ج8 - ف42

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الثامن

 

42- (يسوع يصل إلى بيت عنيا)

 

18 / 03 / 1947

 

لا بدّ أنّهم توقّفوا في منتصف الطريق بين أريحا وبيت عنيا، ذلك أنّهم عندما وصلوا إلى طلائع منازل بيت عنيا، فإنّ أواخر الندى يتبخّر على أوراق المروج وأعشابها، والشمس ما تزال تتسلّق قبّة السماء.

 

إنّ مزارعي المنطقة يُلقون بأدواتهم ويهرعون حول يسوع، الّذي يمرّ مباركاً الناس والنباتات، حسب طلب المزارعين بإلحاح. ونسوة وأطفال يهرعون بأوائل ثمار اللوز، الّتي لا تزال مُغلّفةً بالوبر الأخضر-الفضّي لقشرتها، وبالزهور الأخيرة للأشجار المثمرة الأكثر تأخّراً في إزهارها. مع أنّني ألاحظ في منطقة أورشليم، ربّما بسبب الوضعيّة، ربّما بفعل الرياح الّتي تصل مِن قمم جبال اليهوديّة الأكثر ارتفاعاً، أو لا أعلم لأيّ سبب آخر، ربّما أيضاً للاختلاف في نوعيّة الأشجار، ألاحظ كثرة الأشجار المثمرة التي لا تزال تُزهِر بتدرّجات بيضاء زهرية مُعلّقة كما غيوم رهيفة فوق خُضرة المروج. وتحت الجذوع المرتفعة للكروم، تتمايل الأوراق الطريّة مثل فراشات كبيرة مِن زمرّد ثمين، يبقيها خيط معلّقة بالأغصان الخشنة.

 

وفيما يتوقّف يسوع عند النبع، حيث يستحيل الريف بلدةً صغيرة، وحيث يتلقّى التكريم مِن بيت عنيا كلّها تقريباً، فإنّ لعازر يهرع مع أختيه ويسجدون أمام ربّهم. ومع أنّه لم يمضِ سوى أكثر بقليل مِن يومين على مفارقة مريم لمعلّمها، فإنّها تبدو كأنّها لم تره منذ دهور، بحيث لا تملّ أبداً مِن تقبيل قدميه اللتين يغشاهما الغبار في نعليه.

 

«تعال يا ربّي. المنزل ينتظركَ كي يغتبط بحضوركَ.» يقول لعازر آخذاً مكانه إلى جانب يسوع فيما يتقدّمون على مهل، بقدر ما يسمح لهم بذلك الناس. بالفعل فهم يحتشدون حوله، والأطفال يتشبّثون بثياب يسوع ويسيرون أمامه، ملتفتين نحوه ورؤوسهم مرفوعة، بحيث يتعثّرون ويجعلون الآخرين يتعثّرون. لذلك فإنّ يسوع يبدأ، ومِن ثمّ لعازر والرُّسُل، يحملون على أذرعهم الأصغر منهم كي يتمكّنوا مِن المضيّ بشكل أسرع.

 

في الموضع حيث يوجد ممرّ يقود إلى منزل سمعان الغيور، هناك مريم مع سلفتها، سالومة وسُوسَنّة. يسوع يتوقّف كي يحيّي أُمّه ومِن ثمّ يتابع وصولاً إلى البوّابة العريضة المفتوحة على مصراعيها، حيث يوجد مكسيمين، سارة، مارسيل، وخلفهم، كلّ خدّام المنزل الكُثُر، بدءاً بخدّام المنزل وانتهاءً بالفلّاحين. الجميع منتظمون، فَرِحون، مُنفَعِلون في فرحهم الّذي ينفجر هوشعنات وتلويحات بأغطية رؤوس وحُجُب، وبرمي زهور وأوراق آسٍ وغارٍ وورود وياسمين، الّتي تلتمع في الشمس بتويجاتها الفخمة، أو تتناثر كأنّها نجوم بيضاء على الأرض بنيّة اللون. عطر زهور مورقة وأوراق عطريّة مسحوقة تحت الأقدام يتصاعد مِن الأرض الّتي تُسخّنها الشمس. ويسوع يعبر فوق هذه السجّادة العَطِرة.

 

مريم المجدليّة، الّتي تتبعه وهي تنظر إلى الأرض، تنحني، خطوة إثر خطوة، وتبدو كما لَقّاطة تتبع مَن يربط الحُزَم، كي تجمع الأوراق والتويجات وحتّى البتلات الـمُنتَزَعة أوراقها، الّتي داستها قدما يسوع.

 

مكسيمين، كي يتمكّن مِن إغلاق البوابة ومنح السكينة للضيوف، يأمر بإعطاء الأطفال حلويّات مُعدّةَ مسبقاً. إنّها طريقة عمليّة لإلهاء الأطفال عن الربّ والتمكّن مِن إبعادهم دون إثارة جوقات احتجاج. والخدّام ينفّذون الأمر حاملين إلى الخارج، إلى الطريق، سلالاً مليئةً بفطائر صغيرة عليها لوز أبيض-بنيّ.

 

وفيما الصغار يحتشدون هناك، خدّام آخرون يَردّون الراشدين، الّذين لا يزال بينهم زكّا والأربعة (مِن رؤيا أريحا [ج8 - ف41]): يوئيل، يهوذا، إيليئيل وإلقانة، ومعهم آخرون لا أعرف مَن يكونون، لأنّهم، بسبب الغبار، حيث تهبّ ريح قويّة بعض الشيء في الشارع، وبسبب الشمس الّتي أصبحت حادّة، يلبثون جميعهم محتجبين.

 

لكنّ يسوع، المتقدّم كثيراً، يلتفت ويقول: «انتظروا! هناك ما أقوله لأحدكم.» ويمضي صوب أَخَوي يُوَنّا ويأخذهما جانباً ليقول لهما: «أرجوكما أن تقصدا يُوَنّا وتقولا لها أن تأتي إليَّ مع النسوة اللواتي معها ومع أناليا، تلميذة عوفل. لتأتي غداً. فعند مغيب الغد يبدأ السبت وأريد أن أمضيه مع أصدقاء بيت عنيا، في سلام.»

 

«سوف نقول ذلك يا ربّ. ويُوَنّا ستأتي.»

 

يسوع يصرفهما ويتحوّل إلى يوئيل: «ستقول ليوسف ونيقوديموس أنّني أتيتُ وبأنّني سأدخل إلى المدينة بعد السبت.»

 

«آه! حاذر يا ربّ!» يقول بقلق الكاتب الطيّب.

 

«هيّا! وتحلّى بالشجاعة. يجب على مَن يتبع البرّ ويؤمن بحقيقتي ألّا يخاف. بل عليه أن يغتبط، فقد آن آوان إتمام الوعد القديم.»

 

«آه! أنا سوف أهرب مِن أورشليم يا ربّ. إنّني رجل ذو بنية ضعيفة، أنتَ ترى وتعلم ذلك، وأنا محطّ ازدراء لهذا السبب. لن أستطيع رؤية الـ… الـ…»

 

«ملاككَ سوف يقودكَ. امضِ بسلام.»

 

«هل… هل سأراكَ بعد يا ربّ؟»

 

«بالتأكيد ستراني بعد. إنّما، إلى أن تراني ثانيةً، فَكِّر بأنّ محبّتكَ قد منحتني فرحاً كثيراً في ساعات الألم.»

 

يوئيل يمسك يد يسوع الّتي كان قد وضعها على كتفه ويضغطها على شفتيه، وعبر الحجاب الرقيق لغطاء رأسه تنهمر قبلات ودموع على يد يسوع، ثمّ يبتعد، ويسوع يتوجّه إلى زكّا: «أين هم جماعتكَ؟»

 

«ظلّوا عند النبع يا ربّ. لقد قلتُ لهم أن يبقوا هناك.»

 

«عُد إليهم واذهب معهم إلى بيت فاجة، حيث يوجد أقدم تلاميذي وأكثرهم وفاءً. قل لإسحاق، رئيسهم، أن ينتشروا عبر المدينة لإعلام كلّ مجموعات التلاميذ بأنّني في صبيحة غداة السبت، نحو الساعة الثالثة، مارّاً مِن بيت فاجة، سوف أدخل أورشليم لأصعد بشكل علنيّ إلى الهيكل. قل لإسحاق بأنّ هذا الإعلام هو للتلاميذ وحدهم. هو سوف يفهم ما أعنيه.»

 

«وأنا أيضاً أفهم ذلك يا معلّم. إنّكَ تريد أن تفاجئ اليهود كي لا يتمكّنوا مِن إعاقة دخولكَ.»

 

«نعم. نَفّذ. تذكّر أنّني أُحَمّلكَ عبء ثقة. إنّني أستعين بكَ أنتَ وليس لعازر.»

 

«وهذا يُفصِح لي كم أنّ طيبتكَ تجاهي هي بلا قياس. إنّني أشكركَ يا ربّ.» يُقبّل يد المعلّم ويمضي.

 

يسوع يشرع بالعودة إلى مضيفيه. إنّما مِن عند البوابة حيث يخرج الأخيرون، مدفوعين إلى الخارج مِن قِبَل الخدّام، يُفلت شابّ ويهرع ليسجد عند قدميّ يسوع هاتفاً: «بركةً يا معلّم. هل تتعرّف عليَّ؟» يقول رافعاً وجهه وقد تخلّص مِن كلّ حجاب. 

 

«نعم. إنّكَ يوسف المدعو برنابا، تلميذ غَمَالائيل الّذي جاء لملاقاتي قرب جيسكالا1

 

«وأتبعكَ منذ أيّام عدّة. لقد كنتُ في شيلوه، آتياً مِن جيسكالا، حيث كنتُ قد ذهبتُ مع الرابّي في هذه الفترة الّتي كنتَ فيها غائباً، وحيث بقيتُ كي أدرس اللفافات حتّى قمر نيسان [أبريل]. لقد كنتُ في شيلوه حين تكلّمتَ، وتبعتُكَ إلى لِبونة وإلى شكيم [نابلس]، وانتظرتُكَ في أريحا لأنّني قد علمتُ أنّكَ…» يتوقّف فجأةً، كما لو أنّه يدرك بأنّه يقول أمراً كان عليه كتمانه.

 

يسوع يبتسم بوداعة ويقول: «إنّ الحقيقة تفيض باندفاع مِن الشفتين الصادقتين، وتتجاوز أحياناً السدود الّتي يضعها الاحتراس أمام الفم. لكنّني سأنهي فكرتكَ… "لأنّكَ علمتَ مِن يهوذا الاسخريوطيّ، الّذي بقي في شكيم [نابلس]، بأنّني كنتُ ذاهباً إلى أريحا كي ألتقي بتلاميذي وأعطيهم أوامري". وأنتَ ذهبتَ إلى هناك لانتظاري دونما اكتراث لأن تتمّ رؤيتكَ، لأن تضيّع الوقت وأن تبتعد عن معلّمكَ غَمَالائيل.»

 

«هو لن يلومني عندما سيعلم بأنّني تأخّرتُ كي أتبعكَ. سوف أحمل إليه كلامكَ كما هدية…»

 

«آه! الرابّي غَمَالائيل ليس بحاجة إلى كلام. إنّه رابّي إسرائيل الحكيم!»

 

«نعم. ما مِن رابّي آخر بوسعه تعليمه شيئاً ممّا هو قديم، لا شيء، لأنّه يعلم كلّ ما هو قديم. أمّا أنتَ، نعم. إنّكَ تمتلك كلاماً جديداً، يفيض بالحياة النشطة لما هو جديد. فكلامكَ هو مثل نُسْغ الربيع. الرابّي غَمَالائيل هو مَن يقول هذا، مضيفاً أنّ الحكمة الّتي يكسوها الآن غبار العصور، والّتي بالتالي قد غدت جافّة ومعتمة، تعود حيّة ومشرقة حينما يشرحها كلامكَ. آه! سأحمل له كلامكَ.»

 

«وتحيّتي. قل له أن يفتح قلبه، بَصيـرَتَه، بَصَرَه، سَمْعَه، وسؤاله الّذي طرحه منذ أكثر مِن ضُعف العشرة أعوام سوف يحظى بإجابة. اذهب. ليكن الله معكَ.»

 

الشابّ ينحني مجدّداً ليقبّل قدميّ المعلّم ويمضي.

 

الخدّام يتمكّنون مِن إقفال البوّابة تماماً، ويسوع يمكنه الانضمام إلى أصدقائه.

 

«لقد سمحتُ لنفسي أن أدعو إلى هنا، ليوم غد، التلميذات.» يقول يسوع آخذاً مكانه إلى جانب لعازر وواضعاً ذراعه على كتفيه.

 

«لقد أحسنتَ عملاً يا ربّ. إنّ منزلي هو لكَ، تعلم ذلك. أُمّكَ فَضَّلت الإقامة في منزل سمعان. وأنا احترمتُ رغبتها. لكنّني آمل أن تبقى أنتَ تحت سقفي.»

 

«نعم. ولو أنّ… المنزل الآخر هو سقفكَ أيضاً. إحدى أولى سخاءاتكَ لي ولأصدقائي. كم أفادني يا صديقي!»

 

«وآمل أن تتمكّن مِن الاستفادة منه أكثر بعد لوقت طويل. ولو أنّ هذه الكلمة خاطئة، أيّها المعلّم الحكيم. فلستُ أنا السخيّ تجاهكَ، أنا أتلقّى منكَ. أنا مَن هو الـمَدين. وإذا ما مقابل كلّ مِن الكنوز الّتي مَنَحتَني إيّاها أضع قطعة نقد صغيرة لكَ، فما ستكون إذن هديّتي البائسة أمام كنوزكَ؟ قد قلتَ: "أَعطُوا تُعطَوا. وقلتَ: "كَيلاً مهزوزاً ومضغوطاً سوف يوضع في حضنكم (لوقا 6-38)، وستنالون مائة ضعف ما أَعطيتُم". وأنا نلتُ مائة مائة ضعف في الوقت الّذي لم أكن قد أعطيتُكَ شيئاً بعد. آه! أذكر لقاءنا الأوّل2! أنتَ، الربّ والله الّذي السيرافيم هم غير جديرين مِن الدنوّ منه، قد أتيتَ إليَّ، أنا الوحيد والمحزون… المنعزل هنا، في أحزاني، أتيتَ إلى الإنسان الّذي كان لعازر، الّذي هرب منه الجميع، إذا ما استثنيتُ يوسف ونيقوديموس وصديقي الوفيّ سمعان، الّذي مِن قبره الّذي للأحياء لم يكن يكفّ عن محبّتي… ولم ترد أن تُكدّر فرحي برؤيتكَ نَفَثاتُ ازدراء العالم الآكِلة… لقاؤنا الأوّل! يمكنني أن أقول لكَ كلّ كلامكَ آنذاك… ما الّذي كنتُ قد أعطيتُكَ إيّاه وقتها، إذ لم أكن قد رأيتُكَ أبداً، كي أنال منكَ، فوراً، أضعافاً مضاعفة؟»

 

«تضرّعاتكَ للعليّ، أبينا. أبينا يا لعازر. أبي. أبيكَ. أبي كما الكلمة وكما الإنسان. أبيكَ كما إنسان. فحين كنتَ تصلّي بإيمان عظيم، ألم تكن تعطيني بالفعل كلّ ذاتكَ؟ فترى إذن أنّني أعطيتُكَ، كما هو عدل، مائة ضعف ممّا كنتَ تعطيني.»

 

«طيبتكَ بلا حدود أيّها المعلّم والربّ. إنّكَ تكافئ مقدّماً، وبسخاء إلهيّ، أولئك الّذين يعرف فكركَ أنّهم خدّام لكَ قبل أن يعلموا بعد أنّهم كذلك.»

 

«أصدقائي، لا خدّامي. فالحقّ أنّ أولئك الّذين يعملون مشيئة أبي ويتبعون الحقّ الّذي أَرسَلَه، هم أصدقائي، لا خدّامي. وأكثر بعد، هم إخوتي، بإتمامهم مشيئة الآب كما أتممتها أنا أوّلاً، فإذن مَن يعمل ما أعمل هو صديقي، فوحده الصديق يعمل عفويّاً ما يعمله صديقه.»

 

«ليكن هكذا على الدوام بيني وبينكَ يا ربّ. متى تذهب إلى المدينة؟»

 

«صباح ما بعد السبت.»

 

«سآتي أنا أيضاً.»

 

«لا. أنتَ لن تأتي معي. سأقول لكَ. لديَّ أمور أخرى أطلبها منكَ…»

 

«كما تأمر يا معلّم. أنا كذلك عليَّ أن أكلّمكَ…»

 

«سنتكلّم.»

 

«أتُفضّل أن نمضي السبت فيما بيننا، أم يمكنني دعوة الأصدقاء الـمُشتَـرَكين؟»

 

«أرجوكَ ألّا تدعو أحداً. بي رغبة متّقدة بأن أمضي هذه الساعات في صداقتكم المحترسة والهادئة وحدها، دون ضغوطات الفِكر أو الشكليّات، في الحرّية العذبة لِمَن هو وسط أصدقاء أعزّاء جدّاً بحيث يشعر بينهم كما لو أنّه في منزله.»

 

«كما تريد يا ربّ. حتّى إنّ… هذا ما كنتُ أرغب به. لكنّه كان يبدو لي أنانيةً تجاه أصدقائي. كلّهم أدنى بالصداقة منكَ أنتَ، منكَ أنتَ، الصديق الوحيد، إنّما أعزّاء دوماً. لكن إن كان هذا ما تشاء… ربّما أنتَ متعب يا ربّ، أو منشغل البال…» لعازر يَسأَل بنظره أكثر منه بكلامه، صديقه ومعلّمه، الّذي لا يجيبه سوى بنور عينيه الحزينتين بعض الشيء، المستغرقتين بعض الشيء، وبالابتسامة الضعيفة على شفتيه.

 

لقد بقيا وحدهما عند الحوض حيث تشدو نافورة الماء… الآخرون، كلّهم، دخلوا إلى المنزل، وتُسمَع أصوات وضجيج آواني المائدة…

 

مريم المجدليّة لمرّتين أو ثلاث مرّات تطلّ برأسها الأشقر مِن الباب المحجوب بستارة سميكة، الّتي تتموّج قليلاً في الريح الّتي تشتدّ فيما تكتسي السماء بغيوم متقطّعة، تزداد قتامة باطّراد.

 

لعازر يرفع رأسه كي يتفحّص السماء. يقول: «ربّما سنشهد عاصفةً.» ويضيف: «سوف تفيد في تفتّح البراعم الـمُعانِدة الّتي تأخّرت كثيراً هذه السنة… ربّما البرد الطويل أمده هو الّذي أخّر البراعم. كذلك أشجار اللوز خاصّتي قد عانت، وتمّت خسارة ثمار كثيرة. إنّ يوسف قد قال لي أنّ بستاناً له خارج باب القضاء، يبدو عقيماً تماماً هذه السنة. الأشجار تحتبس البراعم كما لو أنّ تعويذةً قد ألقيت عليها، إلى حدّ أنّه غير متأكّد إن كان عليه إبقاؤها أو بيعها حطباً. لا شيء. ما مِن زهرة. وكما كانت في شباط [فبراير]، هي الآن. رؤوس البراعم قاسية، منغلقة، لم تنتفخ أبداً. صحيح أنّ ريح الشمال تضرب بقوّة في ذاك الموضع، وقد ضربت كثيراً هذا الشتاء. حتّى بستاني الّذي ما وراء قدرون قد تضرّرت ثماره. لكنّها غريبةٌ جدّاً هي ظاهرة بستان يوسف لدرجة أنّ كُثُر يذهبون لرؤية ذاك الموضع الّذي لا يريد أن يستيقظ في الربيع.»

 

يسوع يبتسم…

 

«أتبتسم؟ لماذا؟»

 

«لأجل صبيانيّة دائِمي الطفولة، البشر، الّذين كلّ ما له مظهر غَرابة يسحرهم… إنّما البستان سوف يُزهِر. في الوقت المناسب.»

 

«هذا الوقت قد انقضى بالفعل يا ربّ. فمتى إذاً، عند قمر نيسان [أبريل]، أشجار كثيرة، متجمّعة في موضع، لا تُظهِر أنّها أزهرت؟ حتّى متى يتوجّب على ذاك الموضع أن ينتظر ليفعل ذلك، كي يكون الوقت المناسب؟»

 

«عندما يحين أوان تمجيد الربّ بإزهارها.»

 

«آه! فهمتُ! أنتَ ستذهب إلى هناك لتبارك الموضع، محبّةً بيوسف، وسوف يُزهِر معطياً مجداً جديداً لله ومسيحه بمعجزة جديدة! بالتأكيد! تذهب إلى هناك. أيمكنني أن أقول ذلك ليوسف إن رأيتُه؟»

 

«إن كنتَ تعتقد بوجوب قول ذلك… نعم، سوف أذهب إلى هناك…»

 

«في أيّ يوم يا ربّ؟ أودّ أن أكون هناك أنا أيضاً.»

 

«هل أنتَ أيضاً دائم الطفولة؟» يسوع يبتسم بحيويّة أكبر، هازّاً رأسه بدماثة أمام فضول الصديق الّذي يهتف: «آه! أنا مسرور لأنّني أفرحتُكَ يا ربّ. أُعاود رؤية وجهكَ الّذي تنيره ابتسامة ما عدتُ رأيتُها منذ أمد بعيد! إذن… هل سآتي؟»

 

«لا يا لعازر. إنّني بحاجة إليكَ هنا للاستعدادات3 [Parascève]»

 

«آه! لكنّنا لا نهتمّ بالاستعدادات إلّا لأجل الفصح! أنتَ… يا معلّم، لماذا تريد فِعل شيء سوف يلومونكَ عليه؟ إذهب إلى هناك في الداخل في يوم آخر…»

 

«سوف أكون مضطرّاً للذهاب إلى هناك في الداخل بالضبط وقت الاستعدادات. لكنّني لن أكون الوحيد الّذي سيفعل أموراً هي ليست مِن قبيل التهيئة للفصح القديم. فحتّى الأكثر تشدّداً في إسرائيل، حِلقِيّا ما، دوراس ما، سمعان، صادوق، إسماعيل وحتّى قيافا وحنّان سوف يفعلون أموراً جديدةً تماماً…»

 

«هل سيصاب إسرائيل بالجنون إذن؟!»

 

«أنتَ قلتَ.»

 

«لكن أنتَ… آه! ها هي تمطر. لندخل إلى المنزل يا معلّم… إنّني… مشغول البال… ألا تشرح لي…»

 

«بلى. سأقول لكَ قبل أن أفارقكَ… ها هي أختكَ تخشى علينا مِن المطر وتهرع بقماشة سميكة… آه! مرثا! متنبّهة ونَشِطة على الدوام. لكنّ المطر ليس غزيراً.»

 

«يا أختي العزيزة! أو بالأحرى أختيَّ. فالآن كلاهما كطفلتين حنونتين جاهلتين كلّ خبث، مريم كما هذه. وعندما أتت مريم مِن أريحا، قبل البارحة، كانت تبدو طفلةً بحقّ، بضفائرها الّتي تتدلّى على كتفيها، إذ باعت دبابيس شعرها لأجل شراء نعلين لطفل، والدبابيس الحديديّة الليّنة جدّاً لم تكن كافيةً لتثبيت شعرها. كانت تضحك، قائلةً لي وهي تنزل مِن العربة: "يا أخي، لقد اختبرتُ معنى وجوب أن نبيع كي نشتري، وكم هي صعبة حتّى على الفقير أبسط الأشياء، كما تثبيت الشعر في مكانه بدبابيس ثمن العشرين منها دراخما واحدة. ولكن سوف أتذكّر ذلك كي أتحلّى برحمة أكثر بعد تجاه الفقراء مستقبلاً". كم غَيَّرتَها يا ربّ!»

 

إنّ تلك الّتي يتحدّثان عنها، فيما يدخلان المنزل، أصبحت جاهزة تماماً، بجِرار وأوعية كي تخدم الربّ. فهي لا تتنازل لأحد عن شرف خدمته، ولا تستكين إلى أن تُجدّد قوى أطراف معلّمها وشهيّته، وتراه يمضي بنعلين نظيفين إلى الغرفة المعدّة له، وحيث تنتظره أُمّه بثوب كتّاني نظيف قد عَطَّرته الشمس تماماً…

----------

1- راجع [ج7 - ف165].

2- راجع [ج2 - ف50].

3- الإستعدادات لعيد الفصح: تشهد الفترة الّتي تسبق عيد الفصح استعدادات حثيثة تتمثل بعدة طقوس مميّزة. وأهم هذه الطقوس يتعلق بإزالة الحميتس (الطعام المختمر)، يعني الطعام الّذي يحتوي على الحنطة والشوفان والشعير والجاودار أو الحنطة الكتسية. تماشيًا وما جاء في سفر الخروج 12:19 و13:7، يقوم اليهود قبل عيد الفصح بتنطيف منازلهم بدقة ويزيلون أي مواد غذائية وكسرات قد تكون مختمرة. وتبلغ العملية ذروتها بطقس ديني يتم خلاله البحث عن حميتس بنور شمعة في البيت، وتعقبه بركة خاصة والإعلان رسميا عن كون البيت خاليا من الحميتس. وبعد ذلك يتم حرق مقطع من مائدة ليلة العيد "السيدر". "الماتسا" الفطير غير المختمر، البيضة المسلوقة الّتي ترمز الى صلابة بني إسرائيل، الكرفس يرمز الى مرارة الحياة الّتي ذاقها بنو إسرائيل الحميتس الّذي تم جمعه صباح يوم ما قبل العيد. ومن عادات العيد أيًضا بيع الحميتس الّذي يُعثر عليه إلى شخص من غير اليهود، عادة من خلال تفويض رابّي بالقيام بعملية البيع، مما يعتبَر خطوة تستكَمل بها عملية التخلي عن الحميتس. وبينما يمكن استخدام بعض الأواني المنزلية وجعلها صالحة للاستخدام في أيام العيد، فهناك العديد من اليهود الّذين يستخدمون أوانَي منزلية منفصلة تماماً ومخصصة للعيد فقط.