ج2 - ف93
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الثاني / القسم الثاني
93- (يسوع في منطقة المياه الحلوة: "لا تقتل". موت دوراس)
10 / 03 / 1945
«قيل: "لا تقتل".
لأيّ مِن مجموعتيّ الوصايا تنتمي هذه؟ "للثانية" تقولون؟ هل أنتم متأكّدون؟
للمرّة الثانية أسألكم: هل هذه الخطيئة تُسيء إلى الله أم إلى الضحيّة؟ تقولون إلى "هذه الأخيرة"؟ هل أنتم متأكّدون أيضاً مِن ذلك؟
وأسألكم أيضاً: ألا يوجد سوى خطيئة واحدة للقتل؟ ألا ترتكبون في القتل سوى هذه الخطيئة الوحيدة؟ "تلك فقط" تقولون؟ أما مِن شَكّ لدى أحدكم؟ قولوا إجاباتكم بصوت مُرتَفِع. وليتكلّم واحد فقط نيابة عن الجميع. إنّني أنتَظِر.» وينحني ليُلاطِف طفلة أتت إلى جانبه، وهي تَنظُر إليه مُنتَشِية، ناسية حتّى أن تَقضم التفّاحة التي أعطتها إيّاها أُمّها لتبقى ساكِنة هادئة.
يَنتَصِب عجوز مَهيب ويقول: «اسمع يا معلّم. أنا رئيس مَجْمع عجوز، وقد طَلَبوا منّي التحدّث باسم الجميع. وأنا أتكلّم. تبدو لي، بل تبدو لنا الإجابة حسب العدل والبرّ، وحسب ما تَلَقّينا مِن عِلم. أَستَنِد في يقيني على الفصل مِن الشريعة المتعلّق بالقتل والإصابات. إنّما أنتَ تَعلَم لماذا أتينا: لتُعَلِّمنا، ذلك أنّنا نقرّ أنّ لديكَ الحكمة والحقيقة. فلو كنتُ مُخطِئاً، أَنِر ظُلُماتي، لكي يمضي العجوز إلى مَلِكه لابساً النور، وأرجو أن تُسدي كذلك هذه الخدمة إلى هؤلاء الذين هُم مِن رعيّتي، والذين أتوا مع راعيهم ليَستَقوا مِن نبع الحياة.» وقبل أن يَجلس ينحني بكلّ احترام.
«مَن أنتَ أيّها الأب؟»
«خادمكَ كِلْيوباس مِن عِمّاوس.»
«أنتَ لستَ خادِمي، بل خادِم الذي أَرسَلَني، إذ ينبغي أن نعطي للآب كلّ حقّ في الصَّدارة، وكلّ حبّ في السماء وعلى الأرض وفي القلوب. وأوّل مَن يُقَدِّم له هذا الإكرام، كَلِمَته الذي يأخذ ويقدّم قلوب الصالحين على مائدة بلا عيب، كما يفعل الكاهِن بخبز التَّقدِمة. ولكن اسمع يا كِلْيوباس، لكي تمضي إلى الله مُستَنيراً تماماً حسب رغبتكَ المقدَّسة.
لكي يتمّ قياس الذَّنب، لا بدّ مِن التفكير بالظروف التي تَسبق وتُهيّئ وتُبرّر وتُفسّر الخطيئة ذاتها.
"مَن ضَرَبتُ؟ ماذا ضَرَبتُ؟ أين ضَرَبتُ؟ بأيّة وسيلة ضَرَبتُ؟ لماذا ضَرَبتُ؟ كيف ضَرَبتُ؟ ومتى ضَرَبتُ؟" هذا ما ينبغي أن يَسأَله الذي قَتَلَ لنفسه، قبل التقدّم إلى الله بطلب الغفران منه.
”ضَرَبتُ مَن؟“
إنساناً. أقول إنساناً. ولكنّني لا أُفكّر ولا أُقيم وَزناً لكونه غنيّاً أو فقيراً، حُرّاً أو عبداً. فبالنسبة إليَّ لا يوجد عبيد أو أصحاب نفوذ. الأمر يتعلّق بأُناس خَلَقَهم كائن وَحيد، بالنتيجة جميعهم مُتساوون. بالفعل، أمام جَلال الله، فإنّ حتّى أكثر الناس سُلطاناً ونُفوذاً على الأرض لا يتعدّى كَونهم أكثر مِن غُبار. وفي عينيه وعينيّ لا يُوجَد سوى استعباد واحد: استعباد الخطيئة، وهو إذن تحت سيطرة الشيطان... والشريعة القديمة تُميّز الأحرار عن العبيد، وتَنصَرِف إلى اعتبارات غامضة بحسب ما إذا كان الموت مباشراً، أو إذا ما استمرّت الحياة يوماً أو يومين، وكذلك إذا ما ماتت المرأة الحامل حالاً أو كانت الإصابة لثمرة أحشائها فقط. ولكن هذا كلّه قيل حينما كان نور الكمال ما يزال بعيداً جدّاً. أمّا الآن فهو بينكم ويقول لكم: "كلّ مَن يَضرب شبيهاً له بشكل يُفضي إلى الموت يُخطئ". وهو لا يرتكب الخطيئة تجاه الإنسان فقط، بل ضدّ الله أيضاً.
ما هو الإنسان؟ إنّه المخلوق الإلهيّ الذي خَلَقَه الله ليكون مَلِك الخليقة، بل وسُلطانها. خَلَقَه على صورته كمثاله، مانحاً إيّاه الشَّبَه بالروح، وطابعاً صورته مِن الصورة الكاملة لفِكره الكامل. انظروا في الهواء وعلى الأرض وفي الماء. هل تَرَون فيها حيواناً أو نباتاً، مهما كان جميلاً، يُعادِل الإنسان؟ الحيوان يركض ويأكل ويشرب وينام ويَتَوالَد ويَعمَل ويغنّي ويطير ويزحف ويتسلّق، ولكنّه لا يتكلّم. والإنسان كذلك يعرف أن يركض ويقفز، وفي القفز هو مَرِن لدرجة أن يُنافِس العصفور. يعرف السباحة، وهو سريع فيها حتّى لَتَحسَبه سمكة. يعرف الزَّحف حتّى لَيَبدو مِن الزواحف. ويعرف التسلّق حتّى لَيَبدو قرداً. هو يعرف أن يغنّي حتّى لَيَبدو عصفوراً، وكذلك يعرف أن يَتَوالَد ويتكاثر. وفوق هذا كلّه يعرف أن يتكلّم.
لا تقولوا: "لكلّ حيوان لغته". نعم. منهم الذي يَخور، وآخر يَثغو، وآخر يَنهَق وآخر يُزقزق، والأخير يُحدِث رَجرَجة في صوته. ولكن، مِن أوّل ثور وُجِدَ وحتّى آخر ثور سوف يُوجَد، يبقى الخِوار ذاته لا يتبدّل، وكذلك الخروف يثغو الثغاء ذاته حتّى نهاية العالم، والحمار يَنهَق الأخير منه كما نَهَقَ الأوّل. وزقزقة العصفور الدُّوري ذاتها على الدوام، أمّا القُبّرة والعندليب فيُغرّدان لطلعة الشمس التغريد ذاته الذي للّيل الـمُرَصّع بالنجوم، وحتّى آخر يوم مِن أيّام عُمر الأرض سوف يعيشان كما في أوّل يوم وأوّل ليلة. بينما الإنسان على العكس، ذلك لأنّ ليس له صوت ولسان فقط، بل إنّما مجموعة مُعَقّدة مِن الأعصاب مركزها المخّ، عَرش الذكاء، لذا فهو يَعرف إدراك الأحاسيس الجديدة وجَعلها موضوع تفكيره وتأمّلاته، بل ويعطيها اسماً.
آدم أَطلَقَ على صديقه اسم كلب، وعلى ذاك الذي بدا أكثر شَبَهاً به بلبدته الكثيفة المنفوشة على وجهه الذي يكاد يكون مُلتَحياً، اسم لَيث. وأَطلَقَ اسم رخلة (أنثى الحمل) على النّعجة التي كانت تحيّيه بلطف، واسم عصفور على تلك الزهرة ذات الريش التي كانت تطير كالفراشة، ولكنّها تَبثّ غناء عَذباً غير موجود لدى الفراشة. وثمّ، وعَبرَ العصور، ها هي ذي ذريّة آدم تَبتَدِع دائماً أسماء جديدة طالما هي "تتعرّف" على أعمال الله في الخَلائِق، أو كلّما، بواسطة العقل الذي لدى الإنسان، لا يُنجِبون أطفالاً فقط، بل يَبتَدِعون أشياء نافعة أو ضارّة بأطفالهم أنفسهم، حسبما يَكونون مع الله أو ضدّه. فأولئك الذين يَبتَدِعون ويُنتِجون أشياء صالحة، هُم مع الله، أمّا الذين يَبتَدِعون أشياء سيّئة تَضُرّ بالقريب، فهُم ضدّ الله.والله ينتقم لأبنائه الذين يُعذّبهم روح الإنسان الشرّير.
فالإنسان إذن هو الخَليقة الـمُفَضّلة لدى الله. حتّى ولو كان الآن مُذنِباً خاطئاً، فهو على الدوام الخَليقة الأغلى لديه. وما يَشهَد على ذلك هو أنّه أَرسَلَ كَلِمَته ذاتها، ابنه نفسه، وليس ملاكاً ولا رئيس ملائكة، ليس شيروبيماً ولا سيرافيماً، بل كَلِمَته، مُلبِساً إيّاه جَسَداً بشريّاً ليُخَلِّص البشر. ولم يَعتَبِر هذا الثوب، الجسد، مُعيباً، ليَجعل أهلاً للعذاب التكفيري ذاك الذي، لِكَونه مثله روحاً طاهرة للغاية، لا يمكنه، والحال هذه، التألّم والتكفير عن خطيئة الإنسان.
لقد قال لي الآب: "ستكون بشراً: لقد جَعَلتُ مِن الإنسان كائناً مُكتَمِلاً مثل كلّ الذي صَنَعتُهُ. وكنتُ قد جَعَلتُ قُدرة حياة هادئة، ونَوماً هَانِئاً، ويَقَظة سعيدة وإقامة أبديّة مغبوطة في فردوسي السماويّ. ولكن، تَعلَم ذلك، لا يمكن لِمَن كان مُدَنَّساً الولوج إلى هذه الجنّة، ففي هذا المكان عَرشنا، أنا-نحن، الله الواحد-الثالوث. وفي حَضرة الآب لا يمكن أن تُوجَد غير القداسة. أنا هو الكائن. طبيعتي الإلهيّة، جوهرنا السرّيّ لا يمكن أن يُدرِكه إلّا الذين هُم بلا عيب. الإنسان الآن، بآدم وبواسطة آدم قد دُنِّس. اذهَب أنتَ وطَهِّره. تلك هي إرادتي. مع ذلك ستكون الإنسان. المولود الأوّل. فإنّكَ ستكون أوّل الداخِلين هنا بجسدكَ المائت الخالي مِن الخطيئة، مع النَّفْس البريئة مِن الخطيئة الأصليّة. أمّا الذين جاؤوا قبلكَ، والذين سيأتون بعدكَ على الأرض، فستكون لهم الحياة بموتكَ كفادي". ولا يمكن أن يموت إلّا مَن وُلِدَ قَبلاً. وأنا إنّما وُلِدتُ وسأموت.
فالإنسان هو المخلوق الـمُفَضّل لدى الله. والآن قولوا لي: إذا كان لأب أبناء كثيرون، ولكنّ واحداً منهم هو الـمُفضّل لديه، حَدَقَة عينه، وإذا ما قُتِل، أفلا يتألّم هذا الأب أكثر مما لو كان الأمر يتعلّق بابن آخر مِن أبنائه؟ كان المفروض ألّا يكون هذا، لأنّه ينبغي للأب أن يكون عادلاً مع جميع أبنائه. ولكن ذلك إنّما يَحدُث لأنّ الإنسان غير كامل. أمّا الله فيمكنه فِعلها بعدل واستقامة. إذ إنّ الإنسان هو الخليقة الوحيدة بين المخلوقات جميعها التي تملك، بالمشاركة مع الله، النَّفْس الروحيّة، السِّمة التي لا تَقبَل الجَّدَل للأُبوّة الإلهيّة.
عندما يُقتَل للأب ابن، أفلا يُساء إلّا إلى الابن؟ لا، بل إلى الأب أيضاً. إلى الابن بجسده وإلى الأب بقلبه. ولكنّ الجرح يصيب الاثنين. وبقتل إنسان، ألا يُساء إلّا إلى هذا الإنسان؟ لا، بل إلى الله أيضاً. إلى الإنسان بجسده وإلى الله بحقّه. ذلك أنّ الحياة والموت، به ومِن خلاله وحده يجب أن تُعطَيا أو تُنـزَعا. فالقتل هو مُماَرسة العنف ضدّ الله والإنسان. والقتل هو اعتداء يَجري ضمن حَقل مُلْك الله. القتل هو مخالفة وصيّة الحبّ. فالذي يَقتل لا يحبّ الله، إذ هو يُبيد صَنيعته: الإنسان. والقاتل لا يحبّ القريب، فهو ينتزع منه ما يريده لنفسه: الحياة.
وبهذا أكون قد أَجَبتُ على السؤالين الأوّلين.
”أين قَتَلتُ؟“
يمكننا القتل على الطريق، في بيت الضحيّة أو باستدراجها إلى بيتنا. يمكن ضرب عضو أو آخر مُسَبِّبين ألماً أعظم وأخطر، بل حتّى مُرتَكِبين قتلاً مضاعفاً بضربة واحدة، إذا ما وُجِّهَت الضربة إلى امرأة تحمل ثمرة في أحشائها.
يمكن الضرب في الشارع دون وجود لِنيّة مُسبَقة. إذا ما أُفلِتَ منّا حيوان وقَتَلَ أحد المارّة. فعندئذ لا وجود لِسَبق إصرار. إنّما لو تَسَلّح شخص بخنجر يخفيه بمكر تحت ثوبه الكتّاني، ومضى إلى بيت عدوّ له ـ وغالباً ما تكون خطيئة هذا العدوّ كونه أفضل منه ـ أو لو دَعاه إلى بيته بكلّ مَظاهِر الإجلال، ثمّ ذَبَحَه ورماه في الجُّبّ، إذن لَوُجِد سَبق الإصرار، وكانت الجريمة مكتَمِلة بالمكر والوحشيّة والعنف.
وإذا قُتِلَت الأُمّ مع ثمرة أحشائها، فالله يَسأَل الحساب عن الاثنين. لأنّ البطن الذي يحمل إنساناً جديداً، حسب وصيّة الله، مُقَدَّس، ومُقَدَّسة هي الحياة الصغيرة التي أينَعَت فيه، وقد مَنَحَها الله روحاً.
”بأيّة وسيلة قَتَلتُ؟“
عَبَثَاً يؤكّد أحدهم: "لم أكن أنوي أن أَضرُب"، عندما يكون قد ذَهَبَ حاملاً سلاحاً حقيقيّاً. فالأيدي ذاتها تصبح أثناء الغضب سلاحاً، حتّى الحَجَر الـمُلتَقَط مِن الطريق، أو الغصن الـمُنتَزَع مِن الشجرة هو كذلك. أمّا الذي يَستَعمِل الخنجر أو الفأس ببرود، وإذا بدا له شَحذهما غير كاف، يَشحَذهما ويتسلّح بهما بشكل يجعل أحداً لا يُلاحِظهما، بينما هو يستطيع امتشاقهما بسهولة ويُسر، فلو بَلَغَ مُنافِسه وهو على هذا الشكل، لا يمكنه حينذاك القول: "لم أكن أنوي الضرب". ومَن يُحَضِّر سُمّاً بقطف أعشاب وثمار سامة ليَصنَع منها مَسحوقاً أو شراباً، ثمّ يُقدّمه لضحيّته، كما لو أنّه توابل أو شراب مُخَمَّر، فلا يستطيع، بالتأكيد القول: "لم أكن أريد القتل".
والآن، اسمعن أنتنّ أيّتها النساء قاتِلات حَيوات كثيرة، الصامتات والمختبئات والهاربات مِن العقاب. فقتل هو كذلك انتزاع ثمرة تنمو في أحشائكنّ، لكونها مِن مَنشَأ أثيم، أو لأنّها غير مرغوب بها، لكونها لا تعدو كونها حَمْلاً لا طائل منه في كشوحكنّ (فقركنّ)، أو غير مرغوب بها لثروتكنّ. وليس هناك سوى طريقة واحدة لكي لا يكون هذا العبء: البقاء عَذارى. فلا تجمعن القتل مع الفجور ومع العنف ومع التمرّد. ولا يظنّنّ أحد أنّ الله لا يرى ما لا يراه الإنسان. فالله يرى كلّ شيء ويتذكّر كلّ شيء. تذكّروا أنتم أيضاً ذلك.
”لماذا ضَرَبتُ؟“
آه! توجد أسباب كثيرة! فاختلال تَوازُن غير مُتَوقَّع يَخلق فيكم انفعالاً عنيفاً، هو ما تُحدِثه رؤية السرير الزوجيّ وقد دُنِّس، أو مفاجأة تَواجُد لصّ في البيت، أو شخص مثير للاشمئزاز يَغتَصِب ابنتكم الصغيرة، أو الحساب الـمُبَيَّت، والذي تَقَرَّر بعد رَويّة وتمحيص، للتخلّص مِن شاهِد خطير، ممّن يمنعكم مِن الوصول إلى غايتكم، أو الطّامع في مركزكم أو ثروتكم: هنا توجد أسباب كثيرة، وإذا غَفَرَ الله أيضاً لِمَن، في حُمّى الألم، أَصبَحَ مجرماً، فلن يَغفر للذي أصبَحَ كذلك برغبة وتَوق، أو لأنّه يبحث عن تقدير الناس.
تَصَرّفوا باستقامة على الدوام، ولن تخشوا نظرة أو كلام أيّ كان. اقنَعوا بما لديكم، ولا تَطمَعوا بما يملكه الآخر، إلى درجة أن تُصبِحوا مُجرِمين قَتَلَة، لامتلاك ما هو للقريب.
”كيف ضَرَبتُ؟“
أبالإصرار قبل وبعد الضربة الأولى نتيجة الانفعال؟ يَحدُث أحياناً ألّا يعود لدى الإنسان كَوابِح. فيُوقِعه الشيطان في الجريمة، كما يَرمي رامي الـمِقلاع الحَجَر. ولكن ما قولكم في حَجَر، بعد أن يَبلغ هدفه، يعود إلى الـمِقلاع ليُرمى مِن جديد ويُعاوِد الضرب؟ تقولون "تستولي عليه قوّة سحريّة جهنميّة". هكذا هو الرجل الذي، بعد الضربة الأولى، يُعيد الكَرَّة ثانية وثالثة وعاشرة، دون أن تستكين وحشيّته. حين يقع الغضب، تتمّ العودة إلى التَّعَقُّل بعد الضربة الأولى، عندما تكون هذه ناتجة عن مُسَبِّب معقول يمكن إدراكه. ولكنّ الوحشيّة تتعاظم باستمرار، طالما الفريسة تتلقّى ضربات أكثر، ذلك لدى المجرم القاتل الحقيقيّ. إنّه شيطان ليس لديه، بل لا يمكن أن تكون لديه رحمة ورأفة بأخيه، لأنّه شيطان، أي الحقد.
”متى ضَرَبتُ؟“
مِن الضربة الأولى؟ بعد أن تكون الضحيّة قد سَقَطَت أرضاً؟ بالتَّظاهُر بالمسامحة بينما يستمرّ الحقد أقوى؟ قد أكون انتَظَرتُ سنوات لأضرب وأُسبّب ألماً مضاعفاً بقتل الأب بشخص أبنائه؟
تَرَونَ أنّه بالقتل تُنتَهَك المجموعة الأولى والمجموعة الثانية مِن الوصايا، لأنّكم تستأثرون بحقّ الله، وتدوسون القريب بأرجلكم. إذن فهي خطيئة ضدّ الله وضدّ القريب. إنّكم لا ترتكبون فقط خطيئة القتل، ولكنّكم ترتكبون كذلك خطيئة الغضب، خطيئة العنف والكبرياء والتمرّد وانتهاك الحُرمات، وأيضاً خطيئة الطَّمَع، إذا قَتَلتم لتستولوا على مكان أو على مال. ولكنّني بالكاد أُلَـمِّح، وسوف أتوسّع بالشرح في يوم آخر، فالقتل لا يُقتَرَف فقط بالسلاح والسمّ، إنّما كذلك بالافتراء. تَأَمّلوا.
وأُضيفُ أيضاً: المعلّم الذي يَضرب عَبداً، متحاشياً بخبث ألّا يموت بين يديه، فهو مُذنِب بشكل مُضاعَف. فالعبد ليس فضّة مِن ممتلكات المعلّم: إنّه روح يخصّ الله. فَمَلعون للأبد ذاك الذي يَفرض عليه معاملة لا يُمارِسها حتّى مع ثوره.»
عينا يسوع تَقدَحان شَرَرَاً، وهو يَرعد. ينظر إليه الجميع مندهشين، ذلك أنّه كان يتكلّم قبلاً بكلّ هدوء.
«ليكن ملعوناً، إنّ الشريعة الجديدة قد أَبطَلَت هذه القَسوة. كان ما يزال هناك عدل، عندما لم يكن في شعب إسرائيل أولئك المنافقون الذين يتظاهرون بالقداسة ويَتَفنَّنون في تحريف شريعة الله واستغلالها لمصلحتهم. إنّما في الوقت الحاضر، حيث اجتاحت إسرائيل كلّها تلك الثعابين التي تسمح لنفسها بأن تفعل كلّ ما يُترَك لها فِعله، لأنّهم ذوو السُّلطان البائسون الذين يَنظُر الله إليهم بـِمَقت واشمئزاز، وأنا أقول: لن يكون هذا.
يَسقُط العبيد على الأثلام أو أثناء دَوَران الطاحون. يَسقُطون وعظامهم مُحَطّمة، وأعصابهم مُجَرّدة بِفِعل ضربات السّياط. ولتغطية شرعيّة الضرب يَتّهمونهم بجرائم كاذِبة، ليُبرّروا ساديّتهم الشيطانيّة. يَجعَلون استخدام حتّى عجائب الله لاتّهامهم ونَيل الحقّ في ضربهم. فلا سلطان الله ولا قداسة العبد تَهدي نفسهم الشرسة، وهي لا يمكنها الاهتداء، إذ لا يَلِج الخير في ما هو مُشبَع بالشرّ. ولكنّ الله يرى ويقول: "هذا يكفي".
كثيرون جدّاً هُم أشباه قايين الذين يَقتلون أشباه هابيل. وماذا تظنّون؟ إنّهم قبور مُجَصَّصة، ظاهرها أبيض مغطّى بعبارات مِن الشريعة، أمّا باطنها فيَجلس الشيطان على عرش مُلكه، حيث تعجّ وتتكاثر عبادة الشيطان الأكثر مَكراً. ماذا تظنّون؟ أنّه لم يكن مِن هابيل سوى ابن آدم، وأنّ الربّ لا يَنظُر باهتمام إلّا إلى الذين هُم ليسوا عبيداً للإنسان، بينما هو يَرمي بعيداً عنه التقدمة الوحيدة التي يمكن للعبد أن يُقَدّمها: نزاهته الـمُطيَّبة بدموعه؟ لا. الحقّ أقول لكم إنّ كلّ بارّ هو هابيل، حتّى ولو كان مُكَبّلاً بالسَّلاسل، حتّى ولو مات فوق الأثلام، أو سالت دماؤه بفعل الجَّلْد، وقايين هو كلّ ظالم يُقَدّم الأعطيات لله بكبرياء، وليس ليُقدّم له حَصاداً حقيقيّاً، بل ليُقدّم أُعطِياته مُلَوَّثة بخطاياه ومُلَطَّخة بالدم.
يا مُنتَهِكي حُرمة المعجزة. يا منتهكي حُرمة الإنسان، يا قَتَلَة، يا مُنتَهِكي حُرمة المقدَّسات! خارجاً! ابتعدوا عن مكان تَواجُدي! يكفي! أقول: يكفي. وأستطيع قولها لأنّني الكلمة الإلهيّة، التعبير عن الفِكر الإلهيّ. اذهبوا!»
يسوع واقِف على الـمِنبَر الفقير، وعَظَمَته تُثير الهَلَع. ذراعه ممدودة، وتشير إلى باب الخروج، عيناه، نيران الأُفُق، تَبدُوان ساحِقَتيَن الخَطَأَة الحاضِرين. والطفلة، التي كانت عند قدميه، تبدأ بالبكاء، وتَهرب إلى أُمّها. والتلاميذ يَنظُرون إلى بعضهم مُندَهِشين، مُحاوِلين رؤية الذي يتوجّه إليه بالتَّقريع. كذلك الجُّموع تَتَلفَّت بنظرات مُتَسائِلة.
هوذا السرّ يُعلَن أخيراً. ففي آخر القاعة، خارج الباب، يَظهَر دوراس، شِبه مختبئ خلف مجموعة مِن الناس طِوال القامة، وقد جَفَّ الدم في عُروقه، وبدا أصفر مُتجعّداً حتّى الأنف والذَّقن. يَصحَبه خادِم يُساعِده في تنقّله، إذ إنّه يبدو شِبه مصاب بحادث. و كان قد لَمَحَه في وسط الدار. إنّه يتجرّأ على الكلام بصوته الأَجَشّ: «أإليَّ أنا تُوَجّه كلامكَ؟ لي أنا ما تقول؟»
«لكَ أنتَ نعم. اخرج مِن بيتي.»
«إنّني خارِج، ولكنّنا سنسوّي حساباتنا قريباً، دون شكّ.»
«قريباً؟ بل حالاً. قُلتُ لكَ إنّ إله سيناء ينتظركَ.»
«أنتَ أيضاً أيّها الـمُسيء الذي أَنزَلَ البؤس بي والحيوانات الضارّة في الأرض. سوف نتلاقى. وسيكون يوم فرحي.»
«نعم. ولن تَوَدَّ رؤيتي، لأنّني أنا سوف أُدينُكَ.»
«آه! آه! اللعـ...» يتلعثم، يُهَمهِم ويَسقط.
«لقد مات!» يَصرُخ الخادِم «المعلّم مات! فلتكن مباركاً أيّها المَسيّا الـمُنتَقِم لنا!»
«لا. لستُ أنا، بل الله، الربّ الأزليّ. فلا يتنجّسنّ أحد. بل فليهتمّ الخادم وحده بمعلّمه. ولترأف بجسده. كونوا صالحين جميعكم يا خدّامه. لا تُسَرّوا بموته نتيجة حقد فيكم، لكي لا تَستَأهِلوا الدينونة. فليكن الله ويونا البارّ بمثابة الأصدقاء لكم على الدوام، وأنا معهم. الوداع.»
«ولكن هل ماتَ بإرادتكَ؟» يَسأَل بطرس.
«لا. ولكنّ الله فيَّ... إنّه سرّ لا يمكنكَ إدراكه. اعلَم فقط أنّ التَّهَجُّم على الله أمر مُحَظَّر. وهو ينتقم بنفسه.»
«ولكن ألا يمكنكَ إذن القَول للآب بأن يُميت كلّ الذين يُبغِضونكَ؟»
«اصمت! لا تَعلَم مِن أيّ روح أنتَ! أنا الرحمة ولستُ الانتقام.»
يَدنو رئيس المَجْمع العجوز: «يا معلّم، لقد أَجَبتَ على كلّ أسئلتي، وقد أَشرَقَ النور في داخلي. فلتكن مباركاً. تعال إلى مَجْمعي، ولا تَحجب كلامكَ عن عجوز مسكين.»
«سوف آتي. اذهب بسلام. الربّ معكَ.»
ينتهي كلّ شيء بينما يمضي الجميع ببطء شديد.