ج9 - ف29

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: ماري حلمي وفيكتور مصلح.

 

الجزء التاسع

 

29- (السبت المقدّس، II- الليل)

 

31 / 03 / 1945

 

تدخل مريم الّتي لحلفى بحذر وتُصغي. ربما تظنّ أن العذراء قد غفت. تقترب، تنحني وتراها راكعة، وجهها إلى الأرض على المنديل. تهمس: «يا للمسكينة! بقيت هكذا!»

 

المفروض أنّها ظنّتها نائمة هكذا أو مغمى عليها. ولكنّ مريم، وقد خرجت مِن مناجاتها، تقول: «لا، كنتُ أصلّي.»

 

«إنّما على ركبتيكِ! في الظلمة! في البرد! النافذة مفتوحة! انظري؟ إنّكِ متجمّدة.»

 

«لكنّني أشعر يا مريم أنّني أفضل كثيراً. فبينما كنتُ أصلّي -وحده الأزليّ يعلم كم كنتُ منهكة بعد مساندة المتردّدين مراراً كثيرة، إنارة أرواح لم ينرها موته نفسه- بدا لي أنّني شعرتُ بعطر ملائكيّ، انتعاش مِن السماء، لمسة جناح... للحظة... ليس أكثر. إنّما بدا لي ذلك وسط بحر المرار الّذي غمرني بهياجه طوال ثلاثة أيّام، كما لو أنّه قد بثّ قطرة مِن الحلاوة السلاميّة. لقد بدا لي كما لو أنّ قبّة السماء المغلقة انفرجت، وكما أنّ شعاعاً مِن الحبّ النورانيّ كان يهبط على الـمُهمَلة. قد بدا لي أنّ همسة لا مادّية آتية مِن مسافات لانهائيّة كانت تقول: "قد أُكمِل بحقّ." فصارت صلاتي، المكدّرة حتّى تلك اللحظة، أكثر سكوناً. تلوّنت بالسلام النورانيّ -آه! بالكاد تلوّنت!- بالسلام النورانيّ الّذي كان اتّصالي بالله في المناجاة... مناجاتي!... مريم هل أحببتِ كثيراً حلفى حينما كنتِ العروس العذراء؟»

 

«آه! مريم!... كنتُ أتهلّل فرحاً في الفجر وأنا أقول لنفسي: "مرّت ليلة. ومرّ معها يوم مِن الانتظار"، وكنتُ أتهلّل عند غروب الشمس قائلة: "يوم آخر قد انتهى. ودخولي تحت سقفه أضحى أقرب". وحينما كانت تغيب الشمس، كنتُ أغنّي كالقبّرة وأنا أفكّر: "سيأتي عمّا قليل". وحينما كنتُ أراه مُقبِلاً، بوجهه الجميل مثل يوضاسي -ولهذا يوضاس هو المفضّل لديّ- بعينه عين الأيل العاشق مثل يعقوبي، آه! حينئذ، لم أكن لأعرف أين أنا! وحينما كان يحيّيني قائلاً: "عروستي الحلوة!" وكنتُ أتمكّن مِن القول له: "سيّدي"، حينئذ كنتُ أظنّني... أظنّني لم أكن لأشعر بالألم حتّى لو دهستني عربة ثقيلة أو اخترقني سهم. وبعدها، عندما صرتُ عروسه... آه!» مريم تهيم في نشوة ذكرياتها. ثمّ تسأل: «ولكن لماذا هذا السؤال؟»

 

«لكي أشرح لكِ ما كانت المناجاة بالنسبة لي. ضاعفي أحاسيسكِ مئة مرّة، ارفعيها إلى قوّة ألف وألف، وستدركين ما كانت المناجاة بالنسبة لي على الدوام، انتظار هذه الساعة... نعم، أظنّ أنّني حتّى وإن لم أكن أصلّي في سلام المغارة أو غرفتي، وكنتُ أستسلم لعمل المرأة، فنفسي كانت تصلّي بلا انقطاع... وحينما كنتُ أتمكّن مِن القول: "ها هي ساعة لقائي بالله تحلّ"، كان قلبي يضطرم وهو يخفق بشدّة. وعندما كنتُ أتلاشى فيه... حينئذ... لا... هذا لا يمكنني شرحه لكِ. حينما تصبحين في نور الله ستفهمين... كلّ هذا كان قد ضاع منذ ثلاثة أيّام... وكان أكثر تمزيقاً مِن فقدان ابن... والشيطان كان يعمل على هذين الجرحين المتراكبين: موت ابني وهجر الله، مضيفاً إليهما جرحاً ثالثاً هو هول غياب الإيمان. مريم أنا أحبّكِ كثيراً، وأنتِ قريبتي. ستقولين هذا لولديكِ الرسولين فيما بعد، كي يعرفا المقاومة في رسالتهما التبشيريّة والانتصار على الشيطان. إنّني متأكّدة أنّني لو كنتُ تقبّلتُ الشكّ، واستسلمتُ لتجربة الشيطان، وكنتُ لأقول: "مِن غير الممكن أن يقوم" مُنكِرة الله -لأنّ في قول ذلك إنكار لحقيقة وسلطان الله- كان ليتهاوى في العدم فداء عظيم جدّاً. وأنا، حواء الجديدة، كنتُ سأقضم ثانية مِن تفّاحة الكبرياء والحسّ الروحيّ وكنتُ لأخرّب عمل فاديَّ. وسيُجرَّب الرُّسُل هكذا باستمرار: مِن العالم، مِن الجسد، مِن السُّطة، مِن الشيطان. فليلبثوا ثابتين، أمام كلّ العذابات، والجسديّات تصبح الأكثر خفّة، كي لا يهدموا ما فعله يسوع.»

 

«قوليه أنتِ يا مريم لابنيّ... ماذا تريدين أن تعرف سلفتكِ المسكينة قوله؟! آه! ومع ذلك! لو كانا قد أتيا! الصبر، الهروب مِن الساعة الأولى! ولكن بعد ذلك!»

 

«أنتِ ترين أنّ لعازر وسمعان كانا قد أُمِرا بقيادتهم إلى بيت عنيا. فيسوع يعلم كلّ شيء...»

 

«نعم... ولكن... آه! حينما سأراهما، سأعاتبهما عتاباً مُرّاً. كانا جبانين. ليكن الجميع جبناء! أمّا هما، ولداي، فلا! لن أسامحهما أبداً...»

 

«سامحي، سامحي... كانت لحظة ضياع... لم يكونا يظنّان أنّه كان بالإمكان القبض عليه. هو قالها...»

 

«ومِن أجل هذا تماماً لا أسامحهما. لأنّهما كانا يعرفان. وكانا مُستعدَّين إذن. وحين العلم بالشيء والإيمان بمن قاله، لا يعود شيء يُدهِش!»

 

«مريم، لكم أيضاً قال: "سأقوم". ومع ذلك... لو كنتُ أستطيع فتح صدركم ورأسكم، ففي القلب والعقل كنتُ سأقرأ: "لا يمكن أن يكون هذا".»

 

«ولكن على الأقلّ... نعم... صعب هو الإيمان... ولكنّنا بقينا مع ذلك في موضع الصلب.»

 

«بنعمة مجانيّة مِن الله. وإلا لهربنا نحن أيضاً. لونجين، هل سمعتِه؟ قال: "شيء رهيب". وهو مُحارِب. ونحن النساء، وحدنا مع شاب، صمدنا بفضل معونة مباشرة مِن الله. لا تفاخري إذاً. فليس هذا بجدارتنا.»

 

«ولماذا ليست لهم؟»

 

«لأنّهم سيكونون كَهَنَة المستقبل. فعليهم إذاً المعرفة. المعرفة بالاختبار، كم الجحود سهل على مَن كان وفيّاً لفعل إيمان. إنّ يسوع لا يريد كَهَنَة قليلي الوفاء له لدرجة أن يصيروا أعداءه الأكثر عنداً...»

 

«أنتِ تتكلّمين عن يسوع وكأنّه كان قد رجع بالفعل.»

 

«هل ترين؟ أنتِ أيضاً تعترفين بأنّكِ لا تؤمنين. فكيف يمكنكِ إذاً لوم ابنيكِ؟»

 

لا تعرف مريم الّتي لحلفى بماذا تردّ. تنكّس رأسها، تحرّك الأشياء آليّاً. تعثر على المصباح الصغير وتخرج به، لترجع به بعد إضاءته وتضعه في مكانه المعتاد.

 

مريم جلست مِن جديد بجوار المنديل المفرود. المنديل الّذي تحت الضوء الأصفر لمصباح الزيت، بشعلته المرتجفة، يكتسب حيويّة خاصّة ويبدو كأنّه يحرّك الفم والعينين.

 

«ألا تتناولين شيئاً؟» تسأل سلفتها وهي مكدّرة قليلاً.

 

«القليل مِن الماء. أنا عطشانة؟»

 

تذهب مريم لتعود... ومعها حليب.

 

«لا تصرّي، لا أستطيع. الماء نعم. لم يعد فيّ ماء... وأظنّ حتّى ولا دم. ولكن...»

 

طَرْق على الباب. تخرج مريم الّتي لحلفى. وَشوَشة في الرواق ثمّ يُدخِل يوحنّا رأسه.

 

«هل رجعتَ يا يوحنّا؟ أأيضاً لا شيء؟»

 

«بلى. سمعان بطرس... ورداء يسوع... معاً... في جَثْسَيْماني. الرداء...» ينسلّ يوحنا على ركبتيه ويقول: «ها هو... ولكنّه ممزّق تماماً ومليء بالدم. طبعات اليدين ليسوع. هو وحده الّذي كانتا له طويلتين ونحيفتين جدّاً. أمّا التمزّقات فبفعل أسنان، وواضح أنّه فم رجل. أظنّ أنّه... أنّه كان يهوذا الاسخريوطيّ، إذ بالقرب مِن المكان الّذي عَثَر فيه سمعان بطرس على الرداء، كانت هناك قطعة مِن ثوب يهوذا الأصفر. لقد عاد هناك... بعدئذ... قبل أن يقتل نفسه. انظري يا أُمّي.»

 

مريم لا تفعل شيئاً سوى لمس وتقبيل رداء ابنها الثقيل الأحمر، ولكن بسبب إلحاح يوحنّا، تفتحه وترى انطباعات دم داكنة على لون الدم الأحمر وتمزّقات الأسنان. ترتعش وتهمس: «كم مِن الدم!» تبدو وكأنّها لا ترى سواه.

 

«أُمّي... الأرض احمرّت. سمعان، الّذي أسرع إلى أعلى في ساعات الصباح الأولى، يقول إنّ العشب كان ما يزال عليه دم ندِيّ على الأوراق... يسوع... لا أعرف... لم يكن يبدو مجروحاً... مِن أين أتى كلّ هذا الدم؟»

 

«مِن جسده. بسبب الكرب... آه! يسوع-الضحيّة الكاملة! آه! يسوعي!» مريم تبكي بكثير مِن الحرقة، بنحيب شديد، بحيث أنّ النساء يُقبِلن نحو الباب لينظرن، ثمّ ينسحبن. «هذا، هذا بينما كان الجميع يهجرونكَ... أنتم، ماذا كنتم تفعلون بينما هو كان يكابد نزاعه الأوّل؟»

 

«كنّا نياماً يا أُمّي...» ويبكي يوحنّا.

 

«هل كان سمعان هناك؟ أخبرني.»

 

«كنتُ قد ذهبتُ أبحث عن الرداء. كنتُ قد فكرتُ أن أسأل يونا ومرقس... ولكنّهما هربا. المنـزل مغلق وكلّ شيء مهجور. حينئذ نزلتُ إلى الأسوار لأسير على طول الطريق الّتي سُلِكت يوم الخميس... كنتُ في ذلك المساء بغاية التعب والحزن، حتّى إنّني لم أكن لأتذكّر أين ترك يسوع معطفه. خُيّل إليّ أنّه كان يلبسه ثمّ لم يعد عليه... في مكان الاعتقال، لا شيء... حيث كنّا نحن الثلاثة، لا شيء...  فاتجهت إلى الدرب الّذي سلكه المعلّم... فرأيتُ سمعان متكوّراً بجوار الصخرة، وظننتُ أنّه كان قد مات أيضاً. صرختُ، فرفع رأسه... ظننتُه مجنوناً لشدّة تبدّله. صرخ وحاول الهرب. ولكنّه كان يترنّح، وقد أعمته الدموع الّتي كان قد ذرفها، فأمسكتُ به. فقال لي: "اتركني. إنّني شيطان. لقد أنكرتُه، كما كان هو يقول... وصاح الديك وهو نظر إليّ. فهربتُ... ركضتُ في كلّ اتّجاه عبر الريف ثمّ وجدتُ نفسي هنا. وهل ترى؟ لقد جعلني يهوه أجد هنا دمه ليتّهمني. دم في كلّ مكان! دم في كلّ مكان! على الصخرة، على الأرض، على العشب. أنا قد تسبّبتُ في إراقته. كما أنتَ، كما الجميع. أمّا أنا فقد أنكرتُ هذا الدم". قد كان يبدو لي وكأنّه يهذي. حاولتُ تهدئته وإبعاده. ولكنّه لم يكن يريد. كان يقول: "هنا! هنا! لحراسة هذا الدم وردائه. أريد أن أغسله بدموعي. وحينما لا يعود هناك دم على النسيج، قد أعود حينئذ وسط الأحياء قارعاً صدري وقائلاً: ‘لقد أنكرتُ الربّ’". فقلتُ له إنّكِ كنتِ تريدينه وكنتِ قد أرسلتِني لأبحث عنه. ولكنّه لم يكن يريد التصديق. حينئذ قلتُ له إنّكِ كنتِ تريدين أيضاً يهوذا كي تغفري له وإنّكِ كنتِ تتألّمين لعدم تمكّنكِ مِن ذلك بعد بسبب انتحاره. حينئذ بكى ولكن بهدوء أكثر. أراد أن يعلم. كلّ شيء. وروى لي أنّ العشب كان ما يزال الدم عليه نديّاً وأن الرداء قد عومل بسوء مِن قِبَل يهوذا، حيث أنّه كان قد وجد قطعة مِن ملابسه. تركتُه يتكلّم ويتكلّم، ثمّ قلتُ له: "تعال إلى الأُمّ." آه! كم توسّلتُ كي أقنعه! وحينما كان يبدو لي أنّني نجحتُ في إقناعه، ووقفتُ للمجيء، هو ما عاد يريد. فقط حين حلّ المساء أتى. ولكن ما أن عبر الباب، حتّى اختبأ مِن جديد في بستان مهجور، قائلاً: "لا أريد أن يراني الناس. على جبهتي مكتوب: ناكر الله." الآن، وقد هبط الليل تماماً، نجحتُ في سحبه إلى هنا.»

 

«أين هو؟»

 

«خلف هذا الباب.»

 

«أَدخِله.»

 

«أُمّي...»

 

«يوحنّا...»

 

«لا تلوميه. إنّه تائب.»

 

«أما زالت معرفتكَ بي قليلة؟ أَدخِله.»

 

يخرج يوحنّا. ويرجع بمفرده. يقول: «لا يجرؤ. حاولي أن تناديه أنتِ.»

 

ومريم بلطافة: «سمعان بن يونا، تعال.» لا شيء. «سمعان بطرس، تعال.» لا شيء. «سمعان يسوع ومريم، تعال.» نوبة بكاء حادّة. ولكنّه لا يدخل. تنهض مريم. تترك الرداء على الطاولة وتتوجّه صوب الباب.

 

بطرس متلملم بالخارج مثل كلب بلا سيّد. يبكي بشدّة، متكوّراً حتّى إنّه لم يسمع صرير الباب الّذي يُفتَح، ولا صوت حذاء مريم. يتنبّه إلى أنّها هنا حينما تنحني لتمسك يده الضاغطة على عينيه وتجبره على الوقوف. تدخل الغرفة وهي تسحبه مثل ولد. تُقفِل الباب وتضع المزلاج، ومنحنية مِن الحزن كما هو مِن الخجل، تعود إلى مكانها.

 

يمضي بطرس إلى قدميها، جاثياً على ركبتيه، ويبكي دون توقّف. مريم تمسح شعره الرماديّ، المبلّل بالعرق بسبب الألم. ما مِن شيء آخر سوى هذا المسح، حتّى يغدو أكثر سكوناً. أخيراً، عندما يقول بطرس: «لا يمكنكِ أن تغفري لي. فلا تلاطفيني إذاً، فأنا قد أنكرتُه.» فتقول مريم: «بطرس، أنتَ أنكرتَه، هذا صحيح. لقد كانت لكَ الشجاعة لإنكاره علانية، الشجاعة الدنيئة لفعل هذا. وما عدا الرُّعاة ومَنَاين، نيقوديموس ويوسف ويوحنّا، فإنّ الآخرين جميعاً... لم يكونوا سوى جبناء. الجميع أنكروه: رجال ونساء إسرائيل، عدا بضعة نسوة... لا أذكر أبناء الأخت وحلفى بن سارة، فهؤلاء كانوا أهلاً وأصدقاء. أمّا الآخرون!... فلم تكن لديهم حتّى الشجاعة الشيطانيّة ليكذبوا كي ينقذوا أنفسهم، ولا الشجاعة الروحيّة للتوبة والبكاء، ولا الشجاعة الأعظم للاعتراف علانية بالخطأ. أنتَ رجل مسكين. كنتَ بالأحرى كذلك طالما بالغتَ بالاعتداد بنفسكَ. الآن أنتَ إنسان. غداً، ستصبح قدّيساً. وحتّى ولو لم تكن ما أنتَ عليه، كنتُ مع ذلك سأسامحكَ. كنتُ سأسامح يهوذا، لأخلّص روحه. لأنّ قيمة روح، حتّى واحد فقط، تستحقّ كلّ الجهود للتغلّب على الكراهيات والأحقاد، حتّى الانسحاق. تذكّر هذا يا بطرس. وأكرّره عليكَ: إنّ قيمة نَفْس واحدة هي هكذا، حتّى ولو استوجب ذلك الموت مِن الجهد لبلوغ القرب منها، يجب أن نمسكها هكذا، بين الذراعين، كما أُمسك رأسكَ الأشيب، إذا أدرك المرء أنّه بإمساكه بها هكذا يخلّصها. هكذا كالأُمّ الّتي، بعد العقاب الأبويّ، تضمّ رأس ابنها المذنب إلى قلبها، وأكثر مِن ذلك بحديث قلبها الممزّق الّذي يخفق، يخفق حبّاً وألماً، تصوّبه وتردّه، أكثر منه بالضربات الأبويّة. يا بطرس الّذي لابني، بطرس المسكين الّذي كنتَ، مثل الجميع، بين يديّ الشيطان في ساعة الظلمات تلك، ولم تتبيّن ذلك، وتظنّ أنّكَ كنتَ تتصرّف مِن ذاتكَ، تعال، تعال هنا إلى قلب أُمّ أبناء ابني. هنا، لن يؤذيكَ الشيطان بعد. هنا تهدأ العواصف في انتظار الشمس- يسوعي، الّذي سيقوم كي يقول لكَ: "السلام لكَ، يا بطرسي"، وترتفع نجمة الصبح. نقيّة، بهيّة، وتجعل كلّ مَن تُقبّله نقيّاً بهيّاً، كما يحدث في ماء بحرنا الصافي في الصباحات الربيعة المنعشة. مِن أجل هذا أردتُكَ كثيراً. عند أقدام الصليب، كنتُ أتعذّب بشدّة بسببه وبسببكم -كيف لم تشعر بهذا؟- وكنتُ أنادي أرواحكم بقوّة لدرجة أنّني اعتقدتُ أنّها أتت بالفعل إليّ. وإذ حُبستم في قلبي، أو بالأحرى وُضِعتم على قلبي، مثل خبز التقدمة، فقد أبقيتُكم تحت حمّام دمه ودموعه. كنتُ أستطيع ذلك، لأنّه، عبر يوحنّا، جعلني أُمّاً لكلّ ذرّيته... كم أردتُكَ!... في ذلك الصباح، في عصر ذاك اليوم، وفي الليل واليوم الجديد... لماذا جعلتَ الأُمّ تنتظر كثيراً، يا بطرس المسكين، المجروح والـمُداس مِن الشيطان؟ ألا تعرف أنّ مهمّة الأُمّهات إعادة الترتيب، الشفاء، الغفران، والقياد؟ أقودكَ إليه. هل تريد رؤيته؟ هل تريد أن ترى ابتسامته كي تقتنع أنّه ما زال يحبّكَ بعد؟ نعم؟ آه! إذاً، انفصل عن صدري، صدر المرأة المسكينة، وَضَع جبهتكَ على جبهته المكلّلة، فمكَ على فمه المجروح، وقَبّل ربّكَ.»

 

«لقد مات... ولم يعد بإمكاني هذا أبداً.»

 

«بطرس، أجبني. بالنسبة إليكَ، ما هي آخر معجزة لربّكَ؟»

 

«الأفخارستيا. أو بالحريّ، لا. هي شفاء الجنديّ هناك.. هناك... آه! لا تجعليني أتذكّر!...»

 

«امرأة وفية، مُِحبّة، شُجاعة، لحقت به إلى موضع الصلب ومسحت وجهه. وهو، كي يقول ما يقدر عليه الحبّ، طبع وجهه على النسيج. ها هو يا بطرس. هذا هو ما نالته امرأة في ساعة الظلمات الجهنميّة والغضب الإلهيّ، فقط لأنّها أحبّت. تذكّر هذا يا بطرس. مِن أجل الأوقات الّتي سيُخيَّل لكَ فيها أنّ الشيطان أقوى مِن الله. الله كان سجين الناس، منهكاً، محكوماً، مجلوداً، والآن ميتاً... ومع ذلك، بما أنّ حتّى في أشقّ الاضطهادات، الله هو الله على الدوام، وإذا ما ضُرِب الفكر، فالله الّذي يُوجِده لا يُمَسّ، وها هو الله، الّذي يجيب الناكرين، والكافرين، وذوي حماقة كلمة "لماذا"، وللمذنبين بالقول: "لا يمكن أن يكون ذلك"، لمدنِّسي المقدّسات بقولهم: "ما لا أفهمه ليس صحيحاً"، يجيب بهذا النسيج بلا كلمات. انظر إليه. لقد قلتَ لي يوماً، إنّكَ كنتَ تقول لاندراوس: "مَسيّا سيتجلى لكَ؟ لا يمكن أن يكون ذلك صحيحاً!" ثمّ كان على منطقكَ البشريّ أن يخضع لقوّة الروح الّتي كانت ترى مَسيّا حيث لم يكن المنطق يراه. وفي مرّة أخرى، في البحر أثناء العاصفة، كنتَ تسأل: "هل آتي يا معلّم؟" ثمّ في منتصف الطريق، على الماء الهائج، شككتَ قائلاً: "لا يمكن للماء أن يحملني"، وبسبب شكّكَ أوشكتَ على الغرق. فقط عندما ينتصر الروح الّذي يعرف أن يؤمن على المنطق البشريّ، يمكنكَ أن تجد العون مِن الله. ومرّة أخرى كنتَ تقول: "إذا كان لعازر قد مات منذ أربعة أيّام، فلماذا أتينا؟ لنموت عبثاً". ذلك أنّكَ بمنطقكَ البشريّ لم يكن بإمكانكَ تقبّل حلّ آخر. ومنطقكَ كَذّبه الروح، الّذي بإظهاره لكَ بالّذي أُقيم مجد الّذي أقامه، قد بيّن لكَ أنّكم لم تكونوا قد ذهبتم سدى. وفي مرّة أخرى، بل بالأحرى في مرّات أخرى عديدة، كنتَ تقول، وأنتَ تسمع ربّكَ يتكلّم عن الموت، وعن الموت المريع: "هذا لن يحدث لكَ أبداً!" وترى مدى تكذيب منطقكَ. وأنا، الآن، أنتظر سماع كلمة روحكَ في هذه الحالة الأخيرة...»

 

«المغفرة.»

 

«ليس هذه. كلمة أخرى.»

 

«أؤمن.»

 

«أخرى.»

 

«لا أعلم...»

 

«أنا أُحِب. أَحبِب يا بطرس. وسيُغفَر لكَ. ستؤمن. ستصير قويّاً. ستصير الكاهن، ليس الفرّيسيّ الّذي يُثقِل وليس لديه سوى الشكليّات وليس الإيمان الفعّال. انظر إليه. تجرّأ على النظر إليه. الجميع نظروا إليه وأَجلّوه. حتّى لونجين... وأنتَ لا تعرف؟ ومع ذلك قد استطعتَ أن تنكره! إن لم تتعرّف عليه الآن، مِن خلال نار أمومتي، ألمي المحبّ الّذي يجمعكم، ويعيد لكم السلام، فلن تستطيع أبداً. هو يقوم. كيف سيمكنكَ النظر إليه في سطوعه الجديد، إن كنتَ لا تعرفه في وجهه الّذي للمعلّم الّذي تعرفه، لتصل إلى معرفة الظافر الّذي لا تعرف؟ إذ إنّ إزميل ومطرقة الألم، كلّ ألم الأجيال والعالم، قد عملت على وجهه وغيّرته خلال هذه الساعات مِن مساء الخميس إلى الساعة التاسعة ليوم الجمعة [ما يقابل الساعة الثالثة بعد الظهر]. قبل ذلك كان فقط المعلّم والصديق. الآن هو القاضي والـمَلِك. لقد اعتلى عرشه ليحكم، لبس التاج، وسيبقى هكذا. عدا عن أنّه لن يكون بعد القيامة المجيدة الإنسان القاضي والـمَلِك. بل الله القاضي والـمَلِك. انظر إليه. انظر إليه بينما البشريّة والألم يحجبانه كي تتمكّن مِن النظر إليه حينما ينتصر في ألوهيّته.»

 

أخيراً يرفع بطرس رأسه مِن على ركبتيّ مريم وينظر إليها، بعينين حمراوين مِن الدموع، في وجه طفل عجوز حزين ومذهول مِن الشرّ الّذي صنعه ومن الخير العظيم الّذي يجده.

 

تُجبره مريم على النظر إلى ربه. حينئذ يئنّ بطرس كما أمام وجه حيّ: «سامحني، سامحني! لا أدري كيف حدث هذا. ما كان هذا. لم أكن أنا. كان هناك شيء يعمل لم يكن أنا! ولكنّني أحبّكَ يا يسوع! أحبّكَ يا معلّمي! ارجع! ارجع! لا تمضِ هكذا دون أن تقول أنّكَ فهمتني!» تكرّر مريم الحركة الّتي قامت بها في حجرة الدفن. الذراعان ممدودتان، واقفة، وكأنّها الكاهنة لحظة التقدمة. وكما قدّمت هناك القربان الّذي بلا عيب، فهي تقدّم هنا الخاطئ التائب. إنّها بحقّ أُمّ القدّيسين والخطأة! ثمّ تُنهِض بطرس، تواسيه بعد، وتقول له: «الآن أنا أكثر فرحاً. أعلم أنّكَ هنا. امضِ الآن إلى جانب النساء ويوحنّا. كلّكم بحاجة إلى الراحة والقوت. اذهب وكن طيّباً...» وكأنّها تحدّث طفلاً.

 

ثمّ، في المنـزل، الّذي هو أكثر سكينة في هذه الليلة الثانية منذ موته، تميل العادات البشريّة مِن نوم وطعام إلى العودة مِن جديد، وتُبرِز المظهر الـمُتعَب والمذعن للساكنين حيث يتعافى الأحياء ببطء مِن صدمة الموت، فقط مريم تريد أن تظلّ واقفة، ثابتة في مكانها، في انتظارها، في صلاتها. دائماً. دائماً. دائماً مِن أجل الأحياء والأموات. مِن أجل الصالحين والخطأة. مِن أجل عودة، عودة، عودة الابن.

 

أرادت سلفتها أن تبقى معها، ولكنّها تنام الآن نوماً ثقيلاً وهي جالسة في أحد الأركان، ورأسها متّكئ على الجدار. تأتي مريم ومرثا مرّتين، بعد ذلك، إذ تنعسان، تنسحبان إلى غرفة مجاورة وبعد كلمات قليلة تغطّان هما كذلك في النوم... وأبعد قليلاً، في غرفة صغيرة كاللعبة، تنام سالومة مع سُوسَنّة، بينما على حصيرتين على الأرض ينام بجلبة بطرس ويوحنّا. الأوّل بنحيب آلي تائه وسط شخيره، والثاني بابتسامة طفل يحلم برؤى مفرحة.

 

تستعيد الحياة نشاطها، والجسد حقوقه... وحدها نجمة الصبح تتألّق بلا نوم، بحبّها، ساهرة بقرب صورة ابنها.

 

وتمرّ ليلة السبت المقدّس هكذا، حتّى لحظة صياح الديك، مع أوّل شعاع نور للفجر، الّذي يوقظ بطرس وهو يصيح، وصيحته الخائفة والأليمة توقظ النائمين الآخرين.

 

انتهت المهادنة بالنسبة إليهم، وعادت المشقّة. بينما هي لا تؤدّي سوى إلى تعاظم قلق الانتظار لدى مريم.

 

--- نهاية الجزء التاسع ---