس سوف تكون مَقبولة لديه. سيكون سيكون المذبح نيّراً بحق، وغنيّاً بخبز تَقادِمكم اليوميّة. سوف يكون بإمكانكم الصلاة بقولكم: "كُن لنا حافِظاً". فهو مَن سيكون صديقكم. أمّا رحمته، فلم تنتظر أن تَهتفوا: الرحمة. لقد عَرَفَت مُسبَقاً رغبتكم، وأَرسَلَت لكم الرحمة لتقول لكم: "ليكن لديكم الرجاء. أقول: الله يغفر لكم. هلمّوا إلى الربّ.»
لقد أَصبَحَ في وسطكم مذبحاً: المذبح الجديد. ومنه تتدفّق ينابيع النور والغفران. وتنتشر كالزيت فتشفي وتَمنَح القوة. آمِنوا بالكلمة الآتية مِن لَدُنه. ابكوا معي على خطاياكم. وكما يُوجّه اللّاويّ الجَوقة، كذلك أُوجّه أصواتكم صَوب الله، ولن يُرَدَّ صوت أنينكم إذا ما ضُمَّ إلى صوتي. إنّني أتلاشى معكم كأخ للبشر بالجسد، وابن للآب بالروح، وأقول مِن أجلكم ومعكم: "مِن هذه الهُوّة السَّحيقة حيث سَقَطْتُ، وحيث أنا البشريّة، أَصرُخ إليكَ يا ربّ. أَنصِت إلى صوت الذي يَنظُر إلى نفسه ويتنهّد، ولا تَصمّ أذنيكَ عن أقوالي. فظيع هو النَّظَر إلى حالي يا إلهي. وفظيع كذلك أنا في عينيّ ذاتي! فكيف أكون في عينيكَ؟ لا تنظر إلى خطاياي يا رب، وإلّا فلن أستطيع البقاء في حضرتكَ، ولكن فلتستعمل صلاحكَ معي. لقد قُلتَ: ’أنا الرحمة‘. وأنا أؤمن بما تقول. ونفسي المجروحة والـمُحَطَّمة ترتاح إليكَ، وتعتمد على مواعيدكَ، ومِن الفجر إلى الليل، ومِن الفُتوّة إلى الشيخوخة سيظل رجائي بكَ أنتَ".
مُرتَكِب الزّنى مَنبوذ مِن الله، ومع ذلك فقد نال داود المغفرة. بعد أن هَتَفَ للربّ: "ارحمني، ليس بسبب جَلالي، إنّما بمجانيّة رحمتكَ اللامتناهيّة. وبرحمتكَ هذه امحِ خطيئتي. ما مِن ماء يمكنه غسل قلبي إن لم يكن مُستَمَدَّاً مِن عُمق مياه صلاحكَ الأَقدَس. اغسلني به مِن إثمي ومِن رِجسي طَهِّرني. لستُ أُنكِر خطيئتي، وأعتَرِف بِسَقطتي. إنّها أمامي في كلّ حين كشاهد يَتَّهِمني. لقد أَسأتُ إلى الإنسان في شخص القريب وفي ذاتي، ولكنّني أَندَم خاصّة على خطيئتي تجاهكَ. وليكن ذلك إقراراً باعترافي بعدلكَ واستقامة أقوالكَ، وبخوفي مِن حُكمكَ الـمُنتَصِر على الدوام على كلّ سُلطة بَشريّة. ولكن أيّها الأزليّ، خُذ بعين الاعتبار أنّني وُلِدتُ في الخطيئة، وأنّ التي حَبِلت بي كانت خاطئة، وأنّكَ كذلك قد أَحبَبتني لدرجة أنّكَ كَشَفتَ لي عن مَكنونات حكمتكَ التي مَنحتَنيها كمعلّمة، لأُدرِك أسرار حقائقكَ الأكثر سُموّاً. وإذا كنتَ قد عَمِلتَ الكثير مِن أجلي، فهل عليَّ أن أخاف منكَ؟ لا، لستُ أخاف. انضحني بمرارة الألم فأَطهُر. اغسلني بالدموع فأَبيَضّ أفضل مِن الثلج. أَسمِعني صوتكَ فيبتهج خادمكَ الـمُتواضِع، لأنّ صوتكَ فَرَح وابتهاج، حتّى حينما يُؤَنِّب. أَدِر وجهكَ صَوب خطاياي، فإنّ نَظَرَكَ يَمحو إثمي. والقلب الذي مَنحتَنيه قد دَنَّسَه الشيطان، وضَعُفَتْ إنسانيّتي. قَلباً نقيّاً اخلِق فيَّ يا الله وحَطِّم كلّ فساد في أحشاء خادمكَ، ليملك فيها فقط روح الحقّ المستقيم. إنّما لا تطرحني مِن أمام وجهكَ، وصداقتكَ لا تنـزعها منّي، لأنّ خلاصكَ هو فقط فرح روحي، وروحكَ الأسمى تعزية الـمُتواضِع. اجعلني أمضي بين الناس قائلاً: ’انظروا وتأمّلوا كم الربّ صالح. سِيروا في طُرُقه فتكونوا مباركين مثلي، فأنا الجَهيض قد عُدتُ ابناً لله بالنّعمة التي انبَعَثَت فيَّ‘. والكافِرون يَهتَدون إليكَ. والدم واللحم يَثوران فيَّ ويَصرخان: ’حَرّرني يا رب، يا خلاص نفسي، وسأُرتّل مجدكَ‘. كنتُ جاهلاً ولكنّني الآن أَدرَكتُ. ليست ذبيحة التُّيوس هي التي تريد، إنّما مِحرقة قلب تائب. والقلب الـمُتواضِع مَقبول لديكَ أكثر مِن التُّيوس والخِرفان، لأنّكَ خَلَقتَنا لكَ، وتريدنا أن نتذكّر ذلك ونُعيد إليكَ ما هو لكَ. كُن حارساً لي في صلاحكَ العظيم وأَعِدْ بناء أورشليمي التي هي كذلك أورشليمكَ: أورشليم: أورشليم نَفْس تَطَهَّرَت وغُفِرَ لها، وعليهـا تقديم الذبيحة، قُرباناً ومِحرقة مِن أجل الخطيئة بِفِعل شـكر وتمجيد. وليكن كلّ يوم جديد لي ذبيحة تقديس تتلاشى على مذبحكَ لتَصعَد إليكَ ممزوجة بعطر حبّي".
هلمّوا! ولنمضِ إلى الرب! أنا في الأمام، وأنتم تتبعونني. هيّا بنا إلى المياه الخَلاصيّة، إلى المراعي المقدّسة، هيّا بنا إلى أراضي الله. انسوا الماضي وابتَسِموا للمستقبل. لا تُفكّروا بالوَحل بل انظروا إلى النجوم. لا تقولوا: "أنا ظلام"، بل قولوا: "الله نور". لقد أتيتُ أُبشّركم بالسلام، أتيتُ أزفُّ البُشرى الحسنة للوُدعاء، أشفي ذَوي القلوب الـمُنكَسِرة بأمور كثيرة، أُبشّر بالحريّة كلّ العبيد، وبشكل أَولى عبيد الشيطان، وأُحرّر المساجين مِن شهواتهم.
أقول لكم: سَنَة النعمة أَقبَلَت. فلا تبكوا بسبب الحزن الذي يختبره الخاطئ، لا تبكوا، أنتم يا مَن نُفيتم مِن مملكة الله. إنّني أَستَبدِل الذهب بالرماد والزيت وبالدموع. أُلبِسكم ثياب العيد لأقدّمكم للربّ وأقول: هي ذي النِّعاج التي أَرسَلتَني أبحث عنها. لقد مَضَيتُ إليها وجَمَعتُها وأَحصَيتُها وأَحضَرتُ مَن كان منها مُشتَّتاً، ولقد انتَزَعتُها مِن الغيوم والضباب. أَخَذتُها مِن بين كلّ الشعوب، وجَمَعتُها مِن كلّ المناطق، لأقودها إلى الأرض التي لم تعد الأرض، والتي أَعدَدتَها لهم، أيّها الأب القدّوس، لأُحضِرها إلى القمم الفردوسيّة لجبالكَ الخَصيبة، حيث كلّ ما فيها نور وجمال، على طُول أنهار الغِبطات السماويّة، حيث تَشبَع منها الأرواح التي أَحبَبتَها. ولقد مَضيتُ كذلك بحثاً عن تلك المجروحة، وشَفَيتُ الكسور وأَعَدتُ القوّة إلى الضعفاء، ولم أستثنِ أيّة نعجة. وتلك التي أساء إليها الذئاب النَّهِمة للأحاسيس، حَمَلتُها على مَنكِبيّ، مثل نِير حُبّ، لأضعها عند قدميكَ، أيّها الأب القدّوس والعَطوف، لأنّها لم تعد قادرة على السير، ولا تعرف كلامكَ، وهي مسكينة، تُلاحِقها تأنيبات الضمير والناس، هي روح يَندَم ويرتجف، ماء مَدفوع، نَبَذَته الأمواج إلى الشاطئ. إنّها تأتي مُفعَمَة رغبة، مُحتَجَزَة بمعرفة ذاتها... افتح لها صدركَ، أيّها الأب الكلّيّ الحبّ، لتجد السلام فيكَ، تلك الخليقة التائهة. قُل لها: ’تعالي‘. قُل لها: ’أنتِ لي‘. لقد انتَمَت إلى عالم أصابها منه الغثيان والرعب. إنّها تقول: ’كلُّ ربِّ عَمَلٍ مجرمٌ مأجور مُقرِف هو‘. فاجعلها تستطيع القول: ’إنّ مَلِكي هذا قد مَنَحَني بهجة أن أكون له!‘ إنّها لا تعرف ما هو الحبّ. ولكن إن استقبَلتَها فستعرف ما هو هذا الحبّ السماويّ، الحبّ الزوجيّ بين الله والروح البشريّ. وكعصفور مُحَرَّر مِن أقفاص الناس الرهيبين، سترتفع باستمرار نحو الأعلى، حتّى تصل إليكَ، إلى السماء، في الفَرَح وفي المجد، وهي تُرَتّل: ”لقد وَجَدتُ مَن كُنتُ أبحث عنه. ولم تَعُد لقلبي رغبة أخرى. فيكَ أستريح وأغتَبِط، أيّها الربّ الأزليّ، إنّني مُطَوَّبة أبد الدهر!“"
اذهبوا، بروح جديد، واحتَفِلوا بعيد التطهير. وليُضَئ فيكم نور الله.»
يسوع، في نهاية حديثه، كان لا يُقاوَم. وجهه مُنير وعيناه مُشِعّتان وابتسامته ونغمة صوته لم يُعرَف لعذوبتهما مثيل.
والناس، وكأنّ أَلبَابهم سُلِبَت منهم، لا يَبرحون المكان حتّى يُكرّر: «اذهبوا وليكن السلام معكم.» حينئذ فقط يبدأ رحيل الزوّار الذين يتحدّثون كثيراً.
وتَذهَب المرأة المحجّبة كالمعتاد، بخطواتها السريعة والمتماوجة قليلاً. تبدو وكأنّ لها أجنحة بمعطفها الـمُنتَفِخ عند الكتفين بفعل الهواء.
«الآن سأعرف إذا ما كانت مِن إسرائيل.» يقول بطرس.
«لماذا؟»
«لأنّها إذا بَقِيَت هنا، فهذا يشير إلى...»
«إلى أنّها امرأة فقيرة لا مأوى لها، لا أكثر. تذكّر هذا يا بطرس.» ويسير يسوع باتّجاه البلدة.
«نعم يا معلّم، سوف أتذكّر ذلك... والآن، نحن ماذا نفعل بينما يبقى الجميع في بيوتهم مِن أجل العيد؟»
«ونِساؤنا يُشعِلنَ المصابيح لنا.»
«آسف... إنّها السنة الأولى التي لا أرى فيها المصابيح مُنارَة في بيتي، أو بالحريّ لا أُشعِلها أنا...»
«إنّكَ طفل كبير! سوف نُشعِل المصابيح، نحن أيضاً. وهكذا لن تتجهَّم. وأنتَ مَن سوف يُشعِلها.»
«أنا؟ ليس أنا يا سيدي. بل أنتَ ربّ عائلتنا. ولكَ أن تفعلها.»
«أنا، مصباح مُضاء على الدوام... وأريدكم أن تكونوا كذلك. أنا عيد الأنوار الأزليّ يا بطرس. هل تَعلَم أنّني وُلِدتُ، بالضبط، في الخامس والعشرين مِن شهر كانون الأول (ديسمبر)؟»
«إيه! مَن يدري كَم مِن الأنوار؟» يَسأَل بطرس مندهشاً.
«لم يكن ممكناً عَدّها... لقد كانت نجوم السماء كلّها...»
«لا! أوَلم تُقَم لكَ الاحتفالات في الناصرة؟»
«لم أُولَد في الناصرة، بل وسط الأنقاض في بيت لحم. أرى أن يوحنّا قد عَرَف أن يصمت. إنّه مطيع جدّاً، يوحنّا.»
«وهو ليس فُضوليّاً. إنّما أنا... فإنّني فُضوليّ للغاية! هل سَتَروي ذلك لسمعانكَ المسكين؟ وإلّا فما العمل للتحدّث عنكَ؟ أحياناً يسألني الناس فلا أعرف ما أقول... الآخرون يعرفون. أقصد إخوتكَ وسمعان وبرتلماوس ويوضاس بن سمعان و... نعم، توما أيضاً يُجيد التحدّث... تَحسَبه كَمَن يقوم بالدعاية في السوق... ليبيع بضاعته. ومتّى... جيّد كذلك... يملك إمكانيّة التحدّث... إيه! إنّه يَستَخدِم معرفة حُسن التصرّف القديمة التي كان يستخدمها بُغية سَلب الناس، في مكتبه الذي كان للجباية، ليَحمل الآخرين على القول: "إنّكَ محقّ". أمّا أنا! فيا لكَ يا سمعان بن يونا مِن مسكين! ولكن ماذا عَلَّمَتكَ الأسماك؟ والبحيرة؟ أَمرَين... ولكنّهما لا ينفعان في شيء. الأسماك: الصمت والدَّأْب، دَأبَها على الهروب مِن الشَّبكة ودَأبي على أن أضعها فيها. والبحيرة، أن أكون شُجاعاً، وأن تبقى عيني مُتيقّظة لكلّ شيء. والـمَركَب؟ الكَدّ دون الإشفاق على عضلاتي، البقاء واقفاً حتّى ولو كانت المياه مُضطَرِبة، وكنتُ مُعرّضاً للسقوط. العَين على نَجم القُطب، واليدان ثابتتان على الدَّفة. قوّة وشَجاعة ودَأب وانتباه، هذا ما عَلَّمتنيه حياتي البائسة...»
يضع يسوع يده على كتف سمعان ويهزّه، وهو يَنظُر إليه بحنان، نَظرَة مُفعَمَة إعجاباً، إعجاباً حقيقيّاً بتلك البساطة، ويقول: «وهل يبدو لكَ هذا قليلاً يا سمعان بطرس؟ أنتَ تمتلك كلّ ما يَلزَم لتكون "صخرتي". ما مِن شيء أُضيفه، ولا شيء أُزيله. سوف تكون الدليل الـمُرشِد الأبديّ يا سمعان. وستقول لِمَن يأتي بعدكَ: "العَين على نَجم القُطب: يسوع. واليد ثابتة على الدَّفة، قوّة وشَجاعة ودَأب وانتباه وكَدّ دون كَلَل، والعَين مُتيقّظة لكلّ شيء، ومعرفة البقاء وُقوفاً حتّى على مياه مُضطَرِبة...» أمّا بشأن الصمت... هيّا بنا... فالأسماك لم تُعلّمكَ إيّاه!»
«أَمّا بشأن ما يَجدُر بي معرفة قوله، فأنا أكثر بَكمَاً مِن الأسماك. العِبارات الأخرى؟... حتّى الدجاج يعرف أن يُنَقنِق كما أفعل... ولكن، قُل لي، يا معلّمي، هل تمنحني ابناً، أنا أيضاً؟ لقد أَصبَحنا طاعِنَين في السنّ... ولكنّكَ قُلتَ إنّ المعمدان وُلِدَ مِن امرأة طاعِنة في السنّ... والآن قُلتَ: "ولِمَن يأتي بعدكَ ستقول..." ومَن ذا الذي يأتي بَعدَ الرجل، إن لم يكن ابنه؟» وَجْهُ بطرس مُتَوَسِّل ومُفعَم أَمَلاً.
«لا يا بطرس. لا تغتمَّ لذلك. أنتَ تُشبه تماماً بحيرتكَ عندما تَحجب غيمة عنها الشمس. كلّ ما هو ضاحك يُصبِح مُكفَهرّاً. لا يا عزيزي بطرس. ولكن لن يكون لكَ ابن واحد، بل آلاف، بل عشرات الآلاف، وفي كلّ البلدان... ألا تَذكُر يوم قُلتُ لكَ: "ستكون صيّاداً للناس"؟»
«آه!... نعم... ولكن... إنّه لَعَذب جدّاً أن يقول لي طفل: "بابا"!»
«سوف يكون لكَ الكثير، بحيث لن تتمكّن مِن عَدّهم، وهم الذين سوف تَمنَحهم الحياة الأبديّة، وسوف تَلتَقيهم في السماء، وتأتي بهم إليَّ قائلاً: "هؤلاء هم أولاد بطرسكَ، وأريد أن يكونوا حيث أنا". وأنا أقول لكَ: "نعم يا بطرس. فليكن كما تريد، لقد عَمِلتَ كلّ ما في وسعكَ لأجلي، وسأفعل كلّ شيء مِن أجلكَ".» وقد قَطَعَ له تلك الوُعود بعذوبة لا مثيل لها.
يَبلَع بطرس لُعابه، بينما تتنازعه مشاعر الألم مِن أمل ميّت بأبوّة أرضيّة، ودموع فرح مِن نَشوة تُعلَن للتوّ. «آه! ربّي!» يقول. «ولكن لإعطاء حياة أبديّة، يجب حمل النُّفوس على المضيّ صَوب الخير. و...نعود دوماً إلى النقطة ذاتها: لا أُجيد الحديث.»
«سوف تُجيد الحديث، عندما يحين الوقت، وبشكل أفضل مِن غَمَالائيل.»
«أودُّ تصديق ذلك... إنّما افعل أنتَ هذه المعجزة، لأنّه لو تَوَجَّبَ عليَّ التوصُّل مِن ذاتي...»
يَضحَك يسوع ضحكته الهادئة ويقول له: «اليوم أنا كلّي لكَ. هيّا بنا إلى البلدة، إلى تلك الأرملة. لديَّ تقدمة سريّة: خاتم للبيع. هل تعرف كيف حَصَلتُ عليه؟ بينما كنتُ أصلّي عند أسفل تلك الصفصافة، وَصَلَ حَجَر عند قدميّ. وقد كانت صُرّة صغيرة مُعَلَّقة به مع قطعة مِن الرقّ. وكان الخاتم داخل الصُّرّة، أمّا على الرقّ فكلمة: "مَحَبّة".»
«هل تسمح بأن تُريني إيّاه؟ آه! كَم هو جميل! إنّه مِن امرأة. كم إصبعها صغير! ولكن كَم مِن المعدن فيه!...»
«ستبيعه أنتَ الآن. فأنا لا أُجيد ذلك. صاحب الفندق يشتري الذهب. أَنتَظِركَ جانب الفرن. اذهب يا بطرس.»
«ولكن... إذا لم أُحسِن التصرّف؟ أنا، والذهب... أنا لا أفْقَه شيئاً عن الذهب!»
«فَكِّر أنّ هذا قُوت لأناس جِياع، وافعل ما بوسعكَ. وداعاً.»
يَذهَب بطرس إلى اليمين، بينما يسوع يمضي، وبتمهّل، إلى اليسار، صوب البلدة التي تبدو بعيدة بعض الشيء، خلف غابة صغيرة، وهي أَبعَد مِن بيت الوكيل.