ج9 - ف4

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: ماري حلمي وفيكتور مصلح.

 

الجزء التاسع

 

4- (دخول يسوع إلى أورشليم)

 

30 / 03 / 1947

 

يسوع يحيط بذراعه كتف أُمّه، الّتي نهضت حينما لحق بها يوحنّا ويعقوب بن زَبْدي كي يقولا لها: «ابنكِ على وشك الوصول.» ثمّ رجعا كي ينضمّا لرفاقهما الّذين يتقدّمون على مهل وهم يتحدّثون، بينما توما وأندراوس قد هرعا إلى بيت فاجي للبحث عن الأتان والجحش وإحضارهما إلى يسوع.

 

أثناء ذلك يتحدّث يسوع إلى النسوة: «ها نحن بالقرب مِن المدينة. أنصحكنّ بالذهاب إليها، والذهاب إليها بكلّ ثقة. ادخلن المدينة قبلي. قرب عين روجيل هناك الرعاة والتلاميذ الأكثر وفاء. لديهم أوامر بأن يرافقوكنّ ويحموكنّ.»

 

«الأمر هو أنّنا... قد تكلّمنا مع أَشِير الّذي مِن الناصرة وهابيل الذي مِن بيت لحم الجليل وكذلك مع سليمان. كانوا قد جاؤوا إلى هنا كي يرصدوا وصولكَ. فالجموع تُعِدّ احتفالاً عظيماً. وكنّا نريد أن نرى... انظر كيف تتحرّك قمم أشجار الزيتون؟ ليست الريح هي الّتي تحرّكها هكذا. إنّما هم الناس الّذين يقطعون الأغصان ليفرشوا الطريق ويحموكَ مِن الشمس. وهناك؟! انظر هناك، إنّهم يجرّدون أشجار النخيل مِن سعفها. تحسبهم عناقيد وهم رجال يتسلّقون الجذوع ولا يتوقّفون عن القطف منها... وعلى المنحدرات، ترى أطفالاً ينحنون ليقطفوا الزهور. وبالتأكيد تُجرّد النساء الحدائق مِن الورود والأعشاب العطريّة ليفرشن بها الطريق. كنّا نريد أن نرى... ونقتدي بحركة مريم لعازر الّتي جمعت كلّ الزهور الّتي دستَها بقدميكَ حينما دخلتَ حديقة لعازر.» تطلب مريم الّتي لحلفى باسم جميعهنّ.

 

يُلاطف يسوع خدّ قريبته العجوز، الّتي تبدو كأنّها طفلة تتشوّق إلى رؤية مشهد، ويقول لها: «وسط الجمع الكثير لا ترين شيئاً. تقدّمن إلى الأمام، إلى منزل لعازر الّذي يحرسه متياس. سأمرّ مِن هناك، وسترينني مِن أعلى.»

 

«بنيّ... وتذهب وحيداً؟ ألا يمكنني البقاء إلى جانبكَ؟» تقول مريم وهي ترفع وجهها الحزين للغاية، ومثبّتة عينيها السماويّتين على ابنها الوديع.

 

«أودّ أن أرجوكِ البقاء في الخفاء. مثل الحمامة في تجويف الصخرة. أنا في حاجة إلى صلاتكِ أكثر مِن حضوركِ. يا أُمّي المحبوبة!»

 

«إن كان الأمر هكذا يا بنيّ، سنصلّي. جميعنا. مِن أجلكَ.»

 

«نعم. وبعد أن نراه مارّاً، ستأتين جميعكنّ معنا إلى قصري في صهيون. وسأرسل خدّاماً إلى الهيكل ودوماً في إثر المعلّم، ليحملوا لنا أوامره وأخباره.» تقرّر مريم أخت لعازر، السريعة دائماً في إدراك ما هو الأفضل والقيام به بلا تأخير.

 

«أنتِ على حقّ يا أختي. رغم أنّه يؤلمني ألاّ أتبعه، إلا أنّني أدرك الخير المؤسّس على هذا الأمر. عدا عن أنّ لعازر قد طلب منّا ألّا نعارض المعلّم في شيء، ونطيعه في أدقّ التفاصيل. وسنفعل ذلك.»

 

«إذا، هيّا. هل ترين؟ الحركة تنشط على الطرق. إنّ الرُّسُل سينضمّون إليّ. هيّا. ليكن السلام معكنّ. سأدعكن تأتين في الأوقات الّتي أراها مناسبة. الوداع يا أُمّي. كوني في سلام. إنّ الله معنا.» يعانقها ويصرفها. وتمضي التلميذات المطيعات بلا تأخير.

 

ينضمّ الرُّسُل العشرة إلى يسوع: «هل أرسلتهنّ قُدُماً؟»

 

«نعم، وسيرين دخولي مِن أحد المنازل.»

 

«مِن أيّ منـزل؟» يَسأَل يهوذا الاسخريوطيّ.

 

«إيه! منازل الصديقات أضحت كثيرة!» يقول فيلبّس.

 

«أليس في بيت أناليا؟» يصرّ الاسخريوطيّ.

 

يجيب يسوع بالنفي ويسلك طريق بيت فاجي البعيد قليلاً.

 

حينما يصبح على مقربة، يرجع الاثنان اللذان أرسلهما كي يجلبا الأتان والجحش. ويصيحان: «لقد وجدنا كما قلتَ، وأتيناكَ بالحيوانين. ولكنّ صاحبهما أراد أن يعدّهما ويزيّنهما بأفضل السروج ليكرمكَ. والتلاميذ، وقد انضمّوا إلى الّذين قضوا الليل في شوارع بيت عنيا ليكرموكَ، يريدون أن يكون لهم شرف قيادتهما إليكَ، ونحن قَبِلنا. فقد بدا لنا أنّ محبّتهم تستحقّ مكافأة.»

 

«أحسنتم صنعاً. وفي غضون ذلك فلنتقدّم.»

 

«هل التلاميذ كُثُر؟» يَسأَل برتلماوس.

 

«آه! كثيرون. لا يمكن الولوج إلى شوارع بيت فاجي. كذلك قلتُ لإسحاق أن يقود الحمار إلى كليونت بائع الجبن.» يجيب توما.

 

«أحسنتَ صنعاً. لنمضِ حتّى منحدر التلال ذاك. ولننتظر قليلاً في ظلّ تلك الأشجار.»

 

يمضون إلى المكان الّذي حدّده يسوع.

 

«ولكنّنا نبتعد! إنّكَ تتجاوز بيت فاجي دائراً خلفها!» يهتف الاسخريوطيّ.

 

«ولو أردتُ فِعل ذلك، فمن يمنعني؟ هل أصبحتُ سجيناً ربّما، حتّى لا يعود مسموحاً لي المضيّ إلى حيث أريد؟ وهل مِن عجلة على ذلك والخوف مِن أن أفلت مِن القبض عليّ؟ وإن كنتُ مصيباً بابتعادي إلى أماكن أكثر أماناً، فهل مَن يمكنه منعي مِن ذلك؟» يسوع يرمق بنظرة خاطفة الخائن، الّذي لا يعود يتكلّم ويرفع كتفيه كما ليقول: «افعل ما يحلو لكَ.»

 

يدورون بالفعل خلف البلدة الصغيرة، أظنّها إحدى ضواحي المدينة نفسها، لأنّها مِن جانبها الغربي هي في الحقيقة قليلة البعد عن المدينة، حيث تشكّل جزءاً مِن منحدرات بستان الزيتون الّتي تكلّل أورشليم مِن الجهة الشرقيّة. في الأسفل، بين المنحدرات والمدينة، يلمع القدرون تحت شمس نيسان [أبريل].

 

يجلس يسوع في هذا الاخضرار الصامت ويستغرق في أفكاره. ثمّ يقف ويتّجه بالضبط إلى قمّة المنحدر…

 

يقول يسوع: «هنا ستضعين رؤيا 31 / 07 / 1944. "يسوع الّذي يبكي على أورشليم"، بدءاً من الجملة الّتي قلتُها لكِ في بداية الرؤيا.» بعد ذلك يستأنف إظهاره لي مراحل دخوله المنتصر.

 

30 تمّوز [يوليو]

 

لستُ أدري ما العمل لأكتب الوصف، ذلك أنّني أشعر في قلبي مِن الضيق ما يجعلني أتألّم مِن البقاء جالسة. ولكنّ وقتاً طويلاً مرّ وأنا على هذه الحال. وعليّ كتابة ما أراه.

 

بالنسبة إليّ يتّضح إنجيل اليوم: الأحد التاسع بعد العنصرة.

 

…مِن رابية قريبة مِن أورشليم، ينظر يسوع إلى المدينة الممتدّة تحت قدميه.

 

الرابية ليست مرتفعة جدّاً. بالأكثر هي تشبه الميدان الصغير للقدّيس مِنياتو الجبل، في فلورنسا؛ ولكنّ هذا يكفي ليهيمن البصر على امتداد كلّ المنازل والشوارع، الصاعدة والهابطة بحسب عدم الاستواء في الأرض الّتي عليها تقوم أورشليم. تلك التلّة بالتأكيد هي أكثر ارتفاعاً، إذا ما أخذنا في الاعتبار أدنى مستوى في المدينة، وهي ليست الجلجلة، ولكنّها أقرب إلى الأسوار مِن تلك الأخيرة. إنّها تبدأ تماماً بالقرب مِن الأسوار وترتفع بسرعة مبتعدة عنها، بينما تهبط مِن الجهة الأخرى برفق باتجاه ريف أخضر بكلّيته يمتدّ جهة الشرق. جهة الشرق إن قدّرتُ ذلك على الأقلّ بحسب نور الشمس.

 

يسوع وأتباعه تحت دغل أشجار، يجلسون في الظلّ. يرتاحون مِن المسافة الّتي قطعوها. ثمّ يقف يسوع، ويغادر المكان المشجر حيث كانوا يجلسون ويمضي مباشرة إلى قمّة الرابية.

 

يبرز امتشاق قامته بوضوح وسط المساحة الفارغة الّتي تحيط به. إنّه يبدو أطول بعد وهو هكذا واقف وبمفرده. يداه مشدودتان إلى صدره، فوق ردائه الأزرق، وينظر بجدّية إلى أبعد حدّ.

 

يراقبه التلاميذ. لكنّهم يدعونه يفعل دون أن يتحرّكوا أو يتكلّموا. ربّما اعتقدوا أنّه ابتعد ليصلّي.

 

ولكنّ يسوع لا يصلّي. فبعد أن ينظر طويلاً إلى المدينة بكلّ أحيائها، بكلّ ارتفاعاتها، بكلّ خصوصيّاتها، أحياناً بنظرات مطوّلة على هذه النقطة أو تلك، أحياناً بإصرار أقلّ، يبدأ يسوع البكاء بلا نحيب ولا ضجيج. الدموع تُورّم عينيه، ثمّ تسيل وتجري على خدّيه ثمّ تسقط على الأرض... دموع صامتة وحزينة للغاية، كتلك الّتي لِمَن يعلم أنّ عليه أن يبكي، وحيداً، لا أمل له بتعزية وتَفهّم مِن أحد. بسبب ألم لا يمكن أن يُلغى وينبغي أن تتمّ معاناته، حتماً.

 

أخو يوحنّا، بسبب موقعه، هو أوّل مَن يرى هذه الدموع ويخبر الآخرين الّذين يتبادلون النظرات مندهشين.

 

«لا أحد منّا قد فعل شرّاً.» يقول أحدهم، وآخر: «والجمع أيضاً لم يوجّه لنا إهانة، ولم يتواجد أحد عدوّ له.»

 

«لماذا يبكي إذاً؟» يَسأَل أكبرهم سنّاً.

 

يقف بطرس ويوحنّا معاً ويقتربان مِن المعلّم. ويعتقدان أنّ الشيء الوحيد الّذي يمكن فِعله هو أن يجعلاه يشعر بمحبّتهما ويسألاه ما به.

 

«يا معلم، أتبكي؟» يقول يوحنّا واضعاً رأسه الأشقر على كتف يسوع، الّذي يفوقه طولاً بالرأس والرقبة.

 

وبطرس، إذ يضع يده على خصره، ويحيط به وكأنّه يعانقه ليجذبه إليه، ويقول له: «ما الّذي يؤلمكَ يا يسوع؟ قله لنا نحن الّذين نحبّكَ.»

 

يسند يسوع خدّه على رأس يوحنّا الأشقر، ويفلت ذراعيه، ويحيط بدوره كتف بطرس بذراعه. ويظلّون هم الثلاثة هكذا في عناق، في وضع محبّة هائلة. ولكنّ الدموع تستمرّ في السيلان.

 

ويوحنّا الّذي يشعر بها تسقط على شعره، يعاود السؤال: «لماذا تبكي يا معلّمي؟ أيمكن أن نكون نحن مَن سبّبنا لكَ الألم؟»

 

ينضمّ الرُّسُل الآخرون إلى المجموعة الوَدودة وينتظرون إجابة بلهفة.

 

«لا.» يقول يسوع. «ليس منكم، أنتم لي أصدقاء، والصداقة عندما تكون مُخلِصة، فهي بلسم وابتسامة، وليست دموعاً على الإطلاق. أودّ أن تبقوا دوماً أصدقائي. حتّى الآن ونحن على وشك الدخول في الفساد، الّذي يختمر ويُفسِد مَن لا يمتلك إرادة ثابتة للبقاء نزيهاً.»

 

«إلى أين نحن ذاهبون يا معلّم؟ أليس إلى أورشليم؟ إنّ الجموع بالفعل قد استقبلتكَ بفرح. هل تريد أن تخيّب آمالها؟ أم قد نذهب إلى السامرة لاجتراح معجزة؟ الآن بالضبط والفصح يقترب؟»

 

تُطرح الأسئلة مِن كلّ صوب في الوقت ذاته.

 

يرفع يسوع يده ليفرض الصمت، ثمّ بيده اليمنى، يشير إلى المدينة. إشارة واسعة كما الزارع الّذي يلقي الحبوب أمامه ويقول: «هي الفساد. سندخل أورشليم. سندخل إليها. ووحده العليّ يعلم كيف أودّ أن أقدّسها بجلب القداسة الآتية مِن السماوات إليها. معاودة تقديسها، هذه المدينة الّتي يجب أن تكون المدينة المقدّسة. ولكن لا يمكنني فِعل شيء مِن أجلها. فاسدة هي وفاسدة ستبقى. وأنهار القداسة الّتي تجري مِن الهيكل الحيّ، والّتي ستجري أكثر أيضاً خلال الأيّام القليلة القادمة حتّى إفراغه مِن الحياة، لن تكفي لافتدائها. سُيقبِل إلى القدّوس السامرة والعالم الوثنيّ. وسترتفع على المعابد الكاذبة معابد الله الحقّ. وستعبد قلوب الأمميّين المسيح. ولكنّ هذا الشعب، هذه المدينة ستكون عدوّة له على الدوام، وكراهيّتها ستقودها إلى أعظم خطيئة. ينبغي لهذا أن يحدث. ولكن ويل لهؤلاء الّذين سيكونون أدوات لهذه الجريمة. الويل!...»

 

يُمعن يسوع النظر بيهوذا الّذي هو تقريباً في مواجهته.

 

«هذا لن يحدث لنا أبداً. نحن رُسُلكَ ونؤمن بكَ، ومستعدّون للموت مِن أجلكَ.» يكذب يهوذا بوقاحة ويقاوم بلا ارتباك نظرة يسوع. ويُوحّد الآخرون احتجاجاتهم.

 

يردّ يسوع على الجميع متفادياً الإجابة المباشرة ليهوذا.

 

«فلتشأ السماء أن تكونوا هكذا. إنّما الكثير مِن الضعف ما يزال في داخلكم، ويمكن للتجربة أن تجعلكم مشابهين للّذين يكرهونني. صلّوا كثيراً واسهروا كثيراً على أنفسكم. إنّ الشيطان يعلم أنّه سوف يُهزَم ويريد أن ينتقم بانتزاعكم منّي. إنّ الشيطان يحيط بنا جميعاً: بي كي يمنعني مِن أن أعمل مشيئة أبي وأن أتمّ رسالّتي؛ بكم أنتم كي يجعل منكم خدّاماً له. اسهروا. داخل هذه الأسوار سيأخذ الشيطان مَن لا يُحسِن أن يكون قويّاً. ذاك الّذي صار اختياره لعنة له لأنّه أعطى لهذا الاختيار هدفاً بشريّاً. لقد اخترتُكم مِن أجل ملكوت السماوات لا ملكوت العالم. تذكّروا هذا.

 

وأنتِ، أيتها المدينة الّتي تريدين خرابكِ والّتي أبكي عليها، فلتعلمي أنّ مسيحكِ يصلّي مِن أجل فدائكِ. آه! لو كنتِ تُحسِنين، على الأقلّ في هذه الساعة الّتي مازالت لكِ، المجيء إلى مَن هو سلامكِ! لو كنتِ تدركين، على الأقلّ في هذه الساعة، المحبّة الّتي تعبر وسطكِ وتتجرّدين مِن الكراهية الّتي تجعلكِ عمياء ومجنونة، قاسيةً بحقّ نفسكِ وخيركِ! لكن سيأتي يوم تتذكّرين فيه هذه الساعة! حينئذ يكون الوقت قد تأخّر جدّاً على بكائكِ وتوبتكِ! ستكون المحبّة قد عبرت واختفت مِن شوارعكِ، وستبقى الكراهية الّتي آثرتِـها. والكراهية سترتدّ ضدّكِ، ضدّ أولادكِ. ذلك أنّ المرء ينال ما أراد، والكراهية تُسدَّد بالكراهية. ولن تكون آنذاك كراهية الأقوياء ضدّ العُزّل، بل ستكون كراهية ضدّ كراهية، وبالتالي حرب وموت. محاطة بخنادق ومسلّحين، ستعانين قبل أن تُهدَمي وسترين سقوط بنيكِ بالأسلحة والجوع، والناجين يُسجَنون ويُحتَقَرون، وستطلبين الرحمة، ولن تجديها، لأنّكِ لم تريدي معرفة خلاصكِ.

 

إنّي أبكي، يا أصدقائي، حيث أنّ لي قلب إنسان، وخراب الوطن ينتزع منّي الدموع. ولكنّ ما هو عدل يتمّ لأنّ الفساد داخل هذه الأسوار يتجاوز كلّ حدّ ويستنـزل غضب الله. ويل للسكان الّذين هم سبب الشرّ لوطنهم! ويل للرؤساء الّذين هم السبب الرئيسيّ لذلك! ويل لِمَن يُفتَرض فيهم أن يكونوا قدّيسين كي يقودوا الآخرين للاستقامة، وعلى العكس هم يُدنّسون مكان خدمتهم وأنفسهم! تعالوا. لن يجدي تصرّفي نفعاً. إنّما فلنجعل النور يشعّ مرّة أخرى وسط الظلمات!»

 

وينـزل يسوع يتبعه أتباعه. يمضي سريعاً عبر الدرب، بوجه جادّ بل يكاد يكون متجهّماً. لم يعد يتكلّم. يدخل منـزلاً صغيراً عند أسفل التل ولا أرى شيئاً آخر…

 

يقول يسوع:

 

«المشهد الّذي رواه لوقا يبدو بلا ربط، تقريباً غير منطقيّ. أأرثي لفواجع مدينة مذنبة ولا أعرف أن أشفق على عادات هذه المدينة؟

 

لا، لا أعرف، ولا يمكنني الإشفاق عليها، لأنّ هذه العادات هي بالضبط الّتي تُولّد الفواجع، ورؤيتي لها تجعل ألمي أكثر حدّة. إنّ غضبي تجاه مُدَنِّسي الهيكل هي نتيجة منطقيّة لتأمّلي فواجع أورشليم المقبلة.

 

إنّ تدنيس عبادة الله، شريعة الله، هي الّتي تسبّب عقوبات السماء على الدوام. بجعل بيت الله مغارة للصوص، هؤلاء الكَهَنَة غير الجديرين والمؤمنين (بالاسم فقط) غير الجديرين كانوا يجلبون للشعب كلّه اللعنة والموت. لا فائدة مِن إطلاق هذه التسمية أو تلك على الشرّ الّذي يسبّب الألم للشعب. ابحثوا عن الاسم الدقيق له في هذا: "عقاب على حياة بهيميّة". الله ينسحب والشرّ يتقدّم. تلك هي ثمرة الحياة القوميّة [الأممية] غير المستحقّة لمسمّى مسيحيّة.

 

كما آنذاك، كذلك الآن، في هذه الفترة مِن العصر، لم أتأخّر عن معجزات الاستنهاض والتذكير. إنّما، وكما في السابق، لم أجلب إليَّ وإلى أدواتي سوى الاستهزاء، اللامبالاة والكراهية. ومع ذلك، فليتذكّر الأخصّاء والأمم أنّ لا فائدة مِن البكاء حيث رفضوا مسبقاً معرفة خلاصهم، لا فائدة مِن تضرّعهم لي إذ حينما كنتُ معهم قد طردوني بحرب دَنِسة، الّتي انطلاقاً مِن ضمائر خاصّة، مكرّسة للشرّ، قد انتشرت في كلّ الأمّة. والأوطان لا تُخلّص بالأسلحة بقدر ما يكون ذلك بأسلوب حياة يجلب حمايات السماء.

 

استريحي، يا يوحنّا الصغيرة، واعملي على أن تكوني دائماً وفيّة لاختياري لكِ. امضي في سلام.»

 

يا له مِن تعب! في الحقيقة لم أعد أستطيع…

 

…ما كاد يدخل يسوع المنزل ليبارك قاطنيه، حتّى سُـمِعَت رنّات صنوج فَرِحَة وأصوات احتفال. وبعد ذلك مباشرة يظهر وجه إسحاق الناحل الشاحب مِن خلال فتحة الباب، ويدخل الراعي الأمين ويسجد أمام ربّه يسوع.

 

ضمن إطار الباب المفتوح على سعته تتزاحم وجوه كثيرة، وخلفها ترى وجوه أخرى... تَزاحُم، تَدافُع، رغبة في التقدّم... بعض هتافات نساء، بكاء أطفال وسط الجمع الغفير، تحيّات، هتافات فَرِحة: «مغبوط هو اليوم الّذي قادكَ إلينا! السلام لكَ يا ربّ! عودة سعيدة يا معلّم، مكافأة لإخلاصنا.»

 

يقف يسوع ويشير إلى أنّه سيتكلّم. يصمت الجميع، ويُسمَع صوت يسوع بوضوح.

 

«السلام لكم! لا تتزاحموا. سنصعد الآن معاً إلى الهيكل. لقد جئتُ لأكون معكم. سلام! سلام! لا تتسبّبوا بأذى لأنفسكم. افسحوا المجال يا أحبّائي! دعوني أخرج واتبعوني، لندخل معاً المدينة المقدّسة.»

 

يطيع الناس كيفما اتّفق، يفسحون المجال قليلاً، بما يكفي ليخرج يسوع ويمتطي الجحش. إذ إنّ يسوع قد حدّد مطيّته، ابن الأتان الّذي لم يمتطه أحد حتّى ذاك الوقت، حينئذ بعض الأغنياء مِن الحجّاج الّذين يتدافعون وسط الجمع، يمدّون أرديتهم الفاخرة على ردف الجحش، ويجعل أحدهم إحدى ركبتيه على الارض والأخرى كما مرقاة قدم ليجلس الربّ على الجحش، وتبدأ الرحلة، فيما يمشي بطرس إلى جانب المعلم وفي الجانب الآخر إسحاق، الّذي يمسك لجام الدابّة غير المروّضة، ومع ذلك تمشي بهدوء كما لو كانت معتادة على هذه المهمّة، دون أن تجمح أو تفزع مِن الأزهار الّتي إذ تُلقى على يسوع، فتصيب غالباً الدابة في عينيها وخطمها الطريّ، ولا مِن أغصان الزيتون وسعف النخيل الّتي تتحرّك أمامها وحولها، وتُلقى على الأرض مع الأزهار لتكون سجّادة، ولا مِن الصيحات الّتي تتعالى باطّراد: «هوشعنا، يا ابن داود!» الّتي تتصاعد نحو السماء الصافية، بينما تتزاحم الجموع أكثر فأكثر وتزداد بسبب الوافدين الجدد.

 

إنّ المرور مِن بيت فاجي، وسط الشوارع الضيّقة والملتوية، ليس بالأمر السهل، فعلى الأُمّهات أخذ الأولاد بين أذرعهنّ، والرجال يحمون نساءهم مِن الضربات العنيفة، ويحصل أن يُجلِس أب ابنه على كتفيه بانفراج الساقين ويحمله عالياً فوق الجمع، بينما أصوات الصغار تبدو وكأنّها ثغاء حملان أو صيحات سنونو، وأيديهم الصغيرة ترمي الورود وأوراق الزيتون الّتي تقدّمها لهم أُمّهاتهم، وكذلك يرسلون قبلات ليسوع الوديع…

 

ولدى الخروج مِن الشوارع الضيّقة للضاحية الصغيرة، يترتّب الموكب ويتمدّد، ومتطوّعون كُثُر يتقدّمون إلى الأمام ليكونوا في المقدّمة لإفساح المجال وإزالة العوائق مِن الطريق، ويتبعهم آخرون وهم يفرشون الأرض بالأغصان، وأحدهم يرمي أوّلاً رداءه ليكون بساطاً، وآخر، وأربعة، وعشرة، ومائة، وألف يقتدون به. لقد أصبح وسط الطريق شريطاً مِن الملابس المبسوطة على الأرض بألوان متعدّدة، وبعد مرور يسوع تُلتقط الملابس وتُنقل إلى الأمام، مع أخرى وأخرى، ودائماً أزهار، أغصان، وسعف نخل تتحرّك أو تُلقى على الأرض، هتافات أقوى ترتفع حول مَلِك إسرائيل إكراماً له، لابن داود، لملكوته!

 

يَخرج جنود الحراسة عند الباب ليروا ما يحدث. ولكنّه ليس عصياناً، وهم، متكئين على رماحهم، يتوقّفون جانباً، مراقبين بذهول أو باستهزاء الموكب الغريب لهذا الـمَلِك الجالس على جحش، البهيّ مثل إله، البسيط مثل أفقر الناس، الوديع، المبارك... يحيط به نساء وأطفال ورجال غير مسلّحين وهم يصيحون: «السلام! السلام!» لهذا الـمَلِك الّذي قبل دخوله المدينة، يتوقّف للحظة على مستوى قبور برص هنّوم وسلوام (أظنّني تكلّمتُ عن هذه الأماكن بشكل جيّد، حيث رأيتُ في مرّات أخرى معجزات كثيرة على البرص) وإذ يستند على الركاب الوحيد الّذي يسند عليه رجله، حيث إنّه يجلس على الحمار ولا يمتطيه، يقف ويفتح ذراعيه وهو يصيح في اتّجاه هذه المنحدرات الرهيبة (حيث تظهر وجوه وأجساد مرعبة وهي تنظر إلى يسوع وتطلق صيحات عويل البرص: «نحن مصابون!» كي يبعد غير المحترسين الّذين لرغبتهم في رؤية يسوع بشكل جيّد، فإنّهم يرتقون أيضاً المسطّحات الموبوءة: «مَن يؤمن بي فليدعُ باسمي وليبرأ بفضل ذلك!» ويبارك وهو يكمل طريقه، ويأمر يهوذا الاسخريوطيّ: «اشترِ طعاماً للبرص واحمله إليهم مع سمعان قبل المساء.»

 

يدخل الموكب تحت قنطرة باب سلوام، وثمّ مثل سيل ينصبّ في المدينة مارّاً بضاحية عوفل -حيث أضحت كلّ شرفة باحة علويّة صغيرة مليئة بالناس الّذين يهتفون الهوشعنا، الّذين يلقون الأزهار ويسكبون العطور إلى أسفل على الطريق، محاولين إلقاءها على المعلّم، والجوّ قد أُشبع برائحة الأزهار الّتي تموت تحت خطوات الجموع، وبرائحة العطور الّتي تنتشر في الجوّ قبل أن تسقط على تراب الطريق- إنّ صيحات الجموع تبدو أنّها تتعاظم وتشتدّ، كما لو أنّ كلاًّ منهم يصرخ في مكبّر صوت، لأنّ القناطر المزخرفة العديدة الّتي تمتلئ بها أورشليم تُضخّم الصوت ولا تني تُرجّع صداحه.

 

أسمعهم يهتفون، وأظنّه بمعنى ما يقوله الإنجيليّون: «شياليم، شياليم ملشيل!» (أو مالشي: اجتهد في تمييز نغمة الكلمات، ولكنّها صعبة لأنّ بها نطقاً لا مثيل له عندنا). صَخَب مستمرّ، شبيه بصَخَب بحر في عاصفة، لم يتلاشَ فيه بعد هدير موجة تضرب الشاطئ والصخور، حتّى تتجمّع وترتفع موجة أخرى في هدير جديد دونما توقّف. ممّا أصابني بالصمم!

 

عطور، روائح، هتافات، أغصان وملابس تتحرك، ألوان... إنّها رؤيا مذهلة.

 

أرى اختلاط جموع لا نهاية له، وجوهاً معروفة تظهر وتختفي: كلّ التلاميذ مِن كلّ أصقاع فلسطين، كلّ التابعين ليسوع... أرى للحظة يائيروس، أرى جايا المراهق مِن بيللا (كما يبدو لي) الّذي كان أعمى مع أُمّه وشفاه يسوع، أرى يواكيم الّذي مِن بُصرى، وفلاّح سهل شارون مع إخوته، أرى متياس الكهل والمتوحّد مِن ذاك المكان الّذي بالقرب مِن الأردن (الضفّة الشرقيّة)، حيث التجأ يسوع حينما كان كلّ شيء غارقاً، أرى زكّا مع أصدقائه المهتدين، أرى العجوز يوحنّا مِن نوبة مع كلّ أهل بلدته تقريباً، أرى زوج سارة مِن يافا... إنّما مَن يقدر أن يحفظ تلك الوجوه وهذه الأسماء، وهي تشكيلة مِن الوجوه المعروفة وغير المعروفة، المشاهدة مرّة واحدة أو عدّة مرّات؟... ها هو الآن وجه الراعي الصغير الّذي مِن عين نون. وبالقرب منه، تلميذ كورازين الّذي ترك جنازة والده ليتبع يسوع؛ وقريب منه، للحظة، والد بنيامين وأُمّه مِن كفرناحوم مع ابنهم الشّابّ، الّذي كاد يقع تحت قوائم الجحش باندفاعه إلى الأمام كي ينال ملاطفة مِن يسوع. و -للأسف!- هناك وجوه لفرّيسيّين وكَتَبَة، ممتقعين غضباً بسبب هذا الانتصار، والّذين بتعجرف، يخترقون دائرة المحبّة المتزاحمة حول يسوع، ويصيحون فيه: «أَسكِت هؤلاء المجانين! أَعِدهم إلى العقل! لله وحده هتاف الهوشعنا. قل لهم أن يصمتوا!»

 

يجيبهم يسوع بهدوء: «حتّى ولو قلتُ لهم أن يصمتوا وأطاعوني، فإنّ الحجارة لتهتف بمعجزات كلمة الله.»

 

بالفعل إنّ الناس يهتفون: «هوشعنا، هوشعنا لابن داود! مبارك الآتي باسم الربّ! هوشعنا له ولملكوته! الله معنا! عمّانوئيل قد أتى. لقد أتى ملكوت مسيح الربّ! هوشعنا! هوشعنا مِن الأرض حتّى أعالي السماوات! سلام! سلام يا مَلِكي! سلام وبركة لكَ أيّها الـمَلِك القدّوس! سلام ومجد في السماوات وعلى الأرض! المجد لله لأجل مسيحه! السلام للناس الّذين يُحسِنون استقباله! السلام على الأرض للناس ذوي الإرادة الصالحة والمجد في السماوات العليا لأنّ ساعة الربّ أتت!» (والّذين يطلقون هذا الهتاف الأخير هم جماعة الرعاة المتلاحمة الّذين يكرّرون هتاف الميلاد). عدا هذه الهتافات المتواصلة، فإنّ أهل فلسطين يروون لحجاج الشتات المعجزات الّتي رأوها. ولأولئك الّذين لا يعرفون ما الّذي يجري، الغرباء الّذين يمرّون مصادفة بالمدينة، ويَسأَلون: «إنّما مَن يكون هذا؟ ماذا يحدث؟» يشرحون: «هو يسوع! يسوع، معلّم ناصرة الجليل! النبيّ! مَسيّا الربّ! الموعود! القدّوس!»

 

مِن منزل قد تمّ تجاوز بابه منذ قليل، ذلك أنّ السير بطيء جدّاً في مثل تلك الفوضى، يخرج رهط مِن الشباب الأقوياء حاملين أواني نحاسيّة مليئة بفحم مشتعل وبخور، الّذي يتّقد ناشراً سُحُب دخان معطّر. وحركتهم معتبَرة ويتمّ تكرارها، وكُثُر يهرعون إلى الأمام أو يعودون إلى الخلف، إلى منازلهم، ليجلبوا ناراً وراتنجاً عَطِراً كي يحرقوها إجلالاً للمسيح.

 

يَظهَر منـزل أناليا. الشرفة المتوّجة بالكروم ذات الأوراق الجديدة الّتي ترتعش بفعل نسيم نيسان [أبريل] اللطيف، عليها مِن الجهة المطلّة على الشارع صفّ مِن الصّبايا اللابسات الأبيض مع الأوشحة البيضاء، وفي وسطهنّ أناليا، معها سِلال مِن بتلات ورود مُورِقة وزنابق الوادي الّتي أضحت ترفرف في الهواء.

 

«عذارى إسرائيل تحيّيكَ يا ربّ!» يقول يوحنّا، الّذي شقّ لنفسه طريقاً وقد أصبح الآن بجوار يسوع، لافتاً انتباهه إلى إكليل النقاء المنحني على سور الشرفة مبتسماً، ليفرش الدرب ببتلات حمراء كالدم وبزنابق وادي بيضاء كاللآلئ.

 

يشدّ يسوع اللّجام للحظة ويوقف الجحش. يرفع وجهه ويده ليبارك تلك البتوليّة المفعمة محبّةً تجاهه لدرجة رفض كلّ محبّة أرضيّة.

 

وتنحني أناليا وتهتف: «لقد رأيتُ انتصاركَ يا ربّي! خذ حياتي لأجل مجدكَ الكلّيّ!» وهاتفة بكلّ قوّة، بينما يمرّ يسوع تحت منـزلها ويتقدّم، تحيّيه: «يسوع!»

 

وصيحة أخرى، مختلفة، تفوق صراخ الجموع. ولكنّ الناس، رغم سماعها لا يتوقّفون. إنّه نهر حماسة، نهر ناس في هذيان لا يمكن أن يتوقّف. وبينما ما تزال الأمواج الأخيرة لهذا النهر خارج الباب، يصعد الأوّلون المنحدرات الّتي تقود إلى الهيكل.

 

«أُمّكَ!» يصيح بطرس مشيراً إلى منـزل هو تقريباً عند زاوية طريق تصعد إلى جبل موريا، والّتي يتوجّه إليها الموكب. ويسوع يرفع وجهه ليبتسم لأُمّه الّتي هي في الأعلى وسط النسوة المخلصات.

 

الالتقاء بقافلة كثيرة العدد يوقف الموكب بعد بضعة أمتار مِن اجتياز المنـزل. وأثناء توقّف يسوع مع الآخرين، ملاطفاً الأطفال الّذين تقدّمهم الأُمّهات له، يجري رجل فاسحاً الطريق وهو يصيح: «دعوني أمرّ! إنّ امرأة قد ماتت. شابّة صغيرة. فجأة. أُمّها تدعو المعلّم. دعوني أمرّ! لقد سبق أن أنقذها مرّة!»

 

يفسح له الناس المجال ويهرع الرجل صوب يسوع: «يا معلّم، إنّ ابنة إليز قد ماتت. لقد حيّتكَ بتلك الصيحة، ثمّ انهارت وهي تقول: "أنا سعيدة"، ثمّ لفظت أنفاسها. لقد انسحق قلبها مِن شدّة فرح رؤيتكَ منتصراً. لقد رأتني أُمّها على الشرفة الملاصقة للمنـزل فأرسلتني كي أستدعيكَ. تعال يا معلّم.»

 

«ماتت! ماتت أناليا! ولكنّها بالأمس فقط كانت سليمة، بصحّة جيّدة، وسعيدة؟» يتجمّع الرُّسُل مضطربين، والرعاة أيضاً. الجميع رآها بالأمس في أكمل صحّة. ومنذ قليل رأوها ورديّة، ضاحكة... إنّهم لا يستطيعون تصديق المصيبة... يَسأَلون ويستعلمون عن التفاصيل…

 

«لا أعلم. لقد سمعتم جميعاً كلامها. كانت تتكلّم بقوّة وثقة. ثمّ رأيتُها تنهار وقد صارت أكثر ابيضاضاً مِن ثوبها وسمعتُ أُمّها تصيح... لا أعرف شيئاً آخر.»

 

«لا تضطربوا، لم تمت. إنّ وردة قد سقطت وتلقّاها ملائكة الله ليحملوها إلى حضن إبراهيم. وقريباً ستتفتح الزنبقة الأرضيّة سعيدة في الفردوس، جاهلة إلى الأبد هول العالم. يا رجل، قل لاليز ألاّ تبكي مصير ابنتها. قل لها إنّها نالت نعمة عظيمة مِن الله، وخلال ستة أيّام ستفهم أيّة نعمة قد وهب الله لابنتها. لا تبكوا. لا يبكينّ أحد. إنّ انتصارها هو أعظم بعد مِن انتصاري، لأنّ الملائكة ترافق العذراء ليقودوها إلى سلام الأبرار. وهذا هو الانتصار الأبديّ الّذي يتعاظم دون أن يعرف الانحدار أبداً. الحقّ أقول لكم أنّ مِن حقّكم جميعاً البكاء على ذواتكم ولكن ليس على أناليا. هيّا بنا.» ويكرّر للرُّسُل وللّذين يحيطون به: «إنّ وردة قد سقطت، إنّها ترقد في سلام وقد تلقّاها الملائكة. طوبى لنقيّة الجسد والقلب لأنّها سوف ترى الله قريباً.»

 

«إنّما كيف، ما الّذي جعلها تموت يا ربّ؟» يَسأَل بطرس غير القادر على التصديق.

 

«مِن المحبّة. مِن النشوة. مِن الفرح اللامتناهي. يا لها مِن ميتة سعيدة!»

 

الّذين تقدّموا كثيراً لم يعرفوا، والّذين إلى الوراء كثيراً لم يعرفوا. ولذلك فقد استمرّت الهوشعنا، رغم أنّ دائرة مِن الصمت المتأمِّل قد تكوّنت بالقرب مِن يسوع.

 

ويوحنّا هو الّذي يقطعه: «آه! أودّ لو يكون لي المصير ذاته قبل الساعات المقبلة!»

 

«وأنا أيضاً» يقول إسحاق. «أودّ لو أرى وجه الصبيّة الّتي ماتت حبّاً بكَ...»

 

«أرجوكم أن تضحّوا برغباتكم مِن أجلي. أنا في حاجة لوجودكم إلى جانبي...»

 

«لن نترككَ أبداً يا ربّ. ولكن أما مِن تعزية لهذه الأُمّ؟» يَسأَل نثنائيل.

 

«سأتدبّر الأمر...»

 

هم الآن عند أبواب أسوار الهيكل. ينـزل يسوع عن الجحش، الّذي يهتمّ به أحدهم وهو مِن بيت فاجي.

 

جدير بالذكر أنّ يسوع لم يتوقّف عند أوّل باب للهيكل، ولكنّه حاذى السور، متوقّفاً فقط عندما يصل إلى الجهة الشماليّة للسور، بالقرب مِن قلعة أنطونيا. هناك ينـزل ويدخل الهيكل، كما ليُظهِر أنّه لا يختبئ مِن السلطة الحاكمة، ويحسب نفسه بريئاً في كلّ تصرّفاته.

 

الباحة الأولى للمعبد تُظهِر الضوضاء المعتادة للصيارفة وبائعي الحمام، والطيور والحملان، بفارق واحد هو أنّ الباعة الآن قد تُرِكوا وحدهم حيث هرع الجميع لرؤية يسوع. ويسوع يدخل، مهيباً في ثوبه القرمزيّ، ويجول ببصره في هذا السوق وعلى مجموعة مِن الفرّيسيّين والكَتَبَة الّذين يراقبونه مِن تحت الرواق.

 

نظرته وامضة بالسخط. يندفع إلى وسط الباحة. قفزته غير المتوقّعة تبدو وكأنّها طيران. طيران لهب، ذلك أنّ ثوبه شعلة هو تحت الشمس الّتي تغمر الباحة. ويدوّي بصوت قادر: «اخرجوا مِن بيت أبي! فهو ليس مكان ربا وسوق. مكتوب: "بيتي بيت صلاة يدعى". فلماذا إذن حوّلتم إلى مغارة لصوص هذا البيت الّذي يُبتَهَل فيه لاسم الربّ؟ اخرجوا مِن هنا! طهّروا بيتي. حتّى لا أضربكم بصواعق الغضب السماويّ بدلاً مِن الحبال. اخرجوا مِن هنا! اخرجوا مِن هنا أيّها اللصوص، يا تجّار السقط، الفجّار، القتلة، مُدنِّسي المقدّسات، الوثنيّين بأبشع وثنيّة: الّتي هي الأنا المتكبّرة، الـمُفسِدِين، الكذبة. خارجاً! خارجاً! وإلاّ فسيكنس العليّ هذا المكان إلى الأبد ويحلّ انتقامه على شعب بأكمله.» لم يكرّر ضرب السوط كالمرّة السابقة، إنّما، إذ رأى أنّ الباعة والصيارفة قد تأخّروا عن الطاعة، فيذهب ويقلب مائدة الصرافة الأقرب، جاعلاً الموازين وقطع النقود تتناثر على الأرض.

 

يسرع البائعون والصيارفة لوضع أمر يسوع موضع التنفيذ، بعدما رأوا أوّل مثال. ويسوع يصيح خلفهم: «وكم مرّة ينبغي لي أن أقول أنّ هذا ليس مكان قذارة بل مكان صلاة؟» وينظر إلى القائمين على الهيكل الّذين، إذ يطيعون أوامر كبير الكَهَنَة، فإنّهم لا يقومون بأيّة حركة اعتراضيّة.

 

ما أن تُطَهَّر الباحة، حتّى يمضي يسوع نحو الأروقة حيث اجتمع عميان، مشلولون، صُمّ، مُقعَدون، ومرضى آخرون، والّذين يتضرّعون إليه بصيحات هائلة.

 

«ماذا تريدون أن أصنع لكم؟»

 

«الإبصار يا ربّ! الأعضاء! أن يتكلّم ابني! أن تبرأ امرأتي! إنّنا نؤمن بكَ كابن الله!»

 

«فليسمع الله لكم. انهضوا وقولوا الهوشعنا للربّ!»

 

لا يشفي المرضى الكثيرين واحداً إثر الآخر. لكنّه يقوم بحركة واسعة بيده، وتنـزل النعمة والصحّة على التعساء، الّذين ينتصبون أصحّاء مع هتافات الفرح الّتي تختلط مع هتافات أطفال كثيرين يتزاحمون حوله وهم يردّدون: «المجد، المجد لابن داود! هوشعنا ليسوع الناصريّ، مَلِك الملوك، وربّ الأرباب!»

 

فرّيسيّون، متصنّعين الاحترام، يصيحون: «يا معلّم، أتسمعهم؟ هؤلاء الأطفال يقولون ما يجب عدم قوله. أوقفهم! وليصمتوا!»

 

«ولماذا؟ ألم يقل الـمَلِك النبيّ، الـمَلِك الّذي أنا مِن ذريّته: "مِن أفواه الأطفال والرضّع أخرجتَ التسبيح الكامل كي يربك أعداءكَ"؟ ألم تقرؤوا هذه الأقوال مِن مُؤَلِّف المزامير؟ دعوا الصغار يسبّحوني. لقد أُوحِيَت لهم مِن ملائكتهم، الّذين يرون أبي بلا توقّف ويعرفون أسراره ويوحون بها لهؤلاء الأبرياء، والآن دعوني جميعكم أذهب للصلاة للربّ.» وبمروره أمام الناس يعبر إلى الردهة الخاصّة بالإسرائيليّين للصلاة…

 

ومِن ثمّ، إذ يخرج مِن الباب الآخر، محاذياً بركة الغنم، يخرج مِن المدينة عائداً إلى تلال جبل الزيتون.

 

الرُّسُل متحمّسون... الانتصار منحهم ثقة، وقد نسوا، نسوا تماماً كلّ المخاوف الّتي أثارها كلام المعلّم... يتحدّثون عن كلّ شيء... متحرّقين للاستعلام عن أناليا. وبمشقّة يمنعهم يسوع مِن الذهاب، مؤكّداً لهم أنّه سيتدبّر الأمر بطريقة يعلمها هو... صمّ، صمّ، صمّ عن كلّ كلمة إنذار إلهيّ... بشر، بشر، بشر، ينسيهم هتاف هوشعنا واحد كلّ شيء…

 

يتحدّث يسوع إلى خدّام مريم المجدليّة، الّذين لحقوا به إلى الهيكل، ثمّ يصرفهم…

 

«والآن إلى أين نذهب؟» يَسأَل فيلبّس.

 

«هل إلى منـزل مرقس بن يونا؟» يقول يوحنّا.

 

«كلاّ. إلى معسكر الجليليّين. ربما يكون إخوتي قد حضروا وأودّ أن ألقي عليهم التحيّة.» يقول يسوع.

 

«يمكنكَ فِعل ذلك غداً.» يلفت نظره تدّاوس.

 

«حسن أن نفعل الأمر حين نستطيع فِعله. هيّا بنا إلى الجليليّين حيث هم. سيسرّون برؤيتنا. وستعرفون أخبار عائلاتكم. أنا، سأرى الأطفال...»

 

«وهذا المساء؟ أين ننام؟ في المدينة؟ في أيّ مكان؟ حيث هي والدتكَ؟ أو عند يُوَنّا؟» يَسأَل يهوذا الاسخريوطيّ.

 

«لا أعرف. بالتأكيد ليس في المدينة. ربما أيضاً تحت الخيام الجليليّة...»

 

«ولكن لماذا؟»

 

«لأنّني الجليليّ وأحبّ موطني. هيّا بنا.»

 

يعاودون المسير صاعدين صوب معسكر الجليليّين، الّذي هو على جبل الزيتون مِن جهة بيت عنيا، والّذي هو مجموعة مِن الخيام البيضاء تحت شمس نيسان [أبريل] المتهلّلة.