ج2 - ف97
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الثاني / القسم الثاني
97- (يسوع في منطقة المياه الحلوة: "لا تَشهَد بالزُّور")
13 / 03 / 1945
«يا لهذا الكمّ مِن الناس!... يهتف متّى. ويُجيب بطرس: «انظر! هناك حتّى جليليّون... أي! أي! هيّا بنا نُخبِر المعلّم. إنّهم ثلاثة مِن قاطِعي الطُّرُق الـمُعتَبَرين!»
«قد يكونون أتوا مِن أجلي. يَلحَقون بي حتّى إلى هنا...»
«لا يا متّى. فالقرش لا يأكل السمك الصغير. إنّه هو المقصود، فهو غنيمة قَيِّمة. والقرش، فقط حينما لا يَجِدها، يصطاد سمكة كبيرة. إنّما أنا وأنتَ والآخرون، فإنّنا سَمَك صغير... غنيمة لا أهميّة لها.»
«هل تقول مِن أجل المعلّم؟» يَسأَل متّى.
«مِن أجل مَن إذن؟ ألا ترى كيف ينظرون في كلّ الاتجاهات؟ إنّهم مثل وَحش ضارٍ يتعقّب أيلاً.»
«سأخبره بذلك...»
«انتظر! ولِنَقُل ذلك لابنيّ حلفى. فهو طيّب جدّاً. إنّها طيّبة ساذجة إذا ما وَقَعَت في تلك الأفواه.»
«إنّكَ مُحقّ.»
يمضي الاثنان إلى النهر ويناديان يعقوب ويوضاس. «أَقبِلا. هناك أشخاص... هُم مجرمون يستحقّون الشَّنق، لقد أتوا حتماً ليَتسبَّبوا بالإزعاج للمعلّم.»
«هيّا بنا. وهو، أين هو؟»
«إنّه ما يزال في المطبخ. لنسرع، إذ قد يتنبّه للأمر، وهو لا يرضى بذلك.»
«نعم. وهو بذلك على خطأ.»
«أنا أيضاً أؤيّد هذا الرأي.»
يَعودون إلى الدار. والمجموعة المشار إليها "بالجليليّين"، يتحدّثون إلى الناس الآخرين باستخفاف. يدنو يوضاس بن حلفى بشكل يُوحِي بأنّ الأمر صُدفة، ويَسمَع: «...كلمات ينبغي لها أن تَستَنِد إلى أفعال.»
«وهو يحقّق تلك المعادلة. فأمس أيضاً شفى رومانيّاً مُستَحوَذاً عليه.» يُجيب رجل قويّ البنية مِن عامّة الشعب.
«يا للهول! شِفاء وَثَني! يا للفضيحة! هل تسمع يا إيلي؟»
«كلّ الخطايا فيه: صَداقات مع العشّارين والزواني، علاقات مع الوثنيّين و...»
«والصَّبر على النمّامين. هذه أيضاً تعتبر خطيئة. وفي نَظَري هي الأعظم. ولكن طالما هو لا يَعرِف ولا يريد الدفاع عن نفسه، إذن فليكن حديثكم إليَّ أنا. فأنا أخوه البِكر، وذاك أخ أكبر سناً أيضاً. تكلّموا.»
«ولكن لماذا تغضب؟ أتظنّ أنّنا كنّا نتكلّم بالسوء عن مَسيّا؟ ولكن لا؟ لقد أتينا مِن البعيد البعيد، وقد جَلَبَتنا شهرته. كنّا نقول ذلك لهؤلاء الناس...»
«كاذِب! إنّكَ تُقرِفني لدرجة أنّني أدير لكَ ظهري.» ويوضاس بن حلفى، إذ أَحَسَّ أنّ محبّته تجاه الأعداء في خطر، يمضي.
«أليس هذا صحيحاً؟ قولوا جميعكم...»
ولكن «جميعكم»، أي الآخرين الذين كان أولئك الجليليّون يُحدّثونهم، يَصمتون. لا يريدون الكَذِب ولا يَجرؤون على نقض أقوالهم. لذا يَظلّون صامتين.
«نحن لا نعرف حتّى كيف هو...» يقول الجليليّ إيلي.
«ولَم تشتمه في بيتي، أليس كذلك؟» يَسأَل متّى بسخرية. «هل جَعَلَكَ المرض تَفقد الذاكرة؟»
يَأخُذ "الجليليّ" معطفه ويمضي مع الآخرين.
«جبان.» يَصرخ بطرس خلفه.
«كان يريد أن يَروي لنا عنه أشياء جهنّمية...» يَشرَح أحدهم. «ولكنّنا، نحن، رأينا أفعاله. وبالمقابل، نعرف مَن يكونون هُم: فرّيسيّين. مَن نصدّق إذن؟ الصالح الذي هو حقيقة صالح، أم الأشرار الذين يَدَّعون الصلاح، وهم ليسوا سوى بَليّة؟ أعرف أنّني مُذ بدأتُ أذهب إليه، لم أعُد أعرف نفسي لشدّة ما تبدّلتُ. كنتُ عنيفاً، قاسياً مع زوجتي وأولادي، ولا أحترم جاري، بينما الآن... الجميع قي البلدة يقولون ذلك: "عزريا لم يعد كما كان". فإذن؟ هل سَمِعَ أحد عن شيطان يجعل الناس صالحين؟ لماذا يعمل إذن؟ ألقداسَتِنا؟ آه! بالحقيقة هو لابسٌ شيطاناً غير مألوف، إذا كان يَعمَل للربّ!»
«لا فُضّ فوكَ، أيّها الرجل. ليحفظْكَ الربّ. فإنّكَ تُجيد الفَهم وتُجيد الرؤية وتُجيد التصرّف. استمرّ هكذا، وستصبح تلميذاً حقيقيّاً لمَسيّا المبارَك، وفَرَحاً له، هو الذي يريد خيركم ويتحمّل كلّ شيء ليقودكم إلى هذا الخير. لا يكن مصدر شكّ سوى الشرّ الحقيقيّ. ولكن حينما تَرَون أنّه يتصرّف باسم الله، فلا تَشكّوا، ولا تُصدّقوا أولئك الذين يريدونكم أن تؤمنوا بما هو شَكّ، حتّى ولو كان بخصوص أشياء جديدة. هو ذا الزمن الجديد. إنّه كالوردة التي ستُولَد بعد أن عَمِلت الجذور دُهوراً: وهذا الزمن قد حان. لو لم تكن قُرون مِن الانتظار قد سَبَقَتهُ، لما استطعنا فهم كلامه. ولكنّ قُروناً مِن الطاعة لشريعة سيناء، مَنَحَتنا الحدّ الأدنى مِن التهيئة، لتَسمَح لنا، في هذا الزمن الجديد، الزهرة الإلهيّة التي وَهَبَنا الصلاح رؤيتها، استنشاق عبيرها وامتصاص كلّ نُسغها، لنتطهّر ونتقوّى ونتعطّر بالقداسة كمذبح. ولأنّه الزمن الجديد، ففيه أساليب جديدة لا تتعارض مع الشريعة، ولكنّها مُفعَمة بالرحمة والمحبّة، لأنّه هو الرحمة والمحبّة النازلة مِن السماء.» ويُحيّي يعقوب بن حلفى ويَدخُل إلى المنـزل.
«يا لجودة حديثكَ، أنتَ!» يقول بطرس، وقد أَخَذَ منه العَجَب كلّ مَأخَذ. «فأنا لا أعرف ماذا أقول، فأقول فقط: "كونوا صالحين. أَحِبّوه. استَمِعوا إليه وآمِنوا به". في الحقيقة لستُ أعرف كيف يمكن أن يكون مسروراً منّي!»
«ومع ذلك فهو مسرور منكَ.» يُجيب يعقوب بن حلفى.
«هل تقول هذا بصدق أَم مِن باب اللّباقة؟»
«هو كذلك حقّاً. أمس بالذات كان يقولها لي.»
«صحيح؟! إذاً فأنا اليوم أَسعَد منّي يوم جَلَبوا لي عروسي. ولكن أنتَ... أين تعلّمتَ إجادة الكلام بهذا الشكل؟»
«في حضن أُمّه وإلى جانبها. يا لتلك الدُروس! يا لها مِن كلمات! فما مِن أحد غيره يمكنه التحدّث بأفضل منها. ولكنّ الذي ينقصه لجبروته تُضيفه هي بِلُطفها... وتَلِج ذهنكَ... دُروسها! أما رأيتَ قطّ قطعة قماش وقد لامَسَت زاويتها زيتاً مُعَطَّراً؟ فهي تمتصّ بلطف وتَـمَهُّل ليس فقط الزيت، بل إنّما العطر أيضاً. وحتّى ولو اختفى أثر الزيت، فالعطر يستمرّ ليقول: "كنتُ هنا". هكذا هي، ففينا نحن كذلك، الأقمشة الغليظة وثمّ الـمُغتَسِلة بالوجود، قد احتلَّت أعماقنا بحكمتها وظُرفها، وعِطرها يدوم فينا.»
«لماذا لا يجعلها تأتي؟ كان يقول إنّه سيفعلها! فإنّنا نُصبح أفضل، أقلّ عِناداً... أنا على الأقلّ. وحتّى هؤلاء الناس... يُصبِحون أفضل، وحتّى أولئك الثعابين الذين يَفِدون بين الحين والحين...»
«أتظنّ ذلك؟ أنا لا. نحن نصبح أفضل، وكذلك الـمُتواضِعون. أمّا ذَوو السُّلطان والأشرار!... آه! يا سمعان بن يونا! لا تُظهِر أبداً مشاعركَ النبيلة للآخرين! فيَخيب أملكَ... ها هو ذا. فلا نقولنّ له شيئاً...»
يَخرُج يسوع مِن المطبخ، يُمسِك بيده طفلاً يُهَرول إلى جانبه، وهو يَقضم قطعة خبز مُغَمَّسة بالزيت. فيُعدِّل يسوع خطوات مشيته الطويلة بموجب ساقيّ صديقه. «إنّه فَتْح!» يقول سعيداً. «هذا الرجل ابن الأعوام الأربعة، والذي يُدعى يسرائيل، قال لي إنّه يريد أن يكون تلميذاً ويريد أن يتعلّم: الكِرازة وشفاء الأطفال المرضى، وأن يجعل العنب يَـيْنَع على الأغصان في كانون الأول (ديسمبر)، ثمّ يَودّ لو يَتَسلّق جبلاً ويقول للجميع: "هلمّوا، هو ذا مَسيّا!" أليس كذلك يسرائيل؟»
ويضحَك الطفل ويقول نعم، نعم، وأثناء ذلك يَقضم خُبزه.
«أنتَ بالكاد تعرف أن تأكل!» يقول له توما ليُمازحه ويُضايقه، «أنتَ لا تعرف حتّى أن تقول مَن هو مَسيّا.»
«إنّه يسوع الناصريّ.»
«وماذا يعني "مَسيّا"؟»
«يعني... يعني: الرجل الـمُرسَل لنصبح صالحين ونجعل الناس كلهم صالحين.»
«وكيف العمل لنُصبح صالحين؟ وأنتَ الذي ما زلتَ طفلاً، ماذا تفعل؟»
«سوف أحبّه وأفعل كلّ شيء، وهو سيفعل كلّ شيء لأنّني أحبّه. افعَل ذلك، أنتَ أيضاً، وسوف تُصبِح صالحاً.»
«أُعطِي لكَ الدرس يا توما. هي ذي الوصيّة: "أَحِبَّني، وستفعل كلّ شيء، لأنّني سوف أحبّكَ إن أحببتَني، والحبّ يَفعَل فيكَ كلّ شيء". فالروح القدس قد تَكلّم. هيّا يا يسرائيل. هيّا بنا نَعِظ.» يسوع يكون سعيداً للغاية عندما يكون طفل بصحبته. وكم أتمنّى أن أَجلب له كلّ الأطفال وأَجعله مَعروفاً لديهم جميعاً. فكثيرون منهم لا يَعرفون حتّى اسمه!
إنّه على وشك المرور بجانب المرأة المحجّبة، وقبل أن يَلتَقيا يقول للطفل: «قُل لتلك المرأة: "ليكن السلام معكِ".»
«لماذا؟»
«لأنّ لديها ألماً، مثلكَ، عندما تقع، وهي تبكي. ولكن لو قُلتَ لها ذلك فستُشفى.»
«ليكن السلام معكِ أيّتها المرأة. لا تبكي. فإنّ مَسيّا قال لي: إذا ما أَحببتِهِ كثيراً فسيحبّكِ هو كثيراً ويشفيكِ.» هذا ما قاله يسرائيل، بينما يسوع يَسحَبه معه دونما تَوقُّف. ففي يسرائيل تَكمُن، حقيقةً، خَامَة رسوليّة. حتّى ولو كان أحياناً... مُفاجَئاً قليلاً في كِرازته، وإذا كان يقول فيها أكثر ممّا يُطلَب منه قوله.
«السلام لكم جميعاً.
قيل: ”لا تَشهَد بالزّور“.
هَل مَن يَبعَث على الاشمئزاز أكثر مِن الكاذِب؟ ألا يمكن القَول إنّه يَجمَع ما بين الشّراسة والنّجاسة؟ نعم يمكن. فالكاذِب، أتحدّث عن الذي يَكذب في الأمور الكبيرة، هو مجرم. إنّه يَقتُل السّمعة بلسانه. فهو إذن لا يختلف في شيء عن القاتِل. بل أقول حتّى: إنّه أسوأ مِن قاتِل. وهذا الأخير لا يَقتل إلّا الجسد. بينما الكاذِب يَقتل السّمعة الطيّبة أيضاً، يَقتل ذِكرى إنسان. إذن، فهو قاتِل مُضاعَف. إنّه القاتِل غير الـمُعاقَب، لأنّه لا يُريق دَمَاً، ولكنّه يَطعن شرف الذي يَنمّ عليه وشرف عائلته كلّها معاً. بل حتّى إنّني لا أتوقّف عند حالة مَن، لدى تأدية اليمين القَسَم، يُرسِل آخَر إلى الموت. فَعَلى هذا وأمثاله تتجمّع فَحمات جهنّم. ولكنّني أتحدّث فقط عن الذي، مِن خلال كِذبة منه، يُلَمِّح ويحمل أناساً آخرين على الإضرار ببريء. لماذا يَفعَل ذلك؟ إمّا بسبب حقد بلا مُبرِّر، أو شهوة امتلاك ما لدى غيره أو بسبب الخوف.
بالحقد: الحقد يقوده، وهذا هو صديق الشيطان فقط. فَمَن كان صالحاً لا يَحقد ولا لأيّ سبب. حتّى ولو احتُقِر، حتّى ولو تَضرَّرَ فإنّه يَغفر ويُسامح. لا يَحقد أبداً. فالحقد هو الشهادة التي تَشهَد به نَفْس تائهة على ذاتها، وهي أروع شهادة تُعطى للبريء. إذ إنّ الحقد هو ثورة الشرّ ضدّ الخير، والصالح لا يحتاج إلى الغفران.
بالطّمع: "لدى هذا ما ليس لديَّ. وأنا أريد امتلاكه. ولا يمكنني أَخذ مكانه إلّا إذا جَعلتُهُ مُحتَقَراً. وسأفعل. أأكذِب؟ ماذا يَهمّ؟ أأسرق؟ ماذا يهمّ؟ أيمكن أن أَصِل إلى تدمير عائلة بأكملها؟ ماذا يهمّ؟" وبين كلّ الأسئلة التي يَطرَحها الكاذِب المحتال على نفسه، ينسى سؤالاً، بل يتعمّد نسيانه، وهو التالي: "ماذا لو كُشِف أمري؟" وهو لا يَطرَح هذا السؤال على نفسه لأنّه، مَدفوعاً بالكبرياء والطَّمَع، هو كَمَن أُغلِقَت عيناه. فلا يرى الخطر. إنّه كذلك كمِثل رَجُل سَكران. لقد سَكِر بخمر الشيطان، ولا يُفكّر بأنّ الله أقوى مِن الشيطان ويتصدّى للانتقام لِمَن يَتحمّلون النّميمة. والكاذِب يستسلم للكذب ويَثِق بحمايته ببلاهة.
بالخوف: غالباً ما يَلجَأ أحدهم إلى النّميمة ليُبرّئ نفسه. إنّه الشكل الأكثر شيوعاً للكذب. فنرتكب الخطأ، ونخشى أن يُفتَضَح أمرنا، إذن، فبفضل، وباستغلال الاعتبار الذي ما زلنا نحتفظ به لدى الآخرين، ترانا نَحرف الفِعل، وما قُمنا به نرميه على آخَر نَخاف فقط مِن نزاهته. إنّنا نتصرّف أيضاً هكذا لأنّ الآخَر كان، أحياناً، بغير قصد منه، شاهداً على أفعالنا السيّئة، ولذلك نسعى لأن نكون في مَأمن مِن شهادته. فنتّهمه لنجعله مَكروهاً، حتّى إذا ما تَكَلَّم لا يُصدّقه أحد.
ولكن أَحسِنوا التصرّف!... أَحسِنوا التصرّف! ولن تضطرّوا أبداً للكذب. ألا تُفكّرون، عندما تكذبون، بالنِّير الذي تضعونه على مَناكِبكم؟ النِّير المصنوع مِن الخضوع للشيطان، ومِن الخوف الدائم مِن التكذيب، ومِن ضرورة تَذكُّر الكِذبة على الدوام مع التصرّفات والتفاصيل التي أحاطت بها، حتّى بعد سنوات، لتحاشي الوقوع في التّناقُضات. وهذا يُشبِه عَمَل مَن حُكِم عليه بالأشغال الشاقّة. وكذلك لَيته يَنفع للسماء! ولكنّه لا يَنفع إلّا في تهيئة مكان مناسب في الجحيم!
كونوا صادقين. ما أروع فم الإنسان الذي لا يعرف الكذب! هل سيكون فقيراً؟ هل سيكون فَظّاً؟ هل سيكون مجهولاً؟ هل هو كلّ ذلك؟ نعم، ولكنّه يبقى مَلِكاً على الدوام لأنّه صادق، والصدق شيء مَلَكيّ أكثر مِن الذهب والتاج، ويَرفَع فوق الجموع أكثر مِن عَرش، فلديه حاشية مِن الناس النّـزيهين، وهُم أكثر عدداً مِن حاشية الـمَلِك. وجار الإنسان الصادق يَحصل على الأمن والسّلوان. وصداقة إنسان غير صادِق تَجلب المتاعب، بل حتّى مجرّد جواره يُعطي انطباعاً بالانزعاج. هل يُفكّر الذي يكذب أنّه يُعتبر على الدوام مَوضِع شُبهة، لأنّ الكذب يُكشَف سريعاً لألف سبب؟ كيف يمكن تَقبُّل ما يَقول؟ حتّى ولو قال الحقيقة، فليس المطلوب سوى تصديقه، وفي الأعماق يبقى الشكّ على الدوام: "هل يكذب الآن أيضاً؟" وتقولون: "ولكن أين شهادة الزُّور مِن هذا؟" إنّ كل كذب هو شهادة زُور. وليست كلّ شهادات الزُّور تكون في الأمور القانونيّة فقط.
كُونوا بُسَطاء كما أنّ الله بسيط، وكذلك الطفل. كونوا صادقين في كلّ لحظة مِن حياتكم. هل تريدون أن تُعتَبَروا صالحين؟ فكونوا بالحقيقة كذلك. حتّى ولو أراد نَمّام التحدّث عنكم بكلام سوء، فسوف يكون هناك مائة صالح ليقولوا: "لا، هذا ليس صحيحاً. فهو صالح. وأعماله تتحدّث عنه". قيل في سِفر الحكمة: "الإنسان الظالم الجائر يتقدّم والفساد على شفتيه... وفي قلبه الـمُنحَرِف يُهيّئ نوايا سيّئة، وفي كلّ الأحيان يَبذر بُذور الشّقاق... ستّة أمور يَمقُتها الربّ والسابع يَغضَب منه: العينان المتغطرستان، واللسان الكاذب، واليدان اللتان تُريقان الدم البريء، والقلب الذي يتأمّل النوايا الظالمة، والقدمين المتعجّلتين للذهاب إلى الشرّ، وشهادة الزُّور التي تتفوّه بالأكاذيب وتلك التي تَبذر بُذور الشّقاق بين الإخوة... الدمار يَدنو من الشرّير بسبب خطايا اللسان... فالذي يكذب هو شاهِد مُدَلِّس. والشفاه الصادقة لا تتبدّل أبداً، ولكنّ الذي يَنطق بلسان مُدَلِّس، فشهادته مُتغيّرة. كلمات الوَاشي تبدو بسيطة ولكنّها تخترق الأحشاء، فالعدوّ، عندما يُدبّر خيانة ما، يُعرَف مِن طريقته بالكلام، عندما يتحدّث بصوت مُنخَفِض، فلا تثق به، ذلك أنّه يحمل في قلبه الشرور السبعة. وهو يُخفي حقده تحت مَظاهِر جَذّابة، ولكنّ مَكْرَه سوف يُعلَن في النور... ومَن يَحفر حُفرة يَقَع فيها، والحَجر يَسقط على مَن يُدحرجه.
قديمة قِدَم العالم هي خطيئة الكذب، وفِكر الحكيم يتمسّك بما عَزَم عليه، وكذلك إدانة الله للكاذب. أقول لكم: فليكن كلامكم واحداً: "النَّعَم" "نَعَم"، و"اللا" "لا" على الدوام، حتّى في مُواجَهة ذَوي السُّلطان والطُّغاة، وسيكون أجركم عظيماً في السماء. أقول لكم: لتكن لكم عفويّة الطفل الذي يمضي بالفِطرة صَوب الذي يُحِسُّ فيه الصلاح، دون البحث عن أيّ شيء غير الصلاح، والذي يقول ما يمليه عليه صلاحه ذاته دونما حساب لِمَذَمّة يمكن أن يتلقّاها لو استمرّ فيه.
اذهبوا بسلام، ولتكن الحقيقة صديقتكم.»
ويسرائيل الصغير، الذي بقيَ جالساً عند قدميّ يسوع، رأسه مرفوع مثل عصفور صغير يُنصِت إلى صوت أبيه، وبحركة ملؤها النعومة: يفرك وجهه الصغير بركبتيّ يسوع ويقول: «أنا وأنتَ أصدقاء لأنّكَ صالح وأنّا أحبّكَ. أنا الآن أقول ذلك أيضاً.» ويَرفَع صوته ليُسمِع كلّ مَن في القاعة، ويتحدّث وهو يقوم بحركات مثلما رأى يسوع يَفعَل: «اسمعوا جميعكم. أعرف أين يذهب الأشخاص الذين لا يَنطقون بالكذب، والذين يُحبّون يسوع الناصريّ كثيراً. إنّهم يَصعَدون سُلّم يعقوب، ويَمضون إلى الأعلى، الأعلى، الأعلى... تماماً كالملائكة، وبعدئذ يتوقّفون حيث يلتقون الربّ.» ويضحك سعيداً كاشِفاً عن أسنانه كلّها.
يُلاطِفه يسوع ويَنـزل بين الناس. يُعيد الطفل إلى أُمّه: أشكركِ أيّتها السيّدة لأنّكِ أعطيتِني ابنكِ.»
«لقد سَبَّبَ لكَ المتاعب.»
«لا، بل مَنَحَني الحبّ. إنّه صغير مِن لَدُن الربّ، وليكن الربّ معه على الدوام ومعكِ. وداعاً.»
وينتهي كلّ شيء.