ج6 - ف84
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء السادس/ القسم الأول
84- (وداع اسخريوط)
27 / 02 / 1946
يسوع يتحدّث داخل مجمع اسخريوط، الممتلئ بشكل لا يُصدَّق. وهو يردّ على هذا وذاك ممّن يطلبون المشورة في مسائل شخصيّة، بشكل خاصّ، ثمّ، بعد تلبية طلباتهم، يبدأ الحديث بصوت عال.
«يا أهل اسخريوط، انصتوا إلى كلمة وداعي. سنُطلِق عليها تسمية: "الإرادتين".
كان لأب كامل وحكيم ولدان، يحبّهما حبّاً بذات الدرجة، وقد دَرَجَ الاثنان على الدروب الصالحة. دون أدنى خلاف في طريقة حبّهما وتوجيههما. ومع ذلك كان هناك فرق ملموس بين الابنين.
الواحد، وهو البِكر، كان متواضعاً، مطيعاً، ويعمل بحسب المشيئة الأبويّة دونما نقاش، وهو دائم الفرح والسرور في عمله.
الآخر، رغم كونه الأصغر سنّاً، كان مستاء في أغلب الأحيان، وكان دائم الأخذ والردّ مع أبيه ومع ذاته. لم يكن ليكفّ عن التفكير، والتأمّل بشريّاً بالنصائح والأوامر التي كان يتلقّاها. فبدل تنفيذها كما أُعطيَت له، فقد كان يسمح لنفسه بتعديلها كلّيّاً أو جزئيّاً كما لو أنّ الذي يُصدِرها كان غبيّاً. كان البِكر يقول له: "لا تتصرّف هكذا. فأنتَ تؤلم أبانا!" ولكنّه كان يجيب: "أنتَ أبله. كبيراً وضخماً على ما أنتَ عليه، وفوق هذا البِكر، وقد أصبحتَ بالغاً، آه! أنا ما كنتُ لأبقى في المرتبة الذي وَضَعَكَ فيه الأب. إنّما كنتُ لأفعل المزيد: أن أفرض نفسي على الخُدّام، كي يُدرِكوا أنّني أنا المعلّم، فأنتَ كذلك تبدو كخادم، بوداعتكَ الدائمة. ألا ترى أنّكَ، في الحقيقة، تمرّ ولا يراكَ أحد، رغم كونكَ البِكر؟ والبعض يمضي إلى حدّ السخرية منكَ..." الأصغر، الـمُجَرَّب، بل الأكثر مِن مُـجَرَّب: تلميذ الشيطان الذي كان يضع كلّ تلميحاته موضع العمل، كان يجرِّب البِكر. ولكنّ هذا، الأمين للربّ في ممارسة الشريعة، كان يبقى وفيّاً حتّى لأبيه، الذي كان يُبجّله بسلوكه التامّ.
ومرّت السنون، والابن الأصغر، ساخطاً مِن عدم قدرته على السيطرة كما كان يحلم، وبعد التوسّل إلى أبيه عدّة مرّات: "هَب لي أن أتصرّف باسمكَ، مِن أجل كرامتكَ، بدل أن تترك ذلك لهذا الغبيّ الأكثر وداعة مِن نعجة"، وبعد محاولته جعل أخيه يتجاوز ما كان أبوه يأمر به لفرض السيطرة على الخُدّام، الجيران، والمواطنين، فقد قال لنفسه: "آه! هذا يكفي! فسمعتنا معرّضة للخطر! وبما أنّ أحداً لا يريد أن يتصرّف، فسأتصرّف أنا". وشَرَعَ لا يفعل إلاّ ما في رأسه، مستسلماً للكبرياء والكذب، غير متورّع عن العصيان.
كان الأب يقول له: "يا ولدي، ظلّ خاضعاً لأخيكَ البِكر، هو يعلم ما يفعل". كان يقول: "قيل لي إنّكَ فعلتَ كذا، هل هذا صحيح؟" وكان الابن الأصغر يجيب رافعاً كتفيه، على هذه العبارة وتلك مِن أقوال أبيه: "يعلم، يعلم! إنّه خجول للغاية، ومتردّد. تفوته فرص الفوز". كان يقول: "أنا لم أتصرّف هكذا." وكان الأب يقول: "لا تبحث عن مساعدة هذا أو ذاك. مَن علّه قد يساعدكَ أكثر منّا في إضفاء البريق على اسمنا؟ إنّهم أصدقاء السُّوء الذين يُحرِّضونكَ بحيث سوف يَسخَرون منكَ مِن وراء ظَهرِكَ فيما بعد." وكان الابن الأصغر يقول: "هل تحسدني على كوني مَن يتّخذ المبادرة؟ فيما عدا ذلك فأنا أعلم أنّني أجيد التصرّف."
ومضى زمن آخر. كان الأوّل ينمو أكثر بالاستقامة، والآخر كان يتغذّى على الأهواء السيّئة. في النهاية قال الأب: "آن أوان إنهاء الأمر. فإمّا تخضع لما أقول وإمّا تخسر حبّي." وذهب المتمرّد ليقول ذلك لأصدقائه. فأجابوه: "أتهتمّ لذلك؟ ولكن لا! هناك طريقة لجعل الأب في موقع استحالة تفضيل ولد على آخر. سَلِّمنا إيّاه ونحن سنقوم بما يجب. ستكون مستثنى مِن الخطأ المادّي وسيزهر اقتناء الخيرات، ذلك أنّ، بعد جعل الأكثر تساهلاً يختفي، ستتمكّن مِن إضفاء بريق عظيم عليها. ألا تعلم أنّ ضربة قوّة لهي أفضل، حتّى ولو تسبَّبَت بالألم، مِن الفتور الذي يخرّب الملكية؟"
والابن الأصغر، إذ أصبح مشبعاً بالفساد، انخرط في المؤامرة الدنيئة.
الآن، قولوا لي: هل يمكن احتمال لوم الأب لاتّباعه طريقتيّ تربية مع ولديه؟ هل يمكن القول إنّه متواطئ؟ لا. فكيف إذن يكون الواحد قدّيساً بينما الآخر فاسداً؟ هل يُمنَح الإنسان مسبقاً شكلين مِن الإرادة؟ لا. بل هي تُمنَح بشكل فريد. ولكنّ الإنسان يبدّلها كما يشاء: فَمَن كان صالحاً يجعل إرادته صالحة، والسيّئ يجعلها سيّئة.
أنا، أحثّكم، يا أهل اسخريوط -وستكون المرّة الأخيرة التي أحثّكم فيها على اتّباع طرق الحكمة- على اتباع الإرادة الصالحة فقط. وفي ما يقارب نهاية رسالتي، أقول لكم العبارات المرتَّلة لدى ولادتي: "السلام لذوي الإرادة الصالحة." السلام! يعني النجاح، يعني الظّفر على الأرض وفي السماء، لأنّ الله مع مَن لديه الإرادة الصالحة بطاعته. فلا يَنظُر الله إلى الأعمال الطنّانة التي يحقّقها الإنسان بمبادرة منه، بقدر الطاعة المتواضعة، السريعة، الأمينة للأعمال التي يعرضها هو.
أذكّركم بمرحلتين مِن تاريخ إسرائيل. برهانان يؤكّدان على عدم وجود الله عندما يريد الإنسان التصرّف مِن ذاته واطئاً الأمر الذي تلقّاه.
فلننظر إلى المكابيّين. قيل: بينما كان يهوذا المكابيّ ذاهباً مع يوناثان لمحاربة جلعات، في الوقت الذي كان سمعان ذاهباً لتحرير الجليليّين الآخرين، كان الأمر قد صدر ليوسف بن زكريّا وعزريا، قائدي الشعب، بالمكوث في اليهوديّة للدفاع عنها. وقال يهوذا لهما: "ارعيا هذا الشعب، ولا تشنّوا هجوماً على الأمم حتّى عودتنا." ولكنّ يوسف وعزريا، لدى سماعهما الحديث عن انتصارات المكابيّين العظيمة، أرادا محاكاتهم قائلَين: "فلنصنع نحن كذلك اسماً لنا، ولنمضِ لمحاربة الأمم المحيطة بنا." وأصبحا مهزومَين ومطاردَين "وعظيماً كان تشتّت الشعب لأنّهما لم يطيعا يهوذا وإخوته، ظانّين أنّ تصرّفهما بطوليّ." إنّه الكبرياء والعصيان.
وماذا يُقرأ في سفر الملوك؟ يُقرأ أنّ شاول قد اختُبِر مرّة أولى وثانية، وقد اختُبِر في المرّة الثانية بسبب عصيانه لدرجة اختيار داود ليحلّ محلّه. بسبب عصيانه! تذكّروا! تذكّروا ذلك! "أيمكن أن يريد الربّ محرقات وأضاحي، أو بالحريّ لا يريد سوى إطاعة صوته؟ الطاعة أكثر قيمة مِن التضحيات، الخضوع أكثر مِن تقدمة دهن الخراف. فالتمرّد كجنحة السحر، ورفض الخضوع كجريمة عبادة الأوثان. والآن، بما أنّكَ نَبَذتَ كلمة الربّ، فقد نَبَذَكَ الربّ وانتزع الـمُلك منكَ."
تذكّروا! تذكّروا! عندما ملأ صموئيل، طائعاً، القرن زيتاً وذهب إلى يسّى بيت لحم، لأنّ الربّ كان قد اختار هناك مَلِكاً آخر، دخل يسّى إلى الوليمة مع أبنائه بعد التضحية، وحينذاك قُدِّم هؤلاء الأبناء لصموئيل. في البدء إيلياب، البِكر، الطويل القامة والوسيم. ولكنّ الربّ قال لصموئيل: "لا تلتفت إلى وجهه ولا إلى قامته لأنّني أقصيتُه. فأنا، لا أحكم بموجب المظاهر البشريّة. ذلك أنّ الإنسان يُعجَب بما تراه عيناه، ولكنّ الربّ ينظر إلى القلوب." ويأبى صموئيل احتساب إيلياب مَلِكاً. قُدِّم له أبيناداب، ولكنّ صموئيل قال: "الربّ لم يختره كذلك." وقَدَّم له يسّى صمّا، ولكنّ صموئيل قال: "ولا صمّا هو كذلك مختار الربّ." وهكذا بالنسبة إلى أبناء يسّى السبعة الحاضرين في الوليمة. ولكنّ صموئيل قال: "هل جميع أبنائكَ هنا؟" فأجاب يسّى: "لا. هناك واحد ما يزال ولداً يرعى النّعاج." "استدعه، ذلك أنّنا لن نجلس إلى المائدة إلى أن يَصِل." ووصل داود، وهو أشقر ووسيم، وهو ولد. وقال الربّ: "امسحه. فهو الـمَلِك."
فاعلَموا هذا على الدوام، يختار الله مَن يريد ويحجب ذلك عمّن لا يستحقّ لمخالفته مشيئته بالكبرياء والعصيان. لن آتي إليكم بعد هذه المرّة. المعلّم في سياق إتمام مهمّته. بعد ذلك، يصبح أكثر مِن معلّم. هيّئوا روحكم لتلك الساعة. تذكّروا أنّ، كما كانت ولادتي سلاماً لذوي الإرادة الصالحة، كذلك سيكون ارتقائي سلاماً لذوي الإرادة الصالحة في اتّباعي كمعلّم في مذهبي، وللّذين بعد ذلك سيتبعونني فيه، حتّى بعد ارتقائي.
وداعاً، يا رجال ونساء وأطفال اسخريوط! فلننظر جيّداً إلى أعين بعضنا! ولنعمل على أنّ القلوب، قلبي وقلوبكم، تذوب في عناق حبّ ووداع، وليبقَ الحبّ حيّاً على الدوام، حتّى حينما لا أعود فيما بينكم على الإطلاق…
هنا، حينما أتيتُ للمرّة الأولى، قضى بارّ في قُبلة مخلّصه، في رؤيا مجد... هنا، هذه المرّة، حيث آتي للمرّة الأخيرة، أبارككم مع الحبّ…
وداعاً! وليمنحكم الربّ الإيمان، الرجاء، والمحبّة إلى حدّ الكمال. وليمنحكم الحبّ، الحبّ، الحبّ. له، لي، للصالحين، للبائسين، للمذنبين، للذين يحملون وزر خطيئة ليست خطيئتهم…
تذكّروا هذا! كونوا صالحين. لا تكونوا ظالمين. تذكّروا أنّني لم أغفر فقط للخاطئين، بل غَلَّفتُ إسرائيل كلّها بالحبّ. إسرائيل كلّها، حيث الصالحون والذين ليسوا كذلك، كما أنّ في العائلة مَن هم صالحون ومَن ليسوا كذلك، ومِن الظلم القول إنّ عائلة سيّئة إذا كان أحد أفرادها سيّئاً.
أنا ذاهب. وإذا ما احتاج أحدكم إلى التحدّث إليَّ، فليأتِ مساءً إلى بيت مريم التي لسمعان الريفيّ.»
يرفع يسوع يده ويبارك، ثمّ يخرج مسرعاً مِن باب فرعيّ صغير يتبعه أتباعه.
يُتمتِم الناس: «لن يعود!»
«ما الذي أراد قوله؟»
«كانت عيناه تدمعان وهو يقول وداعاً...»
«هل سمعتم؟ يقول إنّه سيصعد!»
«إذن في الحقيقة كان يهوذا على حقّ! بالتأكيد لن يكون فيما بعد، كمَلِك، فيما بيننا كما الآن...»
«أمّا أنا فلقد تحدّثتُ إلى إخوته. هم يقولون إنّه لن يكون مَلِكاً بحسب ما نفكّر به نحن، بل هو مَلِك الفِداء كما يقول الأنبياء. سيكون مَسيّا!»
«الـمَلِك مَسيّا بالتأكيد!»
«ولكن لا! الـمَلِك الفادي. رجل الآلام.»
«نعم.»
«لا»…
في هذه الأثناء يمضي يسوع مسرعاً صوب القرية.