ج6 - ف133

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء السادس/ القسم الثاني

 

133- (الانطلاق والسفر إلى بيت لحم الجليل)

 

22 / 05 / 1946

 

إنّه مساء السبت الحقيقيّ، والحياة تبدأ مجدّداً بعد الاستراحة السبتيّة. وهنا، في منزل الناصرة الصغير، إنّ الحياة تبدأ، بعد الاستراحة، بالاستعدادات للرحيل. فالمؤونة جُهِّزت، والثياب وُضِّبت في الأكياس، والحِبال عُقِدت بإحكام، والنِّعال فُحصت للتأكّد مِن أنّ السّيور والمشابك في حالة جيّدة، والحمير الصغيرة قد سُقِيت وهي تتغذّى قرب سياج البستان... وتحيّات ودموع تسيل وسط الابتسامات والبركات، ووعود للتلاقي مجدّداً وقريباً... والتقدمة غير المتوقّعة مِن توما لمريم: حِلية، يمكن القول بأنّها مِشبَك، لإبقاء الثوب مقفلاً عند العنق. إنّه مُصاغ مِن ثلاثة سُوق دقيقة، برّاقة ومتقنة مِن زنبق الوادي، محصورة بورقتين، تبدوان كما لو أنّهما حقيقيّتين، حيث إنّ المعدن قد صيغ بيدين خبيرتين.

 

«أعرف يا مريم بأنّكِ لن تضعيه أبداً، إنّما أرجوكِ أن تقبليه مع ذلك. لقد كنتُ أفكّر بصياغته منذ ذاك اليوم الذي تحدَّثَ فيه الربّ عنكِ مقارناً إيّاكِ بزنبق الوادي... أنا لم أفعل شيئاً لأجل منزلكِ... لكنّني قمت بصياغة هذا لأجلكِ، بحيث أُجسّد برمز مديح ابنكِ لكِ أنتِ يا مَن تستحقّينه أكثر مِن أيّة امرأة أخرى. وإن لم أُوفَّق في إعطاء المعدن لطافة النبتة الحقيقيّة، والرائحة العَطِرة للزهرة، فآمل أن تُلطّفه محبّتي الصادقة لكِ، وأن يُعطّره إخلاصي لكِ، يا أُمّ ربّي.»

 

«آه! توما! هذا صحيح. فأنا لا أضع الحِلي أبداً، حيث تبدو لي بأنّها أشياء عديمة الجدوى. لكنّ هذه ليست كذلك. فهي تُمثّل محبّة يسوعي ورسوله، وهي عزيزة عليَّ. سوف أنظر إليها كلّ يوم وأفكّر بتوما الصالح الذي يحبّ معلّمه كثيراً جدّاً، بحيث لم يحفظ عقيدته وحسب، إنّما أيضاً كلماته الأكثر تواضعاً عن الأشياء والأشخاص الأكثر تواضعاً. شكراً لكَ يا توما. ليس مِن أجل قيمتها، بل لأجل محبّتكَ، شكراً!»

 

الكلّ يُعجَبون بالعمل المتقن، وتوما، الذي يشعّ بالفرح، يُخرِج قطعة حِليّ أصغر: ثلاث نجمات ياسمين وورقة رقيقة محزومة بدائرة دقيقة، ويعطيها لأوريا: «هذا لأنّكِ لم تتدلّلي كي تحصلي عليها، ولأنّكِ كنتِ هنا حين أَزهَرَ الياسمين، وبحيث تذكّركِ هذه النجوم الصغيرة بنجمتنا (مريم). إنّما تذكّري! يجب أن تُعطّري هذه الزهرات بفضائلكِ، وأن تصبحي أنتِ ذاتكِ زهرة، زهرة بريئة وجميلة ونقيّة تنشر عطرها نحو السماء. وإن لم تكوني كذلك، فسوف أستعيد مِشبكي. هيّا، لا تبكي... كلّ شيء ينقضي... وسوف نعود قريباً إلى عند مريم، أو هي ستأتي إلينا... و...» لكنّ توما، وقد رأى أنّ بكاء أوريا يشتدّ أكثر فأكثر، فإنّه يَشعُر بأنّه مِن الأفضل عدم المتابعة، ويَخرُج مُحبَطاً، وقائلا لبطرس: «لو كنتُ قد علمتُ بأنّه... بأنّه سيجعلها تبكي أكثر، لما كنتُ قد أعطيتُه لها... لقد صغتُ ذاك الـمِشبك فقط كي أعزّيها في هذه الساعة... لقد خاب ظنّي...»

 

وبطرس، في تشوّش تلك اللحظة، فإنّه ما عاد يتحكّم بنفسه ويقول: «إنّ الأمر هو دائماً هكذا عند الرحيل... كان عليكَ رؤية سِنْتيخي...» ويُدرك بأنّه تكلّم، يريد أن يصحّح خطأه، يحمرّ... لكن... الأمر قد حصل…

 

توما يفهم، ويطوّق عنق بطرس بلطف قائلاً: «لا تقلق يا بطرس. إنّني أُحسِن الصمت. وأنا أتفهّم لماذا لم تُفصِح عن الأمر... بسبب يهوذا بن سمعان. أُقسِم لكَ بإله آبائنا بأنّ ما عَلِمتُه بغير عمد قد نُسيَ. لا تقلق يا سمعان!...»

 

«هذا لأنّ المعلّم لم يكن يريد...»

 

«بالتأكيد كان لديه سبب وجيه لذلك. أنا لستُ مستاءً.»

 

«أَعلَم. إنّما ما الذي سيقوله؟»

 

«لا شيء. لأنّه لن يَعلَم. يمكنكَ أن تثق بي.»

 

«آه! لا! أنا لن ألجأ إلى استخدام الحِيَل مع المعلّم. لقد أخطأتُ. وأستحقُّ التانيب. وفي الحال. لن أحظى بالسلام ما لم أعترف له بخطئي. توما، كُن صالحاً. اذهب وناده... أنا سأدخل إلى المشغل. اذهب، وعُد معه. إنّني مضطرب جدّاً كي أذهب، والآخرون قد يلاحظونني.»

 

توما يَنظُر إليه بتعاطف مملوء إعجاباً، ويعاود الدخول إلى المنزل كي ينادي يسوع: «يا معلّم، أرجوك أن تأتي إلى هنا للحظة، أريد أن أقول لكَ شيئاً.»

 

ويسوع، الذي كان يودّع مريم التي لحلفى، يتبعه في الحال. «ماذا تريد؟» يَسأَله فيما يسير إلى جانبه.

 

«أنا، لا شيء. سمعان يريد أن يكلّمكَ. ها هو...»

 

«سمعان! ما الأمر، لماذا أنتَ مضطرب جدّاً؟»

 

بطرس يُلقي بنفسه عند قدميّ يسوع نائحاً: «لقد خطئتُ! اغفر لي!»

 

«خطئتَ؟ كيف؟ لقد كنتَ هناك معنا، سعيداً وهانئاً...»

 

«آه! يا معلّم! لقد عصيتُكَ. لقد أخبرتُ توما عن سِنْتيخي... لقد كنتُ مستاءً بسبب الدموع، وهو كان أكثر استياءً ممّا كنتُ عليه أنا، فقد شَعَرَ بأنّه تسبَّبَ في ازدياد بكائها... وكي أعزّيه قلتُ: "إنّ الأمر هو دائماً هكذا عند الرحيل... لو كنتَ رأيتَ سِنْتيخي..." وهو قد فَهِم!...» بطرس يرفع وجهه المضطرب، إنّه يبدو ذليلاً وبائساً.

 

«التسبيح لله، يا عزيزي سمعان! لقد ظننتُ بأنّكَ فعلتَ شيئاً أخطر بكثير مِن هذا. وحتّى ذلك يمحوه صدقكَ. لقد تكلّمتَ دونما خُبث، لقد تكلّمتَ لأحد رفاقكَ. إنّ توما طيّب، وهو لن يتحدّث عن ذلك...»

 

«لقد أَقسَمَ لي بذلك، إنّما في الحقيقة... أتعلم؟ إنّني الآن خائف مِن أن أكون في غاية الحماقة وألّا أُحسِن كتمان سرّ.»

 

«لقد أحسنتَ ذلك حتّى الآن.»

 

«نعم، إنّما فَكِّر! ولا حتّى كلمة لفيلبّس ولا لنثنائيل! والآن...»

 

«هيّا، انهض! الإنسان ناقص دوماً. إنّما عندما يكون مجرّداً تماماً مِن الخُبث، فلا يرتكب خطيئة. كُن حذراً، إنّما لا تُحزِن نفسكَ بعد. يسوعكَ لن يفعل شيئاً سوى تقبيلكَ. توما، تعال إلى هنا.»

 

توما يقترب منه. «لقد فهمتَ بالتأكيد أسباب عدم الإفصاح.»

 

«نعم يا معلّم. وقد أقسمتُ على احترام ذلك فيما يخصّني وبقدر استطاعتي. لقد قلتُ ذلك لسمعان للتوّ...»

 

«للأحمق سمعان» يقول بطرس متنهّداً.

 

«لا يا صديقي. لقد أثَّرتَ فيَّ مِن خلال تواضعكَ التامّ وصدقكَ. لقد علّمتَني درساً عظيماً، والذي لن أنساه أبداً. إنّما لن أكون قادراً على التعريف به لأسباب احترازيّة، وهذا يحزنني، لأنّه فقط قلّة مِن بيننا هم، أو لديهم القدرة على أن يكونوا مستقيمين مثلكَ... إنّما هم ينادوننا! هيّا بنا.»

 

وبالفعل فإنّ الكثيرين قد أصبحوا على الطريق، والنسوة الثلاث -نُعْمي، ميرتا وأوريا- كنّ قد امتطين حميرهن الصغيرة. مريم وسلفتها قرب أوريا، ويُقبِّلانها مجدّداً، وحين تريان يسوع يقترب، فإنّهما تُقبّلان التلميذتين، وتحيّيان يسوع للمرّة الأخيرة، وهو يباركهما قبل أن ينطلق…

 

العذراء المباركة ومريم التي لحلفى تعودان إلى المنزل... حيث الكراسي التي في غير مواضعها، وآنية المائدة المبعثرة هنا وهناك... قد بقيت كذكرى عمّا كان هناك قبل قليل. الفوضى التي تَحدُث قبل كلّ رحيل.

 

مريم، التائهة في أفكارها، تتلمّس النّول الصغير الذي عَلَّمَت أوريا العمل عليه... عيناها تلتمعان بدموع كانت قد حَبَسَتها.

 

«أنتِ تعانين يا مريم!» تقول مريم التي لحلفى التي تبكي مِن دون أن تحاول حبس دموعها. «لقد تعلّقتِ بها كثيراً!... إنّهم يأتون إلى هنا... ثمّ يرحلون... ونحن نتألّم...»

 

«إنّها حياتنا كامرأتين تلميذتين. لقد سمعتِ ما قاله يسوع اليوم: "هذا ما سوف تفعلنه في المستقبل، سوف تكنّ مضيفات، مضيفات على نحو فائق الطبيعة، برؤية نفوس أخويّة في كلّ مخلوق، معتبرات أنكنّ أنتنّ أنفسكنّ مسافرات وتستقبلن مسافرين. سوف تقدّمن لهم المساعدة، التعزية، النصيحة، ثم سَتَدَعن إخوتكم يرحلون إلى مصيرهم. مِن دون استبقائهم بدافع حبّ غيور، واثقات بأنّكن سوف تلاقينهم بعد وفاتكنّ. الاضطهادات سوف تأتي وكُثُر سوف يتركونكنّ للمضيّ نحو الشهادة. لا تكنّ جبانات ولا تنصحن أيّ أحد بالجبن. إبقين في بيوتكنّ الخالية مصلّيات كي تعضدن شجاعة الشهداء، كنّ رابطات الجأش لتقوّين الضعفاء منهم، قويّات كي تكنّ مستعدّات للاقتداء بالأبطال، عَوِّدنَ أنفسكنّ على الفُرقة، على البسالة، على إظهار رسالتكنّ في المحبّة الأخويّة، ومنذ الآن..." ونحن نفعل ذلك. بمعاناتنا... بالتأكيد! نحن مخلوقات جسديّة... لكنّ الروح تبتهج بسعادة فائقة الطبيعة، والتي هي إتمام مشيئة الربّ والتعاون في سبيل مجده. ومِن ناحية أخرى... أنا أُمّ الجميع... ويجب ألاّ أكون أُمّ واحد فقط. حتّى إنّني لستُ أُمّ يسوع بشكل حصريّ... إنّكِ ترين كيف أدعه يذهب مِن دون أن أستبقيه... أُحِبّ أن أكون معه، هذا صحيح. لكنّه يرى أنّ عليَّ البقاء هنا إلى حين يقول لي: "تعالي". وأنا أبقى. أيّام استراحته هنا؟ هي أفراحي كأُمّ. ارتحالاتي معه؟ هي أفراحي كتلميذة. عزلتي هنا؟ هي فرحتي كمؤمنة تفعل مشيئة ربّها.»

 

«ذاك الربّ يا مريم، هو ابنكِ...»

 

«نعم. لكنّه يظلّ ربّي... هل ستبقين معي يا مريم؟»

 

«نعم، فيما إذا سمحتِ لي... إنّ منزلي يكون موحشاً جدّاً في الساعات الأولى. عندما يرحل وَلَداي!... غداً سيكون الأمر مختلفاً... وفي هذه المرّة، قد أبكي أكثر بعد...»

 

«لماذا يا مريم؟»

 

«لأنّني كنتُ أبكي مِن كلّ قلبي منذ الأمس... إنّني كما خزّان... خزّان في الفصل الماطر.»

 

«لكن لماذا يا عزيزتي؟»

 

«بسبب يوسف... أمس... آه! لا أعرف فيما إذا كان ينبغي عليَّ أن أذهب وأوبّخه بشدّة، فهو في النهاية ابني، لأنّني حملتُهُ في أحشائي وأرضعتُهُ مِن صدري، وما مِن بِكر أعلى مرتبة مِن أُمّه، أو فيما إذا كان ينبغي عليَّ ألّا أتكلّم بعد مع ذاك الشقيّ، الذي وُلِد منّي، وأهان يسوعي وأهانكِ و...»

 

«لن تفعلي شيئاً منهما. ستبقين دوماً "أُمّه". الأُمّ التي تشفق على ابنها العنيد، المريض، الضّال، وتهذّبه بلطفها، وتقوده إلى الله بالصلوات والصبر... ابتهجي، لا تبكي!... تعالي معي. سوف نصلّي لأجله في غرفتي، ولأجل أولئك الذين يسافرون، لأجل الفتاة، كي لا تعاني كثيراً، وكي تكبر في القداسة... تعالي يا مريم» وتأخذها بعيداً…

 

في تلك الأثناء، يتابع المسافرون طريقهم نحو الجنوب الغربي. النسوة في المقدّمة على حميرهنّ التي، وقد تغذّت وارتاحت جيّداً، فإنّها تخبّ بنشاط، مُرغِمةً مارغزيام وهابيل -اللذين يلبثان على جانبي أوريا لدوافع احترازية، حيث إنّها تمتطي دابّة لأوّل مرّة- على المتابعة عدواً تقريباً. إنّما وعلى الرغم مِن أنّ الأمر مُجهِد، إلّا أنّه يُساعِد في صرف ذهن الفتاة عن الانفصال المحزن عن مريم. ومِن حين لآخر، وكي تدع الشابّين يلتقطان أنفاسهما، فإنّ ميرتا توقف حمارها. وهي لا تستأنف السير إلّا عندما تنضمّ إليهم المجموعة الرّسوليّة. وخلال تلك الاستراحات تعود أوريا حزينة مجدّداً، إذ لا تعود تلهيها التجربة المثيرة لامتطاء دابّة…

 

مارغزيام -الخبير في مصاعب اليتيم، والذي تمّ تبنّيه بدافع الرأفة مِن قِبَل أُمّ، بعدما كان مع مريم- يعزّيها شارحاً لها كيف يتعلّق الطفل بأُمّه بالتبنّي «إنّها تماماً كما لو كانت الأُمّ الحقيقيّة» ويَذكُر انطباعاته الشخصيّة، ويروي مدى سعادة مريم ومتياس مع يُوَنّا، وأنستاسيا مع إليز.

 

أوريا تُنصِت إلى الروايات، وعندما يُنهي مارغزيام قائلاً: «صدّقيني، كلّ التلميذات طيّبات، ويسوع يعرف إلى مَن يعهد بنا نحن المساكين» وهابيل يؤيّد قائلاً: «ويجب أن تثقي بأُمّي، السعيدة جدّاً بأن تحظى بكِ، وهي كانت قد صلّت كثيراً خلال هذه الأيّام كي يمنحكِ الله لها»

 

أوريا تُجيب: «إنّني أصدّق ذلك. وأنا أحبّها... لكنّ مريم هي مريم... ويجب أن تتحمّلاني...»

 

«نعم. لكنّنا نأسف لرؤيتكِ حزينة...»

 

«آه! لكنّني لستُ حزينة كما كنتُ في منزل الرومانيّ، أو خلال الساعات الأولى لما بعد تحريري... أنا فقط... مشتّتة. إنّني لم أحظَ بملاطفة لأعوام... فقط مريم لاطفتني بعدما كنتُ خاضعة لأسياد خلال سنوات كثيرة...»

 

«يا عزيزتي! إنّما أنا هنا كي أمنحكِ الملاطفة! سوف أكون مريم ثانية لكِ. تعالي هنا، إلى قربي... لو كنتِ أصغر، لكنتُ أخذتكِ على السرج معي، كما كنتُ أفعل مع عزيزي هابيل عندما كان صغيراً... لكنّكِ أصبحتِ امرأة...» تقول ميرتا مقتربة منها وممسكة بيدها. «أنتِ امرأتي الصغيرة، وأنا سوف أُعلّمكِ أموراً كثيرة، وعندما يذهب هابيل كي يُبشّر، فأنتِ وأنا سوف نستقبل المسافرين كما قال الربّ، وسوف نفعل الكثير مِن الأمور الصالحة باسمه. إنّكَ فتيّة وسوف تساعدينني...»

 

«إنّما انظروا إلى ذلك الضوء هناك، خلف التلّة!» يصيح يعقوب بن زَبْدي، الذي كان قد لحق بالنسوة.

 

«أيكون حرج يحترق؟»

 

«أَمْ قرية؟»

 

«لنركض إلى هناك ونرى...»

 

لم يعد أحد متعباً، لأنّ الفضول يطغى على كلّ الأحاسيس. يسوع يتبعهم بعطف، فيما يغادرون الطريق كي يسلكوا مَسلَكاً يصعد إلى تلّة. إنّهم سرعان ما يصلون إلى القمّة…

 

إنّما ما يحترق لا هو حرج ولا قرية، بل هو حوض أجوف واسع، متوضّع بين تلّتين، مغطّى تماماً بالخلنج. إنّ الخلنج، الذي قد أَيبَسَته حرارة الصيف، قد اشتعلت فيه النار، ربّما بسبب شرارة تطايرت مِن الحطّابين الذين يقطعون الأشجار في الأعلى، وهو الآن يحترق: سجّادة مِن اللّهب الواطئ إنّما المتّقد، والذي يتمدّد باحثاً عن المزيد مِن الخلنج لحرقه، بعدما التهَمَ ما التَهَمه سابقاً. الحطّابون يحاولون إخماد النار بضرب اللّهب. إنّما بلا جدوى. إنّهم قليلو العدد، وفيما إذا عَمِلو على إحدى الجّهات، فإنّ النار تنتشر في جهة أخرى.

 

«إذا وَصَلَت إلى الحرج فستكون كارثة. توجد هناك أشجار صمغية» يقول فيلبّس.

 

يسوع، يقف عند آخر حافّة التلّة، ذراعاه مطويّان، ينظر ويبتسم... مستغرقاً بالتفكير…

 

إنّ التباين بين ضوء القمر الأبيض مِن جهة الشرق، وبين ضوء اللّهب الأحمر المتوهّج مِن جهة الغرب، هو تباين شديد، بحيث إنّ ظهور المتفرّجين تبدو بيضاء بفعل أشعّة القمر، في حين أنّ وجوههم تبدو حمراء بفعل انعكاس اللّهب. واللّهب ينتشر باستمرار، مثل الماء الذي يرتفع، يفيض وينتشر... إنّ النار هي الآن على بُعد بضعة أمتار مِن الحرج، وقد بدأت تضيء أكوام الخشب الموضوعة على حدوده، فيما الضوء، الذي يصبح أكثر فأكثر توهّجاً، يُظهِر منازل القرية الصغيرة المتوضّعة على قمّة التلّة التي تصعد النار إليها.

 

«يا للمساكين! سوف يخسرون كلّ شيء!» يقول كثيرون. وينظرون إلى يسوع، الذي يبتسم إنّما لا يتكلّم…

 

ثمّ... يفكّ ذراعيه ويصيح: «توقّفي! اخمدي! أشاء ذلك.»

 

وفجأة، وكما لو أنّ كومة ضخمة مِن التراب قد سقطت كي تخنق اللّهب، فالنار تخمد بشكل عجائبيّ، التراقص النّشِط والرّشيق للّهب يستحيل إلى جمر أحمر بلا لهب، ثمّ يغدو الأحمر أرجوانيّاً، ثمّ رماديّاً محمرّاً... ثمّ وميضاً متقطّعاً يلتمع بين الرماد... ثمّ لا شيء سوى نور القمر الفضّي الذي يسطع على الحرج.

 

يمكن رؤية الحطّابين في الضوء الواضح فيما يتجمّعون وهم يشوّرون، ناظرين إلى حولهم، إلى أعلى... بحثاً عن ملاك المعجزة…

 

«لننزل. سوف أعمل على تلك النُّفوس مِن خلال هذه الفرصة غير المتوقّعة التي سنحت لي، وسوف نتوقّف في القرية بدلاً مِن أن نستريح في المدينة. وسوف نرحل عند الفجر. بالتأكيد سوف يكون عندهم غرف للنسوة. أمّا بالنسبة لنا فيكفينا الحرج» يقول يسوع، وينزل سريعاً فيما يتبعه الآخرون.

 

«إنّما لماذا كنتَ تبتسم؟ لقد بدوتَ كما لو أنّكَ كنتَ سعيداً جدّاً!» يَسأَل بطرس.

 

«سوف تعرف ذلك مِن خلال كلامي.»

 

لقد وصلوا إلى حيث الأرض البور المغطّاة بالرماد الذي ما يزال حارّاً ويصرّ تحت نعالهم. إنّهم يجتازونه. وعندما يصبحون في الوسط، حيث القمر يضيء بشكل كامل، يراهم الحطّابون.

 

«آه! لقد قلتُ لكم! هو الوحيد الذي بإمكانه فِعل ذلك! لنسرع إليه ونُجلّه» يصيح حطّاب، ويفعل ذلك مرتمياً على الرّماد عند قدميّ يسوع.

 

«ما الذي جعلكَ تعتقد بأنّني استطعتُ ذلك؟»

 

«لأنّ المسيح وحده مَن يستطيع فِعل ذلك.»

 

«وكيف تعلم بأنّني أنا المسيح؟ أيعقل أنّكَ تعرفني؟»

 

«لا. إنّما وحده الصّالح الذي يحبّ الفقراء هو مَن يتحلّى بهكذا شفقة، ووحده قدّوس الله هو مَن بمقدوره أن يأمر النار ويُطاع. فليتبارك العليّ الذي أَرسَلَ لنا مسيحه! وليكن مباركاً المسيح الذي أتى في الوقت المناسب كي يخلّص منازلنا!»

 

«عليكم أن تكونوا أكثر قلقاً بشأن تخليص نفوسكم.»

 

«لقد خلّصناها بالإيمان بكَ، وبالسعي إلى فِعل ما تُعَلّمه. إنّما أنتَ تُدرِك يا ربّ، بأنّ مصيبة تحرمنا مِن كلّ شيء يمكن أن تُضعِف نفوسنا التي هي أساساً ضعيفة... وتقودنا إلى الشكّ بالعناية الإلهيّة.»

 

«مَن أعلمكم عنّي؟»

 

«بعض تلاميذكَ... ها هي عائلاتنا... لقد أرسلنا مَن يوقظهم لأنّنا كنّا خائفين مِن أن تحترق التلّة بأكملها... تعالوا إلى هنا... ثمّ أرسلنا رجلاً آخر كي يعلمهم بأنّه قد تمّ اجتراح معجزة، وأن يأتوا كي يروا. ها هي عائلاتنا يا ربّ. عائلتي، عائلة يعقوب، وهذه عائلة يوناثان، وهذه عائلة مرقس، وهذه عائلة أخي طوبيا، وهذه عائلة عديلي مَلكيّا، وهذه عائلة فيلبّس، وهذه عائلة أليعازر. العائلات الأخرى هي عائلات الرُّعاة الذين هُم الآن في مراعي الجبال العالية...»

 

إنّها مجموعة مِن حوالي مائتين وخمسين شخصاً على الأكثر، بِـمَن فيهم الصّغار، الذين ما يزالون يرضعون أو الذين بالكاد قد فُطِموا، منهم مَن يتذمّرون وهم نصف نيام، ومنهم النّائمون تماماً وغير المدركين للخطر الذي تعرّضوا له.

 

«السلام لجميعكم. إنّ ملاك الرب قد خلّصكم. لنحمد الربّ معاً.»

 

«أنتَ خلَّصتَنا! إنّكَ دوماً حاضر حيث يوجد مؤمنون يؤمنون بكَ!» تقول نساء كثيرات... والرجال يومِئون بالموافقة بوقار.

 

«نعم. إنّ العناية الإلهيّة حاضرة حيثما يوجد إيمان بي. إنّما ينبغي التصرّف باحتراس متواصل على الصعيدين الروحيّ والماديّ على حدّ سواء. ما الذي سبّب اشتعال الحوض؟ ربّما شرارة مِن نار كنتم قد أشعلتموها، أو مِن غصن صغير أراد أحد الأولاد إشعاله كي يلهو به، مُلوّحاً به ورامياً إيّاه نحو الحوض بِطيش طفوليّ. فحقّاً إنّه لأمر مُفرح أن نرى سهم نار يشق الهواء في الظلام. لكن يمكنكم أن تروا ماذا يمكن لتصرّف طائش أن يُسبّب! يمكنه أن يُسبّب ضرراً جسيماً. إنّ شرارة أو غصناً صغيراً كان قد سقط على الخلنج اليابس، كان كافياً لإضرام النار في وادٍ بأكمله، ولو لم يرسلني الآب الأزليّ، لكان الحرج كلّه قد أصبح مَوقِداً، ولكانت قبضة النار قد أفنت أملاككم وحياتكم.

 

الأمر ذاته ينطبق على الصعيد الروحيّ. يجب أن يكون لديكم انتباه متواصل وحَذِر كي تضمنوا ألّا يصيب إيمانكم سهم نار أو شرارة ويدمّره، بعدما يستكين في قلوبكم مِن دون أن تلاحظوه، ويتم إشعاله عمداً من قِبل أولئك الذين يكرهونني، بهدف حرماني مِن المؤمنين. وحيث إنّ النار هنا قد أُوقِفَت في الوقت المناسب، والكارثة أصبحت منفعة، فقد أفنت الخلنج غير المجدي، والذي تركتموه يتنامى في الوادي، وأَعدَّت بهكذا فناء ورماد مخصّب، أرضاً يمكن استغلالها بزراعات مفيدة، فيما إذا توفّرت لديكم الإرادة لفِعل ذلك. أمّا بالنسبة للقلوب، فالأمر مختلف تماماً! فعندما يفنى كلّ ما هو صالح، فلا شيء سوى الأشواك التي هي علف للشياطين سوف ينمو في تلك القلوب.

 

تذكّروا ذلك وكونوا يقظين ضدّ تلميحات أعدائي، التي ستُلقى في قلوبكم مثل شرارات جهنّمية. كونوا وقتها مستعدّين لمكافحة النار. وما الذي يُكافِح النار؟ إنّه إيمان أكثر فأكثر قوّة، إرادة راسخة بالانتماء لله. أي الانتماء إلى نار مقدّسة. لأنّ النّار لا تفني النّار. وعندها، وفيما إذا أصبحتم نار محبّة لله الحقّ، فإنّ نار الكراهية ضدّ الله لن تكون قادرة على إيذائكم. إنّ نار المحبّة تهزم كلّ نار أخرى. إنّ عقيدتي هي المحبّة، وأولئك الذين يَقبَلونها يَدخُلون في نار المحبّة، ولا يمكن أن يُعذَّبوا بنار الشيطان.

 

مِن أعلى تلك التلّة، وفيما كنتُ أشاهد الخلنج يحترق، وقد سمعتُ كلمات نفوسكم للربّ إلهها، أكثر ممّا كنتُ منتبهاً إلى أفعالكم التي كانت تَنصَبّ على إخماد اللّهب، فقد كنتُ أبتسم. وقد سألني أحد رُسُلي: "لماذا تبتسم؟" وقد وعدتُه: "سوف أقول لكَ بينما أتحدّث إلى أولئك الذين خلصوا." وسوف أُجيب الآن. لقد كنتُ أبتسم لأنّني كنتُ أفكّر بأنّه وكما أنّ اللّهب قد انتشر وسط خلنج الوادي، وقد كانت كلّ جهودكم لإيقافه بلا جدوى، فهكذا سوف تنتشر عقيدتي في العالم، وستكون كلّ أضطهادات أولئك الذين يرفضون النور غير مجدية. وستكون نوراً. وسوف تكون تطهيراً. ستكون رحيمة. كم مِن حَيّات صغيرة قد هلكت بين هذا الرّماد، وكم مِن حشرات ضارّة أخرى قد هلكت معها! لقد كنتم تخافون النزول إلى الوادي، لأنّه كان فيه الكثير مِن الأفاعي. والآن، ولا حتّى واحدة منها بقيت على قيد الحياة. كذلك فإنّ العالم سوف يتحرّر مِن الكثير مِن الهرطقات، مِن الكثير مِن الخطايا، مِن الكثير مِن الأحزان، عندما يعرفني ويتطهّر بنار عقيدتي. وبعدما يتطهّر ويتحرّر مِن النباتات الضارّة، فسوف يكون جاهزاً للبِذار، وسوف يصبح غنيّاً بثمار مقدّسة.

 

هذا هو سبب ابتسامي... فقد رأيتُ في النار التي كانت تنتشر مثالاً على انتشار عقيدتي في العالم. ثمّ إنّ محبّة القريب، والتي لا يمكن فصلها عن تلك المحبّة التي للربّ، هي التي جعلتني أراعي حاجاتكم الملحّة. وهبطتُ بفكري مِن التأمّل بمصالح الله، إلى التأمّل بمصالح إخوتي، وأخمدتُ النار، بحيث تحمدون الربّ فيما تبتهجون. إذن ترون كيف أنّ فِكري صَعَدَ نحو الله، ثمّ نزل مِن عنده وقد غدا أكثر قوّة -لأنّ الإتّحاد بالله يزيد دوماً مِن قدراتنا- ثمّ صعد مرّة ثانية إلى الله، مع فكركم. وبهذا، وعبر المحبّة، فقد خدمتُ مصالح الآب ومصالح إخوتي في ذات الوقت. افعلوا أنتم ذات الشيء في المستقبل.

 

والآن أسألكم مأوىً لليل مِن أجل هؤلاء النسوة، القمر يغيب والحريق قد أخّر مسيرنا. ولذلك فلن نستطيع المتابعة حتّى المدينة التالية.»

 

«تعالوا! تعالوا كلّكم! هناك متّسع للجميع. لقد كدنا نحن أنفسنا أن نصبح بلا مأوى! إنّ منازلنا هي منازلكم. إنّ منازلنا فقيرة، لكنّها نظيفة. تعالوا وسوف تكون مباركة» يصيحون كلّهم.

 

ويصعدون ببطء المنحدر الحادّ إلى حدّ ما وصولاً إلى القرية الصغيرة، والتي نجت مِن الدمار بشكل عجائبيّ، ثمّ يختفي كلّ مسافر مع مضيفه...