ج6 - ف153
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء السادس/ القسم الثاني
153- (في بيت يُوَنّا امرأة خُوزي. رسالة أنطاكية)
23 / 07 / 1946
كلّ سكّان طبريّا قد هرعوا إلى ضفاف البحيرة أو إلى البحيرة ذاتها، كي يحظوا بالانتعاش في النسيم الذي يهبّ فوق الماء، والذي يهزّ شجر الحدائق على طول الضفّة. إنّ أغنياء هذه البلدة، التي تجمّعت واختلطت فيها أعراق عديدة لأسباب كثيرة، يسترخون في قوارب مُتعة مريحة، أو تحت ظلال حدائقهم الخضراء حيث يراقبون حركة القوارب على المياه الفيروزيّة، التي قد تنقّت مِن المسحة الصفراء التي سبّبتها عاصفة الأمسية السابقة. أمّا الفقراء، وخصوصاً الأطفال، فيمرحون على الشاطئ حيث تَصِل الأمواج الصغيرة لتتلاشى. وصرخاتهم الحادّة، عندما يَصِل الماء البارد إلى مستوى أعلى ممّا يرغبون، تبدو كما لو أنّها صيحات سنونو.
قاربا بطرس ويعقوب يقتربان مِن الضفة ويتوجّهان نحو الرصيف الصغير.
«لا. إلى حديقة يُوَنّا» يأمر يسوع.
بطرس يطيع دونما كلام، والقارب، المتبوع مِن القارب التوأم، يستدير بمهارة مخلّفاً أثراً مُزبِداً يُشبه شكل علامة استفهام، ويتوجّه إلى المكان المخصّص للرسوّ في حديقة خُوزي، حيث يقترب ويتوقّف. يسوع هو أوّل مَن ينزل ويمدّ يديه إلى المريَـمَتين ليساعدهما على الصعود إلى الرصيف.
«أنتم، اذهبوا الآن إلى الرصيف الرئيسيّ وبشّروا بالربّ هناك. سوف ترون رجلاً يقترب منكم كي يسألكم عن مكاني. إنّه الرجل الذي مِن أنطاكية، اجلبوه لي بعد أن تصرفوا الجموع.»
«نعم... لكن... ماذا علينا أن نقول للناس؟ أعلينا التبشير بالقدوم، أم التبشير بالعقيدة؟»
«بأنّني أتيت. أخبروهم بأنّني سوف أتكلّم في تراقية عند الفجر، وبأنّني سأشفي المرضى. على أحدكم أن يعتني بالقاربين، أو اجعلوا أحد التلاميذ يقوم بذلك، كي يكونا جاهزَين للمغادرة. اذهبوا، وليكن السلام معكم.» وينطلق نحو السياج الذي يقوم مقام السور على الرصيف، تتبعه المريَـمَتان بصمت.
لا يُرى أحد في الحديقة الواسعة، حيث بعض الورود الـمُعانِدة ما تزال تتفتّح، وإن كانت قليلة جدّاً. إنّما تُسمَع الصيحات السعيدة للصغيرين اللذين يلعبان. يسوع يُدخِل يده مِن بين زخارف السياج محاولاً تحريك المزلاج، إنّما لا ينجح بذلك. يبحث عن شيء ما قد يُحدث ضجّة ويلفت الانتباه، ولكنّه لا يجد شيئاً.
حينئذ، لدى سماعه صوت الطفلين وقد غدا أقرب، ينادي بصوت عالٍ: «مريم!». الصوتان يصمتان فجأة... يسوع يكرّر: «مريم!»…
ثمّ وفي منتصف المرج، الأملس كما السجّادة، حيث شجيرات ورد معتنى بها جيّداً، يَرى فتاة صغيرة، تمشي بخطوات قصيرة وحَذِرة، إصبع على شفتيها، عيناها المتقصّيتان تبحثان في كلّ الاتّجاهات، ثمّ وخلفها ببضع خطوات هناك متّياس، متبوعاً مِن قِبَل حَمَل أبيض كالزَّبَد.
«مريم! متّياس!» يصيح يسوع بصوت عال.
الصوت يُرشِد العيون البريئة. الطفلان ينظران باتّجاه السياج ويريان يسوع، الذي كان وجهه بين القضبان، يبتسم لهما.
«الربّ! اركض يا متّياس، صوب الأُمّ... نادِ إيليا أو ميخا ليأتيا ويفتحا...»
«اذهبي أنت. أنا ذاهب للربّ...» ويركضان كلاهما وأذرعهما مفتوحة، كفراشتين، واحدة بيضاء، والأخرى ورديّة برأسهما البنّيّ الصغير. إنّما، لحسن الحظ أنّهما، وهما يركضان فإنّهما يناديان الخادمين، وهاذان يهرعان وهما لا يزالان يمسكان بالمرشّات والمماشط، بحيث أنّ البوابة قد فُتِحَت أخيراً، ويلوذ الطفلان بذراعيّ يسوع، الذي يُقبّلهما ويَعبُر العتبة ممسكاً بأيديهما.
«أُمّي في المنزل مع صديقاتها. إنّهنّ يجعلننا نغادر، لأنّهنّ لا يردننا» يشرح متّياس بسرعة.
«لا تتكلّم بسوء. أُمّنا تجعلنا نغادر لأنّ أولئك السيّدات رومانيّات يتحدّثن عن آلهتهنّ، ونحن، الذين خلّصنا يسوع، علينا ألّا نعرف سِواه. لهذا السبب يا ربّ. إنّ متّياس ما يزال صغيراً جدّاً، وهو لا يفهم» تقول ذلك بطلاقة، وبحكمة طفلة قد عانت، فهي لذلك أكثر نضجاً، وأكثر رشداً ممّا قد يشير إليه عمرها.
«أبونا أيضاً يصرفنا عندما تأتي جماعة البَلاط. وهم يعجبونني، لأنّهم كلّهم جنود... محاربون... الحرب! الحرب جميلة! إنّها تمنح النصر! إنّها تطرد الرومان. لتسقط روما! لتحيا مملكة إسرائيل» يصيح الصبيّ بفخر.
«الحرب ليست جميلة يا متّياس، وغالباً لا يُحرَز النصر، وعندها، مِن رعايا نصبح عبيداً.»
«إنّما مُلككَ لا بدّ أن يسود، ولكي يسود لا بدّ مِن نشوب حرب. وسيُطرد الجميع، حتّى هيرودس، وأنتَ ستكون الـمَلِك.»
«ولكن اصمت، أيّها أحمق. تَعلَم أنّ عليكَ ألّا تُردّد ما تَسمَع. يجيدون التصرّف في صرفكَ. ألا تَعلَم بأنّكَ قد تؤذي أباكَ، أُمّكَ وكذلك يسوع بهكذا قول؟» تقول مريم. ثمّ تشرح: «في أحد الأيّام، ذاك الرجل الذي مثل أمير، والذي هو قريب هيرودس، وهو أيضاً تلميذكَ، جاء ليتحدّث إلى الأب. وقد كانا يصرخان بشدّة، لم يكونا وحدهما، بل مع أناس آخرين كُثُر...»
«لقد كانوا كلّهم جميلين، مع سيوف جميلة، وقد تحدّثوا عن حرب...» يُقاطِع متّياس.
«أقول لك اصمت! لقد صرخوا بقوّة بحيث أمكننا سماعهم، ومذّاك وهذا الأحمق لا يكفّ عن الحديث عن الأمر. قُل له أنتَ بأنّ عليه ألّا يفعل... أُمّي طلبت منه ذلك، وأبي هدّده بأن يرسله إلى قمّة حرمون الكبير، في مغارة مع عبد أصمّ وأبكم، حتّى يتعلّم أن يصمت. وقد كان ليصمت هناك، لأنّه إذا ما تكلّم مع العبد، فهو لن يسمعه ولن يجيبه، وإذا ما صرخ، فالنسور والثعالب سوف تأتي لتأكله...»
«إنّه عقاب رهيب!» يقول يسوع باسماً ومداعباً الطفل الذي فقد جرأته، والتصق بيسوع كما لو كان قد رأى بالفعل النسور والثعالب جاهزة كي تلتهمه كاملاً، بما في ذلك لسانه الصغير المتهوّر. «إنّه حقّاً عقاب رهيب» يكرّر.
«هه! نعم، وأنا خائفة بأنّ يحدث له ذلك، وأن أبقى بلا متّياس، وأبكي... إنّما هو لا يشفق عليَّ أو على أُمّه، وسوف يجعلنا نموت مِن الألم...»
«لا أفعل ذلك عمداً... إنّني أقول... ما أسمع... وهذا جميل جداً... التفكير بأنّ الرومان، مغلوبين، وبأنّ هيرودس وفيلبّس مطرودان، وبأنّ يسوع هو مَلِك إسرائيل» يَختم مُتلاشياً وخافياً وجهه في ثوب يسوع كي يخفت نبرة صوته أكثر بعد.
«لن يتحدّث متّياس عن تلك الأمور مجدّداً. هو سوف يعدني وسوف يفي بوعده. أليس كذلك؟ وهكذا هو لن يُلتَهَم، ويُوَنّا ومريم لن تموتا مِن الألم. خُوزي لن يستاء، وأنا لن أكون مكروهاً. لأنّكَ، أتعلم يا متّياس؟ سوف تجعلنني مكروهاً، بقول تلك الأمور. هل ستكون سعيداً إذا ما اضطُهِد يسوع؟ فقط تخيّل كم سيكون مقدار الندم فيما إذا كان عليكَ يوماً ما أن تقول لنفسكَ: "لقد جعلتُ يسوع الذي خلّصني مُضطَهَداً، وكلّ ذلك لأنّني ردّدتُ ما سمعتُهُ بالصدفة." لقد كانوا بشراً. وغالباً ما يغيب الله عن بال البشر، لأنّهم خطأة. وحيث أنّهم لا يرون الله، فهم لا يرون الحكمة، ويرتكبون أخطاء وحتّى بحسن نيّة، أو بِنيّة يظنّونها كذلك. لكنّ الأطفال صالحون. أرواحهم ترى الله، والله يسكن في قلوبهم. وبالتالي عليهم أن يدركوا الأمور بطريقة حكيمة، وأن يقولوا بأنّ مملكتي لن تتأسّس بالعنف على الأرض، إنّما بالمحبّة في قلوب البشر. وعليهم أن يُصلّوا كي يفهم البشر مملكتي هذه كما يفهمها الأطفال. فصلوات الأطفال تحملها ملائكتهم إلى السماء، والعليّ يحوّلها إلى نِعَم. ويسوع بحاجة إلى هكذا نِعَم كي يبدّل البشر، الذين يفكّرون بالحروب وممالك زمنيّة، إلى رُسُل يُدرِكون أنّ يسوع هو سلام، وأنّ مملكته روحيّة وسماويّة. هل ترى هذا الحَمَل الصغير؟ هل يمكنه التهام آخر؟»
«آه! لا! فلو كان بوسعه ذلك، فما كان أهدانا إيّاه أبي ليمزّقنا إرباً.»
«هو ذا، أحسنتَ قولاً. أيضاً الآب الذي في السموات ما كان قد أرسلني إذا ما كانت لي القدرة والإرادة للّجوء إلى العنف. أنا الحَمَل والراعي. وأنا وديع وحليم كالحَمَل، وأنا الذي يجمع بمحبّة، بعصا الراعي الصالح، لا برمح وسيف المحارِب. هل فهمتَ؟ وهل تعدني، أنا، أنا بالتحديد، بعدم التحدّث عن تلك الأمور مجدّداً؟»
«نعم يا يسوع. إنّما... ساعدني... لأنّني وحدي...»
«سوف أساعدكَ. انظر، سوف ألمس شفتيكَ، وهكذا سوف تُحسِنان البقاء مغلقتين.»
«يا معلّمي. مقدّسة هي هذه الأمسية التي سَمَحَت لي أن أراكَ!» يقول يوناثان وهو يهرع مِن المنزل ويسجد عند قدميّ يسوع.
«السلام لكَ يا يوناثان. أيمكنني أن أرى يُوَنّا؟»
«إنّها آتية. لقد صَرَفَت السيّدات الرومانيّات كي تأتي إليكَ.»
يسوع ينظر إليه نظرة متسائلة ولكنّه لا يسأله شيئاً. يسير باتّجاه المنزل منصتاً إلى يوناثان الذي يتحدّث عن خُوزي "المستاء جدّاً مِن هيرودس" والذي يقول: «مِن أجل سيّدتي، أرجوكَ أن توقفه، لأنّه يريد أن يفعل أموراً... لن تعود بالخير عليكَ ولا عليه، وقبل كلّ شيء عليكَ.»
يُوَنّا تهرع مسرعة نحو الربّ، ودون أن تعير أيّ اهتمام لثوبها، فهي تسجد فوق تراب الممر وتُقبّل قدميّ يسوع. إنّها ترتدي ثوباً أبيض رائعاً، ومِن على رأسهما يتدلّى وِشاح يبدو وكأنّه مَصاغ فضّيّ كونه مقصّب ومطرّز بخيوط فضّية -ولا أدري كيف أنّ ملابس خفيفة كهذه تتحمّل هكذا تقصيباً وتطريزاً- وعلى رأسها إكليل رفيع وبارز بعض الشيء إلى الأمام، مثل قَلنسوة أُسقُف مزيّنة باللآلئ، قُرطان ثقيلان مزيّنان باللآلئ، عقد مزيّن باللآلئ، وأساور وخواتم مزيّنة: تجلّي جمال، نقاء، وظُرف.
«السلام لكِ يا يُوَنّا.»
«عندما تكون معي يحلّ دوماً السلام فيَّ وفي منزلي... أُمّي!...» وتهمّ بتقبيل قدميّ مريم، التي، بدلاً مِن ذلك، تستقبلها بين ذراعيها المفتوحتين وتعانقها. وتتبادل القُبل مع مريم التي لحلفى كذلك.
بعد التحيّات، يقول يسوع: «يُوَنّا، أريد أن أتحدّث معكِ.»
«ها أنا ذا يا معلّم. يا مريم، منزلي هو منزلكِ. اطلبي ما تشائين. أنا ذاهبة مع المعلّم...»
يذهب يسوع إلى المرج، حيث يمكن أن يراه الجميع، إنّما هو منعزل بحيث لا يستطيع أحد أن يسمعه. يُوَنّا تنضمّ إليه.
«يُوَنّا، ينبغي لي أن أَستَقبِل مرسالاً مِن أنطاكية، قادماً مِن عند سِنْتيخي بالتأكيد. فكّرتُ بأن أستقبله في منزلكِ. هنا، في حديقتكِ...»
«إنّكَ سيّد كلّ ما تملكه يُوَنّا.»
«حتّى قلبكِ؟» يسوع يحدّق بها.
«أنتَ تعلم مسبقاً يا معلّم! كنتُ تقريباً متأكّدة. أمّا الآن فأنا واثقة تماماً. خُوزي... تناقض الرجال عظيم جدّاً! إنّ ارتباطهم بالمصالح قويّ جدّاً! وشفقتهم تجاه زوجاتهم هي حقّاً ضعيفة جدّاً! إنّنا... ماذا نكون إذاً، نحن زوجات الخِيرة؟ جوهرة تُعرض أو تُخفى تبعاً للمصلحة... ممثّلة إيمائية عليها أن تضحك أو تبكي، تجذب أو تصدّ، تتكلّم أو تصمت، تُظهِر أو تخفي نفسها، بحسب رغبات الرجل... دوماً لمصلحته... إنّ مصيرنا محزن يا ربّ! ومُهين كذلك!»
«كتعويض، أُعطي لكِ معرفة الارتقاء عالياً أكثر بالروح.»
«هذا صحيح. أَعَلِمتَ مِن تلقاء ذاتكَ أم أنّهم أخبروكَ عن الأمر؟ هل رأيتَ مَنَاين؟ لقد كان يبحث عنكَ...»
«لا. لم أرَ أحداً. أهو هنا؟»
«نعم، إنّنا كلّنا هنا... أقصد: كلّ حاشية هيرودس... والكثيرين لأنّهم يكرهونه. خُوزي بينهم أيضاً، منذ أن صار هيرودس، بمشيئة هيروديا، يُسَرّ بإذلال وكيله... يا ربّ، أَتَذكُر أنّه في بِتّير كان يريد فصلي عنكَ لأنّه كان خائفاً مِن أن يستاء منه هيرودس؟ لم يمض على ذلك بضعة أشهر... وها هو الآن يريدني أن... نعم يا ربّ. يريدني أن أقنعكَ بقبول مساعدته كي تصبح مَلِكاً مكان رئيس الرُّبع... عليَّ أن أخبركَ لأنّني امرأة، وبالتالي خاضعة للرجل، وفوق ذلك امرأة إسرائيليّة، أي خاضعة لمشيئة الزوج أكثر مِن غيرها. وها أنا أقول لكَ... وأنا لا أنصحكَ... لأنّني آمل أن أعرف الآن بأنّكَ... آه! بأنّكَ لن تجعل مِن نفسكَ مَلِكاً بمساعدة رُماة للرّماح مرتزقة. آه!... ما الذي قُلتُه! ما كان يجدر بي أن أتكلّم هكذا... كان عليَّ أن أدعكَ تستمع قبلاً لخُوزي ومَنَاين والآخرين... وفيما لو بقيتُ صامتة، أما كنتُ أسيء؟... يا ربّ، ساعدني لتبيّن ما هو الصواب...»
«إنّ رؤيتكِ لَوَاضحة يا يُوَنّا. فأنا لن أجعل مِن نفسي مَلِكاً، لا بكتائب عسكريّة رومانيّة، ولا بِرَمّاحين إسرائيليّين، حتّى ولو أنّ روما وإسرائيل قرّرتا إحلال السلام في هذه المنطقة مِن خلالي. لقد فهمتُ بالفعل بما يكفي كي أتحقّق. إنّ متّياس كان قد تكلّم كلاماً متهوّراً. ويوناثان كان قد لَـمَّحَ إلى استياءات. وأنتِ تقولين الباقي. وأنا سأكمل الصورة على الشكل التالي: إنّ تصوّراً متهوّراً لمملكتي، يدفع بالصالحين الذين ليسوا بعد أبراراً، مثل مَنَاين، لخلق حركات تميل إلى إقامة مملكة إسرائيل وفقاً للفكرة الثابتة لغالبية الناس. وحاجة ملحّة، ملتهبة، للانتقام مِن إهانة ما، تحثّ آخرين، ومن بينهم زوجكِ، أن يفعلوا الشيء ذاته. إنّ دهاء الفرّيسييّن، الصدّوقيّين، الكَتَبَة وأيضاً الهيروديّين، يُعوّلون على هذين الدّافِعَين كي ينجحوا في التخلّص منّي، بإظهاري في عيون حكّامنا على غير ما أنا عليه. لقد صرفتِ السيّدات الرومانيّات لتقولي لي هذا، كي لا تخوني خُوزي ولا مَنَاين ولا الآخرين.
إنّما الحق أقول لكِ بأنّ الوثنيّين هم مَن فهموني أكثر مِن الآخرين. يدعونني فيلسوفاً، ربّما يعتبرونني حالماً، غير واقعيّ، شقيّاً، وفق عقليّتهم التي توسِّس كلّ شيء على العنف، لكنّهم قد أدركوا، على الأقلّ هم أدركوا هذا: أنّني لا أنتمي إلى هذه الأرض، وبأنّ مملكتي لا تنتمي إلى هذه الأرض. إنّهم لا يخافونني، لكنّهم يخافون مِن أتباعي. إنّهم على حقّ. فأتباعي، البعض بدافع المحبّة، البعض مِن قبيل الكبرياء، هم مستعدّون تماماً لفعل أيّ شيء كي يحقّقوا فكرتهم: أن يجعلوا منّي، مَلِك الملوك، الـمَلِك الكَونيّ، مَلِكاً ضعيفاً على دولة صغيرة... حقّاً عليَّ أن أكون شديد الحذر مِن هذه المؤامرة، التي تُحاك في الخفاء، والتي يعمل عليها أعدائي الحقيقيّون، الذين ليسوا في قصر الوالي في القيصريّة، ولا في قصر الحاكم في أنطاكية، ولا في قلعة أنطونيا. إنّهم تحت تمائم وأهداب وأوشحة الأثواب اليهوديّة، وخصوصاً التمائم العريضة والأوشحة الرقيقة التي تزيّن الأثواب العريضة للفرّيسيّين والكَتَبَة، كي يُثبِتوا التزامهم الأعظم بالشريعة. لكنّ الشريعة في القلب، لا على الأثواب... فلو كانت في قلوبهم، أولئك الذين يكرهون بعضهم، إنّما الذين قد اتّحدوا الآن متناسين كراهيتهم في سبيل أن يسبّبوا لي الأذى -الكراهية التي تحفر فجوات عميقة بين طبقات إسرائيل، والتي ما عادت الآن منقسمة، بل على ذات السويّة، لأنّه قد تمّ ملء الفجوات بالكراهية تجاهي- فلو كانت الشريعة في قلوبهم، بدلاً مِن أن تكون معلّقة أو مرتبطة بأثوابهم، جباههم، أيديهم، تماماً كما يتعلّق الهمجيّ بتعاويذ، أصداف، عظام، مناقير نسور، بدافع معتقدات خرافيّة، أو كزينة، فلو كانت هذه الشريعة في قلوبهم، ولو كانت الحكمة مكتوبة لا على التمائم، بل على أوتار قلوبهم، لكانوا فهموا مَن أنا، وأنّهم لا يستطيعون الوقوف ضدّي كي يدمّروني ككلمة وكإنسان.
عليَّ إذاً أن أدافع عن نفسي مِن الأصدقاء والأعداء، غير العادلين في محبّتهم كما في كراهيّتهم. ينبغي لي أن أسعى كي أُوجّه محبّتهم وأن أُسَكِّن كراهيّتهم. وأنا أفعل ذلك، كي أقوم بواجبي. وسأظلّ أفعل ذلك إلى أن أبني المملكة، ساقياً حجارتها بدمي كي أجعلها متينة. وعندما أكون قد نضحتُكم بدمي، فإنّ قلوبكم لن تعود متردّدة. وأتحدّث عن القلوب الوفيّة لي. عن قلبكِ يا يُوَنّا، الـمُوزّع هكذا بين قوّتين ومحبّتين، هما على عاتقكِ وفيكِ: خُوزي-أنا.»
«لكنّكَ سوف تنتصر يا ربّ.»
«نعم، سوف أنتصر.»
«مع ذلك لِتَسْعَ كي تُخلّص خُوزي كذلك... أَحِبَّ مَن أنا أحبّ.»
«إنّني أحبّ مَن يحبّكِ»
«أَحِبَّ خُوزي الذي يحبّكَ...»
«إنّ الكذب لا يليق بهذا الجبين النقيّ مثل اللآلئ التي تزيّنه، والذي يحمرّ الآن جاهداً لإقناع نفسه وإقناعي بمحبّة خُوزي لي.»
«ومع ذلك فهو يحبّكَ.»
«نعم. لمصلحته. كما أنّه بدافع مصلحته الخاصّة لم يكن يحبّني في زيو وسيرام (Zio and Siram)... إنّما ها هو سمعان بن يونا مع الغريب. لنذهب لملاقاتهما...»
يمضيان وصولاً إلى مدخل ضخم خلف المنزل، إنّه رِواق نصف دائريّ أكثر منه مدخل، مفتوح على الحديقة. هكذا تتصل الحديقة بالمنزل بهذا الرواق نصف الدائري، المفتوح على الحديقة والمزيّن بأعمدة عليها أغصان شجيرات ورد هي حالياً بلا ورود، وأغصان ياسمين خلاّبة، وأيضاً عريشة أرجوانيّة أجهل اسمها.
«ليكن السلام معكَ أيّها الغريب. أكنتَ تريد رؤيتي؟»
«السلام والمجد يا ربّ. كنتُ أبغي رؤيتكَ. معي رسالة لكَ. امرأة يونانيّة أعطتني إيّاها في أنطاكية. أنا... لا، ما عدتُ يونانيّاً، لأنّني أصبحتُ مواطناً رومانيّاً لمواصلة عملي. أنا مُورّد مؤن للقوّات الرومانيّة. أنا أكرههم. إنّما مِن المربح تزويدهم بالمؤن. ولأجل ما فعلوه بنا، عليَّ مزج الشوكران السام بطحينهم. إنّما يجب تسميمهم كلّهم. فتسميم بعضهم سيكون دون جدوى. بل قد يزيد الأمر سوءاً... إنّهم يعتقدون بأنّه مسموح لهم أن يفعلوا ما يشاؤون لأنّهم أقوياء. إنّهم برابرة، مقارنة باليونانيّين. لقد سرقوا منّا كلّ شيء كي يتزيّنوا بما هو لنا ويحاولوا الظهور بمظهر المتمدّنين. إنّما إن خدشتَ القشرة المصبوغة بمسحة مِن حضارتنا، فسوف تجد دوماً أموليوس، رومولوس، تاركوينيوس... سوف تجد دوماً بروتوس، قاتل الـمُحسِن إليه. حاليّاً لديهم تيبيريوس! ليس كافياً بالنسبة لهم! لديهم سيانوس. لديهم ما يستحقّون. السيوف، القيود، الجرائم التي ارتكبوها ترتدّ عليهم وتنهش لحوم هؤلاء الرومان المتوحّشين. وما يزال قليلاً جدّاً. إنّما لن يهربوا مِن القانون: فعندما يصبح الوحش ضخماً، فسوف يهوي تحت ثقله الخاصّ ويتفسّخ. والمغلوبون سوف يضحكون أمام الجيفة الهائلة، وسوف يصبحون مجدّداً الغالِبِين. فليكن ذلك! ولتكن كلّ أقدام المنتصرين لإنهاك تلك التي سَحَقَتنا في توسّعها الوحشي... إنّما سامحني يا معلّم. لقد هيّجني الحزن المستمرّ مجدّداً... كنتُ أقول بأنّ امرأة يونانيّة قد أعطتني رسالة لكَ، وقد أخبَرَتني بأنّكَ الإنسان الفاضل الكامل. فاضل... إنّكَ أكثر شباباً مِن أن تكون كذلك... إنّ أرواح الإلياذة العظيمة قد أمضت كلّ حياتها كي تحظى ببعض الفضيلة... مع ذلك فقد أطلَعَتني المرأة على فكركَ. وإن كنتَ تؤمن حقّاً بما تُعلّمه، فأنتَ عظيم... أصحيح أنّكَ تحيا كي تُعدّ نفسكَ للموت مِن أجل أن تمنح العالم حكمة العيش كآلهة وليس كبهائم، كما يعيش البشر حاليّاً؟ أصحيح أنّكَ تؤكّد بأنّ هناك ثروة واحدة تستحقّ أن تُجمَع: التي هي للفضيلة؟ أصحيح أنّكَ جئتَ كي تفدي، وبأنّ الفداء يبدأ بذواتنا، باتّباع تعاليمكَ؟ أصحيح أنّ لدينا نَفْساً وأنّه علينا أن نعتني بها، فهي إلهيّة، أزليّة، غير قابلة للفساد بطبيعتها، ولكن، بعيشنا كما البهائم، فإنّنا بذلك نجرّدها مِن طبيعتها الإلهيّة، دون كوننا غير قادرين على إفنائها؟ أَجِب أيّها العظيم!»
«صحيح. كلّ ذلك صحيح.»
«بحقّ زيوس، هذا ما قاله كذلك عظيمنا. لكنّه كان يبدو كموسيقى تفتقر إلى النغمة، مثل قيثارة ينقصها وَتَر. مِن حين لآخر كنّا نشعر بفراغ، ولم يكن فيلسوفنا ليتخطّاه. إنّما أنتَ قد ملأتَه، فإذا كنتَ حقّاً قد جئتَ ليس فقط كي تُعلّم، بل أيضاً كي تموت، دون أن تكون مُرغَماً مِن قِبَل أيّ أحد، إنّما فقط بملء إرادتكَ بطاعة الله، الذي يُبدّل موتكَ مِن انتحار إلى تضحية... بحقّ بالّاس الإلهيّة! إنّ أيّاً مِن آلهتنا لم يفعل ذلك. لذلك، فأنا أستنتج، بأنّكَ أعظم شأناً منها. المرأة اليونانيّة تقول بأنّ لا وجود لها، بل أنتَ وحدكَ مَن له وجود... فإذن أنا أتكلّم مع إله؟ وهل لإله أن يستمع هكذا لمورّد مؤن لصّ بائس يكره أعداءه؟ لماذا تستمع إليَّ؟»
«لأنّني أرى نفسكَ.»
«تراها؟!!! كيف هي؟»
«معقّدة، قذرة، ثعبانيّة، مريرة، جاهلة، ولو أنّ فكركَ يختلف عن ذاك الذي للبربر. إنّما في داخل هذا الهيكل الملطّخ هناك مذبح ينتظر، كما ذاك الذي في مجمّع الحكماء، وهو ينتظر ذات الشيء: الله الحقّ.»
«ينتظركَ إذن، لأنّ المرأة اليونانيّة تقول بأنّكَ أنتَ هو الله الحقّ. إنّما بحق زيوس، إنّ ما تقوله عن نفسي صحيح، إنّكَ أكثر وضوحاً وثقة مِن العرّاف الدلفيّ. ولكنّكَ تبشّر بالسلام، المحبّة والمغفرة. فضائل صعبة. وأنتَ تبشّر بالعفّة وكلّ أنواع الاستقامة... أن نكون ذلك يعني أن نكون آلهة، أعظم مِن آلهة، لأنّها... آه! هي ليست مسالمة، مستقيمة، سخيّة!... إنّها كمال أهواء البشر الشرّيرة، باستثناء مينيرفا التي هي على الأقلّ حكيمة... فحتّى ديانا... هي طاهرة إنّما قاسية... نعم، كي نكون ما تُبشّر به، يعني أن نكون أعظم مِن الآلهة. وإذا ما أصبحتُ أنا كذلك... بحقّ غانيميد البهيّ! هو: الفتيّ الذي اختطفه نسر الأولمب وأصبح ساقي الآلهة. لكن... إنّما أن يتحوّل زينون مِن مُورّد مؤن لحُكّام برابرة ليصبح إلهاً... فاسمح لي أن أتثبّت مِن هذه الفكرة، وفي غضون ذلك يمكنكَ أن تقرأ رسالة المرأة...» ويبدأ الرجل بالمشي كأحد أتباع أرسطو.
بطرس، المتعب، إذ رأى أنّ المحادثة قد طالت، فقد جلس براحة على مقعد في صحن الدار، وغفا بسلام في ذلك المكان المنعش، على الأرائك الناعمة الموضوعة على المقعد... إنّما لا بدّ أنّ إحدى أذنيه ظلّت متنبّهة، لأنّه يصحو على صوت الختم وهو يُكسَر والرقّ وهو يُفتَح، وينهض على قدميه، فاركاً عينيه النّاعستين. إنّه يدنو مِن المعلّم، الذي يقرأ فيما هو واقف تحت ثريا مصنوعة مِن قطع رخاميّة بمسحة بنفسجية خفيفة. وكون الضوء خافت، بحيث هو كاف لإنارة المكان دون أن يُفقده سِحر ضوء القمر في الليالي الصافية، فإنّ يسوع يمسك بالورقة عالياً كي يرى الكلمات، وبطرس، الذي هو أقصر بكثير مِن المعلّم، والواقف بجانبه، يُحاول مدّ رقبته، والوقوف على أطراف أصابع قدميه، كي يرى، إنّما لا ينجح بذلك.
«إنّها سِنْتيخي، إيه؟ ما الذي تقوله؟» يَسأَل مرّتين ويتوسّل: «إقرأ بصوت مرتفع يا معلّم!»
ويسوع يجيب: «نعم، إنّها هي... فيما بعد...» ويتابع القراءة، وعندما ينهي الورقة الأولى، يطويها، يضعها في طيّات حزامه، ويبدأ بقراءة الورقة الثانية.
«يا للرسالة الطويلة التي كَتَبَتها، إيه؟ كيف حال يوحنّا؟ ومَن هو هذا الرجل؟» يلحّ بطرس مثل طفل.
يسوع مستغرق لدرجة أنّه لم يعد يسمعه. تنتهي الورقة الثانية وتُوضَع كما الأولى.
«سوف تُتلَفان هكذا. أعطني إيّاهما لأحملهما...» وهو بالتأكيد يفكّر: "وسوف ألقي نظرة عليهما." إنّما عندما يرفع عينيه كي يتابع حركة يديّ يسوع الذي يفرد الورقة الثالثة والأخيرة، فإنّه يرى دمعة تلمع على رموش يسوع الشقراء.
«يا معلّم؟! أتبكي؟! لماذا يا معلّم؟» يقول، ويقترب منه محتضناً إيّاه بذراعه القصيرة ذات العضلات.
«يوحنّا قد مات...»
«آه! يا للمسكين! متى؟»
«في أوائل الصيف... وكان راغباً كثيراً برؤيتنا...»
«آه! يوحنّا المسكين!... ولكنّه مذّاك... كان على وشك!... وألم الفراق... وكلّ ذلك بسبب الثعابين! لو كنتُ أعلم أسماءهم!... إقرأ بصوت مرتفع يا معلّم. فقد كنتُ أحبّ يوحنّا جدّاً!»
«فيما بعد. سوف أقرأها فيما بعد. اصمت الآن.»
يسوع يقرأ باهتمام... بطرس ينتصب أكثر كي يرى... القراءة انتهت. يسوع يطوي الورقة مجدّداً ويقول: «نادِ أُمّي.»
«ألن تقرأ؟»
«أَنتظر الآخرين... في غضون ذلك سوف أصرف هذا الرجل.»
وبينما يمضي بطرس إلى المنزل حيث النسوة التلميذات مع يُوَنّا، فإنّ يسوع يدنو مِن اليونانيّ: «متى ترحل؟»
«آه! عليَّ أن أذهب إلى الوالي في القيصريّة، ومِن ثمّ إلى يافا بعد أن أشتري بعض البضائع. سوف أرحل في غضون شهر، في وقت أتجنّب فيه عواصف تشرين الثاني (نوفمبر). سوف أرحل بحراً. أتحتاجني؟»
«نعم، كي أُرسِل رسالة جوابيّة. لقد قالت المرأة الرومانيّة بأنّه يمكنني الوثوق بكَ.»
«يقال بأنّنا غدّارون. لكنّنا قادرون على ألّا نكون كذلك. بإمكانكَ الوثوق بي. يمكنكَ إعداد رسالتكَ والبحث عنّي في عيد المظالّ في منزل كليانت، فهو الذي يزوّدني بأجبان اليهوديّة لموائد الرومان. إنّه المنزل الثالث بعد نافورة قرية بيت فاجي. لن تخطئ.»
«وأنتَ لن تخطئ أيضاً فيما إذا تابعت المضيّ قُدُماً على طول الدرب الذي وضعتَ قدمكَ عليه. الوداع يا رجل. التمدّن اليونانيّ يقودكَ إلى ذاك المسيحيّ.»
«ألن تؤنّبني على الكراهية؟»
«أتشعر بأنّه ينبغي عليَّ فِعل ذلك؟»
«نعم، لأنّكَ ترفض الكراهية باعتبارها شعوراً معيباً، وأنتَ تمقت الانتقام.»
«وما هو رأيكَ في ذلك؟»
«أعتقد بأنّ مَن لا يكره ويَغفر هو أعظم مِن زيوس.»
«ابلغ إذن تلك العَظَمة... الوداع يا رجل. فلتحبّ عائلتُك سِنْتيخي، وفي الـمُغتَرَب حيث أنتم الآن، اسلكوا دروب الوطن الأزليّ: السماء. مَن يؤمن بي ويعمل بكلامي، سوف يحظى بذاك الوطن. ليهدكَ النور. اذهب بسلام.»
الرجل يحيّي ويمضي. ثمّ يتوقّف، يعود ويَسأَل: «ألن أسمعكَ تتحدّث؟»
«سوف أتكلّم عند الفجر، في تراقية. أمّا بعد ذلك فسأمضي نحو سوريا-الفينيقيّة، ولاحقاً، ولا أدري مِن أيّ طريق، إلى أورشليم.»
«سوف أبحث عنكَ. وسوف أكون في تراقية غداً كي أرى فيما إذا كنتَ بليغاً بقدر ما أنتَ حكيم.»
يمضي أخيراً.
النّسوة في الرّواق، ويعلّقن مع بطرس على موت يوحنّا. ولكن أتى كذلك الآخرون، أولئك الذين قد ظلّوا في المدينة كي يُعلِموا الناس بأنّ الرابّي سيكون في تراقية في صباح اليوم التالي. والجميع يتحدّثون عن المسكين يوحنّا الذي مِن عين دور، ومهتمّون بمعرفة الأمر.
«مات يا بنيّ!»
«نعم. إنّه في السلام.»
«لقد توقّفَت معاناته حقّاً.»
«لقد تحرّر مِن السجن تماماً.»
«كان مِن العدل أن لا يعاني ألم المنفى الأخير.»
«تطهير إضافيّ.»
«آه! لا أودّ هكذا تَطَهُّراً لنفسي. أيّ تطهّر آخر... إنّما ليس الموت بعيداً عن المعلّم!»
«ومع ذلك... فينبغي لنا كلّنا الموت هكذا... يا معلّم... خذنا معكَ!» يقول أندراوس بعد الجميع.
«أنتَ لا تعلم ما تطلب يا أندراوس. سيكون هذا مكانكم حتّى أدعوكم. إنّما أنصتوا لما كَتَبَته سِنْتيخي:
"مِن سِنْتيخي المسيح سلام إلى المسيح يسوع.
الرجل الذي سيحمل إليكَ هذه اللّفائف هو مِن وطني. لقد وَعَدَني بأن يبحث عنكَ حتّى يجدكَ، تاركاً بيت عنيا كحلّ أخير، حيث سيترك الرسالة لدى لعازر، في حال لم ينجح في إيجادك في أيّ مكان. إنّه شخص يتعافى، بقدر استطاعته، مِن كلّ الجور الذي تلقّاه هو وأسلافه مِن روما. إنّ روما قد ضَرَبَتهم ثلاث مرّات، بطرق متعدّدة وبأساليبها المعتادة. إنّه يقول، بحسّ دعابة يونانيّ، بأنّه الآن يحلب أبقار التيبر كي يجعلها تبصق النعاج الهلّينيّة. إنّه مُورّد مؤن للحاكم وللكثير مِن العائلات الرومانيّة في روما المصغّرة هذه، المدينة العظيمة، مَلِكة الشرق. وعلاوة على ذلك، وبالإضافة للأطعمة الفاخرة للأغنياء، وبأسلوبه الماهر في التذلّل والتملّق، مخفياً كراهيته المزمنة، فقد نجح في الاستحصال على عقد تموين لقوّات الشرق. أنا لا أوافق على أساليبه. إنّما لكلّ واحد طرقه الخاصّة. أنا كنتُ أُفضّل الخبز المستجدى في الشوارع على علب الذهب المعطاة له مِن قِبَل الظالمين. وكنتُ لأتصرّف هكذا دائماً، لو لم يدفعني هدف آخر، مجرّد مِن المصلحة، كي أُقلّد اليونانيّ لأبلغ هدفي.
إنّما مع ذلك، إنّه رجل طيّب وزوجته طيّبة، كذلك بناته الثلاث وابنه. لقد تعرّفتُ عليهم في مدرسة أنتيجونيا الصغيرة، وبالبلسم عالجتُ الأُمّ التي كانت قد مرضت في أوائل الربيع، وهكذا بدأتُ بالذهاب إلى منزلهم. الكثير مِن العائلات تستقبلني بترحاب كمعلّمة تطريز: عائلات نبيلة وتجّار، إنّما قد فضّلتُ هؤلاء بالضبط لكونهم يونانيّين. سوف أُفسّر لكَ الأمر.
أرجوكَ أن تكون متسامحاً مع زينون، ولو لم يكن بإمكانكَ تأييد وجهات نظره. إنّه مثل بعض أنواع الأراضي القاحلة، الصوّانية عند السطح، إنّما الجيدة جدّاً تحت القشرة القاسية. إنّني آمل أن أنجح في نزع هذه القشرة القاسية التي تشكَّلَت بفعل الكثير مِن الألم، وكشف التربة الجيّدة. فيكون عوناً كبيراً لكنيستكَ، ذلك أنّ زينون معروف ولديه علاقات مع كثيرين في أسيا الصغرى واليونان، بالإضافة إلى قبرص ومالطا، وحتّى في إيبيريا، حيث لديه أقارب وأصدقاء منتشرون في كلّ مكان، يونانيّون مثله ومُضطَهَدون، كذلك جنود وقضاة رومانيّون، مفيدون جدّاً لرسالتك ذات يوم.
يا ربّ، فيما أكتُب، ومِن شرفة المنزل، أرى أنطاكية بأرصفتها على النهر، قصر الحاكم في الجزيرة، شوارعها الفخمة، وأسوارها ذات مئات الأبراج القويّة. وإذا ما التفتُّ فيمكنني رؤية قمّة سولبيوس التي تطلّ عليَّ بثكناتها، والقصر الثاني للحاكم. وبهذا أكون بين مظهرين للقوّة الرومانيّة، أنا، المرأة المسكينة، الوحيدة. لكنّهما لا يخيفانني. بل أنا على العكس أعتقد بأنّ ما لا يقدر ثَوَران العناصر وقوّة تمرّد شعب بأسره على فِعله، فسوف يحقّقه الضُّعف الذي لا يثير انتباه أحد. الضُّعف الظاهريّ الذي يستهين به الأقوياء، ضُعف مَن هُم الأقوياء الحقيقيّين لأنّهم يمتلكون الله: أنتَ.
أعتقد، وأقول لكَ ذلك، بأنّ هذه القوّة الرومانيّة سوف تكون القوّة المسيحيّة عندما تُدرِككَ، وبأنّ عملنا ينبغي أن يبدأ مِن معاقل الرومانيّة الوثنيّة، لأنّها ستكون دوماً سائدة على العالم، وحضارة مسيحيّة رومانيّة تعني مسيحيّة عالميّة. متى؟ لا أدري؟ لكنّني أشعر بأنّ ذلك سوف يحدث. لذلك فأنا أنظر إلى شواهد القوّة الرومانيّة هذه مبتسمة، مفكّرة باليوم التي ستضع فيه راياتها وقوّتها في خدمة مَلِك الملوك. إنّني أنظر إليها كما لو أنّني أنظر إلى أصدقاء، لم يدركوا بعد أنّهم سيكونون كذلك، والذين سوف يتسبّبون بالمعاناة قبل أن تتمّ استمالتهم، إنّما ما أن تتمّ استمالتهم، حتّى يحملوكَ ويحملوا حكمتكَ إلى أقاصي العالم.
أنا، المرأة المسكينة، أتجرّأ لأقول لإخوتي الأكبر فيكَ، بأنّه عندما يحين وقت استمالة العالم إلى ملكوتكَ فيجب عدم البدء بإسرائيل، الشديدة الانغلاق حول الصرامة الموسويّة التي فاقمها الفرّيسيّون والطبقات الأخرى، الأمر الذي تستحيل معه استمالتها، إنّما سيبدأ مِن هنا، مِن العالم الرومانيّ وتشعّباته. -مِن حيث تَخنق المخالب الرومانيّة كلّ إيمان، كلّ محبّة، كلّ حرّية ليست على هواها، ولا تخدم مصالحها.- مِن هنا ينبغي أن تبدأ استمالة النُّفوس إلى الحقّ.
أنتَ تعلم ذلك يا ربّ. لكنّني أتوجّه بهذا الكلام لإخوتي الذين لا يستطيعون التصديق بأنّنا نحن أيضاً، الوثنيّين، نتوق إلى الخير. وأقول لإخوتي بأنّه تحت درع الوثنيّة هناك قلوب قد خيّب فراغ الوثنيّة أملها، وأصابها الغثيان مِن الحياة الفارغة التي أَمْلَتها العادات، وأنهَكَتها الكراهية، الرذيلة، القسوة. هناك نفوس بارّة لا تعرف على ماذا تعوّل لإرضاء توقها إلى الخير. قَدِّموا لها الإيمان الذي يشفي غليلها. وسوف يموتون مِن أجله، حاملين إيّاه قُدُماً أكثر فأكثر، كما المشعل في الظلام، كما يفعل رياضيّو الألعاب الإغريقيّة."»
يسوع يطوي الورقة الأولى، وفيما يُعلِّق المستمعون إليها على أسلوب وقوّة وأفكار سِنْتيخي، ويتساءلون لماذا لم تعد في أنتيجونيا، فإنّ يسوع يفرد الورقة الثانية.
بطرس، الذي كان قد ظلّ جالساً حتّى الآن، يقترب مجدّداً كما لو أنّه يريد أن يَسمَع بشكل أوضح، ويعاود الوقوف على أصابع قدميه كي يرى، ملتصقاً بيسوع.
«سمعان، إنّ الجوّ حارّ جدّاً، وأنتَ تلتصق بي» يقول يسوع مبتسماً. «عُد إلى مكانكَ. ألم تكن تسمع حتّى الآن؟»
«أسمع؟ نعم. لكنّني لم أَرَ. والآن أريد أن أرى، لأنّ هذه الورقة كانت قد غيَّرَت ملامحكَ وبكيتَ... وليس فقط بسبب يوحنّا... لقد كنّا نعلم بأنّه كان على وشك الموت...»
يسوع يبتسم، إنّما ليمنع بطرس مِن اختلاس النَّظَر إلى الورقة مِن خلف ظهره، فإنّه يستند إلى أقرب عمود، غير مكترث لابتعاده عن ضوء الثريا، التي، وإن لم تكن تُضيء الورقة، فهي بالمقابل تجعل وجه يسوع يشعّ بالنور.
بطرس، المصمّم تماماً على أن يرى ويفهم، يجرّ مقعداً إلى قبالة يسوع، ويجلس محدّقاً في وجه المعلّم.
«"إنّني على قناعة شديدة بذلك إلى درجة أنّني حينما بقيتُ وحيدة، فقد غادرتُ أنتيجونيا إلى أنطاكية متيقّنة بأنّه يمكنني أن أعمل أكثر في هذه المنطقة، حيث، كما في روما، تختلط وتتعايش كلّ الأعراق، أكثر ممّا عليه الأمر حيث يسود إسرائيل... وأنا، كامرأة، لا يسعني المضيّ في استمالة روما. إنّما إن كانت روما صعبة المنال بالنسبة لي، فسوف أبدأ بنثر البِذار مِن ابنة روما الأكثر جمالاً، المدينة الأكثر شبهاً بأُمّها في العالم بأسره... على كَم مِن القلوب سوف يستقرّ؟ في كم مِن القلوب سوف يَنبُت؟ في كم منها سوف يُحمَل إلى أماكن أخرى بانتظار رُسُل لاستنباته؟ لا أعلم. ولا أسعى إلى أن أعلم. أنا أعمل وأقدّم عملي لله، الذي عرفتُهُ، والذي أَشبَع نفسي وعقلي. إنّي أؤمن بهذا الإله باعتباره الإله الأوحد والكلّي القدرة. وأنا أعلم بأنّه لا يخيّب أمل ذوي الإرادة الصالحة. وهذا يكفيني ويعضدني في جهدي.
يا معلّم: إنّ يوحنّا قد مات في اليوم السادس قبل الأيّام السبع مِن حزيران (يونيه) بحسب التقويم الرومانيّ، أي تقريباً عند القمر الجديد لتموز (يوليو) وفقاً للتقويم العبري.
يا ربّ... لماذا أخبركَ بما تعرفه؟ إنّني أقول ذلك مِن أجل إخوتي. لقد مات يوحنّا بارّاً، وبالنظر إلى حقيقة معاناته، يَجدر بي أن أقول إنّه مات شهيداً.
لقد دعمتُه بكلّ ما تحمل امرأة مِن شفقة، بكلّ التقدير الذي نكنّه لبطل، بكلّ المحبّة التي نكنّها لأخّ. لكنّ ذلك لم يَحُل دون أن أعاني بشدّة، إلى حدّ أنّني، ليس بسبب السأم أو التعب، وإنّما بدافع الشفقة، قد صلّيتُ للآب الأزلي كي يدعوه إلى السلام. وهو كان يقول: 'إلى الحرّيّة'.
يا للكلام الذي خَرَجَ من فِيْه! كيف يمكن لإنسان، كان قد انحدر حتّى أعمق أعماق القاع، كما كان يقول، أن يرتقي إلى هكذا حكمة ذات نور ساطع؟ آه! حقّاً إنّ الموت هو السرّ الذي يكشف عن أصلنا، والحياة هي البِنية التي تخفي هذا السرّ. بِنية أُعطيت لنا دونما خطوط عامّة، والتي لنا أن نضع عليها ما نشاء، وهو كان قد خَطَّ الكثير مِن الأمور، لكنّها لم تكن كلّها حسنة. إنّما الأخيرة منها كانت سامية. ومِن فضاء القاع الداكن، حيث ارتسم العناء البشريّ والعنف البشريّ، كان قد عَبَر، مثل فنّان حكيم، إلى فضاءات أكثر فأكثر تألّقاً، مزيِّناً بالفضيلة أواخر حياته المسيحيّة، منتهياً في نور متألّق لنَفْس تائهة في الله.
وأقول لكَ: إنّه لم يتكلّم، إنّما أَنشَدَ قصيدته الأخيرة. هو لم يمت: لقد ارتقى. وأنا لم أكن قادرة على التمييز بدقّة متى كان الإنسان يتكلّم أو متى كان الروح ابن الله يتكلّم.
يا ربّ، أنتَ تعلم بأنّني قرأتُ كتابات فلاسفة، باحثة فيها عن راعٍ لنفسي المقيّدة بسلاسل مزدوجة مِن العبوديّة والوثنيّة. لكنّها كانت كتابات بَشَر. هنا لم تكن بعد كلمات بشريّة، لقد كانت كلمات إنسان فائق الطبيعة، روحاً مَلَكيّة، بل وأكثر: كلمات روح شِبه إلهيّة.
لقد سهرتُ على السرّ، الذي مِن ناحية أخرى، لم يكن مفهوماً من قِبَل أولئك الذين يستضيفوننا: لقد كانوا طيّبين مع الرجل، لكنّهم كانوا إسرائيليّين بالمعنى الأوسع والأكمل للكلمة... وعندما في لمسات المحبّة الأخيرة، لم يعد يوحنّا سوى تعبير محبّة، أَبعَدتُ الجميع، ووحدي جمعتُ ما أنتَ تعلمه بالتأكيد…
يا ربّ... هذا الرجل قد مات، و'خرج أخيراً مِن السجن، ودَخَلَ في الحرّيّة' كما كان يقول، بما تبقّى له مِن صوت في أيّامه الأخيرة، بعينيه الملتهبتين بالنشوة الروحيّة، ممسكاً بيدي وكاشفاً لي الفردوس بكلماته. هذا الرجل قد مات معلّماً إيّاي أن أحيا، أن أسامح، أن أؤمن، أن أُحِبّ. لقد مات وهو يُعِدّني لفصل حياتكَ الأخير.
يا ربّ، إنّني أعلم كلّ شيء: ففي أمسيات الشتاء كان يثقّفني عن الأنبياء. إنّني أعرف الكُتُب كإسرائيليّة حقّة. إنّما أعرف أيضاً ما لم تُفصّله الكُتب…
معلّمي وربّي... سوف أقتدي به! وأودّ أن أحظى بنفس الحظوة، إنّما أظنّ أنّ الأمر الأكثر بطوليّة هو ألّا أطلب ذلك، وأن أفعل مشيئتكَ..."»
يسوع يطوي الورقة ويهمّ بالتقاط الثالثة.
«لا، لا، يا معلّم!» يصرخ بطرس «لا يمكن أن يكون ذلك... هناك شيء آخر. مِن غير المعقول أن تنتهي الورقة بهذه السرعة! إنّكَ لا تقرأ كلّ شيء! لماذا يا ربّ؟ أنتم، احتجّوا. سِنْتيخي قد كتبت لأجلنا أكثر منه لأجله، وهو لا يقرأ الرسالة لنا.»
«لا تلحّ يا بطرس!»
«بلى،أنا ألحّ! نعم ألحّ! لقد لاحظتُ، وأنتَ تعرف، بأنّ عينيكَ قد نزلتا فجأة إلى أسفل الورقة، الورقة شفّافة وأنتَ لم تقرأ السطور الأخيرة. لن أستكين حتّى تعيد قراءة المقطع الأخير مِن الورقة. قبلاً... كنتَ تبكي!... ماذا؟ أهناك ما يدعو للبكاء في ما قرأتَ؟ بالتأكيد مؤلمة معرفة أنّه مات... إنّما هكذا ميتة لا تجعل المرء يبكي! كنتُ اعتقد بأنّه مات ميتة كارثيّة، وقد خسر روحه... إنّما على العكس... هيّا، اقرأها! أُمّاه! يوحنّا! أنتما اللّذان تنالان كلّ شيء...»
«استجب له يا بنيّ، وإذا كان هو شيء مِن المؤلم معرفته، فسوف نتجرّع جميعنا مِن الكأس...»
«ليكن كما ترغبون…
"... إنّني أعرف الكُتُب كإسرائيليّة حقّة. إنّما أعرف أيضاً ما لم تُفصّله الكُتب، أي، أنّ آلامكَ لن تتأخّر، لأنّ يوحنّا قد مات، وأنتَ كنتَ قد وعدتَه بإقامة قصيرة في اليمبوس. هو قال لي ذلك. لقد أخبَرَني بأنّكَ كنتَ قد وعدتَ بأخذه قبل أن يعرف إلى أيّ مدى ستصل كراهية إسرائيل تجاهكَ، وهكذا تُجنّبه أن يكره جلّاديكَ بسبب محبّته لكَ. هو قد مات الآن... ولذلك فأنتَ على وشك أن تموت... لا. بل أن تحيا. أن تحيا بحقّ مع عقيدتكَ، بذاتكَ في ذواتنا، بألوهيّتكَ فينا بعد أن تهبنا تضحيتكَ حياة نفوسنا، النعمة، الاتّحاد مع الآب، مع الإبن، مع الروح القدس.
يا معلّم، مُخلّصي، مَلِكي، إلهي... إنّ توقي شديد، لا بل كان بي توق شديد كي أنضمّ إليكَ الآن وقد رقد يوحنّا بالجسد في القبر، وهو يرتاح بروحه بالانتظار. كنتُ لأودُّ أن آتي إليكَ كي أكون مع التلميذات أخواتي قرب مذبحكَ. فالمذابح يجب ألّا تكون مزيّنة فقط بالضحّية، وإنّما أيضاً بالأكاليل تكريماً لله الذي تُقدّم منه التضحية. إنّني أضع إكليلي البنفسجيّ كتلميذة بعيدة عند أسفل مذبحكَ. حيث أضع الطاعة، العمل، تضحية عدم رؤيتكَ وسماعكَ... آه! سيكون ذلك صعباً بحقّ! إنّه حقّاً صعب الآن وقد انتهت حواراتكَ الفائقة الطبيعة مع يوحنّا، ما عدتُ أبتهج بها!... يا ربّ، ارفع يدكَ على خادمتكَ كي تعرف فقط مشيئتكَ، وأن تُحسِن خدمتكَ."»
يسوع يطوي الورقة وينظر إلى وجوه المستعمين إليه. إنّها شاحبة. لكنّ بطرس يهمس: «لم أفهم لماذا كنتَ تبكي... ظننتُ بأنّ هناك أمراً آخر...»
«لقد كنتُ أبكي لأنّني كنتُ أقارن قاتل زوجته، المحكوم قبلاً بالأشغال الشاقّة، والعبدة الوثنيّة، بإسرائيليّين كثيرين جدّاً.»
«لقد فهمتُ! يُحزنكَ أنّ العبرانيّين أقلّ شأناً مِن الوثنيّين، والكَهَنَة والرؤساء أدنى مِن المحكوم عليهم. معكَ حقّ. لقد كانت حماقة منّي! يا لها مِن امرأة! مِن المؤسف أنّه كان عليها الابتعاد...»
يسوع يفرد الورقة الثالثة.
«"وتعرف أن تقتدي في كلّ شيء بالتلميذ والأخ الذي هو الآن في السلام، والذي يرتاح هناك بعدما أتمّ كلّ تطهير... في سبيل تكريمكَ، وكي يخفّف مِن عذاباتكَ."»
«آه! لا، بعدئذ!» بطرس قفز واقفاً بخفّة مِن على مقعده قبل أن يتمكّن يسوع مِن الابتعاد، ويرى أنّه مِن غير الممكن أن يكون يسوع قد وصل (في القراءة) إلى حيث يَنظُر. يجب الأخذ في الاعتبار أنّ ورق الرقّ يلتفّ إذا ما تُرِكَ حرّاً مِن جزئه العلوي، وهكذا فإنّ العديد مِن الأسطر قد باتت محجوبة في أعلى الورقة.
يسوع يرفع رأسه، وبملامح وديعة أكثر منها حزينة، وديعة إنّما حازمة فإنّه يدفع رسوله قائلاً: «بطرس، إنّ معلّمكَ يعرف ما هو جيّد بالنسبة لكَ! دعني أعطيكَ ما هو مفيد لكَ...»
بطرس متأثّر بتلك الكلمات، وأكثر منه بنظرة يسوع، الشديدة التوسّل، فإنّ عينيه تغرورقان بدموع تُوشِك أن تنهمر. ينزل عن المقعد قائلاً: «إنّني أطيع... إنّما ما الذي يمكن أن يكون في هذا الموضع؟!»
يسوع يستأنف القراءة: «"...الآن وبعد أن كتبتُ عن الآخرين، أتحدّث عن نفسي. لقد غادرتُ أنتيجونيا بعد دفن يوحنّا. ليس لسوء معاملة. ولكن لأنّني شعرتُ بأنّها ليست مكاني. بالأحرى كان انطباعاً: لقد شعرتُ بأنّ عليَّ القيام بذلك. وكما قلتُ لكَ، كنتُ قد تعرّفتُ على الكثير مِن العائلات، لأنّ أناساً كثيرين كانوا يقصدوننا. وفضّلتُ أن أقيم مع عائلة زينون ، فضمن هذا الوسط عزمتُ أن أعمل.
امرأة رومانيّة كانت قد أرادتني في منزلها الفخم قرب أعمدة هيرودس. امرأة سورية غنيّة جدّاً كانت قد عرضت عليَّ أن أكون مديرة في مشغل نسيج كان زوجها، وهو مِن مدينة صور، قد أقامه في سلوقية. وأرملة مهتدية، أُمّ لسبعة أولاد، تعيش قرب جسر سلوقية، قد أرادتني بدافع احترام ليوحنّا، الذي كان معلّم أولادها. وعائلة يونانيّة-آشورية لديها متاجر في شارع قرب المدرّج، طلبت منّي أن أمكث في بيتها، إذ يمكن أن أفيدها عندما تُقام الألعاب. وأخيراً رومانيّ، أَصبَحَ قائد مئة، أظنّه عسكريّاً بالتأكيد، مَكَثَ هنا لا أعلم على وجه الدقّة لأيّة مهمّة، والذي كان قد شُفي بالبلسم هو كذلك، فقد أصرّ على أن يحظى بي.
لا. لم أكن أُريد الأغنياء ولا التجّار. كنتُ أريد نفوساً، نفوساً يونانيّة ورومانيّة، لأنّني أشعر بأنّ انتشار عقيدتكَ في العالم يجب أن يبدأ بهم. وها أنا ذا في منزل زينون، على منحدرات جبل سولبيوس، قرب الثكنات. القلعة تُشرف مِن قمّته متوعّدة. ومع ذلك، رغم قلّة جاذبيّتها، فهي أفضل مِن قصور أونفولوس ونمفيوس الباذخة، ولي أصدقاء هناك. جنديّ، اسمه إسكندر، يعرفكَ: له قلب طفل بسيط مغلّف بجسد جنديّ ضخم. وحتّى القنصل، الذي جاء إلى هنا مؤخّراً مِن القيصريّة، والذي لديه قلب مستقيم تحت ردائه. إنّ إسكندر ببساطته القاسية أقرب إلى الحقّ. إنّما أيضاً القنصل، معجب بكَ باعتباركَ خطيباً مثاليّاً، فيلسوفاً 'إلهيّاً'، كما يقول، فهو ليس معادياً للحكمة، وإن يكن غير قادر بعد على تقبّل الحقّ. إنّما استمالة هذين الرجلين وعائلاتهما بجعلهم يعرفونكَ قليلاً، فذلك يعني نثر بذار هذه المعرفة شمالاً، جنوباً، شرقاً وغرباً، مثل الحبوب التي تُقلِّبها المذراة، أو بالأحرى، مثل القش الذي ينثره الريح، وهو ما يكون في حالتنا إرادة القياصرة ومطالب السلطان، تنتشر في كلّ الاتّجاهات.
سيأتي يوم، كطيور قد أُطلِقت لتطير، سينتشر رُسُلك على الأرض، وسوف يكون عوناً كبيراً لهم أن يجدوا في الأمكنة التي يُبشّرون فيها، شخصاً واحداً، واحداً فقط، ولو كان شخصاً واحداً فقط وهو يعلم بوجودكَ. فضمن هذه الفكرة أعالج أيضاً الأعضاء المتألّمة للمصارعين القدماء، وجروح الشباب منهم. ولهذا السبب ما عدتُ أتحاشى النسوة الرومانيّات، وأحتمل اللواتي سبّبن لي الألم... كلّ شيء. مِن أجلكَ.
وإذا ما كنتُ على خطأ، فأرشدني بحكّمتكَ. إنّني فقط أسألكَ أن تُراعي -وأنتَ تَعلَم ذلك- أن أخطائي تتأتّى مِن عجزي، لا بسبب سوء منّي.
يا ربّ، إنّ خادمتكَ قد أخبرتكَ بالكثير... إنّما هو شيء يسير ممّا هو في قلبي. لكنّكَ ترى روحي. ياربّ... متى سأرى وجهكَ؟ متى سأرى أُمّكَ؟ الإخوة؟... إنّ الحياة حلم عابر. انفصالنا سوف يَعبُر. سوف أكون فيكَ، ومعهم، وسوف تكون الغبطة والحريّة لي، كذلك لي، كما ليوحنّا.
أَسجُد عند قدميكَ، يا مخلّصي، باركني بسلامكَ. ولمريم الناصريّة، وللنسوة التلميذات، رفيقاتي، سلام وبركات، وللرُّسُل والتلاميذ سلام وبركات. ولكَ يا ربّ، المجد والمحبّة."
لقد انتهيتُ مِن القراءة. يا أُمّي، تعالي معي. وأنتم انتظروني، أو ارتاحوا. أنا لن أعود إلى الدخول. إنّني باقٍ مع أُمّي للصلاة. يا يُوَنّا، إذا ما أحد ما بحث عنّي، فأنا في السرادق قرب البحيرة.»
بطرس يأخذ مريم على حِدة ويتحدّث إليها بحماس، إنّما بصوت خافت. مريم تبتسم له وتهمس بشيء ما، ثمّ تنضم لابنها الذي يمضي عبر الدرب الذي بالكاد يُرى في الليل.
«ما الذي كان يريده سمعان بن يونا؟»
«يريد أن يعرف يا بنيّ. إنّه مثل طفل... طفل كبير... لكنّه طيب جدّاً.»
«نعم، طيّب جدّاً. وقد رجاكِ أنتِ، الشديدة الطيبة، كي يعرف... لقد وَجَدَ نقطة الضعف: أنتِ ويوحنّا. إنّني أعلم ذلك. وأتظاهر بأنّني لا أعلم، لكنّني أعلم. إلّا أنّني لا أستطيع الرضوخ دوماً، في سبيل إرضائه... لم يكن هذا ضروريّاً يا يوناثان. كان بمقدورنا أن نبقى حتّى في العتمة» يقول يسوع وقد رأى يوناثان يهرع نحوه بمصباح فضّيّ يضعه على الطاولة، وأرائك يضعها على مقاعد السرادق.
«هي يُوَنّا التي طلبت منّي جلبها. السلام لكَ يا معلّم.»
«ولكَ.»
يبقيان وحدهما.
«كنتُ أقول بأنّني لا أستطيع دوماً إرضاءه. في هذه الأمسية لم يكن ذلك ممكناً. أنتِ الوحيدة التي يمكنها أن تَعلَم ما تكتّمتُ به عليه. لهذا أردتكِ أن ترافقيني، أيضاً كي أكون معكِ يا أُمّي...إنّ البقاء معكِ في الساعات الأخيرة قبل الرحيل هو استجماع للكثير مِن القوّة العذبة كي أحظى منها بما يكفي لساعات العزلة الطويلة في العالم الذي لا يفهمني، أو يسيء فهمي. والمكوث معكِ في أولى ساعات العودة هو الحصول على قوّة جديدة فوريّة في وداعتكِ، بعد كلّ الكؤوس التي عليَّ أن أشربها في العالم... والتي هي شديدة المرارة وكريهة.»
مريم تداعبه دونما كلام. وهي واقفة بجانب يسوع الجالس، إنّها الأُمّ التي تعزّي ابنها. لكنّه يُجلِسها ويقول: «اسمعي...» وعندئذ مريم، منتبهة، جالسة قبالته، وتصبح التلميذة المتعلّقة بشفتي يسوع معلّمها.
«لقد كَتَبَت سِنْتيخي متحدّثة عن أنطاكية: "إنّني لستُ حكيمة، ولذلك فليس باستطاعتي معرفة أين تنتهي إرادة البشر وتبدأ مشيئة الله، إنّما مشيئة، أقوى من رغبتي، قادتني إلى هنا، وقد كانت هذه مشيئة الله. بالتأكيد –بدون شكّ كان ذلك بفعل نعمة السماء- أنّني الآن أحبّ هذه المدينة: مع قمّتي كاسيوس وعمانوس، اللتين تسهران عليها مِن الجانبين، وحيث القمم الخضراء للجبال السوداء الأكثر بعداً، تذكّرني كثيراً بموطني المفقود. ويبدو لي أنّ هذا بمثابة الخطوة الأولى للرجوع إلى موطني، ليست الخطوة الـمُتعَبة لمسافِرة عائدة لتموت هناك، بل لرسولة حياة عائدة كي تعطي الحياة للتي كانت أُمّها. يبدو لي أنّه مِن هنا، وقد ارتحتُ جيّداً مثل سنونو سيستأنف طيرانه، وقد تغذّيتُ بالحكمة، فغدا عليَّ أن أطير عائدة إلى المدينة حيث ولدتُ، والتي منها أريد، أودُّ أن أرتفع نحو النور بعد أن أكون قد منحتُها النور الذي مُنِحَ لي.
أعلم بأنّ إخوتي بكَ لن يؤيّدوا هذه الطريقة بالرؤية. إنّهم يريدون حكمتكَ حصراً لهم. لكنّهم مخطئون. ويوماً ما سوف يُدركون بأنّ العالم ينتظر، وبأنّ العالم الـمُحتَقَر الآن سيكون الأفضل. إنّني أُعِدّ لهم الدرب. ليس فقط هنا، بل مع أولئك كلّ الذين يأتون إلى هنا ومِن ثمّ يغادرون إلى بلدان أخرى، ولا أهتمّ كثيراً بمعرفة إن كانوا وثنيّين أم مُهتَدين، يونانيّين أم رومان، أو إذا ما كانوا ينتمون إلى المستعمرات الأخرى في الامبراطوريّة أو كانوا مِن الشتات. إنّني أتحدّث، أوقظ الرغبة بمعرفتكَ... فالبحر لم يتشكّل مِن غيمة واحدة صَبَّت ماءها فيه؛ لقد تشكَّل مِن غيوم وغيوم لا حصر لها تصبّ مياهها على الأرض ومِن ثمّ تتدفّق إلى البحر. سوف أكون غيمة. والبحر سوف يكون المسيحيّة. أريد أن أُفاقِم المعرفة بشخصك كي أُسهِم في تشكيل بحر المسيحيّة. أنا، اليونانيّة، أعرف كيف أتكلّم مع اليونانيّين، ليس لأنّني أتكلّم لغتهم بقدر وحدة الرؤى... أنا، التي كنتُ عبدة رومانيّة فيما مضى، أعلم كيف أتعامل مع أرواحهم، حيث أعرف نقاطهم الحسّاسة. وبعد أن عشتُ وسط العبرانيّين، فأنا أيضاً أعرف كيف أتعامل معهم، خصوصاً هنا حيث الكثير مِن المهتدين. يوحنّا قد مات لمجدكَ. وأنا سأحيا لمجدكَ. بارك أرواحنا."
وأكثر بعد إلى أسفل، حيث تتحدَّث عن موت يوحنّا، حيث لم أدع سمعان يقرأ، قد كتَبَت: "يوحنّا مات بعدما أتمّ كلّ تطهير، حتّى الأخير، بغفرانه لأولئك الذين قتلوه مِن خلال تصرّفهم وإرغامكَ على إرساله بعيداً. إنّني أعرف أسماءهم، على الأقلّ اسم الرئيسيّ بينهم. يوحنّا كَشَفَه لي قائلاً: 'لا تثقي به أبداً. إنّه خائن. لقد خانني، وهو سوف يخونه ويخون رفاقه. لكنّني أغفر للإسخريوطيّ كما يسوع سوف يَغفر. إنّ الهوّة حيث يوجد هي بالأساس سحيقة بحيث لا أريد جعلها سحيقة أكثر بعدم غفراني له لقتله إيّاي بفصلي عن يسوع. إنّ مغفرتي لن تخلّصه. ما مِن شيء سوف يخلّصه، لأنّه شيطان. عليَّ ألّا أقول ذلك، أنا الذي كنتُ قاتلاً، إنّما في حالتي فإنّ إهانة قد دفعتني للجنون. أمّا هو فيغدر بمن لم يسبّب له أيّ أذى، وسوف ينتهي به المطاف إلى خيانة مخلّصه. لكنّني أغفر له لأنّ رأفة الله قد حوّلت كراهيته تجاهي إلى خير لي. أترين؟ لقد كفّرتُ عن كلّ شيء. فهو، المعلّم، أخبرني بذلك مساء أمس. لقد كفّرتُ عن كلّ شيء. الآن أنا سأخرج مِن السجن. إنّني الآن أتحرّر حقّاً، أتحرّر حتّى مِن ثِقل ذكرى خطيئة يهوذا الإسخريوطي تجاه مسكين بائس، الذي كان قد وجد السلام قرب ربّه.'
وأنا كذلك، على مثاله، أغفر له انتزاعه إيّاي بعيداً عنكَ، عن أُمّك المبارَكة، عن أخواتي التلميذات، منعي مِن سماعكَ واتّباعكَ حتّى الممات، لأكون حاضرة عند انتصاركَ كمخلّص. وأنا أعمل مِن أجلكَ، إكراماً لكَ، وكي أخفّف مِن عذاباتكَ. كُن في سلام يا ربّ. إنّ شفتيّ لن تتفوّها أبداً باسم الرجل الشائن المتواجد وسط أتباعكَ، وكذلك لن أتفوّه بشيء ممّا سمعتُه مِن يوحنّا عندما كان أناه يتحدث مع حضوركَ غير المرئي المـُبهِج. تردّدتُ، وأنا أتساءل فيما إذا كنتُ سآتي كي أراكَ قبل أن أستقرّ في مكان إقامتي الجديد، لكنّني شعرت بأنّ نفوري مِن الإسخريوطي سوف يفضحني، وأنّني أضرّ بكَ لدى أعدائكَ. لذلك فقد ضحّيتُ أيضاً بهذا العزاء... واثقة مِن أنّ التضحية لن تكون مِن دون ثمر ومِن دون مكافأة."
هوذا يا أُمّي. أكان بوسعي قراءة ذلك لسمعان؟»
«لا. ليس له ولا للآخرين. في حزني أنا سعيدة مِن أجل موت يوحنّا هذا المقدّس... يا بنيّ، لنصلّ كي يشعر بمحبّتنا و... وكي لا يكون يهوذا هو العار... آه! إنّ هذا لَرهيب!... ومع ذلك... سوف نغفر...»
«لِنُصلّ...» يقفان ويصلّيان في ضوء المصباح المرتجف، وسط ستائر مِن الأغصان المعلّقة، فيما رجوع الأمواج تُسمِع تنفّسها المذهول على الضفّة...