ج2 - ف92

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الثاني / القسم الثاني

 

92- (يسوع في منطقة المياه الحلوة: "قَدِّس يوم الربّ")

 

06 / 03 / 1945

 

الطقس اليوم أقلّ سوءاً، رغم أنّ الأمطار ما تزال تهطل قليلاً، وبإمكان الناس المجيء للقاء المعلّم.

 

يسوع، على حِدَة، يستمع إلى شخصين أو ثلاثة، لديهم أمور هامّة يُسِرّون بها إليه، يأخذون بعدها أماكنهم بأكثر هدوءاً وطمأنينة. يُبارِك كذلك طفلاً صغيراً يتألّم ويعاني مِن كَسر في أعلى الفخذ، ولم يَقبَل أيّ مِن الأطباء معالجته بقولهم: «لن يُجدي ذلك نَفعاً. فالكسر ممتد إلى الأعلى ليصل إلى العمود الفقري.» هذا ما تقوله الأُمّ الباكية وتَشرَح الأمر: «كان يركض مع أخته في شارع البلدة عندما وَصَلَ هيروديّ بعربته التي صَدَمَته، حتّى إنّني خلتُه قد مات. ولكن ما هو عليه الآن لهو أسوأ. كما ترى. أُمَدِّده على هذا اللوح الخشبيّ، إذ... ما من شيء آخر يمكننا فِعله. وهو يتألّم ويتألّم، حيث إنّ الكَسر كان مفتوحاً، وعندما اندَمَلَ، ظلّ يتألّم، ذلك أنّه لم يعد بإمكانه سوى البقاء مستلقياً على ظهره.»

 

«هل تتألّم كثيراً؟» يَسأَل يسوع الطفل الباكي بحنان.

 

«نعم.»

 

«أين؟»

 

«هنا... وهنا» ويَلمس بيده المتردّدة عَظمَتا الوَرك. «وثمّ هنا وهنا» ويلمس كليتيه وكتفيه. «اللوح قاسٍ، وأنا أريد أن أتحرّك...» ويبكي يائساً.

 

«هل تريد أن تأتي بين ذراعيّ أنا؟ هل تأتي؟ سوف أصحَبكَ إلى الأعلى فترى كلّ الناس بينما أنا أتحدّث.»

 

«آه! نعم...» (و"نَعَمهُ" مُفعَمَة رغبة). ويمدّ الطفل ذراعيه متوسّلاً.

 

«تعال إذن.»

 

«ولكنّه لا يستطيع، يا معلّم. هذا مستحيل! إنّه يعاني كثيراً ويتألّم... حتّى إنّني لا أستطيع تحريكه لأغسل له جسمه.»

 

«لن أدعه يتألّم.»

 

«الطبيب...»

 

«الطبيب هو الطبيب، بينما أنا هو أنا. لماذا أتيتِ؟»

 

«لأنّكَ مَسيّا» تُجيب المرأة التي يتبدّل لونها إلى الاصفرار والاحمرار، مأخوذة بين الأمل واليأس.

 

«وإذن؟ هيّا يا صغيري.» ويُمرّر يسوع ذراعاً تحت ساقيه اللتين لا حراك بهما، والذراع الأخرى تحت كتفيه الصغيرين. يَحمل الطفل ويَسأَله: «هل أؤلمكَ؟ لا؟ إذاً قُل وداعاً لأُمّكَ ولنمضِ.»

 

ويسير مع حِمْله عبر الجموع الذين يَفسَحون له المجال. يذهب إلى أقصى الغرفة، إلى ذاك الـمَنبَر الذي صُنِعَ له لكي يراه الجميع، حتّى الذين في الدار. يتّخذ لنفسه مَقعَداً ويجلس. يضع الطفل على ركبتيه ويَسأَله: «هل يعجبكَ هذا؟ الآن كُن هادئاً ومطمئنّاً، واستَمِع أنتَ أيضاً.» ويبدأ الحديث. يُشير بيد واحدة فقط، حيث بالأخرى يَسند الطفل الذي يَنظُر إلى الناس، سعيداً لأنّه يرى شيئاً ويبتسم لأُمّه التي هي هناك في الآخِر، والقلب يَخفق بالأمل. يلعب بفتيل ثوب يسوع، وكذلك بلحية المعلّم الحريريّة الشقراء، وحتّى بخصلة مِن شعره الطويل.

 

«قيل: "اعمل عملاً شريفاً، أمّا اليوم السابع فكرّسه للربّ ولروحكَ". هذا ما تقوله وصيّة استراحة السبت.

 

فالإنسان ليس أعظم مِن الله، والله خَلَقَ الكون في ستّة أيام، وفي اليوم السابع استراح. فكيف إذن يسمح الإنسان لنفسه عدم الاقتداء بالله وعدم الخضوع لوصيّته؟ هل النظام هذا غير نَبيه؟ لا. بل بالحقيقة هي وصيّة مفيدة إنْ للنظام الجسديّ أو الوجدانيّ أو النظام الروحيّ.

 

إنّ جسم الإنسان، عندما يكون تَعِباً، يحتاج إلى الراحة، مثله مثل كلّ الكائنات. كذلك الثور الذي يحرث الحقول يستريح، ونحن ندعه يستريح لكي لا نفقده، وكذلك الحمار الذي يحملنا، والنعجة التي تَلِد الحَمَل وتعطينا الحليب. وأرض الحقل ترتاح، ونحن ندعها تفعل ذلك، خلال الأشهر التي لا تُبذَر فيها البِذار، فتتغذى وتَشبَع مِن الأملاح التي تسقط لها مِن السماء أو تَصعَد مِن الأرض. وكذلك الحيوانات والنباتات التي تخضع للقوانين الأزليّة في التَّوالُد الحكيم تستريح جيّداً، حتّى دون أن تسألنا رأينا. فلماذا إذن لا يريد الإنسان الاقتداء بالخالق الذي استراح في اليوم السابع؟ والتَّمَثُّل بالمخلوقات الدنيا، نباتيّة كانت أم حيوانيّة، التي، دون أن يكون لها سوى أمر واحد في غريزتها، تعرف كيف تتكيّف معها وتَخضَع لها؟

 

الوصيّة تُفيد في النظام الوجدانيّ كما تُفيد في النظام الجسميّ. خلال أيّام ستّة، الإنسان مُنشَغِل بكلّ شيء وبالجميع. مأخوذ مثل الخيط في آلة صَنعة الحياكة، وهو يذهب إلى الأعلى وإلى الأسفل دون أن يستطيع القول: "الآن أهتمّ بنفسي، وبالذين هم الأعزّ والأغلى لديَّ. أنا الأب، ولي اليوم أبناء؛ أنا العروس، وأُكرّس نفسي اليوم لعروستي؛ أنا الأخ، وأَجِد سروري مع إخوتي؛ وأنا الابن وأعتني بأبويّ العجوزين".

 

إنّه نظام روحيّ. العمل مقدّس. الحبّ أَقدَس. والله هو الأكثر قداسة. وإذن تذكّر أن تعطي على الأقلّ يوماً مِن سبعة لأبينا القدّوس والصالح، الذي يمنحنا الحياة ويحفظها لنا. لماذا نُعامِله بأقلّ مِن أب، مِن أبناء، مِن إخوة، مِن زوجة ومِن أجسادنا؟ فليكن يوم الربّ للربّ. آه! ما ألطف التَّواجُد مساء بعد عمل النهار، في المنـزل الـمُفعَم بالعواطف! ما ألذّ اللقاء بعد سفر طويل! لماذا لا يكون اللقاء، بعد ستّة أيّام عمل، في بيت الآب؟ لماذا لا نكون مثل ابن يعود مِن سَفَر لستّة أيّام ويقول: "ها أنا ذا أعود لأقضي يوم الراحة معكَ"؟

 

ولكن اسمعوا الآن، قُلتُ: "اعمل عَملاً شريفاً".

 

تَعلَمون أنّ شريعتنا تُوصي بحبّ القريب. والنـزاهة في العمل تُشكّل جزءاً مِن حبّ القريب. والنـزيه في عمله لا يَسرق في التجارة، ولا يَبخس العامل حقّه في راتبه أو أجره، لا يَبخسه بشكل مُجحِف. بل يتذكّر أن للعامل جسداً وروحاً يُشبِهان جسده وروحه هو. فلا يعاملهما مثل حجارة صمّاء لا حياة فيها ويمكن تحطيمها أو رَكلها بالأرجل أو ضربها بالحديد.

 

والذي لا يتصرّف هكذا، لا يحبّ قريبه، ويخطئ في عينيّ الله. وربحه ملعون، حتّى ولو دَفَعَ منه صَدَقَة للهيكل.

 

آه! يا للتقدمة الكاذبة! وكيف يمكن وضعها عند قاعدة المذبح عندما تسيل عليها دموع ودماء الأدنى المحروم والـمَبخوس حقّه، أو عندما تُسمّى "اختلاساً" أي خيانة للقريب، إذ إن السارق هو خائن لقريبه؟ كُونوا على يقين بأنّ تقديس يوم الربّ لم يكن سوى لاستخدامه في أن يَتفَحّص كلٌّ ذاته، ويجتَهِد في أن يصبح أفضل، وفي إصلاح الأخطاء التي ارتُكِبَت خلال الأيّام الستّة.

 

هو ذا تقديس يوم الربّ! وهو ليس فِعلاً ظاهريّاً بشكل كلّيّ، ولا يُغَيِّر حَرفاً مِن طريقة تفكيركم. فالله يريد أفعالاً حَيّة وليس أشباه أفعال.

 

مَظهَر خَدَّاع هو الخضوع الخاطئ لشريعته. مَظهَر خَدَّاع هو التقديس الكاذب للسبت، يعني الراحة التي يتمّ إشهارها للتَّظاهُر أمام عيون الناس بالإذعان للوصيّة، ولكن بتمضية ساعات الفراغ في الرذيلة والفُجور، وفي الشراهة والتفكير في كيفيّة بَخس القريب حقّه، وكيفيّة أذيّته خلال الأسبوع التالي. مَظهَر خَدَّاع هو تقديس السبت، أي الراحة الماديّة التي لا تترافق بالعمل الداخليّ، الروحيّ والمقدّس بتفحّص للذَّات صادق، باعتراف بالبؤس الذاتيّ بتَواضُع، بعزم جادّ على التصرّف بشكل أفضل خلال الأسبوع التالي.

 

وتقولون: "وإذا ما عاد المرء ووَقَعَ مرّة أخرى في الخطيئة"؟

 

ولكن ما هو قولكم في طفل، إذا ما وَقَعَ مرّة، يَرفض القيام بأيّة خطوة أخرى لكي لا يتعرّض للسقوط؟ إنّه أحمق. ولا ينبغي له الخَجَل مِن مَشية له غير واثقة، بما أنّنا مَرَرنا جميعنا بهذا، عندما كنّا صغاراً، ولم ينقص حبّ أبينا لنا لأجل ذلك. مَن ذا الذي لا يتذكّر كم أَدَّت سقطاتنا إلى انهمار وابِل مِن القُبلات الأموميّة والـمُلاطفات الأبويّة؟

 

وأبونا السماويّ الفائق اللُّطف يتصرّف بالطريقة ذاتها. إنّه ينحني فوق صغيره الساقط على الأرض يبكي، ويقول له: "لا تبكِ. أنا أُنهِضكَ. ستنتبه أكثر في المرّة القادمة. الآن هلمّ بين ذراعيّ. وهنا يتلاشى كلّ أَلَمكَ، وتَخرُج منه مُقدَّساً وبريئاً وسعيداً". هذا ما يقوله أبونا الذي في السماوات. وهذا ما أقوله أنا لكم. إذا تَوَصّلتم إلى الإيمان تنجحون في كلّ شيء. الإيمان، إنّما انتَبِهوا، مثل إيمان الطفل الصغير. فالطفل الصغير يُؤمِن بأنّ كلّ شيء مُستَطاع. لا يتساءل كيف يمكن أن يَحدُث. لا يَسبر غَور أيّ أمر. يؤمن بِـمَن يُوحِي له بالثقة، ويَفعل ما يقوله له. فَكُونوا كالأطفال أمام الربّ العليّ. كم يحبّ هؤلاء الملائكة الصغار التائهين على أرضنا، وهُم مَصدَر جمالها! وبالـمِثل، هو يحبّ النُّفوس البسيطة، الصالحة والطاهرة طَهارة طفل صغير.

 

هل تَوَدّون رؤية إيمان طفل صغير، لتتعلّموا كيف يكون الإيمان لديكم؟ انظروا جيّداً. لقد تعاطفتم جميعكم مع هذا الطفل الصغير الذي أَضُمُّه إلى صدري. وخِلافاً لما قاله الطبيب وقالته أُمّه، لم يَبكِ عندما أَجلَستُهُ في حضني. هل تَرَون؟ وهو الذي لم يكن يَفعَل، منذ مدة، سوى البكاء، ليل نهار، دون أن يَجِد الراحة، وهنا لم يبكِ، بل نام ساكناً على صدري. لقد سَألتُهُ: "هل تريد أن تأتي بين ذراعيّ"؟ وأجاب: "نعم". دون التفكير بوضعه البائس والألم الذي مِن الـمُحتَمَل أن يَشعُر به نتيجة انتقاله. رأى في وجهي الحبّ وقال: "نعم". وأتى. لم يَشعُر بالألم. لقد فَرِح لوجوده هنا في الأعلى، والنَّظَر، وهو الذي كان مُسَمّراً على ذاك اللوح الخشبيّ، لقد سُرَّ لوضعه على ليونة الجسد بدل صلابة الخشب. لقد ابتَسَمَ ولَعِب ونام، وهو يمسك بخصلة مِن شعري بين يديه الصغيرتين. سأوقظه الآن بقبلة...» ويَطبَع يسوع قُبلة على شعر الطفل البنّي، ويُوقِظه، وهو يبتسم له.

 

«ما اسمكَ؟»

 

«يوحنّا.»

 

«اسمع يا يوحنّا، هل تريد أن تمشي؟ وأن تذهب إلى أُمّكَ لتقول لها: "مَسيّا يبارككِ بسبب إيمانكِ"؟»

 

«نعم! نعم!» ثمّ يُصَفّق الطفل بيديه الصغيرتين، ويَسأَله: «هل ستجعلني أسير؟ في الحقول؟ ولا لهذا اللوح الخشبيّ الشرّير والقاسي؟ لا للأطبّاء الذين يؤلمونني؟»

 

«لا، لا أبداً.»

 

«آه! كم أحبّكَ!» ويُلقي بذراعيه على عُنق يسوع ويُقبّله، ولكي يكون في وضعيّة مرتاحة أكثر أثناء تقبيله، يقفز على ركبتيه على ركبتيّ يسوع، ووابل مِن القبلات البريئة تَنهَمِر على جبهة وعَينيّ وخَدّي يسوع.

 

في غَمرة فرحه، لم ينتبه الطفل إلى نفسه أنّه أَصبَحَ يستطيع الحركة، وهو الذي كان حتّى ذلك الحين مُحَطّماً. ولكنّ صرخة أُمّه وصرخات الجموع هَزّته وجَعَلَته يَتراجَع مُندَهِشاً. عيناه البريئتان في وجهه النحيل بدتا مُتسائِلَتَين. ما زال على ركبتيه، ذراعه الأيمن حول عُنق يسوع، يَهمس له ـ وهو يُشير إلى الجموع الصاخبة وأُمّه التي في الآخِر تناديه وهي تَجمَع بين اسمه واسم يسوع: «يوحنّا! يسوع! يوحنا! يسوع!» ـ «لماذا تَصرخ الجموع وأُمّي أيضاً؟ ماذا بهم؟ هل أنتَ يسوع؟»

 

«أنا هو. والجموع تَصرخ لفرحها بأنّكَ تستطيع المشي. الوداع، يوحنّا الصغير (يُقبّله يسوع ويُبارِكه) اذهب إلى أُمّكَ، وكُن لطيفاً.»

 

يَنـزل الطفل بهدوء وسَكينة مِن على ركبتيّ يسوع، ثمّ إلى الأرض. يَركض إلى أُمّه، يَقفز إلى عُنقها ويقول لها: «يسوع يُبارككِ. لماذا تبكين إذن؟»

 

عندما يعود الناس قليلاً إلى صمتهم، يقول يسوع بصوت كالرعد: «افعلوا مثل يوحنّا الصغير، أنتم الذين تَقَعون في الخطيئة، وتَجرَحون أنفسكم. آمِنوا بمحبّة الله. السلام معكم.»

 

وبينما كانت الجموع تهتف أوشعنا، والأُمّ السعيدة تبكي، يُغادِر يسوع الغرفة مُحاطَاً بأتباعه.

 

وتنتهي الرؤيا.