ج9 - ف2
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: ماري حلمي وفيكتور مصلح.
الجزء التاسع
2- (يهوذا يمضي للقاء رؤساء السنهدرين)
29 / 03 / 1947
يهوذا يصل ليلاً إلى منـزل قيافا الريفيّ. ولكنّ القمر يتواطأ مع المجرم بإنارة الطريق. يُفتَرض أنّه واثق جدّاً مِن أنّه سيجد هناك، في ذاك المنـزل خارج الأسوار، أولئك الّذين كان يبحث عنهم، لأنّه بخلاف ذلك أظنّه كان سيحاول دخول المدينة وكان سيذهب إلى الهيكل. إنّما هو يصعد بثقة وسط أشجار زيتون التل الصغير، وهو واثق مِن نفسه أكثر مِن المرة السابقة. ذلك أنّ الوقت ليل والظلال والساعة تحميانه مِن كلّ مفاجأة محتملة. الطرق الريفيّة أصبحت مقفرة، بعدما ازدحمت طوال النهار بجموع الحجاج الذاهبين إلى أورشليم مِن أجل الفصح. والبرص المساكين أنفسهم هم في جحورهم ينامون نومهم التعيس، ناسين مصيرهم لبضع ساعات.
ها هو يهوذا عند باب البيت الأبيض تحت ضوء القمر. يطرق: ثلاث دقّات، ثمّ واحدة، فثلاث دقّات ثمّ اثنتين... ذلك أنّه حتّى يعلم بدقّة الإشارة المتّفق عليها!
لا بدّ أنّها بحقّ الإشارة الأكيدة، لأنّ الباب يُفتَح دون أن يلقي البوّاب سلفاً نظرة مِن فتحة في الباب.
ينسلّ يهوذا إلى الداخل ويَسأَل الخادم البوّاب الّذي يبجّله: «هل اجتمع المجلس؟»
«نعم يا يهوذا الاسخريوطيّ. ويمكنني القول بالكامل.»
«قدني إليهم. ينبغي لي أن أتكلّم بأمور هامّة. بسرعة!»
يُغلِق الرجل الباب بالمزاليج كلّها ويتقدّمه في الممر شبه المظلم، ويتوقّف أمام أحد الأبواب الثقيلة ويدقّ. يتوقّف صخب الأصوات في الغرفة المغلقة، ويحلّ محلّه صوت القفل وصرير الباب، الّذي يُفتح ملقياً مخروط ضوء ساطع على الممر المظلم.
«أنتَ؟ أدخل!» يقول الّذي فتح الباب والّذي لا أعرف مَن يكون.
ويهوذا يدخل القاعة، بينما ذاك الّذي فتح الباب، يغلقه مِن جديد بالمفتاح.
هناك حركة ذهول، أو على الأقلّ، اضطراب، عندما يرون يهوذا يدخل. ولكنّهم يحيّونه جوقة: «السلام لكَ يا يهوذا بن سمعان.»
«السلام لكم يا أعضاء السنهدرين المقدّس.» يجيب يهوذا.
«تقدّم. ماذا تريد؟» يَسأَلونه؟
«التحدّث إليكم... التحدّث إليكم عن المسيح. ما عاد يمكن الاستمرار هكذا. لن يعود بإمكاني مساعدتكم إن لم تقرّروا اتّخاذ قرارات حاسمة. الرجل أصبح يرتاب مِن الآن فصاعداً.»
«كشفتَ نفسكَ أيّها الأحمق؟» يقاطعونه.
«لا، بل أنتم الحمقى، فباندفاعكم الغبيّ قمتم بتحرّكات خاطئة. كنتم تعرفون جيّداً أنّني أخدمكم! ولم تثقوا بي.»
«لديكَ ذاكرة ضعيفة يا يهوذا بن سمعان! ألا تتذكّر كيف تركتنا في المرّة السابقة؟ مَن كان ليظنّ أنّكَ مُخلِص، لنا، بعدما أعلنتَ بتلك الطريقة أنّكَ لن تخونه؟» يقول أليشع ساخراً، أفعويّاً أكثر مِن أيّ وقت مضى.
«أتظنّون أنّه من السهل التوصّل إلى أن أغشّ صديقاً. الوحيد الّذي يحبّني بحقّ، البريء؟ أتظنّون أنّه مِن السهل أن أصل إلى الجريمة؟» يهوذا قد أصبح هائجاً.
يحاولون تهدئته. ويتملّقونه. ويغوونه، أو على الأقلّ يسعون إلى ذلك، بجعله يلاحظ أنّ فِعله ليس جريمة. «بل هو عمل مقدّس تجاه الوطن، الذي به يتلافى ثأر الحاكمين، حيث يُبدون بالفعل علامات سخطهم مِن هذه الاضطرابات المستمرّة فيه وانقسام الطوائف والجموع في مقاطعة رومانيّة، وتجاه الإنسانيّة، إن كان حقّاً مقتنعاً بطبيعة المَسيّا الإلهيّة ورسالته الروحيّة.»
«إذا كان ما يقوله صحيحاً -حاشا لنا أن نصدّق- ألستَ أنتَ الـمُعاوِن في الفداء؟ إنّ اسمكَ سيرتبط باسمه على مدى الأجيال، وسيحسبكَ الوطن بين بواسله، ويُشرّفكَ بالمهامّ الأسمى. إنّ كرسيّاً معدّ لكَ بيننا. سترتقي يا يهوذا. سوف تضع شرائع لإسرائيل. آه! لن ننسى ما فعلتَه مِن أجل خير الهيكل المقدّس، الكهنوت المقدّس، للدفاع عن الشريعة المقدّسة، لأجل خير الأمّة كلّها! ساعدنا فقط وبعدها، نُقسم لكَ، بل أُقسم لكَ أنا باسم أبي القدير وباسم قيافا حامل الأفود، أنّكَ ستصبح أعظم رجل في إسرائيل. أعظم مِن رؤساء الربع، أعظم مِن أبي نفسه، الحبر الأعظم المستقيل الآن. مثل مَلِك، مثل نبيّ سوف تُخدم ويُسمَع لكَ. وإن لم يكن يسوع الناصريّ بعد ذلك سوى مَسيّا مزيّف، وإن لم يكن في الحقيقة مُستحقّاً للموت لأنّ أفعاله لم تكن صادرة عن لصّ، إنّما عن مجنون، فها نحن نذكّركَ بأقوال الحبر الأعظم قيافا الموحى بها -إنّكَ تعرف أنّ مَن يحمل الأفود والصدرة يتكلّم بإيعاز إلهيّ ويتنبّأ بما هو خير وما يجب فِعله مِن أجل الخير- قيافا، هل تتذكّر؟ لقد قال قيافا: "خير أن يموت إنسان واحد عن الشعب ولا تهلك الأمّة كلّها". لقد كانت كلمة نبويّة.»
«في الحقيقة كان نبيّاً. إنّ العليّ قد تكلّم بلسان الكاهن الأعظم. فليكن مُطاعاً!» يقولون جوقةً، بأداء مسرحيّ ومشابهين لآليّين ينبغي لهم أداء حركات معطاة، أولئك الدمى الشنيعة الّذين هم أعضاء المجلس الأعلى للسنهدرين. يهوذا موحى إليه، مغوى... ولكنّ بقيّة مِن حسّ سليم، إن لم يكن مِن طيبة، ما زالت تعتمل في نفسه وتمنعه مِن التلفّظ بالكلمات المشؤومة.
إذ يحيطون به باحترام، بمشاعر مُصطنَعة، يضغطون عليه: «ألا تصدّقنا؟ أنظر: نحن رؤساء الأربع والعشرين عائلة كهنوتيّة، شيوخ الشعب، الكَتَبة، أعظم فرّيسيّي إسرائيل، الرابّيين الحكماء، قُضاة المعبد. نخبة اسرائيل هي هنا، حولكَ، مستعدّة لأن تهلّل لكَ، وتقول لكَ بصوت واحد: "فِعل ذلك، هو عمل مقدّس".»
«وغَمَالائيل، أين هو؟ يوسف ونيقوديموس أين هما؟ وأين أليعازر صديق يوسف، ويوحنّا بن جاعص؟ أنا لا أراهم؟»
«غَمَالائيل في كفّارة عظيمة، يوحنّا مع امرأته الحامل والمتألّمة هذا المساء. أليعازر... نحن لا نعرف لماذا لم يأتِ. ولكنّ وعكة قد تصيب أيّاً كان فجأة. أليس كذلك؟ بالنسبة ليوسف ونيقوديموس، فنحن لم نُعلِمهما بهذه الجلسة السرّية، محبّةً بكَ، وصوناً لشرفكَ... لأنّه إن حدث سوء ما وفَشِل الأمر، فلا يُنقل اسمكَ إلى المعلّم... نحن نحمي اسمكَ، ونحبّكَ يا يهوذا، المكابيّ الجديد مُخلّص الوطن.»
«المكابيّ كان يخوض المعركة الشريفة. أنا... أرتكب خيانة.»
«لا تنظر إلى تفاصيل العمل، بل إلى صوابيّة الهدف. تكلّم أنتَ، أيا صادوق، أيّها الكاتب الذهبيّ. مِن فمكَ تسيل كلمات ثمينة. وإذا كان غَمَالائيل عالماً، فأنتَ حكيم، لأنّ على شفتيكَ تكمن حكمة الله. تحدّث أنتَ إلى الّذي ما يزال متردّداً.»
يتقدّم صادوق بقدّه الجميل ومعه كنعان الهرم: ثعلب نحيف منازع إلى جانب ابن آوى محتال قويّ وشرس.
«اسمع، أيا رجل الله!» يبدأ صادوق بأبّهة مّتخذاً وضعيّة مُلهَمَة وخطابية، رافعاً ذراعه الأيمن في حركة شيشرونيّة1، وذراعه الأيسر يمسك بكلّ تلك الطيّات المزدحمة الّتي لثوبه ثوب الكاتب. ومِن ثمّ يرفع أيضاً ذراعه الأيسر، تاركاً ثوبه الفخم يفقد ترتيب طيّاته، وهكذا، الوجه واليدان مرفوعة صوب سقف الغرفة، يرعد: «أنا أقول لكَ ذلكَ! أقوله لكَ في حضرة الله العليا!»
«ماران-اتا!» الجميع بصدى صوت واحد، منحنين كما لو أنّ ريحاً مِن أعلى قد أحنتهم، ومِن ثمّ يستقيمون والأذرع متصالبة على صدورهم.
«أنا أقول لكَ ذلك: إنّه مكتوب في صفحات تاريخنا ومصيرنا! إنّه مكتوب في العلامات والرموز المتوارثة عبر العصور! إنّه مكتوب في الطقس الّذي لم يتوقّف منذ تلك الليلة المشؤومة للمصريّين! إنّه مكتوب في صورة إسحاق! مكتوب في صورة هابيل! وما هو مكتوب يتحقّق.»
«ماران-اتا!» يقول الآخرون في جوقة خافتة وحزينة، إيحائية، بنفس الحركات السابقة، الوجوه يضيئها بشكل غريب نور مصباحين مضاءين عند طرفي القاعة، بلون الميكا البنفسجيّ الشاحب، مُصدِرة نوراً غير مألوف. وتلك الجماعة مِن الرجال الّذين يكادون جميعاً يلبسون الأبيض، مع صبغات أصلهم الشاحبة والزيتونيّة، وقد زاد الضوء المنتشر مِن شحوب ألوانهم الزيتونيّة، يبدون وكأنّهم بالفعل جماعة مِن الأشباح.
«إنّ كلمة الله قد نزلت على شفاه الأنبياء لتحدّد هذا القرار. هو يجب أن يموت! قد قيل!»
«قد قيل! ماران-اتا!»
«هو يجب أن يموت، مصيره مكتوب!»
«هو يجب أن يموت. ماران-اتا!»
«بأدقّ التفاصيل قد كُتب مصيره المحتوم، والمحتوم لا يُنقَض!»
«ماران-اتا!»
«مُحدّد هو حتّى الثمن الرمزيّ الّذي سيُدفع لمن سيكون أداة الله لإنجاز الوعد.»
«مُحدَّد هو! ماران-اتا!»
«على أنّه فادٍ، أو كنبيّ مزيّف، هو يجب أن يموت!»
«يجب أن يموت، ماران-اتا!»
«الساعة قد حانت! يهوه يريد ذلك! إنّني أسمعُ صوته! يصرخ: "فليتمّ ذلك"!»
«العليّ قد تكلّم! فليتمّ ذلك! فليتمّ! ماران-اتا!»
«فلتعطكَ السماء الشجاعة كما أعطتها لياعيل ويهوديت، وقد كانتا امرأتين وعرفتا أن تكونا بطلتين؛ مثلما أعطتها ليفتاح، الّذي مع كونه أباً، عرف أن يضحّي بابنته مِن أجل الوطن. كما أعطتها لداود ضدّ جليات، فأنجز الحركة الّتي ستجعل إسرائيل أبديّة في ذاكرة الشعوب!»
«فلتمنحكَ السماء الشجاعة! ماران-اتا!»
«فلتكن منتصراً!»
«فلتكن منتصراً! ماران-اتا!»
يرتفع صوت كنعان الأجشّ الشيخوخيّ: «الّذي يتردّد أمام الأمر المقدّس مُدان هو بالخزي والموت!»
«مُدان. ماران-اتا!»
«إذا لم تشأ أن تسمع صوت الرب إلهكَ، وإذا لم تتصرّف بحسب وصيّته، بالعمل بما يأمركَ به بفمنا، فلتحلّ عليكَ كلّ اللعنات!»
«كلّ اللعنات! ماران-اتا!»
«فليضربكَ الربّ بكلّ اللعنات الموسويّة وليشتّتكَ بين الأمم.»
«فليضربكَ ويشتّتكَ! ماران-اتا!»
صمت موت يلي هذا المشهد الموحي... كلّ شيء يجمد في سكون مرعب.
أخيراً ها هو صوت يهوذا يرتفع، وأتعرّف عليه بصعوبة بقدر ما هو متغيّر: «نعم، سأفعل ذلك. يجب أن أفعله. وسأفعله. إنّ الجزء الأخير مِن اللعنات الموسويّة هي بالفعل تخصّني، ويجب أن أتخلّص منها لأنّي بالفعل قد تأخّرتُ كثيراً. وأصبحتُ مجنوناً لعدم إيجادي هدنة ولا راحة، ومرتعب القلب، تائه العينين، والنَّفْس قد أضناها الحزن. مرتعداً مِن خشيتي أن يكشفني ويصعقني في لعبتي المزدوجة -لأنّي لا أعلم، لستُ أعلم إلى أيّ مدىً يعلم أفكاري- إنّني أرى حياتي معلّقة بحبل، وصُبحاً وعشيّة أطلب أن تنتهي هذه الساعة بسبب الهلع الّذي يعتصر قلبي. بسبب الهول الّذي عليَّ أن أتمّه. آه! استعجلوا هذه الساعة! اسحبوني مِن ضيقي الّذي يخنقني! فليتمّ كلّ شيء. على الفور! الآن! ولأكن معتقاً! هيّا بنا!»
إنّ صوت يهوذا يتأكّد ويزداد قوّة كلّما كان يتكلّم أكثر فأكثر. حركاته، الّتي في البداية كانت آلية وغير واثقة، كتلك الّتي لإنسان مُنَوَّم، قد صارت حرّة، إراديّة. إنّه يقف مُنتَصِب القامة تماماً، متّخذاً جمالاً شيطانيّاً، ويصيح: «فلتسقط أربطة رعب مجنون! لقد تحرّرتُ مِن خضوع مخيف. أيّها المسيح! لم أعد أخشاكَ وسأسلمكَ إلى أعدائكَ! هيّا بنا!» صيحة شيطان مُنتَصِر، وبالفعل يتوجّه صوب الباب بجسارة.
ولكنّهم يوقفونه: «مهلاً! أجبنا: أين هو يسوع الناصريّ؟»
«في منـزل لعازر. في بيت عنيا.»
«نحن لا نستطيع الدخول إلى ذاك المنـزل الـمُحصَّن جيّداً بخدّام أوفياء. منـزل حليف لروما. سوف نواجه متاعب أكيدة.»
«عند الفجر سنأتي إلى المدينة. ضعوا الحراس على طريق بيت فاجي، افتعلوا صخباً واقبضوا عليه.»
«كيف تعرف أنّه يأتي مِن هذه الطريق؟ يمكنه كذلك أن يسلك الأخرى...»
«لا. لقد قال لأتباعه إنّه سيسلك هذه الطريق ليدخل المدينة، مِن باب أفرايم، وأن ينتظروه بالقرب مِن عين روجيل. فإن قبضتم عليه قبل...»
«لا يمكننا ذلك. سيتوجّب علينا أن ندخل المدينة وهو معنا وسط الحرّاس، وكلّ الطرق المؤدّية إلى الأبواب وكلّ دروب المدينة هي مليئة بالحشود مِن الفجر إلى الليل. سيحدث شغب. ويجب ألّا يحصل ذلك.»
«سيصعد إلى الهيكل. استدعوه كي تسألوه في إحدى القاعات. استدعوه باسم الكاهن الأعظم. هو سيأتي، إذ إنّه يحترمكم أكثر مِن حياته. وبمجرّد أن يكون وحده معكم... سوف تحظون بالفرصه لاصطحابه إلى مكان آمن والحكم عليه في الوقت المناسب.»
«سيحدث شغب على حدّ سواء. ينبغي أن تكون قد أدركتَ أنّ الجموع متعصّبة له. وليس فقط الشعب، بل أيضا عظماء ومُعقد آمال شعب إسرائيل. إنّ غَمَالائيل يفقد تلاميذه، وبالمثل يوناثان بن عوزيل وآخرون منّا، والكلّ يتركوننا، وقد تمّ إغواؤهم مِن قِبَله. وحتّى الأمميّون يبجّلونه، أو يخشونه، وهذا بالفعل نوع مِن التبجيل، وهم مستعدّون لأن يثوروا علينا لو أسأنا معاملته. عدا ذلك، فإنّ بعض اللصوص الّذين جنّدناهم كي يكونوا له تلاميذ مزيّفين ويحدثوا الشغب، قد اعتُقلوا وتكلّموا آملين الرحمة بسبب وشايتهم، والحاكم الرومانيّ يعلم... الجميع يتبعونه بينما نحن لا نحقّق شيئاً. لذا يجب أن نتصرّف بحذاقة كي لا تلاحظ الجموع.»
«نعم، هذا ما ينبغي فِعله! حنّان أيضاً يوصي به. يقول: "يجب ألاّ يحدث ذلك في العيد وألاّ يحصل شغب وسط الشعب المتعصّب". هذا ما قرّره، مُصدِراً أوامره بأن يُعامَل باحترام حتّى في الهيكل وأيّ مكان آخر، وألّا تتمّ مضايقته حتّى يتمّ التمكّن مِن خداعه.»
«فإذاً ما الّذي تريدون فِعله؟ أنا قد كنتُ على أتمّ الاستعداد هذه الليلة، إنّما أنتم متردّدون...» يقول يهوذا.
«هاكَ: عليكَ أن تأخذنا إليه في ساعة يكون فيها وحيداً. أنتَ تعرف عاداته. لقد كتبتَ لنا أنه يبقيكَ إلى جواره أكثر مِن الجميع. فيُفتَرض إذن أنّكَ تعرف ما ينوي عمله. نحن سنكون دوماً على أهبة الاستعداد. وعندما ترى أنّ الساعة والمكان مؤاتيان، فتعال، ونحن سنأتي.»
«اتفقنا... وأيّة مكافأة أنالها؟» أصبح يهوذا يتكلّم ببرود، كما لو كان الأمر كان يتعلّق بتجارة ما.
«ما قاله الانبياء، لكي نكون أمناء للكلام الموحى به: ثلاثون ديناراً...»
«ثلاثون ديناراً لقتل رجل، وهذا الرجل؟ ثمن حَمَل عادي في أيّام العيد هذه؟! أنتم مجانين! ليس لحاجتي للمال. فلديَّ مدّخرات لا بأس بها. فلا تفكّروا إذن أن تقنعوني عن طريق الحاجة للنقود. إنّما هذا ثمن بخس مقابل معاناتي مِن خيانة ذاك الّذي أحبّني على الدوام.»
«ولكنّنا قلنا لكَ ما سنعمله مِن أجلك. المجد، الشرف! ما كنتَ تنتظره منه ولم تنله. نحن نعالج خيبتكَ. أمّا الثمن فقد حدّده الانبياء! آه! هو أمر شكليّ! رمز ليس إلاّ. البقيّة تأتي فيما بعد...»
«والنقود متى؟»
«في اللحظة الّتي تقول فيها: "تعالوا". وليس قبل ذلك، لا أحد يدفع قبل أن يضع يده بالفعل على البضاعة. أفلا يبدو لكَ ذلك عدلاً ربّما؟»
«هذا صحيح. ولكن فليكن ثلاثة أضعاف المبلغ على الأقلّ...»
«لا، هذا ما قِيل في الأنبياء. وهذا ما ينبغي فِعله. آه! إنّنا نُحسِن الطاعة للأنبياء! ولن نهمل حرفاً ممّا كتبوه عنه. إيه! إيه! إيه! نحن أمناء للكلام الموحى به! إيه! إيه! إيه!» يقول ضاحكاً هذا الهيكل العظميّ المثير للاشمئزاز الّذي هو كنعان. وكُثُر، جوقة، يقتدون به بضحكات استهزاء متفجّعة، مُرائية، ماكرة، قهقهات حقيقيّة لشياطين لا يعرفون سوى ضحك السخرية. ذلك أنّ الضحك خاصّ بالإنسان ذي الصفاء والمحبّ، أمّا ضحك السخرية فهو مِن القلوب المضطربة المشبعة بالحقد.
«كلّ شيء قد قيل. يمكنكَ الذهاب. سننتظر الفجر لنعاود دخول المدينة مِن طرق مختلفة. الوداع. السلام لكَ، أيا أيّها النعجة الضالّة العائدة إلى حظيرة إبراهيم. السلام لكَ! السلام لكَ! واعتراف اسرائيل بأكملها بجميلكَ! اعتمد علينا! كلّ رغبة منكَ هي قانون لنا. فليكن الله معكَ، كما كان مع كلّ خدّامه الأكثر وفاء! عليكَ كلّ البركات!»
يصحبونه بهياج وتأكيدات محبّة وصولاً إلى المخرج... ينظرون إليه وهو يبتعد عبر الممرّ شبه المظلم... يسمعون صرير مزاليج الباب الّذي يُفتح ثم يُغلَق....
يعودون إلى القاعة، متهلّلين.
يرتفع صوتان أو ثلاثة فقط، أولئك الأقلّ شيطانيّة: «والآن؟ ما الّذي سنفعله مع يهوذا بن سمعان؟ نحن نعرف جيّداً أنّنا لن نستطيع إعطاءه ما وعدناه به، عدا الدنانير الثلاثين البائسة!... ماذا سيقول عندما يتبيّن خيانتنا له؟ ألن نكون قد سَبّبنا لأنفسنا ضرراً أعظم؟ ألن يقصد الشعب ويقول لهم ما نفعله؟ إنّنا نعلم جيّداً أنّه رجل متذبذب.»
«أنتم بالفعل سذّج وحمقى بهذه الأفكار وهذه البلبلة! لقد قرّرنا بالفعل ما سنفعله بيهوذا. لقد قرّرناه في المرّة السابقة. ألا تتذكّرون؟ ولن نغيّر رأينا. عندما ينتهي كلّ شيء، بالنسبة للمسيح، سيموت يهوذا. لقد قيل.»
«إنّما إن تكلّم قبل ذلك؟»
«لمن؟ للتلاميذ وللشعب، كي يُرجَم؟ هو لن يتكلّم. إنّ الرعب مِن تصرّفه سيكمّ فمه...»
«ولكنّه قد يتوب بعد ذلك، يؤنّبه ضميره، ويصاب بالجنون كذلك... ذلك أنّ تأنيب ضميره، إذا ما استيقظ فلا يمكن إلاّ أن يقوده إلى الجنون...»
«لن يكون لديه الوقت لذلك. سنتدبّر الأمر قبلها. لكلّ شيء أوانه. أوّلاً الناصري ومِن ثمّ الّذي خانه.» يقول أليشع بتمهّل رهيب.
«نعم. وحاذروا! ولا كلمة للغائبين. إنّهم بالفعل يعرفون الكثير عن أفكارنا. إنّني لا أثق بيوسف ونيقوديموس، وثقتي قليلة بالآخرين.»
«أتشكّ بغَمَالائيل؟»
«لقد انعزل عنّا منذ عدّة أشهر. وبلا أمر مباشر مِن الحبر الأعظم لن يشارك في جلساتنا. يقول إنّه يكتب كتابه بمساعدة ابنه. ولكنّني أتحدّث عن أليعازر ويوحنّا.»
«آه! إنّهما لم يعارضانا قطّ.» يقول على الفور أحد أعضاء السنهدرين، الّذي رأيتُه في مرّات سابقة مع يوسف الذي مِن الرّامة، ولكنّني لا أتذكّر اسمه.
«بالأحرى! إنّهما لم يعارضانا إلّا قليلاً جدّاً. إيه! إيه! إيه! ويجب التنبّه منهما! أظنّ أنّ ثعابين كثيرة قد عَشّشت في السنهدرين، إيه! إيه! إيه! ولكن سيتمّ إخراجها... إيه! إيه! إيه!» يقول كنعان وهو يمضي منحنياً ومرتعشاً، متّكئاً على عصاه، ليبحث عن مكان مريح على إحدى الأرائك العريضة المنخفضة والمغطاة بسجاد ثقيل، المتواجدة على طول جدران القاعة، ويتمدّد راضياً ويغطّ سريعاً في النوم، الفم مفتوح، وهو منفّر في شيخوخته الشرّيرة.
يراقبونه. ودوراس، ابن دوراس، يقول: «إنّه يشعر بالرضا برؤية هذا اليوم. إنّ أبي قد حلم به، ولكنّه لم يحظَ به. إلاّ أنّني سأحمل في قلبي روحه، كي يكون حاضراً يوم الانتقام مِن الناصريّ وليحظى بفرحه...»
«تذكروا أننا يجب أن نكون في الهيكل بشكل دائم، بالتناوب، وكثيرون منّا في كلّ مرّة.»
«سنتواجد فيه.»
«وعلينا إصدار الأمر بأن يدخل يهوذا بن سمعان على الكاهن الأعظم في أيّ وقت.»
«سنفعل ذلك.»
«والآن فلنهيّئ قلوبنا للخاتمة.»
«إنّها مهيّأة بالفعل! هي جاهزة بالفعل!»
«بدهاء.»
«بدهاء.»
«بحذاقة.»
«بحذاقة.»
«كي نخفّف كلّ ريبة.»
«كي نغوي كلّ القلوب.»
«أيّ شيء يقوله أو يفعله، لا ردّة فِعل. سننتقم مِن كلّ شيء مرّة واحدة.»
«هذا ما سنفعله. ويكون انتقاماً شرساً.»
«كاملاً!»
«رهيباً!»
ويجلسون ليستريحوا في انتظار الفجر.
----------
1- شيشرون (Marco Tullio Cicerone): كاتب روماني وخطيب في روما القديمة.