ج6 - ف139

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء السادس/ القسم الثاني

 

139- (الكرازة في كفرناحوم)

 

22 / 06 / 1946

 

إنّه السبت. هذا ما أعتقده، لدى رؤيتي الناس مجتمعين في المعبد. مِن الممكن أن يكونوا قد تجمّعوا هناك كي يتفادوا البقاء تحت الشمس، أو ليكونوا أكثر راحة في منزل يائيروس. فالناس يحتشدون متنبّهين، رغم الحرّ الذي حتّى الأبواب والنوافذ التي تركت مفتوحة لم تفلح في تشكيل تيّارات هوائية تلطّفه.

 

أمّا أولئك الذين لم يتمكّنوا مِن دخول المعبد، وفي سبيل ألّا تشويهم الشمس خارجاً، فقد احتموا في البستان الظليل خلف المعبد، بستان يائيروس الغنيّ بالعرائش الكثيفة وأشجار الفاكهة الـمُورِقة.

 

إنّ يسوع يتكلّم قريباً مِن الباب المفتوح على البستان، كي يكون مسموعاً مِن قِبَل أولئك المتواجدين فيه، وأيضاً مِن قِبَل أولئك الذين هم داخل المعبد على السواء. يائيروس إلى جانبه، يُنصِت بانتباه. الرُّسُل مُجتَمِعون معاً قرب الباب المفتوح على البستان. النّسوة التلميذات، ومريم في وسطهنّ، جالِسات تحت عريشة، والتي تقريباً تلامس المنزل. ميريام ابنة يائيروس وابنتا فيلبّس يجلسن عند قدميّ مريم.

 

مِن خلال الكلام الذي أسمعه، أستنتج أنّ هناك إشكالاً بين الفرّيسيين المعتادين ويسوع، وأنّ الناس مستاؤون بسبب ذلك. إنّ يسوع يحضّهم على أن يكونوا مسالمين وأن يَغفِروا، قائلاً بأنّ كلمة الله لا تثمر في القلوب المضطربة.

 

«لا يمكننا تحمّل أن تُهان» يصرخ واحد مِن الجمع.

 

«دعوا الأمر لأبي وأبيكم، واقتدوا بي. اصبروا، اغفروا. ليس بالردّ على إهانة بإهانة نُقنِع الأعداء.»

 

«إنّهم لا يقتنعون حتّى بالوداعة المتواصلة. إنّكَ بذلك تدعهم يدوسونكَ» يصيح الإسخريوطيّ.

 

«يا رسولي، لا تَتَسبَّب بفضيحة وتكن قدوة تُعلّم الغضب والانتقاد.»

 

«مهما يكن، إنّ رسولكَ على حقّ. إنّ كلامه صائب.»

 

«إنّ القلب الذي تَصدُر عنه ليس على صواب، وكذلك القلب الذي يُنصِت إليها. مَن يريد أن يكون تلميذي عليه أن يقتدي بي. أنا أتحمّل وأغفر. أنا وديع، متواضِع ومُسالم. إنّ أبناء الغضب لا يمكنهم البقاء معي، لأنّهم أبناء العالم وشهواته. ألا تتذكّرون سفر الملوك الرابع؟ إنّه يقول في إحدى فقراته إنّ إشَعياء تكلَّم ضدَّ سنحاريب -الذي كان يعتقد بأنّه قادر على فِعل كلّ شيء- وتنبّأ بأنّه ما مِن شيء سوف يخلّصه مِن عذاب الله. لقد شَبَّهَه بحيوان قد وُضِعت له حلقة في فتحتيّ أنفه ولجام على شفتيه لكبح جماح حنقه الجارف. وأنتم تعلمون كيف هَلك سنحاريب على أيدي أبنائه بالذات. فالحقّ أنّ القُساة يَهلكون بقسوتهم. إنّهم يَهلكون بأجسادهم ونفوسهم على السواء. أنا لا أُحبّ القساة. لا أحبّ المتكبّرين. لا أحبّ الحانقين، الجشعين، الشهوانيّين. أنا لم أؤيّد يوماً لا بكلامي ولا بأمثلتي التي ضربتها لكم هكذا أموراً، وإنّما على العكس، فقد علّمتُكم دوماً الفضائل التي هي على النقيض مِن تلك المشاعر الشرّيرة. كم هي جميلة صلاة ملكنا داود عندما سَبَّحَ الربّ، بعدما عاد إلى القداسة مجدّداً بتوبة صادقة عن خطاياه السابقة، وأمضى أعواماً مِن السلوك الحكيم، وقد رضخ واستكان للأمر الذي بموجبه لم يكن مسموحاً له بأن يكون هو باني الهيكل الجديد! لنتلوا تلك الصلاة معاً مُسبّحين الرّب العليّ...»

 

ويبدأ يسوع بإنشاد صلاة داود (سفر الأخبار/1 الفصل29/ 10-19)، فيما أولئك الجالسون ينهضون، وأولئك الذين يستندون إلى الجدار يبتعدون عنه ويستقيمون بمهابة.

 

ومن ثمّ، يستأنف يسوع بنبرته المعتادة: «عليكم أن تتذكّروا دوماً بأنّ كلّ شيء هو في يديّ الله، كلّ عمل، كلّ انتصار. إنّ العَظَمة، القدرة، المجد، الظّفر، هي كلّها للربّ. وهو الذي يمنح هذا الشيء أو ذاك للإنسان، إذا ما ارتأى أنّه الوقت المناسب لمنحها مِن أجل خير مؤكّد. وليس للإنسان أن يُطالِب بها كما لو كانت حقّاً له. إنّ الله لم يسمح لداود ببناء الهيكل، على الرغم مِن أنّه قد غُفِر له، حيث أنّه كان ما يزال بحاجة إلى المزيد مِن الانتصارات على نفسه بعد خطاياه السابقة: "لقد سفكتَ الكثير مِن الدماء وخضتَ الكثير مِن المعارك، فليس لكَ أن تبني منزلاً باسمي بعد كلّ هذا الدمّ الذي أرقتَه في حضرتي. إنّما سوف يولَد لكَ ابن وسوف يكون رجل سلام... ولذلك فسوف يُدعى رجل السلام (وهو معنى اسم الـمَلِك سليمان ابن الـمَلِك داود)... وهو سوف يبني منزلاً لأجل اسمي." هذا هو ما قاله العليّ لخادمه داود.

 

وأنا أقول لكم الشيء ذاته. فهل تريدون، وبسبب حنقكم، ألّا تكونوا مستحقّين أن تبنوا في قلوبكم منزلاً لأجل الربّ إلهكم؟ فإذن، ارفضوا كلّ المشاعر التي هي ليست مِن المحبّة. لتكن لكم قلوب كاملة، كما كان داود يلتمس لابنه، باني الهيكل، بحيث، وبحفظكم لوصاياي، وبربط أفعالكم بتعاليمي، فسوف تنجحون ببناء مسكن إلهكم في قلوبكم، بينما تنتظرون الذهاب أنتم بذاتكم إلى منزله الأبديّ الـمُبهِج. أعطِني لُفافة يا يائيروس. سوف أشرح لهم ما يريده الله.»

 

يَمضي يائيروس إلى حيث كُدّست اللّفافات، ويأخذ مِن بينها واحدة لا على التعيين، وبعد أن يَنفُض عنها الغبار، يعطيها ليسوع، الذي يبسطها ويقرأ: «"إرميا، 5 / 1: ’طوفوا في شوارع أورشليم جيئة وذهاباً، انظروا، راقبوا، فتّشوا ساحاتها، وإذا ما استطعتم أن تجدوا إنساناً واحداً يعمل صلاحاً أو يجهد كي يكون أميناً، فأنا سوف أنظر إليها بعين الرحمة‘.» (الرّب يقول لي: "لا تتابعي. فأنا سوف أقول الفصل كلّه.")

 

وبعد أن قرأ كلّ اللّفافة، فإنّ يسوع يعيدها ليائيروس ويتكلّم.

 

«أبنائي. لقد سمعتم أيّة عقوبات رهيبة كانت بانتظار أورشليم، بانتظار إسرائيل، بسبب عقوقه. إنّما لا تغتبطوا لذلك. إنّه وطننا. لا تغتبطوا قائلين: "ربّما وقتها لن نكون هنا." فدوماً سوف يظلّ فيه إخوة لكم. لا تقولوا: "لقد نال ما استحقّ، لأنّه كان قاسياً تجاه الربّ." إنّ مصائب الوطن، آلام المواطنين الإخوة يجب أن تُحزِن دائماً مَن هُم أبرار. لا تقيسوا كما يقيس الآخرون، إنّما كما يقيس الله، أي، برحمة.

 

فماذا أنتم فاعلون إذن بشأن هذا الوطن وهؤلاء المواطنين الإخوة، سواء بالنسبة للوطن والمواطنين الإخوة بالمعنى الأشمل، أي فلسطين كلّها، أَم بالنسبة لوطنكم الصغير هذا، أي، كفرناحوم، مسقط رأسكم، سواء كان المقصود بذلك كلّ العبرانيين، أو أولئك القلّة، المعادين لي، في هذه المدينة الجليليّة الصغيرة؟ عليكم أن تقوموا بأعمال رحمة. عليكم أن تسعوا لإنقاذ وطنكم والمواطنين الإخوة. كيف؟ هل ربّما مِن خلال العنف؟ بالازدراء؟ لا. بالمحبّة، بالمحبّة الصّابرة كي ما تهدوهم إلى الله.

 

لقد سمعتم ما قيل. "إذا ما وجدتم شخصاً واحداً يعمل صلاحاً، فسوف أنظر إليها بعين الرحمة." اسعوا إذن، كي تأتي تلك القلوب إلى البرّ وتصير بارّة. في الحقيقة هُم يقولون عنّي ظلماً: "إنّه ليس هو."، وبذلك، هم يعتقدون أنّ اضطهادهم لي لن يصيبهم بأيّ ضرر. إنّهم يقولون بثقة: "هكذا أمور لن تحدث أبداً. الأنبياء كانوا قد تكلّموا بالعموميّات."

 

وسوف يحاولون أن يجعلوكم تتكلّمون كما يتكلّمون هم. أنتم أيّها الحاضرون هنا، الـمُخلِصون. إنّما أين كفرناحوم؟ أهنا كلّ كفرناحوم؟ أين هُم أولئك الذين رأيتُهم في المرّات الماضية محتشدين حولي؟ فهل الخميرة التي تركتُها كي تُخمِّر هنا آخر مرّة أتيتُ فيها قد أفسدت الكثير مِن القلوب؟ أين حلفى؟ أين يوشع وأبناؤه الثلاثة؟ أين حَجّي ابن ملاخي؟ أين يوسف ونُعْمي؟ أين لاوي، هابيل، شاول، زكريا؟ هل نسوا النِّعم غير القابلة للإنكار التي تلقّوها، هل لأنّ كلاماً كاذباً قد طغى عليها؟ إنّما هل للأقوال أن تُدمّر الأفعال؟

 

أترون! رغم أنّ هذا ليس سوى مكان صغير. وعلى الرغم مِن أنّ الأكثريّة في هذا المكان الصغير كانوا قد حصلوا على عَون، إلّا أنّ الحقد الخبيث كان قادراً على تدمير الإيمان بي. وأنا لا أرى هنا سوى مجموعة مِن أولئك الكاملين في الإيمان. فكيف إذن تتوقّعون أنّه يمكن لأحداث قد حدثت قديماً، أو لكلمات قد قيلت فيما مضى، أن تُبقي إسرائيل كلّه مؤمناً بالله؟ ما هكذا يجب أن يكون عليه الحال، لأنّ الإيمان يجب أن يثبت حتّى دون أفعال تدعمه. إنّما الأمر ليس كذلك. فكلّما زاد العلم، كلّما قلّ الإيمان، لأنّ المتعلّمين يظنّون بأنّهم مُستثنون مِن الإيمان البسيط والسليم، المستمدّ مِن قوّة المحبّة، لا مِن المساعدة التي يقدّمها العِلم.

 

إنّ المحبّة هي ما يجب أن يُنقَل إلى الأجيال القادمة، وهي ما يجب أن يبقى متأجّجاً فيها، وكي تفعلوا ذلك يجب أن تكونوا متّقدين. يجب أن تكونوا واثقين، واثقين على نحو بطوليّ، كي تكونوا قادرين على الإقناع. وبدلاً مِن سوء التصرف، والردّ على الإهانات، يجب عليكم أن تتحلّوا بالتواضع والمحبّة. ومعهما عليكم أن تمضوا وتُذكّروا بكلمات الربّ التي ما عادوا يتذكّرونها: "لنخشَ الذي يهبنا مطر أوّل وآخر فصل."»

 

«لن يفهمونا! بل على العكس، فسوف يهينوننا قائلين بأنّنا مُدَنِّسون، وبأنّنا نُعلّم مِن دون أن يكون لنا الحقّ بفعل ذلك. إنّكَ تَعلَم مَن هُم الكَتَبَة والفرّيسيّون!»

 

«نعم. أَعلَم. ولكن حتّى لو لم أكن أَعلَم، فكنتُ سأعلم الآن. إنّما لا يهمّ مَن هُم. ما يهمّ هو مَن نحن. وإذا كانوا هُم والكَهَنَة يصفّقون للأنبياء الكَذَبة الذين يتنبّأون بما يعود عليهم بالمكاسب، ناسين بأنّ الأيدي يجب أن تصفّق فقط للأعمال الصالحة التي تأمر بها الشريعة، فهذا ليس سبباً يستدعي مِن أتباعي المخلصين أن يُقلّدوهم، أو أن يَشعُروا بالإحباط، وأن تثبّط عزيمتهم كما لو أنّهم قد غُلِبوا. عليكم أن تعملوا بذات الجهد الذي يعمل الشرّ به...»

 

«نحن لسنا شرّاً» يَصرُخ مِن عند العتبة، مِن على الطريق، الصوت الأجشّ لإيلي الفرّيسيّ، الذي يحاول الدخول مِن دون أن يتوقّف عن الصراخ: «لسنا نحن الأشرار يا مثير الاضطرابات.»

 

«يا رجل، أنتَ هو مَن يثير الاضطرابات، ارحل!» يقول حالاً قائد مئة، الذي لا بدّ أنّه كان موجوداً هناك يراقب، مِن فرط ما كان تدخّله سريعاً.

 

«أنتَ أيّها الوثنيّ، تتجرّأ وتأمرني...»

 

«نعم، أنا الرومانيّ. اخرج! الرابّي لم يزعجكَ، بل أنتَ الذي تزعجه. ولا يحقّ لكَ...»

 

«نحن الرابّيون، لا النجّار الجليليّ» يصيح العجوز، الذي يبدو كبائعة خضار أكثر منه كمعلّم.

 

«واحد زيادة، واحد أقلّ... عندكم المئات منهم، وكلّهم معلّمون سيّئون. ها هو الوحيد الفاضل. إنّني آمركَ بالخروج»

 

«فاضل، إيه؟! فاضل مَن يَدفَع لروما لقاء حمايته! أيّها الـمُدَنِّس! أيّها النَّجِس!»

 

قائد المئة يُطلق صرخة، والخطوات الثقيلة للجنود تختلط مع شتائم إيلي المهينة. «خذوا هذا وارموه خارجاً!» يأمر قائد المئة.

 

«أنا؟ أيدٍ وثنيّة تلمسني؟ أرجل الوثنيّين تدوس أحد معابدنا! إنّها لعنة! النّجدة! إنّهم يُنجّسونني!...»

 

«أرجوكم أيّها الجنود. دعوه! لا تدخلوا. أرجوكم أن تحترموا هذا المكان وسنّ هذا الشيخ» يقول يسوع مِن مكانه.

 

«كما تريد يا معلّم.»

 

«ها! ها! المتآمر! المجلس الأعلى سَيَعلم بذلك. لديَّ الدليل! الآن صدّقتُ الكلام الذي قيل لنا. لديَّ الدليل. لتكن ملعوناً!»

 

«سوف أرفع سيفي عليكَ إذا ما تفوّهتَ بكلمة أخرى. روما تدافع عمّا هو صائب. إنّها لا تتآمر مع أحد أيّها الضبع العجوز. سوف يتمّ إعلام المجلس الأعلى بأكاذيبكَ. سوف أُسلّم تقريري للحاكم. سوف أكتبه في الحال. اذهب إلى بيتكَ وابق هناك تحت تصرّف روما» وقائد المئة يستدير استدارة عسكرية منتظمة إلى اليمين ويمضي، يتبعه الجنود الأربعة، تاركاً إيلي مذهولاً ومرتعداً خوفاً…

 

يستأنف يسوع كلامه وكأنّ ما مِن شيء قد قاطَعَه: «عليكم أن تعملوا بذات الجهد الذي يعمل الشرّ به، كي تبنوا في ذواتكم وحولكم بيت الرّب، كما كنتُ أقول في البداية. يجب أن تعملوا بقداسة فائقة، بحيث ينزل الله مجدّداً على القلوب، وعلى وطننا العزيز، الذي يُعاقَب بحزم، والذي لا يَعلَم أيّة غيوم قاتمة تتحضّر له في الشمال، في ذاك البلد القويّ الذي يحكمنا الآن، والذي سوف يحكمنا أيضاً وأيضاً، لأنّ أفعال المواطنين تُسبّب الاشمئزاز للربّ الكُليّ الطيبة، وتثير سخط الحاكم القويّ. ومع إثارة سخط الله والحاكم، أتتوقّعون ربّما أن تحظوا بالسلام والازدهار؟ كونوا صالحين يا أبناء الله. اسعوا كي تحظوا لا بواحد فقط، بل بمئات الصالحين في إسرائيل، لدرء عقوبات السماء الرهيبة. لقد قلتُ لكم في البداية بأنّه حيث لا يوجد سلام، لا يمكن أن توجد كلمة الله، والتي إذا ما تمّ الإنصات إليها بانتباه، فقد تُنتِج ثماراً في القلوب. وأنتم تعلمون بأنّ هذا الاجتماع لم يكن هادئاً ولا مُثمِراً. فهناك الكثير مِن الاضطراب في القلوب... اذهبوا. ما يزال يبقى لدينا بعض الساعات كي نكون معاً. وصلّوا، كما أفعل أنا، لعلّ أولئك الذين هم ضدّنا يُصلِحون طرقهم... هيّا بنا يا أُمّي» ويَخرُج إلى الشارع شاقّاً له طريقاً بين الجمع.

 

إيلي ما يزال هناك، هو شاحب كالميت، إنّه يرتمي عند قدميّ يسوع. «الرحمة! لقد خَلَّصتَ حفيدي مرّة. خلّصني، لأحظى بالوقت كي أُصلح طرقي. لقد خطئتُ! أنا أعترف بذلك. لكنّكَ طيّب. روما... آه! ماذا ستفعل بي روما؟»

 

«سوف تَنفُض عنكَ غبار الصيف بلسعات سوط مُعتَبَرة» يصيح أحدهم، والناس يضحكون، فيما إيلي يُطلق صرخة ألم، كما لو أنّه يشعر بلسعات السوط منذ الآن، وينوح: «إنّني عجوز... إنّني أتألّم في كلّ أنحاء جسدي... واحسرتاه!»

 

«العلاج (السّوط) سوف يجعلكَ تشعر بتحسّن، يا ابن آوى العجوز!»

 

«سوف تعود شاباً وسوف تعود قادراً على الرقص...»

 

«اصمتوا!» يسوع يأمر الـمُستَهزِئين. ويقول للفرّيسيّ: «انهض. اضبط نفسكَ. أنتَ تعلم بأنّي لا أتآمر مع روما. إذن، ما الذي تريدني أن أفعله مِن أجلكَ؟»

 

«هذا صحيح. نعم. هذا صحيح. أنتَ لا تتآمر. لا وبل أنتَ تحتقر الرومان، إنّكَ تكرههم، إنّكَ تـ...»

 

«لا شيء مِن ذلك. لا تكذب في سبيل أن تمتدحني، كما كذبتَ سابقاً في سبيل اتّهامي. وأنتَ تعرف حقّ المعرفة بأنّه لا يشكّل لي مديحاً القول بأنّني أكره هذا أو ذاك، أو أنّني ألعن هذا أو ذاك. أنا مُخلّص كلّ الأرواح، وليس هناك في نظري أعراق ومظاهر، بل فقط أرواح.»

 

«هذا صحيح! صحيح جدّاً! إنّكَ بارّ، وروما تعلم ذلك، ولهذا السبب فهي تدافع عنكَ. إنّكَ تُبقي الجموع هادئة، وتعلّمهم احترام الشرائع و...»

 

«أهذا ربّما خطأ بنظركَ؟»

 

«آه! لا! إنّه الصواب! فأنتَ تُحسِن فِعل ما يتوجّب علينا جميعاً فِعله، لأنّكَ بارّ، لأنّكَ...»

 

الناس يَسخَرون ويهمسون بنعوت متعدّدة، مثل: «كذّاب! جبان! في الصباح كان كلامه مختلفاً!» ويمكن سماع نعوت أخرى مِن هذا القبيل، حتّى ولو كانوا يهمسونها سرّاً.

 

«فإذن؟ ماذا عليَّ أن أفعل؟ اذهب! اذهب إلى قائد المئة. بسرعة! قبل أن ينطلقوا بالبريد. انظر؟ إنّهم يُجهّزون الجياد! آه! ارحمني!»

 

يسوع يَنظُر إليه: متصاغراً، مرتجفاً، يشحب خوفاً، بائساً... ويحدّق فيه... بإشفاق. فقط أربعة عيون تنظر إليه بشفقة: عينا يسوع وعينا أُمّه. عيون الآخرين هي إمّا مُتهكِّمة، أو قاسية، أو مستاءة. حتّى عيون يوحنّا وأندراوس صارمة مع قسوة إزدرائيّة.

 

«إنّني رحيم. إنّما لن أذهب إلى قائد المئة...»

 

«هو صديقكَ...»

 

«لا.»

 

«هو ممتنّ لكَ، أعني... لأنّكَ شفيتَ خادمه.»

 

«لقد شفيتُ حفيدكَ أيضاً. وأنتَ لستَ ممتنّاً لي، على الرغم مِن أنّكَ إسرائيليّ مثلي. فِعل الخير لا ينشئ التزامات.»

 

«بل إنّه ينشئها. الويل لأولئك غير العارفين بالجميل لـ...» إيلي يُدرك أنّه يدين نفسه فيتلعثم ويَصمُت. الناس يسخرون منه.

 

«أسرع أيّها الرابّي، أيّها الرابّي العظيم، أيّها الرابّي القدّوس، إنّه يعطي أوامره، هل تراه؟! إنّهم على وشك الرحيل! أتريدني أن أكون محطّ سخرية؟ أتريدني أن أموت؟»

 

«لا. أنا لن أُذكّره بالمعروف. اذهب أنتَ وقُل له: "المعلّم يطلب منكَ أن تكون رحيماً." اذهب!»

 

يمضي إيلي راكضاً، ويسوع ينطلق بالاتّجاه المعاكس نحو منزله.

 

لا بدّ أنّ قائد المئة قد وافَقَ، لأنّني أرى الجنود الذين امتطوا الجياد يترجّلون عنها، ويُعيدون لوح شمع إلى قائد المئة، ويأخذون الجياد بعيداً.

 

«يا للخسارة! لقد كان يستحقّ ذلك!» يصيح بطرس، ومتّى يجيبه: «نعم. كان يجدر بالمعلّم أن يتركه يُعاقَب! ضربة مقابل كلّ إهانة لنا. يا للعجوز الكريه!»

 

«وهكذا كان ليصبح جاهزاً كي يبدأ مِن جديد!» يهتف توما.

 

يلتفت يسوع إلى الوراء بحزم: «ألديَّ أتباع أم لديَّ شياطين؟ اذهبوا بعيداً، أنتم وقلوبكم عديمة الرحمة! إنّ وجودكم لا يسرّني.»

 

الثلاثة يتجمّدون في مكانهم، يشلّهم التأنيب.

 

«يا بنيّ! إنّكَ أساساً شديد الحزن! وأنا بي ألم عظيم! فلا تضف إليها هذا أيضاً... انظر إليهم!...» تتوسّل مريم.

 

يلتفت يسوع كي ينظر إلى الثلاثة. ثلاثة وجوه بائسة، بعيون يملأها الندم والرجاء. «تعالوا!» يأمر يسوع.

 

آه! إنّ السنونو ليس سريعاً كما الثلاثة.

 

«ولتكن آخر مرّة أسمعكم فيها تتفوّهون بهكذا كلام. أنتَ يا متّى، ليس لكَ الحقّ بأن تتكلّم هكذا. وأنتَ يا توما، إنّكَ لم تمت بعد كي تدين مَن هُم غير كاملين، معتقداً بأنّكَ خلصت. وأنتَ يا سمعان بن يونا، لقد تصرّفتَ كما صخرة أُصعِدت بمشقّة عظيمة إلى قمّة جبل، ومِن ثمّ تدحرَجَت نزولاً إلى الوادي. استوعبوا ما عنيتُه... والآن أنصتوا. لا جدوى مِن الكلام هنا في المعبد، أو في المدينة. سوف أتكلّم مِن القوارب على البحيرة، مرّة هنا، ومرّة هناك. أعِدّوا القوارب، بقدر ما يلزم،  وسوف نخرج في الأمسيات الصافية أو عندما يكون الفجر نديّاً...»