ج4 - ف165

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الرابع / القسم الثاني

 

165- ("أريد أن يحظى اليتامى بأُمّ")

 

11 / 10 / 1945

 

بحيرة طبريا ليست سوى غطاء رماديّ. تبدو زئبقاً تغشاه الدموع، مع الاعتقاد بأنّها كما لو كانت في استراحة مُترافِقة بِشِبه أمواج تَعِبة، لا تَصِل إلى حدّ إظهار الزَّبَد، تتوقّف وتَثبُت بعد حركة بسيطة، متّخذة على امتدادها صبغة موحّدة تحت سماء دون تألّق.

 

بطرس وأندراوس حول مَركَبهما، كذلك يعقوب ويوحنّا حول مَركَبهما. إنّهم يتهيّأون للمضيّ إلى شاطئ بيت صيدا الصغير. رائحة أعشاب، وأرض مشبعة بالماء، ضباب خفيف على السطح العشبيّ الممتدّ صوب قورازين، كآبة تشرين الثاني (نوفمبر) على كلّ شيء.

 

يَخرُج يسوع مِن بيت بطرس، ممسكاً بيديه الصغيرين متّيا ومريم، اللذين قد اعتنت بورفيرا بإلباسهما عناية أُمّ، مُستَبدِلة ثوب مريم بآخر لمارغزيام. أمّا متّيا، فهو صغير جدّاً، ولا يمكن الاستفادة مِن الطريقة ذاتها، وهو لا يزال يرتَجِف في جلبابه القطني الذي امَّحَت منه الألوان، رغم أنّ بورفيرا، وقد أَخَذَتها الشفقة، تعود إلى البيت لِتَخرُج ثانية ومعها قطعة مِن حرام (غطاء) تلفّ به الصغير، كما لو كان الحرام معطفاً. يشكرها يسوع، بينما هي تجثو مُستأذِنة، وتنسحب بعد تقبيل اليَتيمَين قُبلة أخيرة.

 

«للحصول على أطفال، يجدر بها أن تأخُذهما أيضاً.» يُعلّق بطرس الذي رأى المشهد، وبدوره ينحني ليعطي الصغيرين قطعة خبز بالعسل، كان يحتفظ بها تحت مقعد في الـمَركَب. وهذا ما جعل أندراوس يضحك ويقول له: «أمّا أنتَ فلا، أليس كذلك؟ حتّى إنّكَ سرقتَ العسل مِن زوجتكَ لِتَمنَح الطفلين قليلاً مِن الفرح.»

 

«سرقتُ! سرقتُ! العسل لي!»

 

«نعم، ولكنّ زوجة أخي تغار مِن ذلك، لأنّه لمارغزيام. وأنتَ، يا مَن تعرف ذلك، دَخَلتَ إلى المطبخ ليلاً، كالسارق، خالعاً نعليكَ، لتأخذ منه ما تُزيّن به هذا الرغيف. لقد رأيتُكَ يا أخي، وضحكتُ، لأنّكَ كنتَ تنظر حولكَ كالطفل الذي يخشى الصّفعات الوالديّة.»

 

«بِئس عينكَ!» يقول بطرس ضاحكاً، وهو يُعانِق أخاه الذي يُعانِقه بِدَوره قائلاً: «أخي الحبيب.»

 

يرى يسوع ويبتسم ابتسامة عريضة، وهو يتوسّط الطفلين اللذين يلتهمان رغيفهما.

 

يَصِل الرُّسُل الثمانية الآخرون مِن داخل بيت صيدا. مِن المحتمل أنّهم كانوا ينـزلون ضيوفاً على فليبّس وبرتلماوس.

 

«بسرعة!» يصيح بطرس، وبِمُعانقة واحدة يحمل الصغيرين إلى الـمَركَب دون أن يبلّلا أقدامهما الحافية. «لستما خائفيَن، أليس كذلك؟» يَسأَل بينما هو يخوض في الماء بساقيه القصيرتين والقويّتين والعاريتين حتّى ما فوق الركبتين.

 

«لا يا سيّدي.» تقول الصغيرة وهي تشدّ على عنق بطرس بتشنُّج مُغلِقة عينيها، بينما هو يضعها في الـمَركَب الذي يتأرجح تحت ثِقل يسوع الذي يَصعَد إليه بِدَوره. الصغير، أكثر جرأة أو أكثر ذهولاً، فإنّه لا يَنبس ببنت شفة. يَجلس يسوع ويشدّ إليه الصغيرين مغطّياً إيّاهما بمعطفه الذي يبدو كالجناح المنبسط لحماية الصُّوصَين.

 

ستّة في مَركَب، وستّة في الآخر، الجميع في الـمَركَبين. يرفع بطرس الدفّة الـمُساعِدة على الصعود إلى الـمَركَب. وبضربة قَدَم قويّة يَدفَع الـمَركَب بعيداً عن الضفّة، ويقفز إليه مُتجاوزاً الضفّة. ويحذو يعقوب حذوه في مَركَبه. دفعة بطرس أَرجَحَت الـمَركَب، تئنّ الصغيرة قائلة: «ماما!» وتخفي وجهها في صدر يسوع، متشبّثة بركبتيه. إنّما الإبحار قد أَصبَحَ لطيفاً رغم أنّه مُتعِب بالنسبة إلى بطرس وأندراوس والصبيّ الذين عليهم أن يُجذّفوا مع فليبّس الذي أَخَذَ موقع المجذّف الرابع. الشِّراع مترهِّل في هذا الجوّ الثقيل والرطب، ولا يفيد في شيء. عليهم التقدّم بقوّة المجاذيف.

 

«نزهة جميلة!» يهتف بطرس للّذين في الـمَركَب التّوأم، حيث الاسخريوطيّ هو المجذّف الرابع، والذي يهنّئه بطرس على ضربة مجذافه الممتازة.

 

«بقوّة يا سمعان!» يُجيب يعقوب. «بقوّة أو إنّنا سنسبقكم. يهوذا قويّ قوّة محكوم بأشغال شاقّة. أحسنتَ، يا يهوذا!»

 

«نعم، سوف نُقيمكَ رئيساً للمجذّفين.» يؤكّد بطرس الذي يُجذِّف عن اثنين. ويضحك قائلاً: «ومع ذلك، لا يمكن لأحد أن ينتزع المكان الأوّل مِن سمعان بن يونا. مُذ كنتُ في العشرين وأنا رئيس للمجذّفين في المباريات التي كانت تقام بين مختلف البلدات.» وبِمَرح، يَشرع بالإيعاز بالإيقاع للمجذّفين الذين معه: «أوه!... هيس! أوه!... هيس!» وتتردّد الأصوات في صمت البحيرة الخالية في تلك الساعة الصباحيّة.

 

يَكتَسِب الولدان جرأة. إنّهما ما يزالان تحت المعطف، يُخرِجان وجهيهما النَّحيلين مِن جانبيّ المعلّم الذي يُعانِقهما ويبتسمان. يُبديان اهتماماً بِعَمَل الـمُجذِّفِين. يتبادلان التعليقات.

 

«تَحسَبنا نسير على عربة بدون عجلات.» يقول الصغير.

 

«لا، بل على عربة فوق السحاب. انظر! تَحسَبنا نسير فوق السماء. ها إنّنا نصعد فوق سحابة!» تقول مريم، وهي ترى مقدّمة الـمَركَب تَختَرِق مكاناً يوحي بسحابة قطنيّة. وتبتسم. ولكنّ الشمس تُبدِّد الضباب، ورغم كونها شمساً باهتة، فإنّ الغيوم تُصبِح مذهَّبة وتَعكس البحيرة بريقها.

 

«آه! كم هذا جميل! إنّنا نسير الآن على النار. آه! كم هذا جميل! كم هذا جميل!» ويُصفِّق الولد بيديه. ولكنّ الطفلة تَصمُت، ثمّ تنفجر بالبكاء. ويَسألَها الجميع عن سبب البكاء. وتَشرح هي وسط دموعها: «كانت أُمّي تُردِّد قصيدة أو مزموراً، لستُ أدري، كي تَحفَظنا صالِحَين، لنتمكّن مِن الاستمرار في الصلاة رغم الأحزان الكثيرة... وكانت تلك القصيدة تتحدّث عن فردوس كبحيرة مِن نور، كَنَار عذبة حيث لن يكون سوى الله والفرح، وحيث سيذهب كلّ الصالحين... بعد أن يأتي الـمُخلِّص... وهذه البحيرة ذكَّرتني بها... بأُمّي!»

 

يبكي متيا كذلك، وتأخذ الشفقة بالجميع.

 

ولكن ها هو صوت يسوع العذب يعلو فوق تمتمات الأصوات المختلفة وفوق نحيب اليتيمين. «لا تبكيا، فإنّ أُمّكما قادتكُما إليَّ، وهي هنا معكما، بينما أنا آخذكما إلى أُمّ محرومة مِن الأولاد. وستكون مسرورة للغاية بحصولها على ولدين طيّبين بدل ابنها الذي هو الآن حيث أُمّكما. ذلك أنّها بَكَت هي كذلك، هل تَعلَمان؟ فلقد مات ابنها كما ماتت أُمّكما...»

 

«آه! إذن نحن ذاهبان إليها وابنها ذَهَبَ إلى أُمّنا!» تقول مريم.

 

«هو هكذا بالضبط، وسوف تكونون جميعكم سعداء.»

 

«كيف هي تلك المرأة؟ ماذا تعمل؟ هل هي فلّاحة؟ هل معلّمها صالح؟» يُبدي الولدان اهتماماً.

 

«هي ليست فلّاحة، ولكن لديها حديقة مليئة بالورود، وهي طيّبة كملاك. زوجها صالح. وهو أيضاً سوف يحبّكما كثيراً.»

 

«هل تظنّ ذلك يا معلّم؟» يَسأَل متّى مُشكّكاً.

 

«بل أنا متأكّد، وأنتم سوف تَقتَنِعون. منذ مدّة كان خُوزي يَطلب مارغزيام ليجعل منه فارساً.»

 

«آه! مِن أجل ذلك، لا!» يصيح بطرس.

 

«سيكون مارغزيام فارساً للمسيح فقط، يا سمعان. كُن مطمئنّاً.»

 

تعود البحيرة لتصبح رماديّة. تهُبّ ريح خفيفة تُجَعِد البحيرة. تُنشَر الأشرعة، ويَمخُر الـمَركَبان العباب وهما يهتزّان. ولكنّ الولدين لا يحلمان الآن إلّا بأُمّهما الجديدة، لدرجة لم يعودا معها يَشعُران بالخوف.

 

يتمّ تجاوز مجدلا ببيوتها البيضاء وسط الخضرة، كذلك الريف بين مجدلا وطبريّا. وها هي طلائع بيوت طبريّا.

 

«أين يا معلّم؟»

 

«إلى مرفأ خُوزي الصغير.»

 

ينعطف بطرس، ويُصدِر أوامره للصبيّ. يُنـزَل الشّراع بينما يرسو الـمَركَب في المرفأ الصغير، ثمّ يَلِج ليتوقّف في الرصيف الصغير، يتبعه الـمَركَب الآخر. الواحد إلى جانب الآخر، مِثل فرخي بطّ تَعِبَين. يهبط الجميع، ويهرع يوحنّا في المقدّمة ليُنبئ البُستانيّين.

 

يلتصق الصغيران بيسوع بحياء، وتَسأَل مريم متنهّدة، وهي تَشدّ ثوب يسوع: «ولكن هل ستكون حقّاً طيّبة؟»

 

يعود يوحنّا: «يا معلّم، أحد الخُدّام يفتح البوّابة. ويُوَنّا قد استيقَظَت.»

 

«حسناً. انتظروا جميعكم هنا. فأنا أمضي أوّلاً.»

 

ويسير يسوع بمفرده. ينظر إليه الآخرون يمضي وهم يُعلّقون تعليقات متفاوتة حول محاولة يسوع. وهي لا تخلو مِن الشكوك والانتقادات. ولكنّهم مِن حيث هم يمكثون لا يَرَون سوى خُوزي الذي يَهرع لينحني حتّى الأرض، عند عَتَبَة البوّابة، ثمّ يَلِج الحديقة إلى يسار يسوع. بعد ذلك لا يعودون يَرَون شيئاً.

 

أمّا أنا فأرى. أرى يسوع يتقدّم ببطء إلى جانب خُوزي الذي يُبدي سروراً عظيماً لكونه يستضيفه: «عزيزتي يُوَنّا ستفرح كثيراً. وأنا كذلك. إنّها تتحسّن باستمرار. لقد حَدَّثَتني عن الرحلة. يا لهذا الظَّفَر يا سيّدي!»

 

«ألم تتضايق مِن ذلك؟»

 

«يُوَنّا سعيدة، وأنا سعيد لرؤيتي إيّاها هكذا. كان من الممكن أن أفقدها منذ أشهر عديدة، يا سيّدي.»

 

«كان ممكناً... وأنا رَدَدّتُها لكَ. فاعرف كيف تَردّ الجميل لله.»

 

يَنظُر خُوزي إليه مذهولاً... ثمّ يقول: «هل هذا لوم، يا سيّدي؟»

 

«لا، بل هي نصيحة. كُن صالحاً يا خُوزي

 

«يا معلّم، إنّني خادم لهيرودس...»

 

«أعرف. ولكنّ نفسكَ ليست خادمة أحد غير الله، إن أنتَ أردتَ ذلك.»

 

«حقّاً، يا سيّدي، سأُصلِح ذاتي. فأحياناً تسيطر عليَّ الاعتبارات البشريّة...»

 

«هل كنتَ كذلك العام الماضي، عندما كنتَ تريد إنقاذ يُوَنّا؟»

 

«آه! لا. فلقد غامرتُ بخطر فِقدان كلّ اعتبار، وتوجَّهتُ إلى الذي كنتُ أظُنّه يستطيع إنقاذها.»

 

«افعل الشيء ذاته مِن أجل نفسكَ. فإنّها أثمن حتّى مِن يُوَنّا. ها هي تأتي.»

 

يُسرعِان الخطى باتّجاهها وقد هَرَعَت للقائهما.

 

«معلّمي! لم أكن أتوقّع رؤيتكَ بهذه السرعة. أيّ صلاح قادكَ إلى بيت تلميذتكَ؟»

 

«إنّها حاجة، يا يُوَنّا.»

 

«حاجة؟ ما هي؟ قُل، وإذا أمكننا فسوف نساعدكَ.» يقول العروسان معاً.

 

«أمس مساء وَجَدتُ وَلَدين فقيرين على طريق جرداء... صبيّ وبنت صغيرين... حافيين، جائعين، وحيدين ومَهِيضِيّ الجناح... رأيتُهُما، وقد طردَهُما كالذئاب رَجُل قلبه مثل قلب الذئاب. كادا يموتان مِن الجوع... أنا مَنَحتُ ذاك الرجل خيرات جَمّة في العام الماضي. وهو رَفَضَ إعطاء اليتيمين رغيف خبز. إذ إنّهما يتيمان. إنّهما يتيمان وعلى دروب العالم المتوحّش. سينال هذا الرجل عقابه. هل تريدان أن تنالا بركتي؟ أَمُدّ لكما يدي، مستجدياً الحبّ، لليتيمين اللذين بلا مأوى، بلا ثياب، بلا غذاء ولاحبّ. هل تريدان مساعدتي؟»

 

«ولكن، يا معلّم، هل تَسأَل عن ذلك؟ قل ما تريد، كلّ ما تريد، قل كلّ شيء!...» يقول خُوزي بحماس.

 

ويُوَنّا لا تتكلّم، ولكنّ يديها مشدودتان إلى قلبها، والدمعة على رمشيها الطويلين، وابتسامة رغبة على شفتيها الحمراوين، إنّها تنتظر وتتكلّم أكثر مما لو كانت تنطق.

 

ينظر إليها يسوع ويبتسم: «أودُّ لو يكون لهذين الصغيرين أُمّ وأب وبيت. وأن يكون اسم الأُمّ يُوَنّا...»

 

لم يَكَد يُنهي كلامه، حتّى عَلَت صيحة يُوَنّا، وكأنّها صيحة سجين تحرَّرَ مِن سجنه، بينما تجثو لتُقبِّل قدميّ سيّدها.

 

«وأنتَ يا خُوزي، ما قولكَ؟ هل تَقبَل باسمي هذين الطفلين اللذين أُحِبُّهما، آه! إنّهما عزيزان على قلبي. بل أغلى مِن الدُّرَر على قلبي؟»

 

«يا معلّم أين هما؟ خُذني إليهما، وأُقسِم لكَ بشرفي، بأنّني ما أن أضع يدي على رأسيهما البريئين، حتّى أُحِبّهما كأب حقيقيّ، باسمكَ.»

 

«تعاليا إذن. كنتُ أَعلَم جيّداً أنّ مجيئي لن يكون بلا جدوى. تعاليا. إنّهما فظّان، خائفان، ولكنّهما طيّبان. ثِقا بي أنا الذي أرى القلوب والمستقبل. في حبّهما سوف تعودان لِتَلقَيا حبّكما. عناقهما البريء سوف يكون أفضل داعم لبيتكما الزوجيّ. وسوف تسهر السماء عليكما وترحمكما على الدوام مِن أجل محبّتكما. إنّهما خارج البوّابة. فنحن قادمون مِن بيت صيدا...»

 

لم تَعُد يُوَنّا تسمع شيئاً. تَجري وقد أَخَذَتها رغبة جامحة في مُداعبة الطفلين.

 

وتفعل ذلك بالسقوط على ركبتيها لتشدّ اليتيمين إلى صدرها، مُقبِّلة خدودهما النحيلة، بينما هما يَنظُران بدهشة إلى المرأة الجميلة ذات الثياب المزيّنة بالحليّ. وينظران إلى خُوزي الذي يُداعِبهما ويحمل متيّا بين ذراعيه. وينظران إلى الحديقة الرائعة والخُدّام الذين يَهرَعون... ويَنظُران إلى البيت الذي تُفتَح ممرّاته الممتلئة بالنَّفائِس ليسوع ورُسُله. ويَنظُران إلى إستير التي تطبَع عليهما قبلاتها التي لا تنتهي.

 

لقد فُتِحَت أبواب عالم الأحلام أمام الصغيرَين التائهيَن…

 

يرى يسوع ذلك ويبتسم.