ج2 - ف101
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الثاني / القسم الثاني
101- (شِفاء ياروشا المصابة بالسرطان في دوكو)
19 / 03 / 1945
لقد كلَّمتُكم عن الزيارة الممتعة قليلاً والنبوءة التي تنبّأتُ بها أمس مساء. ولقد رأيتُم وجهي كيف كان مذعوراً، وقلتُم لي ذلك لدى دخولكم. لم أكن أدري كيف كان مَظهَري، ولكن بالتأكيد، أنا متأثّرة، وهذا لا يزول مع الزمن.
ليست هذه المرّة الأولى التي يُسبِّب لي الشيطان فيها المتاعب، إنّه يجربّني في هذا أو ذاك مِن الأمور. والآن وقد أَصبَحَ لا يُجرّب الجسد فهو يُجرّب الروح. منذ عام وهو يُسبّب لي المتاعب بين آونة وأخرى. وقد كانت المرّة الأولى عندما جَرَّبَني في الأيّام المريعة بالنسبة لي، في نيسان (أبريل) 1944، عندما وَعَدَني بالمساعدة لو أنا سَجَدتُ له. والمرّة الثانية عندما دَاهَمَني بتلك التجربة الخارقة والعنيفة والطويلة، في الرابع مِن تموز (يوليو) 1944، وهو يجرّبني في أن أُقلِّد لهجة المعلّم بتهكُّم لإغاظة الذين كانوا قد أساؤوا إليَّ. والمرّة الثالثة عندما اقتَرَحَ عليَّ أن أَنسُب الكلام الذي كان يُملى عليَّ لشخصي، وأَنشُره، مستفيدة بذلك مِن جَني الأرباح. أمّا المرّة الرابعة ففي شباط (فبراير) مِن تلك السنة (يبدو لي أنّنا كنا في شباط [فبراير] آنذاك) وقد ظَهَرَ لي (وكانت المرّة الأولى التي أراه فيها، ذلك أنّ في المرّات الأخرى كنتُ أُحِسُّ فقط بوجوده) مُروِّعاً إيّايَ بمظهره وكراهيّته. وأمّا المرّة الخامسة فقد كانت مساء أمس. حينها كانت التجلّيات العُظمى للشيطان. ولكنّني منذئذ، نَسَبتُ إليه هو كلّ الأمور الأخرى الأكثر ضآلة التي تأتيني مِن الآخرين الذين يريدون حَملي على الكبرياء، على النَّظر إلى نفسي بإعجاب، أو بالحريّ على التّظاهُر أو حتّى على الاقتناع بأنّني لستُ سوى مريضة، وأنّ كلّ هذا ليس سوى ثَمَرَة اضطرابات نفسيّة. حتّى العوائق المتأتّية مِن الأهل والسُّلطات ومِن سائِقي الشاحنات، فإنّني أعزوها جميعها إلى الشيطان. إنّه يعمل ما بوسعه وبكلّ جهده ليُسبّب لي المتاعب ويقودني إلى القلق، إلى الثورة وإلى الاقتناع بأن لا فائدة مِن الصلاة تُرجى، وأنّ كلّ ذلك أكاذيب.
ولكنّني أعترف لكم بأنّه جَعَلَني، مساء أمس، أَضطَرِب كثيراً. وتلك ليست المرّة الأولى التي يكوّن لديَّ الخوف مِن أن أكون مَخدوعة، وأن أُضطَرُّ يوماً ما إلى تقديم الحساب لله والناس. وتَعلَمون أنّ هَلَعي يَكمُن هنا... يسوع وأنتم تُشجّعونني دائماً، ويعود الخوف للظهور باستمرار. مع ذلك كانت مجرّد أفكار لي، يُثيرها الشيطان، ولكنّها تَصدُر عنّي. أمس مساء كان الأمر تهديداً جَليّاً ومباشراً. فقد قال لي: «هيّا، هيّا! إنني أنتظركِ في اللحظة المناسبة، في اللحظة الأخيرة، وحينئذ سوف أُقنِعكِ تماماً بأنّكِ كَذَبتِ على الدوام على الله وعلى الناس وعلى نفسكِ، وحيث إنّكِ كاذِبة، فَسَتَقعين في حالة رُعب حقيقيّة وفي يأس أن تكوني مُدانَة. وسوف تقولين ذلك بعبارات يعتقد معها الناس المحيطون بكِ أنّ، بإنكاركِ إيّاها نهائيّاً، ستنطَلِقين إلى الله مُحمَّلَة بخطيئة أقلّ ثِقلاً. وأنتِ والذين سيكونون معكِ سَتَظَلّون في هذا اليقين، وهكذا تموتين... ويبقى الآخرون مُضطَرِبين حتّى أعماقهم... أَنتَظركِ، نَعَم... وأنتِ كذلك انتَظِريني. فأنا لا أَعِد أبداً وأتنكَّر لوعدي. إنّكِ في هذه اللحظة تُسبّبين لي مِن السأم ما لا حدود له. إنّما حينئذ فسأكون أنا مَن أُسبِّبه لكِ. سوف أنتقم لكلّ ما تفعلينه بي... سأنتقم بالطريقة التي أُجيدُها وَحدي.» وعلى هذا مضى عني تاركاً إيّايَ في حالة سيّئة جدّاً…
بعدئذ، جاءت الأُمّ العَذبَة، العَذبَة والحنونة، بثوبها الأبيض، تبتسم لي وتُلاطِفني. ويبتسم لي يسوع ابتسامة هي الأكثر بَهجة وحُبوراً. ولكنّهما ما كادا يتركانني حتّى عُدتُ وسَقَطتُ في الضَّنى... وقد طال ذلك. عندما تُراوِدني تلك الفِكرة بتلك القوّة، أُحِسُّ بميل لأن أقول: «لن أكتب كلمة واحدة بالرغم مِن كلّ الضغوط.» إنّما فيما بعد، أُفكّر وأقول لنفسي: «هذا هو بالضبط ما يريده الشيطان.» وأُهمِل هذا الوسواس. إنه زمن الآلام، أليس كذلك؟ وهناك مَن، بِفِعل عبادة الأوثان المتأصّلة بعمق في قلب الإنسان، حتّى حينما يكون صالحاً، يَعبد الناطق بالكلمة، ناسياً أنّه ليس إلاّ مجردّ وسيلة، وأنّ العِبادة لله وحده. وهناك آخرون يحتقرونني. هؤلاء وأولئك ينتظرون منّي على السواء، وبأهداف مختلفة، أعمالاً خارقة، خاصّة في زمن الآلام هذا. وقد تنتظرون ذلك أنتم أنفسكم، وكأنّه أمر طبيعيّ في مثل حالتي. بالنسبة إليكم، هذا الانتظار له ما يُبرّره. أمّا بالنسبة إلى الآخرين فإنّه احتقار أو عبادة أوثان. أؤكّد لكم أنّني ما زلتُ أُفضِّل الاحتقار لماريا فالتورتا على عبادة الأوثان الشخصيّة. فهذه الأخيرة تُسبّب لي أسى لا يُوصَف. يبدو لي أنّهم يُعرُّونني في مكان عام، وأنّ هناك مَن يَغتَصِب منّي سرّي الثمين... ما أدراني؟ وأتألّم لذلك. أمّا الاحتقار فيُسبّب لي ألماً أقلّ، إذا كان مُوَجّهاً إلى ماريا فالتورتا، على ألّا يَبخَسوا ”الإملاءات“ حَقّها ولا يَعتَبِروها دُعابة أو جُنوناً…
إنّما فوق الرغبات المقدّسة والنـزيهة، كثيراً أو قليلاً لأناس كثيرين، هناك إرادة الله، أو بالحَريّ صلاحه الذي يُنصِت لماريا المسكينة، وصلاتها الدائمة وصلاتها الحاليّة، التي هي هذه: «هي ذي "ضحيّتكَ"، كلّ ما تَبغيه أنتَ، إنّما الإشارات ظاهريّة.» كذلك لم أَكُن راضية بظهور الله هذا فيَّ، في ما يخصّني... ولكنّه هو الذي أراد أن أكون فونوغرافه... الصبر! إنّما أيّ شيء آخر فلا، لا، ولا. كلّ الأمراض الممكن تشخيصها أو التي لا يمكن تشخيصها، لأنّ لا أَعراض مَعروفة لها. الآلام كلّها لأتحمّل منها أنا ممّا تَحَمَّله هو. نزاع كامل يجعلني أنحني تحت وَطأة ثِقل نِزاعه. على ألّا يَعرِف ذلك أحد سِواه وأنتم مُرشِديَّ وأنا، وهذا يكفي. حينئذ، إذا ما كُنتُ في زمن الآلام، أُخَيّب آمال الذين يعبدونني أو يحتقرونني، لأنّني لا أَختَبِر الآلام بشكل مادّيّ، أؤكّد لكم أنّني أعيش آلامي. الألم الجسديّ الـمُتنامي. فجسدي مُنهَك ومُنكَمِش بفعل ضربات وإعياء الجلجلة، رأسي في الطَّوق الذي يُنهِكه، شَدّ وتَشَنُّج عَضَليّ، هذا العذاب الذي يَقطَع فيَّ النَّفَس، يُسبّب لي احتقاناً ثمّ عَطَشاً وحرارة وانحطاطاً وتَشَنُّجات تعذيب. ولكنّ تلك ليست "آلامي"، بل هي دائماً بالنسبة إليَّ ما أُسمّيه "جَثْسَيْماني": الليل الذي ينجلي مع أشباحه ومَخاوفه... الخوف والهَلَع مِن المستقبل ومِن الله... ومُجاوَرة الكراهية، بينما الحبّ غائب. ذلك هو ما يَبعَث على العطش، ويُسبّب الحُمّى، ويُبكيني بدل الدمع دماً، فيُنهكني ويُفقدني الصبر. أؤكّد لكم أنّ الأمر أكثر حِدّة مِن الساعة التي عِشتُها العام الماضي، عندما تَرَكَني الله وحيدة. حتّى إنّني أستطيع القول: «إنّ ذلك لَأقوى، ذلك أنّني أتألّم بالرغم مِن حضور الله فيَّ.»
آمُل أن أكون قد أَحسَنتُ التعبير. إلّا أن بعض العذابات تُفَسَّر بشكل سيّئ جدّاً. حتّى إنّها تُفهَم بشكل أسوأ مما هي عليه في الحقيقة، وإن يَكُن مِن الأب الروحيّ أو مِن عابِدي الأوثان، أو كذلك الفضوليّين حتّى الذين تَهمُّهم الـ... الظاهرة أو يحتقرونها. ليت تلك المجموعات الثلاث الأخيرة تَختَبِر، ولو لساعة، ما نختبر نحن... وكذلك عابِدو الأوثان الذين قد يحسدوننا. ولكن لا! يُستَحسَن ألّا يَختَبِروا ذلك. لأنّ عابِدي الأوثان سيُحاولون الفِرار، مَن يدري إلى أين، خوفاً مِن مثل تلك الساعة؛ والفضوليّين والمجتهدين والساخرين، الذين يَحتَقِرون، فَيَصِل بهم الأمر، مِن خلال ذلك، لأن يَلعَنوا الله... إذن... فلنبسط أكتافنا للنِّير ولنشرب المرارة... وإلى الأمام.
ربّي، لا تكن مشيئتي بل مشيئتكَ. هي ذي خادمتكَ وضحيّتكَ. نَعَم، افعل بي ما تشاء. إنّما فقط، بسبب صلاحكَ، امنحني قوّة إمكانيّة التألُّم، ولا تتركني وحيدة. «ابقَ معنا، فلقد تأخَّر الوقت، وضوء النهار شارَفَ على الغروب...»
أرى يسوع في أوّل إشراقات صَبيحة شَتَوية مُتأخّرة، يَدخُل مدينة دوكو الصغيرة. يَسأَل أحد المارّة الـمُبكِّرين: «أين تقطن ماريان، الأُمّ العجوز التي تُشرِف كنّتها على الموت؟»
«ماريان أرملة لاوي؟ حَماة ياروشا امرأة يوشع؟»
«نعم، هي.»
«انظر يا رجل. في نهاية هذه الطريق توجد ساحة، في أحد أركانها نبع ماء، ومنها تتفرّع طرقات ثلاث. اسلك تلك التي في وسطها نخلة، وسِرْ حوالي مائة خطوة، تجد خندقاً تتبعه حتّى الجسر الخشبي، فتتجاوزه وتَجِد درباً مسقوفاً. اتبعه. ففي نهايته، حيث لا يعود هناك طرق مكشوفة ولا مسقوفة، فهو ينتهي بساحة، وبذلك تكون قد وَصَلتَ. وتَجِد بيت مريان وقد أضحى بلون الذهب لِقِدَمه. وتَراهُم، بسبب كثرة مصاريفهم، لا يتمكّنون مِن ترميمه. لا تُخطئ. وداعاً. هل أنتَ قادم مِن بعيد؟»
«ليس كثيراً.»
«ولكن هل أنتَ جليليّ؟»
«نعم.»
«وهؤلاء؟ هل تأتي مِن أجل العيد؟»
«إنّهم أصدقاء. وداعاً أيّها الرجل. السلام معكَ.» ويترك يسوع على الطريق الرجل الثَّرثار الذي لم يَعُد مستعجلاً. يَسلك الدرب ويتبعه الرُّسُل.
يَصِلون الساحة الصغيرة: رقعة أرض مُوحِلة، في وسطها سنديانة نَبَتَت هنا وحدها، وقد تمنح في الصيف ظلّاً ممتعاً. ولكنّها الآن حزينة بإيراقها الكثيف والعاتم فوق البيوت الفقيرة، حيث تَحجب النور عنها والشمس.
بيت ماريان هو الأكثر بؤساً. فهو واسع ومنخفض، ولكنّه مُهمَل للغاية! الباب مغطى بقطع مرصوفة على تشقّقات الخشب العتيق. نافذة صغيرة، دون سِتار، وتبدو ثَغرة فيها سوداء وكأنّها حَجاج (مِحجَر) انتُزِعَت منه العين.
يَقرَع يسوع الباب. فتَفتَح فتاة في حوالي العاشرة، شاحبة الوجه، نحيلة الجسم، مُحمرّة العينين. «هل أنتِ حفيدة ماريان؟ قولي لجدتكِ إنّ يسوع هنا.»
تَصرُخ الفتاة وتَفِرُّ وهي تُصيح. فتهرع العجوز، يتبعها ستة أطفال باستثناء الفتاة السابقة. ويبدو أنّ الأكبر توأم معها؛ أمّا الأخيران فَصَبيّان صغيران حافيا القدمين وهزيلان، يُمسِكان بطرف ثَوب الجدة، وهما بالكاد يعرفان المشي.
«آه! أَتيتَ! أيّها الأولاد كَرِّموا مَسيّا! لقد وَصَلتَ إلى بيتي الـمُتواضِع في الوقت المناسب. ابنتي تحتضر... لا تبكوا أيّها الصغار لئلا تسمعكم. يا لكم مِن مساكين! الصغيرات مُنهَكات مِن السَّهَر، ذلك أنّ عليَّ القيام بكلّ شيء، ولم أعد أستطيع السَّهَر، إنّني أقع أرضاً مِن نُعاسي. فمنذ أَشهُر لم أنم في سريري. الآن أنام على كرسي إلى جانبها هي والأطفال... ولكنهنّ صغيرات ويعانين. والصّبية يجلبون الحطب لإشعال النار، ويَبيعون منه أيضاً لتأمين القُوت. لم يعد بإمكانهم أولئك المساكين الصغار! ولكن الذي يقتلنا، ليس التعب، بل رؤيتها تموت... لا تبكوا، فيسوع عندنا.»
«نعم، لا تبكوا. ستُشفى أُمّكم، وسيعود أبوكم. ولن تُرهِقكم المصاريف بعد، ولا الجوع. أهذان هما الأصغر سِنّاً؟»
«نعم يا سيّدي، لقد وَضَعَت هذه المرأة الضعيفة تَوأَمين ثلاث مرات... وأَصبَحَ نهدها مريضاً.»
«البعض لديهم الكثير والآخرون مَحرومون.» يُتمتِم بطرس. ثمّ يَحمل واحداً ويعطيه تفّاحة ليُسكِته. ويَطلُب الآخر منه واحدة كذلك، فيُرضيه. ويجتاز يسوع الرَّدهة بصحبة العجوز، ثمّ الدار، ويَصعَد السلّم ليَدخُل غرفة تئنّ فيها امرأة، ما تزال شابّة، ولكنّها هيكل عظميّ.
«مَسيّا، ياروشا. لن تشعري بألم بعد الآن. أترين؟ لقد أتى جدّيّاً. فإسحاق لا يكذب أبداً. وهو قد قال ذلك. فآمني إذن. إذ بما أنّه أتى فهو قادر على أن يشفيكِ.»
«نعم أيّتها الأُمّ الصالحة. نعم يا سيّدي. ولكن إن لم تستطع شفائي، فاجعلني أموت على الأقلّ. فإنّ كِلاباً تنهش صدري. وفم أطفالي الذين مَنَحتُهم الحليب اللذيذ جَلَبَ لي النار والمرارة. إنّني أتألّم كثيراً، يا رب! ويُنفَق عليَّ الكثير! إنّ زوجي يعمل بعيداً ليؤمّن القُوت. والأُمّ العجوز يهدّها الإعياء. وأنا أحتضر... فإلى أين يذهب أولادي عندما يميتني المرض وتموت هي مِن الجهود الـمُضنية؟
«العصافير لهم الله، وكذلك صِغار الإنسان. ولكنكِ لن تموتي. أهنا مَوضِع الألم الكبير؟» ويُوشِك يسوع أن يضع يده على الصدر المغطى بالأَربِطة.
«لا تلمسني! لا تزد ألمي!» تَصيح المريضة.
ولكن يسوع يضع يده الطويلة بلطف على الصدر المصاب. «حقّاً لديكِ نار في الداخل، أيّتها المسكينة ياروشا. لقد أَشعَلَ الحبّ الأمومي النار في صدركِ. ولكنّكِ لا تحقدين على زوجك وأولادكِ، أليس كذلك؟»
«آه! لماذا عليَّ أن أفعل ذلك؟ فهو طيّب، وقد أَحَبَّني على الدوام. إنّنا مُتَحَابّان حبّاً عاقلاً، وقد أَثمَرَ الحبّ أطفالاً... وهُم!... أنا أعيش قَلَق تركهم، ولكن... ربّي! ولكن النار تلاشت! أُمّي! أُمّي! وكأنّ ملاكاً مِن السماء يَنفخ على ألمي الـمُبرّح! آه! أيّ سلام هو! لا ترفع، لا ترفع يدكَ ربّي. بل على العكس، اضغط. آه! يا للقوّة! يا للفرح! أولادي! إلي يا أولادي! أريدهم! دينا! عوزيّا! حنّة! سبأ! ملاخي! داود! يوضاس! هنا! هنا! أُمكم لن تموت! آه!...» وتَدور المرأة الشابة على وسادتها باكية مِن الفرح، بينما يركض أولادها. وتجثو العجوز التي لم تَعُد تَجِد في فرحها إلّا أن تُرنّم ترتيلة عزريا في الأتون. فتُرتّلها كاملة بصوتها الـمُتهدّج، صوت عجوز متأثّرة.
وفي النهاية تقول: «آه! يا ربّ! ولكن ماذا يمكنني أن أصنع لكَ؟ ليس لديَّ ما أكرمكَ به!»
يُنهِضها يسوع ويقول: «اسمحي لي فقط أن أستريح لأنّني تَعِب. واصمتي. فالعالم لا يحبّني، ويجب أن أبتعد لبعض الوقت. أَطلُب منكِ الوفاء والإيمان بالله والصمت. أنتِ والزوجة والصغار.»
«آه! لا تخف! ما مِن أحد يزور الفقراء! يمكنكَ المكوث هنا دون خوف مِن أن يراكَ أحد. الفرّيسيّون. إيه؟ ولكن... مِن أجل الطعام؟ ليس لديَّ سوى الخبز...»
يسوع ينادي الاسخريوطيّ: «خُذ بعض المال واذهب لشراء كلّ ما يَلزَم. سوف نأكل ونستريح عند هؤلاء الناس الطيّبين، حتّى المساء. اذهب واصمت.» ثمّ يلتَفِت إلى التي شَفاها: «أزيلي الرِّباط، انهضي وساعدي أُمّكِ. وابتَهِجي. فلقد أَنعَمَ الله عليكِ ليُكافِئ فَضائِلكِ كزوجة، سوف نكسر الخبز معاً، فاليوم الربّ الأسمى في بيتكِ هو. وينبغي الاحتفال بذلك بإقامة العيد له.» ويَخرُج يسوع للّحاق بيهوذا الـمُزمِع أن يَخرُج. «اشترِ بِوَفرَة، وليكن لديهم أيضاً ما يكفيهم للأيّام القادمة. بالنسبة لنا، لن ينقصنا شيء عند لعازر.»
«نعم يا معلّم. وإن سَمَحتَ... لديَّ بعض النقود خاصّتي. وقد نَذَرتُ أن أَبذُلها في سبيل إنقاذكَ مِن الأعداء. سوف أشتري بها قُوتاً. فيكون ذلك أفضل لهؤلاء الأخوة بالله مِن أفواه أولئك الذين في الهيكل. هل تسمح؟ فالذهب كان لي على الدوام بمثابة الثعبان. ولا أريد اختبار تأثيره الساحر بعد. إذ إنّني أجد نفسي في أحسن حال الآن وأنا أعيش الصَّلاح. أُحِسُّ أنّني حُرّ، وأنا سعيد.»
«افعل ما تشاء يا يهوذا وليهبكَ الربّ السلام.»
يَلحَق يسوع بتلاميذه، بينما يَخرُج يهوذا. وينتهي كلّ شيء.
ها أنذا وسط عاصفة قويّة. بالضبط وسط واحدة مِن عواصف آذار (مارس)، حيث بَريق الشمس وظُلمة غيوم العاصفة تتعاقبان. لديَّ انطباع بأنّني قارب تتقاذفه أمواج مُضطَرِبة. فَتَارة تَراه في القمّة، قمّة الموج في الشمس المشرقة، وحِيناً في هُوّة بين جبلين سائلين يبدوان وكأنّهما يبغيان إغراقي في هاوية مظلمة. يبدو لي أنّني أنتقل بشكل مُتناوِب بين محيط هائج ومَرفأ ساكن للغاية، وبأنّني أغطُس تارّة في العَلقَم وطَوراً في العسل.
يا له مِن ألم منذ مساء الأمس! فهناك لحظات أكون فيها في السماء مع العِبارات الـمُختَصَرة والعذبة والابتسامات المغبوطة التي تَهبنيها مريم ويسوع، مع القوة التي يمنحانني إيّاها. فأقول عندئذ: «آه! إنّني على يقين بأنّني لستُ واهِمة ولا خاطِئة.» (بخصوص الإملاءات والرؤى بالتأكيد.) ثمّ أَجِدني أعود فأغوص في الهاوية المظلمة، في صَخَب الكلام المرعب وتهديدات مساء الأمس. فَبَعد الجنّة أذوق طعم جهنّم. ثمّ تعود طِيبة يسوع ومريم إلى نجدتي، وأَجِد نفسي المسكينة ترتَفِع صوب الشمس، صوب السماء، في غِبطة تملأني عذوبة. ثمّ الغوص مِن جديد في المرارة، وفي العتمة وفي الخوف. إنّني خائفة... ساعدوني لأكسب هذه المعركة.