ج2 - ف47
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الثاني / القسم الأول
47- (يسوع يبكي بسبب يهوذا. وسمعان الغيور يُواسيه)
20 / 01 / 1945
القرية التي يتواجد يسوع فيها ثريّة. بستان بديع، فردوس رائع ذو عناقيد كثيرة بَدَأَت تتلوَّن بلون الذهب والياقوت. يسوع يجلس في بستان ويأكل مِن ثمار قَدَّمَها لـه أحد القرويّين. قد يكون تحدّث قليلاً قبل ذلك، فالرجل يقول: «أنا سعيد بإرواء ظمئكَ يا معلّم. فلقد حَدَّثَنا تلميذكَ عن حكمتكَ، إلّا أنّ الذهول قد أَخَذَ مِنّا كُلّ مَأخَذ لدى استماعنا إليكَ. إنّنا على مَقرُبة مِن المدينة المقدّسة، ونتردّد إليها باستمرار لبيع الفاكهة والخضار، وحينذاك نَصعَد إلى الهيكل للاستماع إلى الرابّيين. إلّا أنّهم بَعيدون كُلّ البُعد عن التحدُّث بمثل حديثكَ. كنّا نعود مِن هناك ونحن نقول: "إذا كان الأمر كذلك، فَمَن ذا الذي سيبلغ إلى الخلاص؟" أمّا أنتَ فعلى العكس! آه! نحسب قلوبنا في سكون! إنّ القلب يستعيد طفولته مع الاحتفاظ بالرجولة. إنّني غير مثقّف... لا أعرف كيف أُعَبِّر. إنّما أنتَ فإنَّكَ تُدرِك، بكلّ تأكيد.»
«نعم، أفهَمُكَ، تريد القول بأنَّه وعلى الرغم مِن رصانتكَ ومعرفتكَ للأمور الخاصّة بالكهول، فإنَّكَ تشعر، بعد سماع كلام الله، بالبساطة والإيمان والطُّهر الذي يعود ليُولَد في قلبكَ، فيبدو لكَ كما لو أنّكَ عُدتَ طفلاً، دونما خطايا ولا أفعال خُبث، مع كثير مِن الإيمان، كما حينما تكون ممسكاً بيد أُمّكَ وتَصعَد إلى الهيكل لأوّل مرة، أو حين تكون على ركبتيها تصلّي، هذا ما تريد قوله.»
«هذا هو بالضبط. يا لسعادتكم، يا مَن أنتم معه على الدوام!» يقول بعد ذلك ليوحنّا وسمعان ويهوذا الذين يأكلون التين الذي تَقطر عُصارته، وهم جالسون على جدار صغير. ويَختُم بالقول: «وأنا سعيد لأنّني آويتكَ الليلة. فلم أعد أخشى الشقاء في بيتي لأنّ بركتكَ قد حَلَّت فيه.»
ويُجيب يسوع: «البركة تفعل فعلها وتَثبُت إذا ما بَقِيَت النُّفوس مُخلِصة ووفيّة لشريعة الله وتعليمي. وفي حال العكس فإنّ النِّعمة تتلاشى. هذا صحيح. فإنّه، إذا كان حقّاً أنّ الله يَهِب الشمس والهواء للصالحين كما للأشرار على السواء، لكي يحيوا، وإذا كانوا صالحين يزدادون صلاحاً، وإذا كانوا أشراراً يَرعوون ويَهتدون، فصحيح كذلك أنّه مِن الجهة الأخرى، حماية الأب تصبح تأديباً للشرّير لكي يعود عن طريق الآلام إلى تذكّر الله.»
«أوليست الآلام شرّاً دائماً؟»
«لا، يا صديقي، إنّها شَرّ مِن وِجهة نظر بشريّة، إنّما مِن وِجهة نظر فوق بشريّة، فهي خير. إنّها تزيد مِن استحقاقات الأخيار الذين يحتملونها دونما يأس ولا ثورة ويُقدّمونها، بتقديمهم ذواتهم مع إذعانهم بالتضحية التكفيريّة عن نقائصهم الذاتيّة وعن خطايا العالم، إنّها فداء لغير الصالحين.»
«إنّ الألم جدّ صعب!» يقولها القرويّ وقد انضمّ إليه أفراد عائلته: عشرة أفراد ما بين كهل وطفل.
«أَعلَم أنّ الإنسان يجد ذلك صعباً. ومع العلم بكيفيّة حُكم البشر على الآلام، فالآب لم يكن قد وَضَعَها في أبنائه. لقد حَصَلَت على أَثَر الخطيئة. إنّما كم تدوم الآلام على الأرض؟ زمن حياة الإنسان قصير، دائماً قصير حتّى ولو استمرّ العمر بطوله. الآن أقول لكم: أليس التألُّم زمناً قصيراً أفضل مِن التألُّم على الدوام؟ أليس التألُّم هنا أفضل مِن أن يكون ذلك في المطهر؟ فَكِّروا، فالزمن هنـاك مضروب بألف ضعف. آه! الحقّ أقـول لكم إنـّه يجب ألّا نَلعَن الألم بل أن نبـاركه وأن ندعـوه "نعمة" ونسمّيه "رحمة".»
«آه! يا لكلماتكَ يا معلّم! إنّنا نشربها كَمَن يُطفِئ لهيب ظَمَئه في الصيف بنبيذ العسل الذي يسكُبه مِن جَرَّة رطبة. هل سترحل غداً يا معلّم؟»
«نعم غداً، إنّما سوف أعود لأشكركَ على كلّ ما فَعَلتَه مِن أجلي ومن أجل هؤلاء الذين هم أصدقائي، ولأطلب منكَ زاداً وفترة استراحة.»
«سوف تَجِد ما تطلُبُه هنا على الدوام يا معلّم.»
رَجُل يسير ومعه جحش مُحَمَّل بالخضار.
«إذا كان صديقكَ يبغي الذهاب... فإنّ ابني ماضٍ إلى أورشليم، إلى السوق الكبير عشيّة السبت.»
«اذهب يا يوحنّا، إنّكَ تَعلَم ما ينبغي لكَ فِعله. وسوف نلتقي خلال أربعة أيّام. ليكن سلامي معكَ.» يُعانِق يسوع يوحنّا ويُقَبِّله. وكذلك يَفعَل سمعان.
يقول يهوذا: «يا معلّم، لو تسمح، فسأذهب مع يوحنّا. إنّني أحرص على رؤية صديق. إنّه يتواجد في أورشليم كلّ سبت. سأذهب مع يوحنّا إلى بيت فاجي (Betphajé) فقط، ثمّ أتابع في حال سبيلي... إنّه صديق العائلة... تَعلَم... طَلَبَت مِنّي أُمّي...»
«لَم أسألكَ شيئاً يا صديقي.»
«آسف لترككَ. إنّما خلال أربعة أيّام سوف أعود إليكَ مِن جديد. وسوف أكون وفيّاً لدرجة أنْ سوف تَضجَر مِنّي.»
«امضِ إذاً. وفي فجر اليوم الرابع كُن عند باب السمك. الوداع وليحفظكَ الله.»
يُقَبِّل يهوذا المعلّم وينطَلِق بجانب الجحش الذي يخبّ على الطريق الترابيّة.
يَهبط الظلام على القرية التي أضحَت ساكِنة. وسمعان يُراقِب عمل البُستانيّين الذين يَروُون أثلامهم.
يبقى يسوع في مكانه بعض الوقت ثمّ يَنهَض، يدور خلف المنزل ويُوغِل في البستان. يَنفَرِد. يَذهَب إلى غَيضة كثيفة حيث توجد أشجار رمّان كبيرة تُفَرّقها أدغال مرتفعة قليلاً قد تكون مِن الكشمش (Groseillers - نوع من العنب). لستُ متأكّدة تماماً. فهي لا تَحمِل ثماراً وأنا أعرف القليل عن أوراقها. يتوارى يسوع خلفها. يجثو. يصلّي... ثمّ ينحني ووجهه إلى الأرض على العشب ويبكي. هذا ما عَنَته لي تنهّداته العميقة المتقطّعة. إنّه بكاء مُثبّط العزيمة بدون نحيب، إنّما حزين للغاية.
يُمضِي فترة طويلة على هذه الوضعيّة. ثمّ ها هو نور الغَسَق الباهت، ذلك أنّ الليل لم يهبط بعد، وفي هذا النور الضعيف، يمكن، مِن فوق دغل، تمييز وجه سمعان القبيح إنَّما النزيه. إنّه يَنظُر، يَبحَث ويميّز شكل المعلّم الـمُنكَفِئ، وقد تَدَثَّر بمعطفه الأزرق الداكن الذي يجعله يكاد يختفي وسط ظِلال الأرض. بالكاد يرى الرأس الأشقر واليدين المضمومتين للصلاة، المرتفعتين أعلى مِن الرأس المتّكئ على الزندين. يَنظُر إليه سمعان بعينيه البقريّتين (الواسِعَتين والوادِعَتين). يُدرِك أنّ يسوع حزين، مِن خلال التنهّدات التي يُطلِقها، ويفتح فمه ذا الشَّفَتَين الغليظتين والمائلتين إلى اللون البنفسجيّ، وينادي: «يا معلّم».
يَرفَع يسوع وجهه.
«هل تبكي يا معلّم؟ لماذا؟ أتسمح لي بالمجيء إليكَ؟» ووجه سمعان هنا يُعَبِّر عن الدهشة والمعاناة. إنّه رجل دَميم، وتُضاف إلى قسماته القبيحة، وبشرته الزيتونيّة الداكنة، الـمَسحَة المائِلة إلى الزُّرقة والعميقة لندبات قديمة، مِن آثار إصابته، إنّما له نظرة طيّبة لدرجة أنّ قباحته تتلاشى معها.
«تعال يا سمعان صديقي.»
يَجلس يسوع على العشب، ويَجلس سمعان إلى جانبه.
«لماذا أنت حزين يا معلّمي؟ أنا لستُ يوحنّا ولا أعرف أن أُقدّم لكَ ما يُقدّمه هو، إنّما لديَّ رغبة بأن أُخفّف عنكَ. ولستُ أشعر سوى بألم واحد، هو أنّني غير قادر على ذلك. قل لي: ألعلّي نَغَّصتُ عليكَ في الأيّام الأخيرة لدرجة أنّ بقاءكَ معي أضحى مصدر معاناة لكَ؟»
«لا يا صديقي الطيّب، أبداً لم تُنَغِّص عليَّ منذ أن رأيتُكَ. وأعتقد أنّني لن أجد أبداً مِن المبرّرات ما يدعو للمعاناة منكَ.»
«فإذاً يا معلّم؟ لستُ أهلاً لثقتكَ؛ إنّما في مثل سنّي أكاد أكون بمثابة الأب لكَ، وأنتَ تَعلَم مدى رغبتي، منذ زمن، في أن يكون لي وَلَد... فدعني ألاطفكَ كما لو كنتَ ابني، ودعني أكون في مكانة الأُمّ والأب لكَ في فترة الألم هذه. هذا لأنّكَ بأمسّ الحاجة إلى أُمّكَ لتنسى أموراً كثيرة...»
«آه! نعم! إنّني في حاجة إلى أُمّي!»
«إذاً، بانتظار أن تستطيع إيجاد عزائكَ بقربها، دع لخادمكَ أن يُسَرَّ بمواساتكَ. إنّكَ تبكي، يا معلّم، لأنّ أحداً قد نَغَّص عليكَ. منذ أيّام ووجهكَ كالشمس عندما تغشاها الغيوم. إنّي أراقبكَ. صلاحكَ وطيبتكَ تُخفِيان جرحكَ، لكي لا نَكرَه مَن يجرحكَ، إلّا أنّ هذا الجرح يؤلمكَ ويجعلكَ تشمئزّ. إنّما قل لي يا سيّدي: لماذا لا تَصرف مَصدر هذا الألم؟»
«ذلك لأنّ هذا غير مُجدٍ إنسانيّاً، وهو ضدّ المحبّة.»
«آه! لقد أدركتَ أنّني أتحدّث عن يهوذا! فبسببه أنتَ تتألّم. كيف تستطيع، وأنتَ الحقّ، أن تتحمّل هذا الكاذب؟ إنّه يكذب دون أن يتأثّر لـه لون. وهو أكثر مَكراً مِن ثعلب، ومُوصَد أكثر مِن صخرة صمّاء. الآن وقد ذَهَبَ. لماذا؟ كم مِن الأصدقاء يمكن أن يكون لديه؟ إنّني أتألّم لترككَ، ولكنّني أرغَب بشدّة أن أتبعه لأرى... آه! يا يسوعي! هذا الرجل... اصرفه يا سيّدي.»
«غير مُجدٍ. ما ينبغي أن يكون سوف يكون.»
«ما الذي تريد قوله؟»
«لا شيء غير عاديّ.»
«لقد تَرَكتَهُ يمضي بإرادتكَ لأنّه... لأنّه جعلكَ تشمئزّ مِن طريقة تصرّفه في أريحا.»
«هذا صحيح يا سمعان. وأقول لكَ مرّة أخرى: ما ينبغي أن يكون سوف يكون، ويهوذا هو جزء مِن هذا المستقبل، فهو أيضاً يجب أن يتواجد فيه!»
«لكنّ يوحنّا قال لي إنّ سمعان بطرس صريح للغاية، ومثل النار... فهل سيتحمّله؟»
«عليه أن يتحمّله. فبطرس كذلك له دور سوف يلعبه، ويهوذا هو اللُحمة التي عليها سيُنسَج الجزء المنوط به. إنّه المدرسة التي سيتعلّم منها بطرس أكثر مِن أيّ آخر، أن تكونوا طيّبين مع أناس مثل يوحنّا، أن تتفهّموا النُّفوس التي تُشابِههُ، فهذا أمر في متناول حتّى الأشخاص البُسطاء. إنّما أن تكون طيّباً مع واحد مثل يهوذا، أن تعرف كيف تتفهّم نفوساً مثل نفسه وأن تكون لها الطبيب والكاهن، إنّه لأمر صعب. فيهوذا هو لكم الأمثولة الحيّة.»
«لنا؟»
«نعم، أمثولة لكم. فالمعلّم لن يبقى على الأرض إلى الأبد. سوف يمضي بعد أن يأكل الخبز الأكثر صلابة ويشرب الخمر الأكثر لذعاً. إنّما سوف تبقون لتجعلوني استمرّ... ويجب أن تُعَلِّموا. لأنّ العالم لن ينتهي مع المعلّم، ولكنّه سيستمرّ بعده، حتّى الرجوع الأخير للمسيح ودينونة البشر العامّة. وبالحقيقة، أقول لكَ إنّه بمقابل أمثال يوحنّا وبطرس وسمعان ويعقوب واندراوس وفليبّس وبرثلماوس وتوما، فهناك على الأقلّ سبعة أضعاف أمثال يهوذا. وأكثر، أكثر أيضاً!...»
يفكّر سمعان ويصمت. ثمّ يقول: «الرُّعاة طيّبون. يهوذا يهزأ بهم، إنّما أنا فأحبّهم.»
«وأنا أحبّهم وأُثني عليهم.»
«إنّ لهم نفوساً بسيطة، كما ينبغي أن يكونوا لإرضائكَ.»
«لقد عاش يهوذا في المدينة.»
«وهذا هو عذره الوحيد. ولكنّ كثيرين عاشوا في المدينة، ومع ذلك... متى ستأتي إلى بيت صديقي؟»
«غداً يا سمعان، بكلّ سرور، فنحن بمفردنا، أنا وأنتَ، أظنُّه رجلاً مثقّفاً وصاحب تجربة مثلكَ.»
«إنّه يعاني كثيراً... بجسده، وأكثر بكثير بقلبه. يا معلّم... أودُّ أن أسألك أمراً: إذا لم يُحَدِّثكَ عن أحزانه ومعاناته، فلا تَسَله أنتَ عن بيته.»
«لن أفعل. أتيتُ مِن أجل الذين يتألّمون، ولكنّني لا أُرغِم أحداً على البوح. فإنّ للأسى حُرمته...»
«وأنا لم أحترمها... إلّا أنّني أحسستُ بالكثير مِن الألم...»
«أنتَ صديقي، ولقد أضفيتَ على ألمي اسماً. أنا، كصديق لكَ، أنا هو الكاهِن المجهول. وعندما سيتعرّف عليَّ... حينئذ... لنمضِ، فقد هَبَطَ الليل. لا ندعنّ المضيفين ينتظرون لأنّهم تعبون. غداً مِن الفجر سوف نمضي إلى بيت عنيا.»