ج4 - ف132

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الرابع / القسم الثاني

 

132- ("لم يعد القلب مفطوراً")

 

02 / 09 / 1945

 

مَشهَد الرؤيا السابقة ذاته. يسوع يُودِّع الأرملة وهو يمسك بيد يوسف الصغير ويقول للمرأة: «لن يأتي أحد قبل عودتي، إلّا إذا كان أحد الوثنيّين. إنّما لو أتى أحد فاستبقيه حتّى بعد غد قائلة له إنّني سوف آتي حتماً.»

 

«سوف أقول ذلك، يا معلّم. وإذا كان هناك مرضى فسوف أستضيفهم كما عَلَّمتَني.»

 

«وداعاً إذن. والسلام لكم. تعال يا مَنَاين.»

 

بتلك الإشارة المختصرة أُدرِك أنّ مَرضى وبؤساء قد أتوا إليه في قورازين، وأنّ يسوع قد ضَمَّ درس العمل إلى درس المعجزة. وإذا ما بَقِيَت قورازين غير مبالية على الدوام، فتلك إشارة إلى أنّها أرض جدباء، لا يمكن استغلالها. يَجتازها يسوع في تلك الأثناء محيّياً الذين يحيّونه وكأنّ شيئاً لم يكن، ويُعاوِد الحديث مع مَنَاين الذي يتساءل إذا ما كان سيَمضي مجدّداً إلى مكرونة أو يبقى أسبوعاً آخر…

 

...في تلك الأثنـاء، في بيت كفرناحوم، يتحضّرون للسبت. متّى الذي يعرج قليلاً، يستقبل رفاقه، يُقدّم لهم الماء والفاكهة الطازجة، سائلاً إيّاهم عن مهمّاتهم.

 

بطرس يَعبس لدى رؤيته الفرّيسيّين يتسكّعون قرب البيت: «إنّهم يريدون تسميم السبت لنا. أقول بأن نذهب للقاء المعلّم ونقول له أن يذهب إلى بيت صيدا تاركاً إيّاهم وقد خاب أملهم.»

 

«أوتظنّ أنّ المعلّم يفعلها؟» يَسأَل أخوه.

 

«ثمّ هناك في الغرفة السفلى هذا البائس المسكين الذي ينتظر.» يقول متّى.

 

«يمكننا نقله إلى بيت صيدا بالـمَركَب، وأنا أو أحد آخر يمضي للقاء المعلّم.» يقول بطرس.

 

«ممكن، ممكن...» يقول فليبّس الذي يَذهَب عن طيب خاطر لوجود أهل له في بيت صيدا.

 

وأكثر مِن ذلك... انظروا، انظروا! اليوم الحراسة مشدّدة بالكَتَبَة. هيّا بنا، دون إضاعة الوقت. أنتم مع المريض، اعبروا مِن الحديقـة، وعَبْر الطريق خلف البيت. أنا أجلب لكم الـمَركَب إلى "بئر التين" ويعقوب كذلك. سمعان الغيور وإخوة يسوع يمضون للقاء المعلّم.»

 

«أنا لا أذهب مع الـمُستَحوَذ عليه.» يُعلِن الاسخريوطيّ.

 

«لماذا؟ أتخشى أن يهاجمكَ الشيطان؟»

 

«لا تضايقني يا سمعان بن يونا. قلتُ لا أجيء ولن أجيء.»

 

«اذهب مع أولاد العمّ للقاء يسوع.»

 

«لا.»

 

«أوف! تعال في الـمَركَب.»

 

«لا.»

 

«ولكن في النتيجة ماذا تريد؟ فأنتَ مَن يضع العراقيل على الدوام...»

 

«أريد أن أبقى حيث أنا: هنا. فأنا لا أخشى أحداً ولا أَهرُب. عدا ذلك، لن يكون المعلّم ممنوناً مِن فكرتكم، وسيكون خِطاب لوم آخر، ولستُ مستعدّاً لتلقّيه بسببكم. اذهبوا أنتم. وأنا سأبقى لأعطي المعلومات...»

 

«لا، تماماً! إمّا الجميع أو لا أحد.» يَصيح بطرس.

 

«إذن لا أحد، لأنّ المعلّم هنا، ها هو آت.» يقول بجدّ الغيور الذي يقفز إلى الطريق.

 

بطرس غير راضٍ، يتبرّم بلحيته. يَمضي إلى لقاء يسوع مع الآخرين. بعد التحيّات الأولى، يُحدّثونه عن مُستَحوَذ عليه أعمى وأخرس، وهو ينتظر قدومه مع أهله منذ بضع ساعات.

 

يَشرح متّى: «إنّه كالجثة الهامدة. لقد ارتمى على أكياس فارغة ولم يَعُد يتحرّك. كلّ رجاء أهله فيكَ. تعال لتأكل وترتاح وبعدئذ تغيثهم.»

 

«لا. بل أذهب مباشرة إليه. أين هو؟»

 

«إنّه في الغرفة التي في الأسفل قرب الفرن. جعلتُهُ هناك مع أهله، إذ إنّ هناك الكثير مِن الفرّيسيّين والكَتَبَة يَبدون بالمرصاد...»

 

«نعم، ومِن الأفضل ألّا نَجعَلهم يَنالون مُرادهم.» يُهمهِم بطرس.

 

«يهوذا بن سمعان، أليس هنا؟» يَسأَل يسوع.

 

«لقد بَقِيَ في البيت. يجب أن يقوم على الدوام بشيء مخالف لما يفعله الآخرون.» يُهمهِم أيضاً بطرس.

 

يَنظُر إليه يسوع ولكنّه لا يلومه. يُسرِع صوب البيت وقد عَهَدَ بالصبيّ إلى بطرس الذي يداعبه وهو يُخرِج مزماراً مِن حزامه قائلاً: «واحد لكَ وواحد لابني. سآخذكَ غداً لتراه. لقد جَعَلتُ راعياً حدَّثتُه عن يسوع يصنعهما لي.»

 

يَدخُل يسوع إلى البيت، يُحيّي يهوذا الذي يبدو مهتمّاً بترتيب الصحون، ثمّ يمضي فوراً صوب بيت مؤونة مُنخَفِض ومُظلِم مُلاصِق للفرن.

 

«أَخرِجوا المريض.» يأمر يسوع.

 

أحد الفرّيسيّين، وهو ليس مِن كفرناحوم، ولكنّه يبدو أكثر تجهّماً مِن فرّيسيّي البلدة، يقول: «إنّه ليس مريضاً، بل هو مُستَحوَذ عليه.»

 

«وهذا يُعتَبَر مَرَضاً للروح...»

 

«ولكنّ عينيه ولسانه مربوطة...»

 

«إنّه مرض للروح يمتدّ حتّى الاستحواذ على الأطراف والأعضاء. لو كنتَ تَرَكتَني أُكمِل، لكنتَ عرفتَ ماذا يعني هذا. حتّى الحمّى تكون في الدم، عندما يكون المرء مَريضاً، ولكنّها، انطلاقاً مِن الدم، تُصيب هذا أو ذاك الجزء مِن الجسم.»

 

لا يَعرِف الفرّيسيّ بما يُجيب ويَصمت.

 

اقتيد الـمُستَحوَذ عليه أمام يسوع. بلا حراك كما قال متّى تماماً. إنّ الشيطان يُضايقه كثيراً. وفي هذه الأثناء يأتي الناس بأعداد كبيرة. أمر لا يُصدّق كيف الناس، في أوقات اللهو، يُسرِعون إلى حيث يوجد شيء يَرَونه. يتواجد الآن أعيان كفرناحوم، بينهم الفرّيسيّون الأربعة، ويائيروس، وفي أحد الأركان، بحجّة السَّهَر على النظام، هناك قائد المائة الرومانيّ ومعه سكّان مُدن أخرى.

 

«باسم الله اترك حدقتيّ ولِسان هذا الرجل! أريد ذلك! حَرِّر هذا المخلوق منكَ! لم يَعُد مسموحاً لكَ النيل منه. هيّا امض!» يَصيح يسوع الذي يَمدّ يديه آمراً.

 

تَبدأ المعجزة بهدير غَيظ مِن الشيطان، وتنتهي بصيحة فَرَح مِن الذي تحرَّرَ، والذي يَصيح: «يا ابن داود! يا ابن الله! أيّها القدّيس والـمَلِك!»

 

«ماذا فَعَلَ لمعرفة الذي شَفاه؟» يَسأَل أحد الكَتَبَة.

 

«إنّما هذا كلّه تَهريج! لقد قَبَضَ هؤلاء الناس ثمن قيامهم بذلك!» يقول أحد الفرّيسيّين وهو يرفع كتفيه.

 

«ولكن ممَّن؟ لو سُمِحَ لي أن أسألكم ذلك.» يَسأَل يائيروس.

 

«حتّى منكَ.»

 

«ولأيّ هدف؟»

 

«لِتَجعل كفرناحوم مشهورة.»

 

«لا تُدنّي ذكاءكَ بقول التفاهات، ولا تُلطّخ لسانكَ بقول الأكاذيب. أنتَ تَعلَم أنّ هذا ليس صحيحاً، وعليكَ إدراك أنّكَ تتفوّه بحماقة. ما جرى هنا، جرى في أماكن كثيرة مِن إسرائيل. إذن ففي كلّ مكان هناك مَن يَدفَع؟ في الحقيقة لم أكن أَعلَم أنّ عامّة الشعب في إسرائيل أغنياء جدّاً! لأنّكم أنتم، ومعكم كلّ العظماء، حتماً لا تَدفَعون مِن أجل هذا. إذن هُم عامّة الشعب الذين يَدفَعون، فهم الوحيدون الذين يحبّون المعلّم.»

 

«أنتَ رئيس معبد وتحبّه. وهناك مَنَاين، وفي بيت عنيا هناك لعازر بن ثيوفيلوس. وهُما ليسا مِن عامّة الشعب.»

 

«ولكنّهما نزيهين، وأنا كذلك، ولا نَنصُب على أحد في شيء. وخاصّة في الأمور الإيمانيّة. فإنّنا لا نسمح بذلك لأنّنا نخاف الله ولأنّنا قد أدركنا أنّ ما يرضي الله هي النـزاهة.»

 

يدير الفرّيسيّون ظهورهم ليائيروس ويُحاوِرون أهل الرجل الذي شُفِيَ: «مَن طَلَبَ منكم المجيء إلى هنا؟»

 

«مَن؟ أُناس كثيرون نالوا الشفاء أو أهلهم.»

 

«ولكن ماذا أعطوكم؟»

 

«ماذا أعطونا؟ لقد أعطونا تأكيدات بأنّه هو مَن يُشفيه.»

 

«ولكن هل كان حقيقة مريضاً؟»

 

«آه! يا للنّفوس الماكرة! هل تظنّون أنّ كلّ هذا كان مُخاتَلة؟ اذهبوا إلى جدرة، وإذا كنتم لا تُصدِّقون، فاسألوا عَن بؤس عائلة حنّة التي لإسماعيل.»

 

أهالي كفرناحوم، إذ يَستَنكِرون، يَعلو صَخَبهم، بينما الجليليّون، القادمون مِن ضواحي الناصرة، يقولون: «ومع ذلك، فهو ابن يوسف النجّار!»

 

أهالي كفرناحوم، الأوفياء ليسوع، يَصيحون: «لا. بل هو ما يُقال وما دعاه به الرجل الذي شفي: "ابن الله وابن داود".»

 

«ولكن لا تُثيروا الشعب أكثر بتأكيداتكم!» يقول أحد الكَتَبَة بازدراء.

 

«ومَن يكون حسب رأيكم؟»

 

«بعلزبول!»

 

«آه! ألسنة الحيّات! المجدِّفين! يا مَن تَسكُنكم الشياطين! عُميان القلوب! خَرابنا! حتّى فرحنا بمَسيّا تريدون انتزاعه منا؟ أيّها المرابون! الحصى الـمُجدِبة!» صَخَب لا بأس به!

 

يسوع، الذي كان قد انسَحَبَ إلى المطبخ ليشـرب قليلاً مِن الماء، يَصِل إلى العَتَبَة في الوقت المناسب لِيَسمع مرّة أخرى الاتّهام الأحمق الذي يكرّره الفرّيسيّون باستمرار: «إنّه ليس سوى بعلزبول، بما أنّ الشياطين تطيعه. بعلزبول الأكبر، الذي هو أبوه، يُساعده، وهو لا يطرد الشياطين إلّا بمعونة بعلزبول، أمير الشياطين.»

 

يَهبط يسوع دَرَجَتين مِن العَتَبَة ويتقدّم باستقامة، جادّاً وهادئاً، ويقف تماماً في مواجهة جماعة الفرّيسيّين والكَتَبَة. ويَنظُر إليهم نظرة ثاقبة ويقول: «حتّى على الأرض، فإنّنا نرى أنّ كلّ مملكة مُنقَسِـمة إلى زُمَر مُتنـاقِضة تُصبِح ضعيفة داخليّاً بحيث يمكن غَزوها بسهولة، وتجتاحها الدول المجاورة لاستعبادها. وعلى الأرض كذلك نرى أنّ مدينة مُنقَسِمة إلى زمر مُتضادَّة تفقد ازدهارها، وكذلك الأمر بالنسبة لعائلة يُفرِّق الحقد بين أفرادها، تتفكّك وتصبح فتاتاً لا يفيد في شيء، وتُصبِح مَضحَكة لأبناء جِلدتها وموطنها. الوفاق ليس واجباً فقط ولكنّه أهليّة، فهو يَحفَظ الناس مستقلّين وأقوياء وودودين. هذا ما يجب أن يُفكِّر به الوطنيّون، أبناء البلد الواحـد، أو أفراد الأسرة الواحدة، عندما، في حال الرغبة في مَنفَعة خاصّة، يَجِدون أنفسـهم مدفوعين إلى التفرقة وإلى النِّكايات، وهذه خطيرة دائماً لأنّها تَجعَل الجماعات متعارضة، كلّ واحدة ضد الأخرى، وتدمّر المشاعر الطيّبة.

 

بالفعل إنّ هذه البراعة هي التي يَضَعها مُعلّمو العالم مَوضِـع العمل. لاحِظوا روما في سلطانها الذي لا يُنكَر، والذي يجعلنـا نُعاني الكثير. إنّها تُسـيطِر على العالم، ولكنّها متّحدة في مأرب واحد، إرادة واحدة: "السيطرة". حتّى فيما بينهم، فهنـاك حتماً تَبايُن، تنافُر، تمرّد. ولكنّ كلّ ذلك يبقى في العُمق. أمّا على السطح فقالب واحد، بِلا صُدوع، بلا صَخَب. فكلّهم يريدون الشيء ذاته وينجحون لأنّهم يريدونه. وسوف ينجحون طالما يريدون الشيء ذاته.

 

انظروا إلى هذا الـمَثَل البشريّ للترابط البارع وفَكِّروا: إذا كان أولاد العصر هؤلاء هُم هكذا، فكيف لا يكون إبليس؟ هُم، بالنسـبة لنا، أبالسة، ولكنّ سِـمتهم تلك، وهم الوثنيّون، لا تُقارن بشيطانيّة إبليس الكاملة وشياطينه. هناك، في تلك المملكة الأبديّة التي لا دهور لها ولا نهاية، ولا حدود للمكر فيها والشرّ، هناك حيث المسرّة تَكمُن في الإساءة لله والبشر، وحيث تنفّسهم هو الإساءة، ومسرّتهم الأليمة، الوحيدة والفظيعة باللعنة الكاملة، أَحدَثَت اندماج الأرواح المتّحدة بالإرادة الواحدة: "الإساءة".

 

الآن، وكما تَدعون إلى التشكيك بقدرتي، إذا كان إبليس هو الذي يُساعِدني لأنّني، أنا، بعلزبول أدنى، أفلا يكون إبليس على غير وفاق مع نفسه ومع شياطينه، إذا ما طَرَدَهم مِن الذين استحوَذَ هو عليهم؟ وإذا كان هناك عَدَم وِفاق، فهل يمكن لمملكته أن تدوم؟ لا، هذا لا يكون. فإبليس هو كلّ ما يمكن أن يكون الأكثر مخادعة، ولا يُسيء إلى ذاته. إنّه يطمح إلى امتداد مملكته في القلوب وليس إلى الحدّ منها. إنّ حيـاته هي: "الاختلاس، والإسـاءة، والكذب، والتسبّب بالجِّراح والاضطراب." اختلاس النّفوس مِن الله واختلاس السلام مِن البشر. الإساءة إلى مخلوقات الآب والتسبّب لها بغمّ عظيم. الكَذِب بهدف التضليل. التسبّب بالجراح للتلذّذ. التسبّب بالاضطراب لأنّه هو الفوضى بعينها. ولا يمكنه التغيّر. إنّه أبديّ في كيانه وفي أساليبه.

 

إنّما أجيبوني على هذا السؤال: إذا كنتُ أنا أطرُد الشياطين باسم بعلزبول، فباسم مَن يطردهم أبناؤكم؟ أتريدون القول بأنّ كلّاً منهم أيضاً بعلزبول؟ إذا قلتم هذا فإنّهم سـوف يَرَون فيكم مُفتَرين. وإذا كانت قداستهم لدرجة أنّهم لا يَردّون على الاتّهام، فسوف تُدينون أنفسكم بأنفسكم باعترافكم أنّ في إسرائيل شياطين كثيرة، وسوف يدينكم الله باسم أبناء إسرائيل المتَّهمين بأنّهم شياطين، إذ مهما يكن مَصدَر الإدانة، فَسَيبقون هُم الذين يُدينونَكم، حيث الدينونة لا تَغويها مؤثّرات بشريّة.

 

ثُمّ، كما هي الحقيقة، إذا كنتُ أطرُد الشياطين بروح الله، فذاك إذن هو الدليل على أنّ ملكوت الله قد وَصَلَ إليكم وكذلك مَلِك هذا الملكوت. وهذا الـمَلِك يتمتّع بسلطان لا تستطيع أيّة قوة مُضادّة أن تقاومه. لأجل هذا أربُط وأُرغِم مُغتَصِبيّ أبناء مَلكوتي على الخروج مِن الأماكن التي يحتلّونها، وإلى إعادة فريستهم لأعود فأمتلكها. ألا يفعل ذلك مَن يريد دخول بيت يسكنه رجل قويّ لانتزاع خيراته، سواء كان قد حصل عليها بشكل حسن أو سيّئ؟ إنّه يفعل هكذا: يَدخُل ويقيّده، وبعد إتمام ذلك، يمكنه أن يَنهَب البيت. أنا، أُقيّد ملاك الظلمات الذي أَخَذَ ما يَخصّني، وأنتزع منه الخير الذي اختَلَسَه منّي. وأنا وحدي مَن يستطيع فِعل ذلك، لأنّني القويّ الوحيد، أبو الدهر الآتي. أمير السلام

 

«اشرح لنا ما الذي تريد قوله بـ: "أبو الدهر الآتي". هل تظنّ نفسكَ أنّكَ سوف تعيش إلى القرن الجديد، وبأكثر حماقة، هل تُفكّر بخلق الزمن؟ أنتَ، الرجل المسكين؟ الزمن يخصّ الله.» يَسأَل أحد الكَتَبَة.

 

«أأنتَ مِن الكَتَبَة وتَسألني؟ أوَلستَ تَعلَم إذن أنّه سوف يكون دهر له بداية ولن تكون له نهاية، وأنّه سوف يكون خاصّتي؟ وفيه سوف أنتَصِر، جامعاً حولي الذين سيكونون أبناءه، وهُم سيحيون إلى الأبد كذاك الدهر الذي سأخلقه، وأنا الآن قد شرعتُ فعلاً بخلقه فوق الجسد وفوق العالم وفوق الجحيم التي أُبدِّدها لأنّني قادر على كلّ شيء.

 

مِن أجل هذا أقول لكم أنَّ مَن ليس معي فهو عليَّ، ومَن لا يجمع معي فهو يُبدِّد. لأنّني أنا الكائن. ومَن لا يؤمن بذلك، وقد بَلَغَته النبوءات، فإنّه يُخطِئ ضدّ الروح القُدُس الذي نَطَق الأنبياء بكلمته التي ليست كَذِباً ولا غَلَطاً، والتي يجب الإيمان بها بدون مقاومة.

 

لأنّني أقولها لكم: كلّ خطيئة تُغفَر للبشر، كلّ خطيئة وكلّ تجديف، لأنّ الله يَعلَم أنّ الإنسان ليس روحاً فقط ولكنّه جسد، وجسد مجرَّب خاضع لنقائص وضعف طارئ. ولكن التجديف ضد الروح فلن يُغتَفَر. مَن يتكلّم ضدّ ابن الإنسان سوف يُغفَر له، لأنّ ثِقَل الجسد الذي يُغلِّف شخصيّتي ويُغلِّف الإنسان الذي يتكلّم ضدّي، يمكنه أيضاً أن يؤدّي إلى الخطأ. ولكنّ الذي يتكلّم ضدّ الروح القدس فلن يُغفَر له لا في هذه الحياة ولا في الحياة الأخرى، لأنّ الحقّ: واضح، مقدّس، لا جِدال فيه، ومُعبَّر عنه للروح بطريقة لا تقود إلى الخطأ، وبهذا المعنى، فإنّ الذين يرتكبون الخطأ هُم الذين يُريدون بكلّ رضاهم ارتكاب الخطأ. إنّ إنكار الحقيقة التي يقولها الروح القدس، هو إنكار لكلمة الله وللحبّ الذي مَنَحَته هذه الكلمة حبّاً بالإنسان. والخطيئة ضدّ الحبّ لا تُغتَفَر.

 

إنّما كُلّ واحد يعطي ثمار غرسته. أنتم تعطون ثماركم، وهي ليست ثماراً صالحة. لو أَعطيتم شجرة صالحة لِتُغرس في البستان، فستعطي ثماراً صالحة، ولكن لو أعطيتم شجرة سيّئة، فستكون ثمارها التي تحملها رديئة، وسيقول الجميع: "هذه الشجرة ليست جيّدة". ذلك أنّ كلّ شجرة تُعرَف مِن ثمارها.

 

وأنتم، كيف تتصوّرون أنّ بإمكانكم أن تُجيدوا الحديث، وأنتم السيّئون؟ فَمِن فَيض ما في القلب يتكلّم اللّسان. ومِن فَيض ما يَكمن فينا تأتي أفعالنا وأقوالنا. والرجل الصالح يُخرِج مِن كنـزه الصالح أشياء صالحة. والرجل السيّئ يُخرِج مِن كنـزه أشياء سيّئة. فيتكلّم ويتصرّف بحسب ما في داخله.

 

الحقّ أقول لكم إنّ الكسل خطيئة، ولكنّ الأفضل للمرء ألّا يفعل شيئاً، مِن أن يفعل أموراً سيّئة. وأقول لكم كذلك إنّه مِن الأفضل أن يصمت المرء مِن أن يخوض في مواضيع بطّالة أو شرّيرة. ولو كان الصمت بطالة، فمارسوه بدلاً مِن أن تُخطِئوا باللّسان. أؤكّد لكم أنّه سوف يُطلَب مِن الناس تَبرير عن كلّ كلمة بَطَّالة في يوم الدينونة، وأقول لكم إنّ الناس سوف يُبرِّرون بالكلام الذي يقولونه، وبكلامهم سوف يُدانون. وبالنتيجة انتبهوا، أنتم يا مَن تقولون كلاماً أكثر مِن بَطَّال، لأنّه ليس فقط بَطَّالاً، بل إنّه يؤدي إلى الأذيّة، ويهدف إلى إبعاد القلوب عن الحقّ الذي يكلّمكم.»

 

يَتشاور الفرّيسيّون مع الكَتَبَة، ثمّ جميعهم، مُتظاهِرين بالتهذيب، يَسأَلون: «يا معلّم، إنّه لأسهل على المرء الإيمان بما يرى. أَعطِنا إشارة إذن لنتمكن مِن أن نؤمن بأنّكَ مَن تقول إنّكَ كائِنه.»

 

«هل أنتم مُتنبّهون أنّ فيكم الخطيئة ضدّ الروح القدس الذي أشار مرّات عديدة أنّني الكلمة المتجسّد؟ الكلمة والمخلّص، الآتي في الزَّمَن المعيَّن، والمسبوق والمتبوع بعلامات نبويّة، فاعلاً ما قاله الروح.»

 

يُجيبون: «إنّنا نؤمن بالروح، إنّما كيف يمكننا الإيمان بكَ إذا كُنّا لا نرى بأعيننا أيّة إشارة؟»

 

«وكيف يمكنكم إذن الإيمان بالروح، وأعماله كلّها روحيّة، إذا لم تكونوا تؤمنون بأعمالي الحسّيّة والظاهرة لعيونكم؟ حياتي مُفعَمة بها. ألم يُصبِح ذلك كافياً؟ لا. أُجيب بنفسي أن لا. هذا ليس كافياً. في هذا الجيل الفاسق الفاسد الذي يبحث عن آية، ولن تكون له سوى آية واحدة: آية النبيّ يونان. بالفِعل، كما أنّ النبيّ يونان قد بَقِيَ ثلاثة أيّام في بطن الحوت، كذلك ابن الإنسان يبقى ثلاثة أيّام في جَوف الأرض. الحقّ أقول لكم إنّ أهل نينوى سَيَقومون في يوم الدينونة مع كلّ الناس، وسوف يَقومون ضدّ هذا الجّيل، وسوف يَحكمون عليه لأنّهم تابوا بإنذار النبيّ يونان وأنتم لا. وهنا مَن هَو أعظم مِن يونان. وهكذا سـتقوم مَلِكة الجنوب وتنتَصِب في وجهكم وتحكم عليكم، لأنّها أَتَت مِن أقاصي الأرض لِتَسمع حكمة سليمان. وهَهُنا مَن هو أعظم مِن سليمان.»

 

«لماذا تقول إنّ هذا الجيل فاسد فاسق؟ وهو ليس أكثر من غيره. فيه مِن القدّيسين ما كان في غيره. والمجتمع الإسرائيليّ لم يتغيّر. فأنتَ تُهيننا.»

 

«أنتم مَن تُسيئون إلى ذواتكم بإلحاق الضرر بنفوسكم، إذ إنّكم تُبعِدونها عن الحقّ، وبالتالي عن الخلاص. إنّما، مع ذلك سوف أُجيبُكم. هذا الجيل ليس قدّيسـاً سوى بثيابه ومظهره. أمّا داخليّاً فهو ليس بقدّيس. في إسرائيل، الأسماء ذاتها لِتَعيين الأشياء نفسها، إنّما لا وجود لحقيقة وجوهر الأشياء. إنّها العادات ذاتها، الثياب ذاتها والطقوس ذاتها، ولكن ينقصهم الروح. إنّكم فاسقون لأنّكم رفضتم الزواج الروحيّ بالشريعة الإلهيّة، وباتّحاد ثانٍ فاسق، اقترنتم بشريعة الشيطان. لم تُختَنوا سِوى بِعُضو بالٍ. القلب لم يَعُد مختوناً. وأنتم فاسدون لأنّكم قد بعتم أنفسكم للفساد. ها قد تكلّمتُ.»

 

«أنتَ تُهيننا كثيراً، ولكن إذا كان الأمر هكذا، فلماذا لا تُحرِّر إسرائيل مِن الشـيطان لِيُصبح الجميع قدّيسين؟»

 

«هل لدى إسرائيل الإرادة؟ لا. أمّا هؤلاء المساكين الذين يأتون لِيَتحرَّروا مِن الشيطان لأنّهم يَشعرون به فيهم كَحِمل ثقيل وعار، فلديهم الإرادة. أنتم لا تَشعرون بذلك. وتَحرُّركم لن يفيد، لأنّكم طالما لا تملكون الإرادة في ذلك، فسوف يَستَحوِذ عليكم مِن جديد وبصورة أقوى. عندما يَخرُج روح نَجِس مِن إنسان، فإنّه يهيم في أمكنة مُجدِبة بحثاً عن راحة ولا يَجِدها. تَجدُر الإشارة إلى أنّ الأمر لا يتعلّق بأماكن مُجدِبة مادّيّاً. إنّها مُجدِبة لأنّها تُبادِله العداء بعدم استقباله، كما أنّ الأرض الجدباء مُعادية للبِذار. حينئذ يقول: "أعود إلى بيتي الذي طُرِدتُ منه بالقوّة وضدّ إرادتي. وأنا متأكّد أنّه سيستقبلني ويَمنَحني الراحة". بالفِعل، يَعود صوب الذي كان له، وغالباً ما يَجِده مهيّأ لاستقباله، الحقّ أقول لكم، إنّ ذلك يكون، لأنّ الإنسان يَحنّ إلى الشيطان أكثر مِن حنينه إلى الله، وإذا لم يَستَحوِذ الشيطان على عناصره مِن خلال ملكيّة أخرى، فإنّه ينوح وينتحب. يَمضي إذن فيجد البيت خالياً، نظيفاً، مزيّناً ومعطّراً بالطُّهر. حينئذ سيأخذ معه سبعة شياطين لأنّه لا يريد أن يَخسَره بعد، ومع تلك الأرواح السبعة الأسوأ منه يَدخُله ويُقيمون جميعهم فيه. والحالة الثانية هذه التي هي لِمَن تاب أوّلاً ثمّ عاد إلى الفساد. وهي أكثر سوءاً مِن الحالة الأولى. ذلك أنّ الشيطان  يمكنه تقدير إلى أيّة درجة هذا الإنسان مُتعاطِف مع الشـيطان وناكر للجميل تجاه الله، ولأنّ الله كذلك لا يَعود إلى حيث تُداس نِعَمه، وأولئك الذين قد اختَبَروا الاستحواذ يَفتَحون ذراعيهم لاستحواذ أقوى. السقوط مِن جديد في عبادة الشيطان أسوأ مِن السقوط مرّة أخرى في سِلّ مُميت شُفِيَ سابقاً. لم يَعُد قابلاً للتحسّن ولا للشفاء. هكذا سيكون بالنسبة إلى هذا الجيل الذي، إذ اهتدى على يد المعمدان، أراد مِن جديد أن يكون خاطئاً لأنّه مُحِبّ للفساد وليس لي أنا.»

 

ضَجّة، غير ناجمة عن استحسان أو احتجاج، تَسري بين الجمع الذي احتَشَدَ الآن بكثافة، بحيث غَصَّ الشارع بهم وكذا الحديقة والشُّرفة. هناك أُناس على الجدار الصغير وكأنّهم على حصان، آخرون على شجرة التين التي في الحديقة وعلى أشجار الحدائق المجاورة، ذلك أنّ الجميع يَرغَبون في سماع الحِوار بين يسوع وخُصومه. الضجّة، وكأنّها موجة آتية مِن البحر إلى الشاطئ، تنتقل مِن فَم إلى فم، حتّى الرُّسُل الأقرب إلى يسوع، أي بطرس، يوحنّا، الغيور وابنيّ حلفى. لأنّ الآخرون بعضهم على الشُّرفة وبعضهم في المطبخ، ما عدا يهوذا الاسخريوطيّ الذي هو على الطريق وسط الجمع.

 

وبطرس ويوحنّا والغيور وابنا حلفى يَغتَنِمون الفرصة في هذه الضوضاء، ويقولون ليسـوع: «يـا معلّم، أُمّكَ وإخوتكَ هنا. إنّهم في الخـارج، في الطريق، ويبحثون عنكَ يريدون التحدّث إليكَ. مُرْ الجمع أن يفسـح المجال ليتمكّنوا مِن الوصول إليكَ، فحتماً ما أتى بهم إلى هنا للبحث عنكَ أَمر مُهمّ.»

 

يَرفَع يسوع رأسه ويَرى، خَلف الناس، وجه أُمّه القَلِق الذي يُقاوِم البكاء بينما يتحدّث إليها يوسف بن حلفى مُنفَعِلاً، ويَرى علامات النّفي مِن أُمّه، مُتكرِّرة، حازِمة، رغم إصرار يوسف. ويَرَى كذلك وجه سمعان المضطرب، الذي يبدو جليّاً وهو حزين ومشمئزّ... ولكنّ يسوع لا يبتسم ولا يُصدِر الأمر. يترك الحزينة بألمها وابنيّ عمه حيث هما.

 

يَخفض عينيه لِيَنظُر إلى الجمع، ومجيباً الرُّسُل القريبين منه، ويُجيب كذلك أولئك البعيدين الذين يحاولون إعطاء الدم قيمة أكبر مِن تلك التي للواجِب. «مَن هي أُمّي؟ مَن هُم إخوتي؟» ويُدير نَظَره الصَّارم، بوجهه الذي يَشحب بسبب الجهد العنيف الذي يُمارِسه على ذاته ليجعل الواجب فوق العاطفة والدم، ولِيَتنصَّل مِن الرابط الذي يربطه بأُمّه، في سبيل خدمة الآب ويقول، مُشيراً بحركة واسعة إلى الجمع الذي يتزاحم حوله، تحت نور المصابيح الأحمر ونور القمر البدر الفضّيّ: «هذه أُمّي، وهؤلاء إخوتي. الذين يَعمَلون مشيئة الله هُم إخوتي وأخواتي، وهُم أُمّي. وليس لي سواهم. والذين لي سيكونون كما لو أنّهم الأوائل، وبكمال أعظم مِن كلّ الآخرين سوف يَعمَلون مشيئة الله حتّى التضحية الكاملة بكلّ مشيئة سِواها، أو بنداء الدم والعواطف.»

 

وتُسمَع مِن الجمع هَمهَمة أقوى، وكما لو أنّ البحر ارتَفَعَ فجأة بفعل الريح.

 

يَشرَع الكَتَبَة بالهروب قائلين: «يَسكنه الشيطان! إنّه يُنكِر حتّى دمه!»

 

يتقدّم الأهل قائلين: «إنّه مجنون! إنّه يُعذِّب حتّى أُمّه!»

 

يقول الرُّسُل: «في الحقيقة إنّ في كلامه البطولة كلّها!»

 

يقول الجمع: «كَم يحبّنا!»

 

بصعوبة كبيرة تَختَرِق مريم مع يوسف وسمعان الجمع. مريم ليسـت سِـوى وَداعة، يوسف غاضب حتماً، وسمعان مُضطَرِب. يدنون مِن يسوع.

 

ومُباشَرَة يُهاجِمه يوسف: «أنتَ مجنون! إنّكَ تُسيء إلى الجميع. حتّى أُمّكَ لا تَحتَرِمها. إنّما الآن أنا هنا، وسوف أمنعكَ مِن ذلك. هل صحيح أنّكَ تَمضي كعامل هنا وهناك؟ فإذن، إذا كان هذا صحيحاً، فلماذا لا تَعمَل في مشغلكَ لِتُعيل أُمّكَ؟ لماذا تَكذِب قائلاً إنّ عملكَ هو التبشير، أيّها الكسول والجاحد، إذا كنتَ تذهب بعدئذ مِن أجل المال لِتَعمَل في بيت غريب؟ بالحقيقة تبدو لي وكأنّ شيطاناً قد استحوَذَ عليكَ، وهو يجعلكَ تَهذي. أَجِب!»

 

يلتَفِت يسوع، ويأخذ يوسف الصغير بيده، ويدنيه منه، ويرفعه ممسكاً إيّاه مِن تحت إبطيه ويقول: «عَمَلي كان تقديم القوت لهذا البريء ولأهله وإقناعهم بأنّ الله صالح. كان للتبشير في قورازين بالتواضع والمحبّة. وليس فقط لقورازين، إنّما لكَ أيضاً يا يوسف، الأخ الظالم. ولكنّني أنا أَغفر لكَ وأسامحكَ، لأنّني أَعلَم أنّ أنياب الحيّة قد عضّتكَ. وأَغفر لكَ وأسامحكَ يا سمعان المتقلّب. ما مِن شيء أَغفره لأُمّي أو أن أَطلُب منها لأجله أن تسامحني، لأنّها تَحكُم بعدل. فليفعل العالم ما يشاء. أنا أفعل ما يريده الله وببركة الآب وأُمّي، وأنا سعيد أكثر مِمّا لو أنّ العالم بأسره قد نَصَّبَني مَلِكاً حَسب العالم. تعالي يا أُمّي، لا تبكي. إنّهم لا يَدرون ماذا يَفعلون. سامحيهم.»

 

«آه يا بنيّ! أنا أعلَم. وأنتَ تعلَم. وما مِن شيء آخر كي يُقال...»

 

«ما مِن شيء آخر سِوى أن أقول للجمع هذا: "امضوا بسلام".»

 

يُبارِك يسوع الجمع ثُمّ يُمسِك مريم بيده اليمنى والولد باليسرى، ويتجّه إلى السُلّم ويَرتقيه أولاً.