ج2 - ف82

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الثاني / القسم الثاني

 

82- (شِفاء طفل مُشرِف على الموت. الجندي اسكندر. إنذار إلى يسوع)

 

22 / 02 / 1945

 

هو ذا الهيكل مِن الداخل. يسوع مع أتباعه قرب الهيكل، أي المكان المقدّس حيث ينبغي أن يَدخُل الكَهَنَة فقط. إنّها فُسحة جميلة جدّاً يتمّ الوصول إليها عبر رَدهة، وعبر رَدهة أخرى أكثر ثراء، يتمّ العبور إلى الشرفة العالية، التي عليها يوجد مُكَعَّب القدس. لا فائدة! لقد رأيتُ الهيكل ألف مرّة، وَوَصَفتُهُ ألفي مرّة، وإنْ بسبب المكان، وإن بسبب جهلي بالمصطلحات وعدم قدرتي على تكوين تَصَوُّر لمخطّط المكان، فسوف يظلّ وصفي لهذا المكان الـمُترَف، بل قُل المكان المتاهة، ناقصاً على الدوام.

 

يُشاهَدون أثناء الصلاة. هناك كثير مِن الإسرائيليّين الآخرين، رجال فقط، وكلّ يصلّي على هَواه. إنّه المساء الـمُبَكِّر ليوم كئيب مِن أيّام تشرين الثاني (نوفمبر).

 

جَلَبَة، يُدَوّي خلالها صوت صاخب ومُضطَرِب لرجل يُقسِم باللاتينية، ومع صوته تمتزج أصوات إسرائيليّين حادّة وزاعِقة. كأنّه صَخَب شِجار. ويهتف صوت امرأة حادّ: «آه! دعوه يذهب. هو يقول إنّه هو مَن سوف يُنقِذه.»

 

يُقاطَع خشوع المساحة الـمُترَفَة. تَلتَفِت رؤوس كثيرة صوب الجهة التي تأتي الأصوات منها. يهوذا الاسخريوطيّ الموجود هنا أيضاً مع التلاميذ يلتفت إلى تلك الجهة. وبفضل قامته الكبيرة يتحقّق ويقول: «إنّه جندي رومانيّ يحاول الدخول! إنّه ينتَهِك الحُرمات. لقد انتَهَكَ حُرمة المكان المقدّس! يا للفظاعة!» ويُردّد كثيرون كلامه.

 

«دعوني أمُرّ أيّها اليهود الكلاب! يسوع هنا. أنا أَعلَم! وهو مَن أبغي! لستُ أعرف ماذا أفعل بحجارتكم السخيفة. الطفل يموت، وهو مَن يُنقِذه. إليكم عنّي أيّها الضِّباع الـمُنافِقون...»

 

يسوع الذي يُدرِك أنّه هو الـمُراد، يتوجّه مباشرة صوب الرَدهة التي يجري تحتها الشِّجار. يَصِلها ويَهتف: «هدوءاً واحتراماً لهذا المكان وساعة التقدمة.»

 

«آه! يا يسوع! سلاماً! أنا اسكندر. ابتعدوا أيّها الكلاب.»

 

ويقول يسوع بكلّ هدوء: «نعم، ابتعدوا. وسوف آخُذ الوثنيّ، الذي يَجهَل ماذا يعني لنا هذا المكان، بعيداً.»

 

يُفسَح المجال ويلتقي يسوع بالجنديّ الذي كان دِرعه مُلَطَّخاً بالدم. «هل جُرِحتَ؟ هيّا. لا يمكننا الوقوف هنا.» ويأخذه بعيداً عبر الفُسحة الأخرى، وأَبعَد أيضاً.

 

«لستُ أنا المجروح. بل طفل... لقد أفلَتَ منّي حصاني قرب قلعة أنطونيا وأَوقَعَهُ. وقد فَتَحَت حوافره رأس الصبيّ. وقد قال الطبيب بروكول: "لا يمكن فِعل شيء!" أنا... ليست غلطتي... ولكنّ ذلك حَصَلَ بسببي، وأُمّه هنا يائِسة. وكنتُ قد رأيتُكَ تمرّ... آتياً إلى هنا... فقُلتُ: "أمّا الطبيب فلا، وأمّا هو فَبَلَى". وقلتُ أيضاً: "هيّا أيّتها المرأة: فيسوع سوف يشفيه". ولقد حَجَزَني هؤلاء المعتوهون... والطفل يُوشِك أن يموت.»

 

«أين هو؟» يَسأَل يسوع.

 

«تحت ذاك الرواق، على صدر أُمّه.» يُجيب الجنديّ الذي رأيتُهُ سابقاً عند باب السمك.

 

«هيّا بنا.» ويَحثّ يسوع الخُطى، يتبعه أتباعه وموكب مِن الناس.

 

على الدَّرَجات، عند مدخل الرَّواق، مُسنِدَة ظهرها إلى عامود، توجد امرأة يُمزّقها الألم، وهي تبكي ابنها الـمُشرِف على الموت. الطفل بلون التراب، شفتاه بنفسجيّتان، شِبه مُنفَرِجَتَين، وحَشرَجَة وَصفيّة لِـمُصاب بجرح في المخّ. رباط يشدّ رأسه، والدم على جبهته وقَفَا عنقه.

 

«رأسه مفتوح مِن الأمام ومِن الخلف، وقد ظَهَرَ مخّه. فالرأس في هذه السّن غَضّ طريّ، والحصان قويّ، والحديد في حوافره كان حديثاً.» يَشرَح اسكندر.

 

يسوع قُرب المرأة التي لا تتكلّم. إنّها تحتضر هي أيضاً، قرب ابنها الذي يموت. يضع رأسه على رأسها. «لا تبكي يا امرأة.» يقولها يسوع بلُطفه المعهود، لُطفه اللامتناهي. «آمِنِي. أَعطِيني صَغيركِ.»

 

تَنظُر إليه المرأة مَشدوهة. بينما الجميع يُحَمِّلون الجنديّ المسؤوليّة، ويتحسّرون على المحتضِر وأُمّه. أمّا اسكندر فتَتَنازَعه مشاعر الغضب، التي تثيرها فيه الاتّهامات الجائرة، والشّفقة والأمل.

 

يَجلس يسوع بجانب المرأة، بعد أن رأى أنّها لم تَعُد تَعي القيام بأيّة حركة. ينحني، يُمسِك بين يديه الطويلتين الرأس الصغير المجروح، وينحني أكثر ليدنو مِن الوجه الشاحب، ويَنفُخ في الفم الذي يُحَشرِج... لحظة، ثمّ يبتسم ابتسامة تكاد تُرى مِن خلال خصلات الشعر المتدلّية على جبهته. يَنتَصِب مِن جديد. يَفتَح الطفل عينيه ويُحاوِل الجلوس. تخشى الأُمّ أن تكون هذه صحوة الموت، فتضمّه إلى قلبها.

 

«دعيه يا امرأة. أيّها الطفل، تعال إليَّ.» يقول يسوع الذي ما يزال جالساً جانب المرأة، مادّاً له ذراعيه، وهو يبتسم. ويُلقِي الطفل بنفسه بثقة بين ذراعيه. يبكي، ليس مِن الألم، إنّما مِن الخوف الذي تُعيده إلى ذهنه ذكرى الحادثة.

 

«لم يَعُد يوجد جياد. لم يَعُد يوجد.» يقول يسوع ليُطَمئِنه. «كلّ شيء قد انتهى. هل ما زال هنا يؤلمكَ؟»

 

«لا. ولكنّني خائف. خائف!»

 

«تَرَين يا امرأة. لم يعد هناك سوى الخوف. ها قد انتهى كلّ شيء الآن. إليَّ بالماء. الدم والرّباط يُثيرانه. أَعطِني واحدة مِن تفّاحاتكَ يا يوحنّا... خُذ يا صغيري. كل. إنّها لذيذة...»

 

يأتون بالماء. واسكندر كذلك يحمل الماء في خوذته.

 

يتهيّأ يسوع ليَنـزع الرّباط. وأُمّ الطفل واسكندر يَقولان: «لا! حقّاً لقد عادت إليه الحياة... ولكنّ رأسه مفتوح!...» يبتسم يسوع ويَنـزَع الرّباط. لَفّة، اثنتان، ثلاث، ثماني لَفّات. يَنـزَع الرّباط الملطّخ بالدم. مِن منتصف الجبهة حتّى قفا العنق، إلى اليمين، توجد خَثرة دم واحدة، ما زالت رخوة، بين شعرات الطفل. يُرَطِّب يسوع الرّباط ويغسلها.

 

«ولكن الجرح تحتها... وإذا ما أَزَلتَ الخَثرة فسيتدفّق الدم مِن جديد.» يُصِرّ اسكندر.

 

وتُغلِق الأُمّ عينيها لكي لا تَرى.

 

يَغسل يسوع ويَغسل، ويَغسل حتّى تزول الخَثرة... ها هو الشعر نظيف، وما يزال رطباً. إنّما لا أثر للجرح تحته. والجبهة أيضاً قد شُفِيَت. بالكاد يوجد أثر احمرار حيث تَشَكَّل الجرح.

 

يَصرُخ الناس مِن الدهشة. تتجرّأ المرأة وتَنظُر، وعندما تَرى، لا تعود تتمالك نفسها، فترمي بنفسها على يسوع وتُعانِقه هي وابنها وتبكي. ويتحمّل يسوع هذا العِناق، وهذا الوابل مِن الدموع.

 

«أشكركَ يا يسوع.» يقول اسكندر. «كنتُ أتألّم لقتلي هذا البريء.»

 

«قد كنتَ تملك الثقة والصّلاح. وداعاً يا اسكندر. عُد إلى خدمتكَ.»

 

كان اسكندر مُزمِعاً على الذهاب عندما، فجأة وكإعصار، يَصِل مأمورو الهيكل والكَهَنَة. «كبير الكَهَنَة يبلغكَ، بواسطتنا، الأمر بالخروج مِن الهيكل، أنتَ والوثنيّ الذي انتَهَكَ حُرمته. وفي الحال. فلقد عَكَّرتُما تقدمة البخور. وذاك دَخَلَ إلى مكان مخصّص لإسرائيل. وهذه ليست المرّة الأولى التي تَحدُث فيها ضجة في الهيكل بسببكَ أنتَ. لذلك، فكبير الكَهَنَة ومعه ذَوو القِدَم في الخدمة يأمرونكَ بألّا تطأ قدماكَ داخل هذا المكان. اذهب وابق مع وثنيّيكَ.»

 

«نحن أيضاً لسنا كلاباً. وهو مَن يقول ذلك: "لا يوجد سوى إله واحد، وهو الذي خَلَقَ اليهود والرومانيّين على السواء". فإذا كان هذا بيته، وإذا كنتُ أنا خَليقتَه، فبإمكاني الدخول، أنا أيضاً.» يُجيب اسكندر، وقد جَرَحَه الاحتقار الذي أبداه الكَهَنَة وهم يتفوّهون بكلمة ”وَثنيّين“.

 

«الزَم الصمت يا اسكندر، سأتكلّم أنا.» يُقاطِعه يسوع الذي يُعيد الطفل إلى أُمّه بعد أن يُقبّله، ويَنتَصِب، يقول للجمع الذي أتى يَطرده: «لا يمكن لأحد مَنعَ مؤمن إسرائيليّ حقيقيّ، لم يتمكّن أحد مِن إثبات أنّه في حال الخطيئة، مِن أن يصلّي قرب القدس.»

 

«إنّما شَرح الشريعة في الهيكل، فنعم. لقد اتَّخَذتَ لنفسكَ حقّاً ليس لكَ ودون أن تَستأذِن. مَن تكون؟ مَن يعرفكَ؟ وكيف تنتحل لنفسكَ اسماً ومكاناً لا حقّ لكَ بهما؟»

 

يَنظُر إليه يسوع بعينين! ثمّ يقول: «يهوذا الاسخريوطيّ، تَقَدَّم هنا.»

 

لا يبدو يهوذا متحمّساً لهذه الدعوة. وقد كان يُحاوِل التواري منذ قدوم الكَهَنَة ومأموري الهيكل (هُم لا يرتدون زيّاً عسكرياً، فقد تكون المهمّة مدنيّة.) إنّما عليه أن يُطيع، لأنّ بطرس ويوضاس بن حلفى يَدفَعانه إلى الأمام.

 

«يهوذا، أَجِب.» يقول يسوع. «وأنتم انظروا إليه. إنّكم تعرفونه. إنّه مِن الهيكل. أتعرفونه؟»

 

المفروض أن يُجيبوا بقوّة: «نعم.»

 

«يهوذا، ما الذي طَلَبتُ منكَ فِعله عندما تكلّمتُ هنا في المرّة الأولى؟ اروِ لهم دَهشتَكَ وكيف وبماذا أَجَبتَ. قُل وكُن صادقاً وصريحاً.»

 

«لقد قال لي: "ادعُ مأمور الخدمة لأتمكّن مِن الاستئذان بالوَعظ". ثمّ صَرَّحَ عن اسمه وبَيَّن هويّته وعشيرته... أنا دُهِشتُ لذلك، لاعتقادي بأنّها شكليّات لا طائل منها، لأنّه يَدَّعي أنّه مَسيّا. وقد قال لي: "ما أقوم به ضروريّ، وعندما تأتي الساعة، تَذَكَّر أنّني لم أُقَصِّر في واجب الاحترام للهيكل والمأموريّة". نعم، لقد قال ذلك. وللحقّ ينبغي لي أن أقولها. في البدء تَكَلَّمَ يهوذا دونما ثقة كبيرة، كما لو أنّ الأمر كان يُزعِجه. إنّما بعدئذ، بِفِعل التحوّل المفاجئ الذي هو مِن صفاته الخاصّة، تَوازَنَ، حتّى كاد أن يُصبِح متغطرساً.

 

«إنّني أتفاجأ بدفاعكَ عنه. لقد خنتَ ثقتنا بكَ.» أحد الكَهَنَة يَتَّهِم يهوذا.

 

«لم أَخُن أحداً. كم منكم ينتمون إلى المعمدان! هل هم خَوَنَة مِن أجل ذلك؟ وأنا أنتمي إلى المسيح. هو ذا.»

 

«يجب ألّا يتحدّث هذا هنا. فليأت كأحد المؤمنين. وهذا كثير على صَديق الوثنيّين والزواني والعشّارين.»

 

«أجيبوني الآن.» يقول يسوع بصرامة، ولكن بهدوء. «مَن هم ذَوو القِدَم في الخدمة؟»

 

«إنّهم دوراس وفيلكس مِن اليهود. ويواكيم مِن كفرناحوم، ويوسف مِن إيطورية.»

 

«فهمتُ. هيا بنا. وأنتم عودوا إلى المتَّهِمين الثلاثة، إذ لا يمكن أن يكون الإيطوري كذلك، وقولوا لهم: "إنّ الهيكل ليس إسرائيل كلّها، وإسرائيل ليست العالم بأكمله. إنّ لُعاب الزواحف، مهما كان سامّاً، فلن يطغى على صوت الله، ولا سُمّه يُشِلّ ذهابي وإيابي، تحرّكاتي بين الناس، طالما ساعتي لم تأتِ بعد". وثمّ... آه! قولوا لهم: بعدئذ سيَحكُم الناس على الجلادين ويُشيدون بالضحيّة، بجعلهم إيّاها حبّهم الأوحد. اذهبوا. أمّا نحن، فلنمضِ.» ويرتدي يسوع مِن جديد معطفه الأحمر الثقيل ويَخرُج وسط أتباعه.

 

اسكندر الذي كان خلفهم، والذي ظلّ أثناء الحِوار خارج السور قرب برج أنطونيا، يقول: «أحيّيكَ أيّها المعلّم وأَطلُب منكَ العفو لأنّني تَسَبَّبتُ لكَ بالتعنيف.»

 

«آه! لا تهتمّ! كانوا يُفتّشون عن سبب وقد وَجَدوه. وإن لم يكن أنتَ فحتماً يكون آخر... أنتم في روما، تُقيمون ألعاباً في السيرك مع حيوانات متوحّشة وثعابين، أليس كذلك؟ فإذن أقول لكَ إنّه لا يوجد حيوان متوحّش أكثر شراسة وأكثر غدراً مِن الإنسان الذي يريد قتل آخر.»

 

«وأنا أقول لكَ إنّني جبتُ كلّ المناطق الرومانيّة في خدمة القيصر. ولكنّني، بالرغم مِن آلاف آلاف اللقاءات، لم أجد قطّ إنساناً أكثر ألوهة منكَ. لا، فآلهتنا ليسوا إلهيّين مثلكَ! إنّهم مُحبّون للانتقام، قَتَلَة، مُشاجِرون، كاذبون. أمّا أنتَ فصالح، إنّكَ إنسان حقيقيّ، ولكنّكَ لستَ فقط إنساناً. سلاماً يا معلّم.»

 

«وداعاً يا اسكندر. فلتمض قُدُماً في النور.»

 

وينتهي كلّ شيء.