ج3 - ف73
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الثالث / القسم الثاني
73- (استقبال بَهيج في الخليل)
07 / 07 / 1945
يَجلِس الجميع على شكل دائرة، في غابة صغيرة قرب الخليل، يأكلون ويتحادثون فيما بينهم. يهوذا، الآن وقد تأكَّدَ مِن أنّ مريم ستذهب إلى أُمّه، فقد عاد إلى أفضل حالاته الروحيّة، ويُحاوِل، بألف شَكل مِن أشكال الكَيَاسة واللّياقة، أن يمحو ذِكرى مزاجه السيّئ أمام الرفاق والنساء. ولقد اضطرَّ أن يمضي لتأمين بعض المشتريات مِن البلدة، وهو يروي أنّه رآها مختلفة كثيراً عمّا كانت عليه في العام المنصَرِم: «إنَّ خَبَر كِرازة ومعجزات يسوع وَصَلَ إلى هنا. ولقد بدأ الناس يُفكِّرون بأشياء كثيرة... أَتَعرِف يا معلّم أنّه يوجد عقار لدوراس في هذه النواحي؟ وحتّى امرأة خُوزي لها أملاك هنا على تلك الجبال، أراض وقصر تملكها شخصيّاً، وهي جزء مِن مهرها. الظاهر أنّ الأرض قد تهيَّأت، وذلك بالقليل مِن قِبَلِها والقليل مِن قِبَل فلّاحي دوراس، إذ يُفتَرَض وجود البعض مِن ابن عامر. ودوراس قد فَرَضَ الصمت. إنّما هُم!... أظنُّهم لَم يَصمُتوا رغم التعذيب. فموت الفرّيسيّ قد أصاب الناس بالذهول، هل تَعلَم؟ وصحّة يُوَنّا الممتازة التي قَدِمَت إلى هنا قبل الفصح. آه! ثمّ؛ هناك كذلك عشيق أغليّا الذي أسدى خدمة لكَ. هل تَعلَم أنّها هَرَبَت بعد مرورنا هنا بقليل؟ وهو، لكي ينتقم، فقد تصرَّفَ كالشيطان مع أبرياء كثيرين. وهكذا انتهى الناس إلى التفكير بكَ، كما بِمُنتَقِم للمظلومين، ورغبوا بكَ. أتحدَّث عن المفضَّلين...»
«الـمُنتَقِم للمظلومين، أنا هو بالفعل، إنّما بشكل فائق للطبيعة. ما مِن أحد، مِن أولئك الذين يَرَوننَي أحمل الصولجان والفأس، كَمَلِك وحَسيب بحسب روح الأرض، يَرى بشكل سليم. إنّما، بكلّ تأكيد، فقد أتيتُ للتحرير مِن الضَّيْم والخطيئة الأكثر جسامة، مِن الأمراض والمآسي، ومِن الجهالات والأنانيّة. سيتعلّم الكثيرون أنّ ليس مِن العدل الجُّور، إذا ما وَضَعَهم القَدَر في موقع أرقى، بل إنّما على العكس، عليهم استغلال هذا الموقع للتخفيف عَمَّن هُم أدنى.»
«لعازر يفعل هذا وكذلك يُوَنّا. ولكنّهما اثنان في مقابل مئات.» يقول فليبّس حزيناً.
«الأنهار لا تكون عريضة عند منبعها، كما هي الحال عند مصبّها. بضعة قطرات، فخيط مِن الماء، إنّما بعد ذلك... فهناك أنهار تبدو وكأنّها بِحار عند مَصَبَّاتها.»
«النيل، آه!؟» تقول مريم التي لحلفى. «كانت أُمّك تُحَدِّثني عن الفترة التي سافرتم فيها إلى مصر. فكانت تقول لي كثيراً: "إنّه بَحر، صَدِّقيني، بَحر أخضر لازوردي. كانت رؤيته، أثناء فيضانه الأعظميّ حلماً حقيقيّاً!" ثمّ كانت تُحَدِّثني عن الأشجار التي كانت تَظهَر وكأنّها تَطلَع مِن على وجه الماء، ثمّ عن كلّ تلك الخُضرة التي كانت تبدو وكأنّها تُولَد مِن الماء، عندما كان يتراجع...»
«حسناً! أنا أقول لكم ذلك. فكما أنّ النيل في منبعه ليس سوى خيط ماء، ثمّ يصبح ذاك العملاق الذي هو عليه، هكذا مَن لا يعدو كونه خيطاً مِن العَظَمَة، ويَحنو بِحُبّ ومودّة على الأكثر ضآلة وصِغَراً، فإنّه يُصبِح بالتالي جَمهَرَة. فيُوَنّا ولعازر ومرثا حاليّاً، وبعد ذلك كَم وكَم وكَم!» يبدو يسوع وكأنّه يَرى الذين سَيَكونون رُحَماء تجاه إخوتهم، ويبتَسِم مُستَغرِقاً في رؤياه.
يَبوح يهوذا بأنّ رئيس المجمع كان مُزمِعاً على المجيء معه، ولكنّه لم يجرؤ على اتّخاذ القرار بشكل شخصيّ: «أتَذكُر يا يوحنّا كيف طَرَدَنا العام الـمُنصَرِم؟»
«أَذكُر ذلك... ولكن فَلنَقُل للمعلّم.»
وحينما يُسأَل يسوع يقول إّنهم سَيَدخُلون الخليل، وإذا ما قَبِلوهم فسينادونهم ويتوقّفون. وإلّا فَسَيَعبُرون دونما توقُّف.
«بذلك سيتسنّى لنا رؤية بيت المعمدان. لِمَن هو الآن؟» «لِمَن يريد. أظنُّ ذلك. فشَمّاي ذَهَبَ ولَم يَعُد. ولقد نَقَلَ خُدّامه وأثاثه. والناس، انتقاماً مِن ظلمه، فقد حَطَّموا هذا السور، وأَصبَحَ البيت مَشاعاً. أَقَلَّه الحديقة. وهُم يَجتَمِعون فيها لتكريم المعمدان. يُقال إنّ شَمّاي قد قُتِل. لستُ أدري لماذا... على ما يبدو قضيّة نساء...»
«دَسيسَة مِن الحاشية الفاسدة، بالتأكيد!...» يُتَمتِم نثنائيل.
يَنهَضون ويَتوجَّهون صوب الخليل، إلى بيت المعمدان. وفي اللحظة التي يَصِلون فيها، يكون جَمع مِن الناس قد تَزاحَموا. يتقدَّمون مُتردِّدين قليلاً، فُضوليِّين ومُتضايِقين. ولكنّ يسوع يحيّيهم بابتسامة. فيتجرَّأون، ويتفرَّقون، ومِن بين الجمع يَخرُج رئيس المجمع الفظّ الذي كان العام الـمُنصَرِم.
يُبادِره يسوع على الفور: «السلام لكَ! هل تسمح لنا بالإقامة في مدينتكَ؟ إنّني مع تلاميذي المفضَّلين كلّهم، وأُمّهات بعضهم.»
«يا معلّم، ولكن ألا تَحقد علينا؟ عليَّ أنا بالذات؟»
«أَحقُد؟ أنا لا أعرف الحِقد، ولستُ أرى مُبرِّراً ليكون لديَّ.»
«لقد أهنتُكَ في العام الماضي...»
«لقد أَهَنتَ مجهولاً، ظَنّاً منكَ أنّكَ تملك الحقّ في ذلك. وبعد ذلك أدرَكتَ ونَدِمتَ على ما فعلتَ. إنّما ذلك هو مِن الماضي، وكما الندامة تَمسَح الخطيئة، فكذلك الحاضر يَمسَح الماضي. لَم أَعُد الآن، بالنسبة إليكَ، ذلك المجهول. فما هي إذن مشاعركَ تجاهي؟»
«الاحترام، يا سيّدي، و... التَّوق...»
«التَّوق؟ ماذا تريد منّي؟»
«أن أعرِفكَ أكثر مِمّا أعرِفكَ الآن.»
«كيف؟ بأيّة طريقة؟»
«بكلمتكَ وأفعالكَ. لقد بَلَغَتْ مَعرِفة شخصيّتكَ ومذهبكَ وقُدرتكَ هذا المكان، وقيل لنا إنّكَ ساهَمتَ بتحرير المعمدان، فَلَم تَكُن تَكرَههُ إذن، ولَم تَكُن تحاول إزاحة يوحنّا الذي لنا لتحلّ محلّه!... وهو ذاته لَم يُنكِر أنّه بفضلكَ أنتَ عاد ورأى وادي الأردن المقدَّس. لقد مَضَينا إليه لِنُحدِّثه عنكَ، وقال لنا: أنتم لا تَعلَمون مَن يكون ذاك الذي تَرفُضون. يُفتَرض بي أن أَلعَنكُم، ولكنّني أسامحكم لأنّه هو عَلَّمَني أن أُسامِح، وأن أكون وَديعاً. إنّما إذا شئتم ألّا تكونوا كافِرين بالربّ وبي أنا خادمه، فأَحِبّوا مَسيّا. ولا يكن لديكم شكّ. هاكُم بماذا تتعرّفون عليه: روح سلام، حُبّ تام، حِكمة تفوق كلّ حِكمة، مَذهب سماويّ، عَطف مُطلَق، سُلطان على كلّ شيء، تواضُع كامِل، وعِفَّة ملائكيّة. لا يمكنكم أن تَنخَدِعوا. عندما تتنشَّقون السلام أمام إنسان يقول عن نفسه إنّه مَسيّا، عندما تَنهَلون حُبّه، الحُبّ الذي يَنبَعِث منه، عندما تَعبُرون مِن ظُلماتكم إلى النور، عندما تَرَون الخَطَأَة يُفتَدون والأجساد تَبرأ، فقولوا حينئذ: ‹هذا هو بحقّ حَمَل الله›" ونَعلَم أنّ أعمالكَ هي تلك التي تَحَدَّث عنها يوحنّا. فاغفر لنا وأَحِبّنا وامنَحنا ما ينتظره العالم منكَ.»
«مِن أجل ذلك أنا هنا. أتيتُ مِن البعيد لأمنَح مدينة يوحنّا أيضاً ما أمنَحهُ لِكُلّ مكان يَستَقبِلني. فقولوا ما الذي تَرومُونَه مِنّي؟»
«نحن أيضاً لدينا مرضى، ونحن جاهلون. وبشكل خاصّ نحن جاهلون بما يخصّ الحبّ والصّلاح. فيوحنّا، في حبّه الكلّيّ لله، له يَد مِن حديد وكلمة مِن نار، يُريد أن يَلوينا جميعاً كما يَلوي عملاقٌ ساقَ عشب. كثيرون يَقَعون في الفُتور، لأنّ الإنسان خاطئ أكثر منه قدّيس. إنّه لَمِن الصعب أن يكون المرء قدّيساً!... أمّا أنتَ... فيقال إنّكَ لا تلوي، بل تَرفَع، إنّكَ لا تَكوي بل تُعطِّر، لا تَسحَق بل تُلاطِف... معروف عنكَ أنّكَ أَبَويّ مع الخَطَأَة، وذو سلطان ضدّ الأمراض، مهما كانت، وخاصّة أمراض القلب. لَم يَعُد أيّ رابّي يَعرِف أن يفعل ذلك.»
«إليَّ بمرضاكم. ثمّ اجتَمِعوا في تلك الحديقة الـمُهمَلَة والـمُنتَهَكة بالخطيئة بعد أن كانت هيكلاً للنعمة التي سَكَنَتها.»
يَمضي الخليليّون، كالسنونو، في كلّ الاتّجاهات، ولم يبق سوى رئيس المجمع الذي يَدخُل مع يسوع وتلاميذه إلى الحديقة، ويَجلسون في ظلّ تعريشة يَختَلِط فيها الورد بالكُرُوم، وقد نَبَتَت كلّها بشكل عشوائي. ويُسرِع الخليليّون في العودة ومعهم مُقعَد على مِحَفَّة وشابّة عمياء، وأبكَم صغير واثنان لا أعرف ما هو مرضهما، وقد رافقوهما وهُم يَسنُدونَهما.
«السلام لكَ.» يقول يسوع لكلّ مريض يَصِل. ثمّ سؤاله اللطيف: «ماذا تريدني أن أفعل لكَ؟» ثُمَّ نشيد تَفَجُّع أولئكَ الـمَنكودي الحظّ، وكلّ يريد رواية قصّته.
ويَنهَض يسوع، الذي كان جالساً، ويتوجّه صوب الأَبكَم الصغير، يَمسَح له شَفَتيه بلعابه ويقول كلمته العظيمة: «انفَتِح!» ويقول العبارة ذاتها وهو يَمسَح جَفنيّ العَمياء المغمَضَتين، بإصبع مبلَّل باللُّعاب. ثمّ يمدّ يده للمُقعَد ويقول له: «انهض!» أخيراً يضع يديه على المريضَين قائلاً لهما: «فَلتَشفَيا باسم الربّ!»
الأبكَم الصغير الذي كان يئنّ في السابق، يقول بوضوح: «ماما!» بينما الفتاة الصبيّة تُحرِّك جفنيها الـمُنفَتِحَين أمام النور، وأصابعها تحمي عينيها مِن الشمس التي كانت تَجهَلها، وتبكي، وتضحك، وتَنظُر أيضاً، شِبه مغمضة العينين، ذلك أنّها ليست مُعتَادة على النور، تَنظُر إلى الأوراق والأرض والأشخاص، وخاصّة يسوع. ويَنـزِل الـمُقعَد بِثِقة عن الـمِحَفّة التي يَحمِلها حاملِوه الـمُحِبّون فارغة لِيُفهِموا البعيدين أنّ النِّعمة قد مُنحَت، بينما يبكي المريضان فَرَحاً، ويَخرّان ساجِدَين لتكريم مُخَلِّصهما.
يُطلِق الجميع هتاف "هوشعنا" بِصَخَب. توما الذي إلى جِوار يهوذا، يُحَدِّق فيه بِحِدَّة وبتعبير جليّ، لدرجة أنّ ذاك يُجيبه: «لقد كنتُ أبلَهَاً، سامحني.»
عندما هَدَأَ الهتاف، بدأ يسوع الحديث:
«تَكَلَّمَ الربّ إلى يشوع بتلك العبارات: "تَحدَّث إلى أبناء إسرائيل وقُل لهم: افرزوا لكم مُدُن الملجأ التي أمرتُكُم بها على لسان موسى، حتّى يَهرُب إليها كلّ قاتل قَتَلَ نفساً سهواً بغير قَصد، فتكون لكم مَلجَأ مِن وَليّ الدم". والخليل هي إحدى تلك المدن.
وقيل: "ولن يُسَلِّم شيوخُ المدينة البريءَ إلى مَن يَطلبه لِيَقتُله، بل يَضمُّونَه إليهم إلى المدينة، ويُعطونَه مَوضِعاً يُقيم فيه معهم، ويَبقَى في تلك المدينة إلى حين وقوفه أمام الجماعة للمُحاكَمَة، أو إلى أن يَموت عظيم الكَهَنَة الذي يكون في تلك الأيّام. حينئذ يعود القاتل إلى مدينته وأهله". في تلك الشريعة أُخِذَ الحبّ الرحيم تجاه القريب بعين الاعتبار وانتَظَم. هو الله الذي فَرَضَ تلك الشريعة لأنّه لا يجوز إدانة المتّهم قبل الاستماع إليه ولا القتل في فورة غَضَب.
يُمكن قول هذا كذلك بالنسبة إلى إدانة الجرائم الأخلاقيّة. فلا يجوز الاتّهام دون معرفة، ولا الحكم دون الاستماع إلى المتّهم. أمّا اليوم، ففي اتّهامات وإدانة الأخطاء العاديّة أو الأخطاء المزعومة، فتُضاف سلسلة جديدة: هي تلك المتعلِّقة بما نفعله ضدّ الذين يأتون باسم الله. وقد حَدَثَ ذلك عَبْر العصور ضدّ الأنبياء، والآن يَحدُث هذا ضدّ سابق المسيح، وضدّ المسيح، تَرَون ذلك. فَبَعدَ أن أُخرِج بالخديعة خارج أرض شكيم [نابلس]، يَنتَظِر المعمدان الموت في سجون هيرودس، لأنّه لَن يَقبَل أبداً بالأكاذيب والتسويات. يمكن القضاء على حياته وقطع رأسه، إنّما لا يمكن تحطيم نزاهته، ولا فصل نفسه عن الحقّ الذي خَدَمَه بأمانة، بكلّ أشكاله، الإلهيّة منها وفائقة الطبيعة والأخلاقيّة. وبالطريقة ذاتها يُلاحَق المسيح بشراسة مُضاعَفَة عشر مرات، لأنّه لا يكتفي بالقول لهيرودس: "لا يجوز لكَ هذا". ولكنّه يحتجّ بصوت مُجلجِل كالرَّعد: "هذا غير جائز لكَ" أينما وَجَدَ الخطيئة أو يَعرِف بوجودها، ولا يستثني في ذلك أيّة فئة، وذلك باسم الله وإكراماً له. كيف يمكن لهذا أن يَحصَل؟ أَلَم يَعُد في إسرائيل خُدّام لله؟ نعم يوجد، لكنّهم "أصنام".
في رسالة إرميا إلى الـمَنفيّين قِيل، مِن ضمن أشياء عديدة أخرى، والتي ألفت انتباهكم إلى موضوعها، إذ إنّ كلّ كلمة مِن الكِتاب هي بمثابة التعليم الذي، في اللّحظة التي جَعَلَها الروح القدس تُكتَب مِن أجل حَدَث حاضر، تتعلّق كذلك بحدث سيأتي في المستقبل. فقد قيل إذن: "...عندما تَدخُلون بابل سَتَرَون الآلهة التي مِن الذهب والفضّة والحجارة والخشب... احتَرِسوا مِن الإقتداء بطريقة عَمَل الأغراب ومِن الخوف مِن آلهتهم وخَشيَتهم... قولوا في قلوبكم: “يجب ألّا نَعبُد سِواك”." والرسالة تعطي دلالات خاصّة عن تلك الأصنام التي لها لسان صَنَعَه صانِع، ولا تستخدمه لتوبيخ كَهَنَتها الدجّالين الذين يُعَرُّونها لِيُلبِسوا البغايا مِن ذَهَب الصَّنَم، على أن يَعودوا بعد ذلك إلى انتزاع الذهب الـمُدَنَّس بِعَرَق البغاء لِيُلبِسوه للصَّنَم؛ مَن تلك الأصنام التي يمكن للعثّ والزنجار أن يتأكّلها، والتي لا تَنظَف ولا تَكتَسي إلّا إذا غَسَلَ الإنسان وجهها وألبَسَها، بينما لا يمكنها فِعل شيء مِن ذاتها، حتّى ولو كان في أيديها الصولجان أو الفأس. وينتهي النبيّ بقوله: "لا تَخشوها إذن". ويُتابِع: "تلك الآلهة، لا فائدة تُرجى منها كالأواني المحطّمة. أَعْيُنُها مليئة بالغبار الذي تَحمِله أَرجُل الدَّاخِلين إلى الهيكل، وهي تُبقيها مغلقة تماماً، كما في قبر، أو كَمَن أساء إلى الـمَلِك، لأنّ أيّاً كان يمكنه نَزع ثيابها الثمّينة. إنّها لا ترى نور المصابيح، لأنّها في الهيكل كالحَطَب، لا تُفيدها المصابيح سوى بِتَشحيرها، بينما تَطير البوم والسنونو والطيور الأخرى على رأسها، وتوسِّخها بغائِطها، وتَبني الهررة أوكارها في ثيابها وتُمزِّقها. فيجب إذن عدم الخَشية منها، إنّها أشياء ميتة. حتّى الذهب لا يفيدها، فهو للعرض فقط، وإذا لم يُمسَح فهي لا تَلمَع، وكذلك هي لَم تَشعُر بأيّ إحساس عندما صُنِعَت. النار لَم تُوقِظها. ولقد دُفِع ثَمَنها باهِظاً. يَحمِلها الإنسان أينما يشاء، لأنّها عاجزة بشكل مُخجِل..." لماذا إذاً يُطلِقون عليها اسم آلهة؟ فتُقَدَّم لها فروض العِبادة بِنَحر الذَّبائح وبإيماءات مِن الطقوس المزيَّفة التي لا يُدرِكها الذين يَقومون بها، والتي لا يُصدِّقها الذين يَرَونَها. وإذا ما أُحسِن إليها أو أُسيء، فهي لا تُبالي، إنّها عاجِزة عن الاختيار، أو خَلع مَلِك عن العرش، لا يمكنها ردّ الخيرات ولا الشرّ، لا يمكنها تخليص إنسان مِن براثن الموت، ولا تخليص ضعيف مّمن يُسيطِر عليه. إنّها لا تَرحَم الأرامل ولا الأيتام. إنّها شبيهة بحجارة الجبل"... فالرسالة تُعبِّر هكذا عن ذاتها تقريباً.
ونحن كذلك أَصبَحَ لدينا أصنام، ولَم يَعُد لدينا قدّيسون في صفوف الربّ. ولأجل ذلك يَنتَصِب الشرّ في وجه الخير. الشرّ الذي يُلَطِّخ بالزِّبل فِكر وقلب الذين لَم يَعودوا قدّيسين، والذين يَبنون أعشاشهم تحت مظاهر الصَّلاح الخَدَّاعة.
لَم يَعودوا يَعرفون التحدّث بكلام الله. بالطبع! فإنّ لسانهم صَنَعَه إنسان، ويتكلّمون كلام إنسان، عندما لا يتكلّمون كلام الشيطان، وهُم لا يعرفون سوى تلفيق التُّهَم غير اللّائقة للأبرياء والمساكين، وفي تلك الأثناء يَصمتون أمام مشهد فَسَاد الـمُقتَدِرين، فإنّهم، جميعهم، فاسدون ولا يمكنهم اتّهام بعضهم بعضاً، كونهم ارتَكَبوا الأخطاء عينها. إنّهم جَشِعون، ليس لمصلحة الربّ، بل إنّما لمصلحة الشيطان، فيعملون ويَقبَلون ذهب الفجور والجريمة، مُقايِضِين، سارِقين إيّاه، مُسْتَولين عليه بجموح يتعدّى كلّ حدود وكلّ ما يمكن تصوّره... يُعشِّش الغبار عليهم، يتخمّر عليهم، وإذا ما ظَهَروا بوجه مغسول جيّداً، فإنّ عين الله ترى قلباً مُلَطَّخاً. صَدَأ الحقد ودود الخطيئة يتأكّلهم، ولا يَعرفون التصدّي له لِيَخلصوا. يُلوِّحون باللّعنات كصولجانات وفؤوس، ولكنّهم لا يَعلَمون أنّهم مَلعونون، وهُم مَحبوسون في أفكارهم وفي حقدهم كالجِّيَف في القبر، أو كسجناء في أحد السجون. مقيمون فيه مُتشبِّثين بالقضبان خشية أن تُخرِجهم يد مِن هناك، لأنّ أولئك الأموات ما يزالون يُعتَبَرون هناك شيئاً: مومياءات، ليست مومياءات تشبه الإنسان، بل إنّما هي أجساد جافّة كالحَطَب، في حين هُم في الخارج حاجات مِن طراز عتيق، مُهمَلين مِن العالم الذي يبحث عن الحياة، وهو يحتاج إلى الحياة، كما الطفل إلى صدر أُمّه، وهو الذي يبحث عَمَّن يَمنَحه الحياة، وليس نتانة الموت.
إنّهم يُقيمون في الهيكل، نعم، ودخان المصابيح (كبريائهم) يسوِّد مقاماتهم بالدخان، أمّا النور فلا يحلّ فيهم. كلّ الشهوات تجعل أعشاشها فيهم كعصافير وقطط، بينما نار الرسالة لا تمنحهم الألم الباطنيّ بالاحتراق بنار الله. إنّهم عُصاة على الحبّ. نار المحبّة لا تؤجِّجهم كما أنّ المحبّة لا تُلبِسهم روائعها الذهبيّة. المحبّة المضاعفة في تجلّيها وفي مَنبَعها: محبّة الله والقريب بتجلّيها، والمحبّة في الله وفي الإنسان في مَنبَعها. ذلك أنّ الله يبتعد عن الإنسان الذي لا يحبّ. وهكذا يَنضَب النبع الأول. ويبتعد الإنسان عن الإنسان الشرّير، فينضَب هكذا النبع الثاني. بالمحبّة يُنتَزَع كلّ شيء مِن إنسان بلا حبّ. إنّهم يَستَسلِمون لأن يُشتَروا بالفضّة الملعونة، ويَستَسلِمون للانجراف إلى حيث تتطلَّب الفائدة والسُّلطة.
لا. هذا لا يجوز. فلا فضّة لشراء الضمائر، خاصّة ضمائر الكَهَنَة والـمُعلِّمين. لا يجوز مجاراة سُلطات الأرض عندما تريد تلك السُّلطات حَمْل المرء على القيام بأفعال تُناقِض وصايا الله. فذلك يكون مِن قَبيل العجز الروحيّ. وقد قيل: "لن يدخل الخصيّ في جماعة الربّ". إذن، إذا لَم يكن باستطاعة العاجز جَسديّاً الانضمام إلى شعب الله، فهل يمكن للعاجز روحيّاً أن يكون كاهنه؟ الحقّ أقول لكم كذلك إنّ كَهَنَة ومعلِّمين كثيرين مُصابون الآن بِخِصاء روحي أثيم، فَهُم مُشوَّهون في رجولتهم الروحيّة. كثيرون. كثيرون!
فَكِّروا. تَبَصَّروا. وَازِنوا. وَسَتَرونَ أنّ لدينا أصناماً كثيرة، وأنّ قِلّة هُم كَهَنَة الخير الذي هو الله. هاكم لماذا قد لا تعود مدن الملجأ ملاجئ. لَم يَعُد يُحتَرَم شيء في إسرائيل. والقدّيسون يموتون، لأنّ غير القدّيسين يكرهونهم.
أمّا أنا فأدعوكم: "تعالوا!" أَدعوكم باسم يوحنّا الذي لكم، والذي يتألّم لأنّه قدّيس، والذي ضُرِبَ لأنّه سَبَقَني، ولأنّه حاوَلَ إزالة بعض الأقذار عن طريق الحَمَل. هَلمّوا واخدموا الله. لقد دَنَت الساعة. لا تكونوا غير متهيّئين للفِداء. اجعلوا المطر يَنهَمِر على أرض مزروعة. وإلّا فيكون عَبَثَاً قد انسَكَب. وأنتم، أنتم أيّها الخليليّون، ينبغي لكم أن تكونوا في المقدّمة! قد عشتم هنا مع زكريّا وأليصابات: القدّيسَين اللَّذَين استحقّا أن تَمنَحهُما السماء يوحنّا. هنا، يوحنّا نَشَرَ عِطر النعمة ببراءته الحقيقيّة، براءة طفل صغير، ومِن صحرائه أَرسَلَ لكم بخور نِعَمه المضاد للإفساد الذي أضحى معجزة التوبة. فلا تخيّبوا أمل يوحنّاكم. لقد حَمَلَ حبّ القريب إلى درجة تكاد تكون إلهيّة، وهي التي تجعله يُحبّ آخر ساكن في الصحراء كما يحبّكم أنتم مواطنيه. ولكنّه، بكلّ تأكيد، سوف يحصل لكم على السلام. والسلام هو اتِّباع صوت الربّ والإيمان بكلمته. مِن هذه المدينة الكهنوتيّة تعالوا جماعات لخدمة الله. أَمُرُّ وأدعوكم. فلا تكونوا أقلّ مِن الزانيات اللواتي تكفيهنّ كَلِمَة رحمة لترك الطريق التي كُنَّ يتبَعنها، والمجيء إلى طريق الخير.
لدى وصولي، سُئِلتُ: "ولكن ألستَ تحقد علينا؟" الحقد؟ آه! لا! بل الحبّ هو الذي أكنُّه لكم! وأَحفَظ الأمل في أن أراكم ضمن صفوف شعبي، الشعب الذي أقوده أنا إلى الله في الخروج الجديد إلى أرض الميعاد الحقيقيّة: ملكوت الله، فيما وراء بحر الشهوات الأحمر، وصحراوات الخطيئة، أحراراً مِن كلّ أنواع الاستعباد، إلى الأرض الأزليّة، الغنيّة بالـمُتَع، الـمُشبَعَة بالسلام... تعالوا! هو الحبّ الذي يَمُرّ. مَن يَشَأ، باستطاعته أن يتبعه، إذ، مِن أجل أن يتقبَّله، لا يتوجّب عليه إلّا الإرادة الصالحة.»
أنهى يسوع حديثه وسط صمت مُدهِش. يبدو أنّ الكثيرين يَزِنون الكلام الذي سَمِعوه، يتفحّصونه، يتذوّقونه ويُقارنونه.
وبينما تَحصل ردود الفعل تلك، يسوع، وهو تَعِب ويتصبّب منه العَرَق، يَجلس ويتحدّث إلى يوحنّا ويهوذا. ثمّ ها هو صوت صُراخ يرتَفِع خارج السُّور، صَرخة مُبهَمَة، ثمّ أكثر وضوحاً: «هل هو مَسيّا؟ هل هو؟» وبعد إجابة بالتأكيد، ها هُم يَدفَعون كسيحاً يُشبِه حرف s لشدّة تشوّهه.
«آه! إنّه مسالا!»
«إنه شديد التشوّه! ماذا يأمَل؟»
«هي ذي أُمّه المسكينة!»
«يا معلّم، لقد طَلَّقَها زوجها بسبب هذا السَّقْط (العَاهَة)، الذي هو ابنه، وعاشت على الإحسان. ولكنّها الآن عجوز، ولم يَعُد لديها مُتَّسَع مِن الزمن تعيشه...»
السَّقْط هو طبعاً هذا، إنّه الآن أمام يسوع. إنّه حتّى لا يستطيع رؤية وجهه لشدّة انحناءة الرجل وتشوّهه. إنّه يبدو كرسم كاريكاتوريّ للرجل-الشمبانزي، أو الرجل-الجَّمَل. أُمّه عجوز وبائسة، لا تنبس ببنت شفة، هي تئنّ فقط: «ربّي، ربّي... أُؤمِن...»
يَضَع يسوع يديه على كتفيّ الرجل المشوّه، الذي يكاد لا يَصِل إلى خصره، ويَرفَع بَصَره إلى السماء، ويقول بصوت كالرعد: «انهض وامشِ على دروب الربّ.» فيحسّ الرجل بهزّة، ثمّ يَقفِز واقِفاً كأحسن رَجُل. التَّبَدُّل مُفاجِئ، لدرجة أنّه يبدو وكأنّه تَخَلَّصَ مِن نَوابِض كانت تُثبِّته في تلك الوضعيّة غير الطبيعيّة. إنّه الآن يَصِل إلى كتفي يسوع. يَنظُر إليه ويخرّ ساجداً مع أُمّه، ويُقبِّل قدميّ مُخلِّصه.
ما يَحدُث بعد ذلك مِن الجمع لا يمكن وصفه... ورغم رغبته الـمُخالِفة، فقد أُرغِمَ يسوع على الإقامة في الخليل، ذلك أنّ الناس قد أسرَعوا في إقامة الحواجز على المخارِج لِمنعه مِن الذهاب.
وهكذا يَدخُل إلى بيت رئيس المجمع العجوز، الذي تبدَّلَ كثيراً منذ العام الماضي.